أسانيد الأمة عن الأشاعرة ووجود فجوة بين ابن تيمية ومحمد بن عبد الوهاب (دعوى ونقاش)
للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة
مقدّمة:
من الدعاوى التي يروّجها كثيرٌ من الأشاعرة المعاصرين القولُ بأن أسانيد علوم الإسلام نُقلت من خلالهم، مثل علوم القرآن وعلوم الحديث وعلوم التفسير والأصول، فنقَلَةُ الدين في العصور المتأخرة من الأشاعرة، أو على الأقل من المتأثرين بهم، وحتى فقهاء الحنابلة لم يسلَموا من تقريرات الأشاعرة في كتبهم. ثم يبني المخالف النتيجة: بأن مذهب الأشاعرة يجب أن يكونَ هو الحقّ؛ لأنهم نقَلَــة دين الإسلام، وأن السلفيين مجرد نابتة مبتورة الإسناد.
وهذه الشبهة يعتمد عليها كثير من الأشاعرة المعاصرين، فهم لا يستدلّون بأدلة شرعية على صحَّة مذهبهم، وإنما يزعمون أن جماهير العلماء المتأخرين هم من الأشاعرة، فلا يُعقل أن يكون الشيوخ السلفيون المعاصرون -كالشيخ ابن باز وابن عثيمين وغيرهما- أهدى سبيلًا من النووي وابن دقيق العيد وابن حجر والسيوطي ونحوهم. فيستميلون عواطف العامة من هذا الباب، وكأنَّ هذا هو دليل صحة المذهب!
وقد تفرَّعت عن تلك الشبهة شبهة أخرى، وهي دعوى وجود فجوة بين ابن تيمية والشيخ محمد بن عبد الوهاب، من حيث إنه لا يوجد عالم كان على العقيدة الصحيحة في تلك الأزمنة.
وسنشرع -مستعينين بالله- في الجواب عن هذه الشبهة من وجوه:
الوجه الأول: عدم التسليم:
لا نُسلم أن العصورة المتأخرة خلت من المنتهجين لمنهج السلف الصالح، فلا تزال طائفة من الأمّة بالحقّ ظاهرين، ينفون عنه تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين، وهم في كل عصرٍ، لا يخلو منهم زمان.
ودليل ذلك أن يوسف بن حسن بن عبدالهادي المعروف بابن المبرد (ت: 909هـ) يحكي عن نفسه أنه لقيَ أكثر من ألف شيخٍ من أصحابه ومشيخته يجانبون الأشاعرة ويذمونهم في مجالسهم، وذكر منهم ابن قندس وعلاء الدين المرداوي، ومن أقرانه ذكر: البرهان بن مفلح.
ثم قال ابن المبرد: “وقد رأينا في أصحابنا ورفقائنا ومن اشتغل معنا أكثرَ من ألف واحد على مجانبتهم ومفارقتهم، والوقوع فيهم، وما تركنا ممن تقدم أكثرُ ممن ذكرنا”([1]).
وابن المبرد في زمن المتأخرين جدًّا، في أواخر القرن التاسع الهجري وبداية العاشر، أي: في أوج عصور ازدهار الأشاعرة وسطوتهم، ولعل سبب عدم إظهار المعارضة لهم جهرًا هو سطوة السلاطين في تلك الأزمنة، ولا شكَّ أن ابن المبرد ثقَة مأمون في نقله، فهو ينقل عمَّن يعرفهم بنفسه، ونقله عن ألف شيخٍ في ذلك الوقت ليس بالعدد الهيِّن.
وهذا دليل كافٍ على بطلان دعوى المخالف باندثار المنهج السلفي في الأعصر المتأخِّرة، ووجود فجوة زمنية بين ابن تيمية والسلفيين المعاصرين. ويتجلّى الأمر بوضوح إذا أضفتَ إلى ذلك المدارس العلمية الأثرية التي عُنيت باعتقاد السلف الصالح والذين استلهموا تجربة شيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم:
كمدرسة ابن الوزير اليماني في اليمن في القرن التاسع الهجري، وقد ترجم الشوكاني لعددٍ كبير من تلك المدرسة في البدر الطالع.
ومدرسة محيي الدين البركوي وتلامذته في السلطنة العثمانية في القرن العاشر الهجري.
وهكذا لا يخلو زمان من الأزمنة من منتهجي منهج السلف الصالح في أقطار المسلمين.
الوجه الثاني: تاريخ ظهور هذه الشبهة:
لم تكن هذه الشبهة حاضرة عند الأشاعرة منذ نشأتهم وحتى القرن السادس الهجري، وذلك لعلمهم أن جمهرة الأمة من المحدثين والمفسرين والفقهاء ليسوا منهم؛ بل كان الأشاعرة يحتجون آنذاك بأن أهل الحق يجب أن يكونوا قلّة، ولم تجد هذه الشبهة سوقًا لها إلا في العصور المتأخرة والمعاصرة.
وقد اعترف أبو إسحاق الشيرازي الأشعري (ت: 476هـ) بأن الأشاعرة قلة بين الأمة الإسلامية، لا يستطيعون إظهار مقالاتهم بين العلماء، فيقول -غفر الله له-: “فإن قيل: كل دين مكتوم دين مشئوم، ولو أن ما تعتقدونه حقّ لأظهَرتُمُوه. يقال لهم: هذا يتعلّق به من لا عقل له ولا علم؛ فإن النبي صلى اللّه عليه وسلم لما كان في دار الخيزران ومعه ذلك النفر القليل، لا يقدرون أن يظهروا ما هم عليه من الإسلام، لا يدلّ ذلك أنهم على الباطل، بل هم على الحقّ، بل يدلّ على ضعفهم وقلتهم، وقوة أهل الباطل وكثرتهم، وقد روي في الخبر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «بدأ الإسلام غريبا، وسيعود غريبًا كما بدأ»“([2]).
ويقول ابن عساكر: “فإن قيل: إن الجم الغفير في سائر الأزمان وأكثر العامة في جميع البلدان لا يقتدون بالأشعري ولا يقلدونه، ولا يرون مذهبه، وهم السواد الأعظم، وسبيلهم السبيل الأقوم…”([3]). وقد قال ابن المبرد معلقًا على كلامه: “وهذا الكلام يدل على صحة ما قلنا، وأنه في ذلك العصر وما قبله كانت الغلبة عليهم، وبعدُ لم يظهر شأنهم”([4]).
فالأشاعرة كانوا قلّةً بين علماء الملّة، فلا يمكن أن يكونوا هم من تفرّد بحفظ الشريعة، بل الذي حفظ علوم الأمّة هم المتقدِّمون من هذه الأمّة ممن كان قبل أبي الحسن الأشعريّ رحمه الله (ت: 324هـ). فالسلفيون كانوا هم الروّاد في حفظ علوم الإسلام.
وقد جمع ابن المبرد في كتابه (جمع الجيوش والدساكر على ابن عساكر) أكثر من أربعمائة عالم من بين محدث وفقيه وعابد وإمام، كلهم مجانبون للأشاعرة، بدءًا من عصر الأشعري إلى زمنه، صدَّرهم بأبي الحسن البربهاري، وختمهم بشيوخه كابن قندس البعلي، وعلاء الدين المرداوي صاحب كتاب (الإنصاف)، وذكر عدة من أصحابه كالبرهان ابن مفلح وغيره.
ثم قال: “فهذه لعمرك الدساكر لا العسكر الملفَّق الذي لفَّقه ابن عساكر بالصدق والكذب الذين لا يبلغون خمسين نفسا بمن قد كذب عليهم، ولو نطوّل تراجم هؤلاء كما قد أطال في أولئك لكان هذا الكتاب أكثر من عشر مجلدات، ووالله ثم والله لما تركنا أكثر ممن ذكرنا، ولو ذهبنا نستقصي ونتتبع كل من جانبهم من يومهم إلى الآن لزادوا على عشرة آلاف نفس”([5]).
ويُلخِّص ابن المبرد تاريخ انتشار الأشعرية قائلًا: “أنا أذكر لك كلامًا تعلم كيفيتهم: كان الأشعري وأتباعه في زمنه لا يَظهَر منهم أحد بين الناس، ولا يقدِر أحدهم على إظهار كلمة واحدة مما هم عليه، ثم لما ذهب هو وأصحابه -ولا نسُبّ أحدًا منهم، فلعله قد تاب حقيقة، بل نسأل الله له ولأتباعه المسامحة- وجاء أصحاب أصحابه، وكان ذلك في زمن شيخ الإسلام الأنصاري، كان الواحد والاثنان والثلاثة منهم إذا أرادوا أن يتكلَّموا بشيء من مذهبهم وما هم عليه اختفوا بذلك بحيث لا يراهم أحد بالكلية، فقد ذكر ذلك شيخ الإسلام الأنصاري وغيره، وهو إمام مقبول عند سائر الطوائف، ومن لم يصدقني فلينظر في كتابه (ذم الكلام) يجد ذلك في عدة مواضع منه. ثم لما كان بعد ذلك بمدة في زمن الخطيب البغدادي وغيره ظهروا بذلك بعض الظهور، فقويت الشوكة عليهم، ولعنوا على المنابر، ونفي جماعة منهم، ثم بعد ذلك أبرزوه، وقويت شوكتهم، وكانوا يقومون به ويقعون، تارة لهم وتارة عليهم، ثم في زمن ابن عساكر وغيره ظهروا وبرزوا أكثر من ذلك، وصاروا تارة يظهرون ويترجحون، وتارة يظهر عليهم، ثم في زمن الشيخ تقي الدين ابن تيمية ترجَّح أمرهم وظهروا غاية الظهور، ولكن كان يقاومهم هو وأصحابه، إلا أن الظفر في الظاهر مع أولئك، ثم بعد ذلك عمَّ الخطب والبلوى بذلك فصار ما هم عليه هو الظاهر وصريح السنة، وما عليه السلف هو الخفيّ، فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم”([6]).
الوجه الثالث: الاعتماد على جهل المتلقّي بأعلام الرواية والدراية:
إنَّ المعترضَ بهذه الشبهة يعتمد فيها على جهل المُتلقّي، فإن جمهور أعلام الرواية والدراية منذ العصور الأولى وحتى العصور الوسيطة (حتى القرن السادس الهجري تقريبًا) كانوا من السلفيين، وليس للمتأخّرين عمل في علوم الإسلام إلا الجمع والترتيب والتهذيب، وبيان ذلك فيما يلي:
1- عامة أسانيد صحيح البخاري يرويها المتأخرون عن نسخة أبي الوقت عبد الأول السجزي، وهو من تلاميذ أبي إسماعيل الهروي.
قال أبو الوقت السجزي: “دخلت نيسابور، وحضرت عند الأستاذ أبي المعالي الجويني، فقال: من أنت؟ قلت: خادم الشيخ أبي إسماعيل الأنصاري، فقال: رضي الله عنه، قلت: اسمع إلى عقل هذا الإمام، ودع سب الطغام، إن هم إلا كالأنعام”([7]).
ومعلوم أن أبا إسماعيل الهروي من أشدِّ الناس على الأشعرية، ولا شك أن صاحبه وتلميذه أبا الوقت السجزي كان مُجانبًا للأشعرية أيضًا.
2- أشهر نسخة معتمدة لصحيح البخاري عند المتأخرين هي نسخة الإمامِ الحافظِ شرفِ الدِّينِ اليُونِيْنيّ الحنبليّ، وقد كان سلفيًّا على طريقة الحنابلة، وهو من مشيخة ابن تيمية والذهبي وغيرهما، وقد ضبط اليونيني صحيح البخاري معتمدا على عدة نسخ وفق مشروعٍ عظيم استفرغ له جل حياته وخبرته العلمية، وعقده للعلماء مجالس مطولة لمقابلة النسخ وتحرير نص الصحيح فخرجت ما بات معروفا عند العلماء بالنسخة اليونينية.
ونسخة اليونيني من أعظم الأصول لصحيح البخاري عند كافة العلماء، وقد اعتمدها القسطلاني في شرحه إرشاد الساري، وعن فروع النسخة اليونينية طبعت الطبعة السلطانية في المطبعة الأميرية في سني 1311-1313هـ، ثم الطبعة التالية لها طبعت على مثالها في المطبعة الأميرية سنة 1314هـ، وطبعت مؤخرا عن بيت السنة بمكة المكرمة على أقدم الفروع وأجودها في ثمانية مجلدات.
3- بعد فتور علم الحديث والرجال نسبيًّا فيما بعد القرن الخامس كانت ثمة نهضة حديثية كان من أعلامها: الإمام الحافظ عبد الغني المقدسي الذي ألف (الكمال في أسماء الرجال)، وقد جاء من بعده الحافظ المزّي -تلميذ شيخ الإسلام- فهذَّب كتاب الكمال في (تهذيب الكمال)، ثم اختصره الحافظ الذهبي في (تذهيب التهذيب)، ثم جاء من بعد هؤلاء جميعًا: الحافظ ابن حجر العسقلاني وهذب كتاب المزّي بـ(تهذيب التهذيب) ثم قرّبه بـ (تقريب التهذيب).
فكان عمل الحافظ ابن حجر هو الجمع والترتيب والتهذيب، وقد بناه أصالةً على عمل اثنين من فحول السلفية وهما: عبد الغني المقدسي، وأبو الحجاج المزي، ثم يُضاف إليهم الحافظ شمس الدين الذهبي الذي اعتمد عليه ابن حجر في كتب التراجم وعلوم الرجال. والذي قال ابن حجر في حقه: “شربت ماء زمزم لأصل إلى مرتبة الذهبي في الحفظ”([8]). وقد اعتمد عليه في نقد الرجال ووصفه بقوله: “وهو من أهل الاستقراء التام في نقد الرجال”([9]).
والقصد: أن من اعتمد عليهم المتأخرون واستفادوا منهم أصالةً ثلاثتهم من السلفيين: فعبدالغني المقدسي محنته شهيرة مع أشاعرة زمانه، والحافظ المزي قد سُجن مرتين وأخرجه ابن تيمية من السجن، والذهبي معروف نقد تلميذه التاج السبكي له؛ بسبب ميله لأهل الحديث. وهؤلاء الثلاثة عليهم مدار علوم الرجال والجرح والتعديل في العصور الوسيطة.
4- أما في علوم القراءات فقد اعتمد ابن الجزري على عدة أصول اعتمدها في كتابه (النشر النشر في القراءات العشر) من بينها كتاب (الوجيز) في القراءات لأبي عليّ الأهوازي، وكان ابن الجزري يعوّل عليه تعويلًا تامًّا في كتابه. وأبو علي الأهوازي هو صاحب كتاب ذم الأشعري: (مثالب ابن أبي بشر) الذي رد عليه ابن عساكر في (تبيين كذب المفتري). والعلماء وإن كانوا ناقضوه في مبالغاته في ذم الأشعرية، إلا أنهم دانوا له بعلوم القراءات واعتمدوه فيها.
قال شمس الدّين ابن الجزري: “وكان بدمشق الأستاذ أبو عليّ الحسن بن عليّ بن إبراهيم الأهوازيّ مؤلّف الوجيز والإيجاز والإيضاح والاتّضاح، وجامع المشهور والشّاذ، ومن لم يلحقه أحدٌ في هذا الشّأن”([10]).
وقال أيضا: “كتاب الوجيز: تأليف الأستاذ أبي علي الحسن بن علي بن إبراهيم بن يزداذ بن هرمز الأهوازي.. وَقَرَأْتُ بِهِ الْقُرْآنَ كُلَّهُ عَلَى أَبِي عَبْدِ اللهِ بْنِ الصَّائِغِ وَأَبِي مُحَمَّدِ بْنِ الْبَغْدَادِيِّ وَأَبِي بَكْرِ بْنِ الْجُنْدِيِّ”. ثم ذكر ابن الجزري إسناده إلى أبي علي الأهوازي([11]).
وقال الحافظ الذهبي بعدما نقل جرح الخطيب للأهوازي: “يُرِيد تركيبَ الإِسْنَادِ وَادِّعَاء اللِّقَاءِ، أَمَّا وَضع حُرُوف أَوْ متُون فَحَاشَا وَكلا، مَا أُجَوِّزُ ذَلِكَ عَلَيْهِ، وهو بَحرٌ فِي القِرَاءاتِ، تلقَّى المُقْرِئون تَوَالِيفه وَنَقْلَه لِلفنِّ بِالقَبُولِ”([12]).
وهنا يلزم الأشاعرة -على قاعدتهم- أن يصحّحوا اعتقاد أبي علي الأهوازي لأنه ممن حفظ الله بهم قراءات القرآن الكريم، واعتمد عليه المتأخرون([13]).
– ومن الكتب التي اعتمد عليها ابن الجزري أيضًا كتاب (الروضة) في القراءات لأبي عمر الطلمنكي، وهو أول من أدخل القراءات في الأندلس، وأبو عمر الطلمنكي كان من أئمة أهل العلم المجانبين للأشعرية. ونقل الذهبي في ترجمته: “كان سيفًا مجردًا على أهل الأهواء والبدع، قامعًا لهم، غيورًا على الشريعة، شديدًا في ذات الله، أقرأ الناس محتسبًا، وأسمع الحديث”([14]).
يقول أبو عمر الطلمنكي في كتابه (الأصول): “أجمع المسلمون من أهل السنة على أن الله استوى على عرشه بذاته، وأن الاستواء على الحقيقة لا على المجاز…”، ثم ساق بسنده عن مالك قوله: الله في السماء وعلمه في كل مكان، ثم قال في هذا الكتاب: “وأجمع المسلمون من أهل السنة على أن معنى قوله تعالى: {هُوَ مَعَكُمْ أَيْنَمَا كُنْتُمْ} ونحو ذلك من القرآن بأن ذلك علمه، وأن الله فوق السماوات بذاته مستو على عرشه كيف شاء”([15]).
– ومما اعتمد عليهم ابن الجزري أيضًا كتب الإمام أبي عمرو الداني، وهو من مشاهير علماء القراءات، وقد نقل الذهبي في ترجمته سلوكه الطريقة السلفية، ونقل عنه أرجوزته في السنة، ذكر فيها حديث النزول وغيره من الصفات، وجاء فيها أيضًا([16]):
كلا الفريقين من الجهمية ** الواقفون فيه واللفظية
أهون بقول جهمٍ الخسيسِ ** وواصل وبشر المريسي
ومن المعلوم أن الأشاعرة من اللفظية، إذ يقولون بخلق الألفاظ دون المعنى القائم بالنفس، وهذا مما يعترف به الأشاعرة أنفسُهم.
وفي الجملة: فكثير من الكتب التي اعتمد عليها ابن الجزري رحمه الله هي لعلماء ليسوا من الأشاعرة.
الوجه الرابع: الخلط بين عصمة المنهج وعصمة الأفراد:
وجه الخلط عند المخالف في دعواه وجودَ انقطاع بين ابن تيمية وابن عبد الوهاب: أنه يحسب أن السلفيين يعتقدون أن كلَّ من لم يقل بتقريرات ابن تيمية دقيقها وجليلها فهو فاسد العقيدة أو فاسق أو خارج من السلفية والطائفة الناجية، وهذا الكلام باطل لم يقله عالمٌ سلفيٌّ قط، وإنما قد يصدر من بعض الغلاة والجهال ممن لا وزن لهم. فأفراد الطائفة الناجية غير معصومين من الأخطاء العلمية والعملية، بل يخطئون مع سلامة أصول المنهج ومصادر التلقي. ومجرد الخطأ في متابعة بعض أقوال الأشاعرة لا يخرج صاحبه من أهل السنة إن كان متحرّيًا للحق.
بل إننا نقول بأبلغ من هذا: بأن الولي الصالح والمجدّد للدين يجوز عليه الوقوع في بعض البدع، يقول ابن تيمية: “وليس من شرط وليّ الله أن يكون معصومًا لا يغلط ولا يخطئ، بل يجوز أن يخفى عليه بعض علم الشريعة، ويجوز أن يشتبه عليه بعض أمور الدين، حتى يحسب بعض الأمور مما أمر الله به ومما نهى الله عنه، ويجوز أن يظن في بعض الخوارق أنها من كرامات أولياء الله تعالى وتكون من الشيطان لبسها عليه لنقص درجته، ولا يعرف أنها من الشيطان وإن لم يخرج بذلك عن ولاية الله تعالى؛ فإنّ الله سبحانه وتعالى تجاوز لهذه الأمة عن الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه”([17]).
وهذا الإمام أبو إسماعيل الهروي -شيخ الإسلام- وقع في بعض الأخطاء الاعتقادية، ولم ينف هذا إمامته ولا تجديده في الدين، يقول ابن تيمية في بيان خطئه: “ويبالغ -أي: الهروي- في ذم الأشعرية مع أنهم من أقرب هذه الطوائف إلى السنة والحديث، ومع هذا فهو في مسألة إرادة الكائنات وخلق الأفعال أبلغُ من الأشعرية، لا يُثبت سببا ولا حكمة، بل يقول: إن مشاهدة العارف الحكم لا تبقى له استحسان حسنة ولا استقباح سيئة. والحكم عنده هي المشيئة؛ لأن العارف المحقق عنده هو من يصل إلى مقام الفناء… ومن لم يسلك في القدر مسلكه لزمه أن لا يفرق بين الحسنات والسيئات، والأشعري لما أثبت الفرق بين هذا وذاك كان أعقل منهم”([18]).
بل قد يتعجَّب المخالف إذا علم أن بعض الأئمة النجديين أنفسهم قد أخطؤوا نظريًّا في المسائل العقدية ونقلوا تقريرات الأشاعرة ظانين صحتها، فانظر ما يقوله الشيخ سليمان بن عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب: “ومنزهٌ تعالى عن سمات النقص، فهو تعالى لا تحله الحوادث ولا يحل في حادث ولا ينحصر فيه، فمن اعتقد أن الله بذاته في كل مكان أو في مكان فكافر، بل يجب الجزم بأنه تعالى بائن من خلقه مستوٍ على عشره، من غير تكييف ولا تشبيه ولا تمثيل، فالله تعالى كان ولا مكان ثم خلق المكان، وهو تعالى كما كان قبل خلق المكان”([19]).
ومعلوم أن الكلام السابق هو كلام الكلابية، نقله الشيخ عن بعض الحنابلة وظن صحته.
ويقول مفتي الديار النجدية في وقته الشيخ أبا بطين النجدي الحنبلي: «وقلتم: الحروف يلزمها التعاقب ويتقدمُ بعضها بعضًا، فيلزم أن تكون مخلوقة. قلنا: إنما يلزم التعاقب في حق من يتكلم من المخارج، والله سبحانه غير موصوف بذلك. وأيضًا فواجب على كل مكلَّف التسليم لما جاء في الكتاب والسنة، ولا يعارضه بزخارف المبطلين وهذيان الملحدين، قال تعالى: ﴿فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ﴾ [النساء: 65]. فَمِنَ الله الرسالة، وعلى الرسول البلاغ، وعلينا التسليم»([20]).
ومعلوم أن ما قاله الشيخ أبو بطين من نفي تعاقب الحروف هو قول الكلابية ومدرسة القاضي أبي يعلى ونفاة الأفعال الاختيارية، وهو مخالف لمذهب شيخ الإسلام ابن تيمية([21]).
فإذا حصل هذا لبعض علماء السلفية -كما مرَّ بك- ممن لهم اعتناء خاص بكتب ابن تيمية، فكيف بغيرهم من علماء المسلمين ممن لم يتيسَّر لهم ذلك؟!
والحاصل: أن العالم وبحسن قصدٍ وبتأثير البيئة المحيطة به قد ينقل عمَّن يحسن فيه الظن كلامًا دون أن يدري أنه من كلام المتكلمين، أو يظن أنه من صواب كلامهم، ولا يتفطن إلى وجه فساده، ولا يجعله ذلك مبتدعًا بالضرورة، بل غايته أنه اجتهد فأخطأ، حتى وإن كان خطؤه في مسائل الاعتقاد.
نعم، إن أصول العقيدة ومصادر التلقي والجُمل الثابتة لا يجوز فيها الخلاف، لكنَّ علم العقيدة كعلم نظري هو كغيره من العلوم الإسلامية، فيه الجلي، وفيه الخفي، وفيه ما صار مُشتبهًا بعد أن كان جليًّا، بل وفيه ما يسوغ فيه الخلاف وتتجاذبه الأدلة العلمية، ولا مجال لظن بعض السلفيين أن علم العقيدة لا يدخله الاجتهاد مطلقًا، فهذا ظنٌّ خاطئ.
يقول الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: “والقول بأن العقيدة ليس فيها خلاف على الإطلاق غير صحيح، فإنه يوجد من مسائل العقيدة ما يعمل فيه الإنسان بالظن… والحاصل أن مسائل العقيدة ليست كلها مما لا بد فيه من اليقين… ولهذا لا يمكن أن نقول: إن جميع مسائل العقيدة مما يتعين فيه الجزم، ومما لا خلاف فيه؛ لأن الواقع خلاف ذلك، ففي مسائل العقيدة ما فيه خلاف، وفي مسائل العقيدة ما لا يستطيع الإنسان أن يجزم به، لكن يترجح عنده. إذن إن هذه الكلمة التي نسمعها بأن مسائل العقيدة لا خلاف فيها ليست على إطلاقها؛ لأن الواقع يخالف ذلك”([22]).
وبناءً على ما سبق: فإننا لا نُسلِّم بمقدمة المخالف من الأساس، وهي ظنه أن مجرد الخطأ في العقيدة يخرج صاحبَه من أهل السنة أو يجعل صاحبه فاسدَ الاعتقاد؛ وعليه فلا وجهَ لهذه الشبهة عند التحقيق.
وقد ذكر شيخ الإسلام أنّ كثيرًا من العلماء المتأخرين التزموا أصولًا ظنوها صحيحة، إما لظنهم أن المسلمين أجمعوا عليها دون دراية منهم، وإما نقلوها عن غيرهم إحسانًا بالظن بهم، ككثير من متأخري الحنبلية والشافعية والحنفية ونحوهم. وهؤلاء لا يُبدَّعون، وإنما يُنبَّه على أخطائهم.
يقول شيخ الإسلام: “ومما ينبغي أن يعرف أن الطوائف المنتسبة إلى متبوعين في أصول الدين والكلام على درجات… -إلى أن قال:- ومثل هؤلاء إذا لم يجعلوا ما ابتدعوه قولًا يفارقون به جماعة المسلمين يوالون عليه ويعادون كان من نوع الخطأ، والله سبحانه وتعالى يغفر للمؤمنين خطأهم في مثل ذلك”([23]).
ويقول أيضًا: “ومن كان قصده متابعته من المؤمنين وأخطأ بعد اجتهاده الذي استفرغ به وسعه غفر الله له خطأه، سواء كان خطؤه في المسائل العلمية الخبرية أو المسائل العملية، فإنه ليس كل ما كان معلومًا متيقّنًا لبعض الناس يجب أن يكون معلوما متيقنا لغيره، وليس كل ما قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلمه كل الناس ويفهمونه، بل كثير منهم لم يسمع كثيرا منه، وكثير منهم قد يشتبه عليه ما أراده وإن كان كلامه في نفسه محكما مقرونا بما يبين مراده”([24]).
وقال الذهبي: “ثم إن الكبير من أئمة العلم إذا كثر صوابه، وعُلم تحرّيه للحق، واتسع علمه، وظهر ذكاؤه، وعرف صلاحه وورعه واتباعه، يغفر له زَلَلَه، ولا نضلِّله ونطَّرحه، وننسى محاسنه. نعم، ولا نقتدي به في بدعته وخطئه، ونرجو له التوبة من ذلك”([25]).
وقال أيضًا: “ولو أنا كلما أخطأ إمامٌ في اجتهاده في آحاد المسائل خطأً مغفورًا له قمنا عليه وبدعناه وهجرناه، لما سلم معنا لا ابن نصر ولا ابن منده ولا من هو أكبر منهما، والله هو هادي الخلق إلى الحق، وهو أرحم الراحمين، فنعوذ بالله من الهوى والفظاظة”([26]).
الوجه الخامس: منزلة كبار الأشاعرة في العلوم:
كبار علماء الأشعرية المقعِّدون للمذهب لا رواية لهم ولا حفظ لهم للدين كالحديث والتفسير والقرآن كما يُدندن المعاصرون، وإنما كانوا يعتنون بالبحث الكلامي الفلسفي، وقد كان الغزالي رحمه الله يقول عن نفسه: “أنا مزجى البضاعة في الحديث”([27]).
وأما الجويني فقد قال عنه السمعاني: “وكان قليل الرواية للحديث معرضًا عنه”([28])، وقال ياقوت الحموي: “وكان قليل الرواية معرضا عن الحديث”([29])، وقال الذهبي عنه: “كان هذا الإمام مع فرط ذكائه وإمامته في الفروع وأصول المذهب وقوة مناظرته لا يدري الحديث كما يليق به، لا متنا ولا إسنادا”([30]).
أما الفخر الرازي فليس له رواية أساسًا، حتى إن التاج السبكي لما انتقد الذهبي في وضع الرازي في الضعفاء اعتذر للرازي بأنه لا رواية له، فلا وجه أن يضعه الذهبي في الضعفاء، قال السبكي: “وقد اعترف الفخر بأنه لا رواية له؛ فلا معنى لإدخاله في الضعفاء”([31]).
ويُترجم ابن حجر للسيف الآمدي قائلًا: “وتفنن في علم النظر، ثم دخل مصر وتصدر بها لإقراء العقليات، وأعاد بمدرسة الشافعي، ثم قاموا عليه ونسبوه للتعطيل، وكتبوا عليه محضرًا، فخرج منها واستوطن حماه، وصنف التصانيف، ثم تحول إلى دمشق ودرس بالعزيزية، ثم عزل منها، ومات في صفر سنة إحدى وثلاثين وست مائة وله ثمانون سنة”([32]).
والقصد مما سبق: أنَّ المعاصرين إنما يقصدون المذهب الكلاميّ الذي هو مذهب الجويني والرازي والآمدي وغيرهم ممن ليس لهم رواية للدين، ثم يتترسون بالنووي وابن حجر وغيرهما من المستقلّين علميًّا، كنوع من ترويج بضاعتهم على العامة، حتى إذا أراد الطالب أن يدرس المذهب الأشعريّ أخرجوا له كتب الجوينيّ والرازيّ والآمديّ والسنوسيّ وغيرهم، وتلك هي المغالطة التي لم يفطن لها من انخدع بهذه الشبهة.
الوجه السادس: نظرة أهل السنة للعلماء:
لو قال المخالف: سلَّمنا لكم أنَّ رؤوس المتكلمين ليس لهم رواية ولا حفظوا علوم الإسلام، ولكنَّا نقصد المتأخرينَ من المفسرين والفقهاء وغيرهم الذين لهم أخطاء بحسب مذهب السلفية.
والجواب على ذلك بأن نقول: إن أهل السنة لا ينظرون هذه النظرة التقسيمية لعلماء المسلمين، فالأصل في العالم المشهور بالعلم والفضل أنه على السُّنة ما دامت أصوله ومصادر تلقيه صحيحة؛ لأن الأصل في المسلم السلامة، وإذا أخطأ لا يُتابع على قوله. هذا هو الأصل.
ولا شكَّ أن أهل السنة هم أعلم الناس بالحقّ وأرحمهم بالخلق، فلا يحاسِبون المرء على أخطاء ظنها صحيحةً واستفرغ وسعَه في طلب الحق، وفي الجملة إن الأشاعرة المتكلّمين كالرازي والآمدي والجويني ليس لهم رواية -كما مرَّ بيانه-، وهؤلاء هم الذين عليهم المعوَّلُ في تحرير المذهب. ولكنَّ المعارض يقصد أنّ علماء الأمة من المتأخرين كالنووي وابن دقيق العيد وابن حجر ونحوهم قد دخلوا في سلسلة الأسانيد.
وهؤلاء وإن أخطؤوا في بعض المباحث بحسن نية وقصد، إلا أنهم لم يلتزموا المذهب الكلاميّ، بل هم يخالفون أصوله ومبانيه؛ بدليل أن المعارض إذا أراد أن يعرف ويُحقق المذهب سيفتح كتب الرازي والآمدي أو السنوسي والبيجوري، ولن يفتح كتب النووي وابن حجر والسيوطي، بل سيهمل خلافهم العقدي؛ لأنه يعلم أن مدار ضبط المذهب عند علماء الكلام، وأن أمثال النووي وابن دقيق العيد وابن حجر والسيوطي من المستقلين علميًّا، فهم يرجحون ما يرونه صوابًا بحسب اجتهاداتهم، ومثل هذا الصنف من العلماء لا يخرج من أهل السنة لتحريه للحق، ولكن يُنبَّه على خطئه.
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: “ومما يتعلق بهذا الباب أن يعلم أن الرجل العظيم في العلم والدين من الصحابة والتابعين ومن بعدهم إلى يوم القيامة أهل البيت وغيرهم قد يحصل منه نوع من الاجتهاد مقرونا بالظن، ونوع من الهوى الخفيّ، فيحصل بسبب ذلك ما لا ينبغي اتباعه فيه وإن كان من أولياء الله المتقين، ومثل هذا إذا وقع يصير فتنة لطائفتين: طائفة تعظّمه فتريد تصويب ذلك الفعل واتباعه عليه، وطائفة تذمه فتجعل ذلك قادحا في ولايته وتقواه، بل في بره وكونه من أهل الجنة، بل في إيمانه حتى تخرجه عن الإيمان، وكلا هذين الطرفين فاسد، والخوارج والروافض وغيرهم من ذوي الأهواء دخل عليهم الداخل من هذا، ومن سلك طريق الاعتدال عظَّم من يستحق التعظيم وأحبه ووالاه وأعطى الحق حقَّه، فيعظم الحق ويرحم الخلق، ويعلم أن الرجل الواحد تكون له حسنات وسيئات؛ فيحمَد ويذَمّ ويثاب ويعاقَب ويحَبّ مِن وجه ويُبغَض من وجه، هذا هو مذهب أهل السنة والجماعة خلافًا للخوارج والمعتزلة ومن وافقهم، وقد بسط هذا في موضعه”([33]).
الوجه السابع: اعتبار غلبة البدع في آخر الزمان:
قد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بانتشار البدع في آخر الزمان، ولم يقل: إن الأمة ستظل منذ عهد الصحابة حتى آخر الزمان لا تتغير ولا تتبدل ولا تدخلها البدع، ولو كان الحق هو الظاهر وأن المساق العلمي للأمة لن يشوبه البدع، فما معنى أحاديث انتشار الباطل في آخر الزمان؟! وما معنى حديث حذيفة بأنه سيكون خير ثم يأتي بعده خير وفيه دخن؟! وما معنى أنه في آخر الزمان المتمسك بالحق كالقابض على الجمر؟!
ولو أن الخط العلمي للأمة الإسلامية سيكون مستقيمًا أبدَ الدهر ولن يدخله البدع -كما يزعم المخالفون- لما كان هناك حاجة للتجديد والإصلاح، ولكانت الأحاديث النبوية الدالة على حدوث البدع وفشوها في آخر الزمان ضربًا من العبث، وكذا الأحاديث الدالة على ظهور المجددين في الأمة ليس لها معنى وتكون خلوًا من الفائدة، ومن ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ اللهَ يَبْعَثُ لِهَذِهِ الْأُمَّةِ عَلَى رَأْسِ كُلِّ مِائَةِ سَنَةٍ مَنْ يُجَدِّدُ لَهَا دِينَهَا»“([34]).
وقد يقول المعارض: المقصود بذلك الانحرافات الواضحة كانحرافات الشيعة والمعتزلة والباطنية ونحو ذلك، وهي انحرافات مستثناة عن الجمهرة العظمى للأمة، فالخط العلمي للأمة معصوم من الزلل الاعتقادي.
وجواب ذلك من وجوه:
أولًا: أنه لو كان الأمر كذلك لم تكن مزية لزمن السلف الصالح على المتأخرين؛ لأن جنس هذه الانحرافات كانت موجودة عند السلف أيضًا؛ فقد ظهر في عصرهم الشيعة والمعتزلة والمرجئة، بل هناك من الفرق من اندثر، فلو كان الأمر سيبقى على ما هو عليه لكانت خير القرون مثل شر القرون سواءً بسواءٍ، مع أن الأحاديث النبوية وآثار الصحابة قاضية بأن الباطل في آخر الزمان أكثر منه في زمن السلف بما يُشعر أن أهل البدع لهم الغلبة في تلك الأزمنة.
ثانيًا: القول بأن علماء الأمة لا يقعون في الزلل الاعتقادي والمنهجي حتى آخر الزمان قولٌ يكذبه الحس والواقع، ودونك أمثلة على ذلك:
1- قد تشكَّى بعض العلماء من دخول البدع على علماء المسلمين، فهذا ابن الصلاح قد اشتكى من دخول علم المنطق والفلسفة على الفقهاء في زمنه، حتى قال: “لقد أتى -أي: الغزالي- بخلطه المنطق بأصول الفقه بدعةً عظُم شؤمها على المتفقهة حتى كثر فيهم بعد ذلك المتفلسفة، والله المستعان”([35]).
وابن الصلاح قطعًا لا يقصد بدعة الشيعة ولا المعتزلة، بل يقصد العلماء المنتسبين إلى أهل السنة في زمنه، فإذا كانت البدعة انتشرت في علماء المسلمين وكثر في الفقهاء المتفلسفة -بنص كلام ابن الصلاح- فكيف بالأزمنة المتأخرة عنه؟!
2- كثير من العلماء المجمع على إمامتهم اشتكى من انتشار مذهب تأويل الصفات بين علماء المتأخرين، ووصفه بأنه مذهب الجهمية، ومن هؤلاء: علاء الدين ابن العطار في كتابه (الاعتقاد الخالص)، وابن درباس الماراني في رسالة (الذب عن أبي الحسن الأشعري).
3- معلوم خلاف السيوطي مع المتكلمين في عصره، وردوده عليهم، وردودهم عليه، ولم يكن خلاف السيوطي مع الشيعة ولا المعتزلة، بل كان مع العلماء المنتسبين إلى أهل السنة، حتى صنف (صون المنطق والكلام عن فن المنطق والكلام)، وتشكَّى من غربة الحق في زمانه وانتشار علم المنطق والكلام في ديار المسلمين.
4- ما زال العلماء يرد بعضهم على بعض في القضايا الاعتقادية والمنهجية والأصولية، والماتريدية يردون على الأشاعرة ويلزمونهم الكفر في كتبهم وبحوثهم -دع عنك الحنابلة والأثرية فردودهم مشهورة-، بل الأشاعرة أنفسهم يرد بعضهم على بعض، ويستشنعون بعض أقوال أئمتهم، فقد ردَّ القاضي عياض على الغزالي وقال عنه: “ذو الأنباء الشنيعة، والتصانيف الفظيعة”([36])، ونقل الذهبي قول المازري في قول الجويني: إن الله تعالى يعلم الكليات لا الجزئيات: “وددت لو محوتها بدمي، قلت: هذه لفظة ملعونة. قال ابن دحية: هي كلمة مكذِّبة للكتاب والسنة، مكفَّر بها، هجره عليها جماعة، وحلف القشيري لا يكلِّمه أبدا؛ ونُفِي بسببها مدة، فجاور وتاب”([37]).
ومما سبق تعلم أن القول بأن الخطّ العلمي للأمة الإسلامية لن يدخله البدع فيه مكابرة للواقع المحسوس، ومخاتلة فكرية لا ينبغي أن يقع فيها باحث متجرد.
ثالثًا: روى البخاري عنِ الزُّبَيْرِ بْنِ عَدِيٍّ قَالَ: أَتَيْنَا أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ، فَشَكَوْنَا إِلَيْهِ مَا نَلْقَى مِنَ الحَجَّاجِ، فَقَالَ: «اصْبِرُوا، فَإِنَّهُ لاَ يَأْتِي عَلَيْكُمْ زَمَانٌ إِلَّا الَّذِي بَعْدَهُ شَرٌّ مِنْهُ، حَتَّى تَلْقَوْا رَبَّكُمْ»، سَمِعْتُهُ مِنْ نَبِيِّكُمْ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم([38]).
وفي هذا الحديث دليل أنه كلما مرّ الزمان كان الآتي شرًّ من الذي قبله، ولا إشكال في وجود أئمّة عدل بعد أئمة ظلم في بعض الأزمنة، كما في زمن عمر بن عبد العزيز، أو انتشار السنة في زمن الشيخ محمد بن عبد الوهاب ومن بعده مثلًا؛ وذلك لأن المراد تفضيل الحقبة الزمنية ومجموع العصر، لا جماعة من الناس أو أمراء معينين.
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: “المراد بالتفضيل تفضيل مجموع العصر على مجموع العصر؛ فإن عصر الحجاج كان فيه كثير من الصحابة في الأحياء، وفي عصر عمر بن عبد العزيز انقرضوا، والزمان الذي فيه الصحابة خير من الزمان الذي بعده، لقوله صلى الله عليه وسلم: «خير القرون قرني» وهو في الصحيحين”([39]).
ويقول ابن الجوزي رحمه الله: “إن قال قائل: ما وجه هذا ونحن نعلم أنه جاء بعد الحجاج عمر بن عبد العزيز، فبسط العدل وصلح الزمان؟! فالجواب: أن الكلام خرج على الغالب، فكل عام تموت سنة وتحيا بدعة، ويقلّ العلم ويكثر الجهال، ويضعف اليقين، وما يأتي من الزمان الممدوح نادر قليل”([40]).
وخلاصة ما سبق: أنه لا يصح الاحتجاج بالكثرة في الأزمنة المتأخرة؛ لأنه إذا كان العلماء متفقون أن الزمان كلما تقادم انتشرت البدع في الأمة، وأن أهل الحق قلة في آخر الزمان؛ فكيف يصح الاستدلال بالكثرة على صحة الاعتقاد في الأزمنة المتأخرة؟!
فإذا فهمت هذا فلا ضير في أن يكون الأشعرية في سلسلة الأسانيد في العصور المتأخرة؛ فقد روى أهل الحديث عن ثقات الشيعة والمرجئة والقدرية وغيرهم، وقد كانوا في الزمن الأول حيث ظهور السُنة والحجةُ قائمة عليهم، فكيف بعلماء المتأخرين الذين انتشرت هذه العقائد في بلادهم وتابعوها بحسن قصدٍ في بعض المسائل؟!
والمقصود أن تحمُّل العلم وروايته لا يُصحِّح عقائدهم من جهة، ولايقدح في تحمُّلهم للعلم من جهة أخرى.
الوجه الثامن: سبب انتشار المذهب الأشعري:
قد بيَّن عدد من المؤرِّخين أن سبب انتشار المذهب الأشعري هو حمل السلاطين العلماءَ عليه بقوة السيف، بعد أن كان علماء الأمة يرفضونه ويُنابذونه.
يقول تقي الدين المقريزيّ: “وأما العقائد فإن السلطان صلاح الدين حمل الكافة على عقيدة الشيخ أبي الحسن علي بن إسماعيل الأشعري تلميذ أبي علي الجبائي، وشرط ذلك في أوقافه التي بديار مصر؛ كالمدرسة الناصرية بجوار قبر الإمام الشافعي من القرافة، والمدرسة الناصرية التي عُرِفَتْ بالشريفية بجوار جامع عمرو بن العاص بمصر، والمدرسة المعروفة بالقمحية بمصر، وخانكاه سعيد السعداء بالقاهرة، فاستمرَّ الحال على عقيدة الأشعري بديار مصر وبلاد الشام وأرض الحجاز واليمن، وبلاد المغرب أيضًا لإدخال محمد بن تومرت رأيَ الأشعري إليها، حتى إنه صار هذا الاعتقاد بسائر هذه البلاد، بحيث إن من خالفه ضُرِبَ عُنقُه، والأمر على ذلك إلى اليوم”([41]).
ويقول بعد أن حكى حمل السلاطين عليه بقوة السيف والسجن والقتل وإراقة الدماء: “فكان هذا هو السبب في اشتهار مذهب الأشعري وانتشاره في أمصار الإسلام، بحيث نُسِّيَ غيره من المذاهب وجُهِّل؛ حتى لم يبق اليوم مذهب يُخالفه، إلا أن يكون مذهب الحنابلة أتباع الإمام أبي عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل رضي الله عنه، فإنهم كانوا على ما كان عليه السلف لا يرون تأويل ما ورد من الصفات”([42]).
ويقول التاج السبكي الشافعي الأشعري ما نصه: “وقال [أي: العز بن عبد السلام] الذي نعتقد في السلطان؛ [أي: الملك الأشرف، وكان ممَّن يعتقد اعتقاد أهل الحديث] أنه إذا ظهر له الحقُّ يرجِع إليه، وأنه يُعاقِب من موَّهَ الباطلَ عليه، وهو أَولى الناس بموافقة والده السلطان الملك العادل -تغمَّده الله برحمته ورضوانه-؛ فإنه عزَّر جماعةً من أعيان الحنابلة المبتدعة تعزيرًا بليغًا رادعًا، وبدع بهم وأهانهم”([43]).
ثم قال: “ولم يزل الأمر مستمرًّا على ذلك إلى أن اتَّفق وصول السلطان الملك الكامل رحمه الله إلى دمشق من الديار المصرية، وكان اعتقاده صحيحًا، وهو من المتعصّبين لأهل الحقّ، قائل بقول الأشعري رحمه الله في الاعتقاد.. فعند ذلك ذلَّتْ رِقابُ المبتدِعة، وانقلبوا خائبين، وعادوا خاسئين، ﴿وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ﴾ [الأحزاب: 25]، وكان ذلك على يد السلطان الملك الكامل رحمه الله”([44]).
وقال ابن خلدون: “وذهب [أي: ابن تومرت] إلى رأيهم [أي: أئمة الأشعرية] في تأويل المتشابه من الآي والأحاديث بعد أن كان أهل المغرب بمعزل عن اتباعهم في التأويل والأخذ برأيهم فيه، اقتداءً بالسَّلَف في ترك التأويل، وإقرارِ المتشابهات كما جاءت، ففطن أهل المغرب في ذلك، وحملهم على القول بالتأويل والأخذ بمذاهب الأشعرية في كافة العقائد”([45]).
وقال شهاب الدين أبو العباس السلاوي: “وأما حالهم [أي: أهل المغرب الأقصى] في الأصول والاعتقادات فبعد أن طهَّرهم الله تعالى من نزعة الخارجية أولًا، والرافضية ثانيًا، أقاموا على مذهب أهل السنة والجماعة مُقلِّدين للجمهور من السَّلَف رضي الله عنهم.. واستمرَّ الحال على ذلك مدة، إلى أن ظهر محمد بن تومرت مهدي الموحِّدين في صدر المائة السادسة، فرحَل إلى المشرق، وأخذ عن علمائه مذهب الشيخ أبي الحسن الأشعري ومتأخِّري أصحابه من الجزم بعقيدة السلف مع تأويل المتشابه من الكتاب والسنة، وتَخريجه على ما عُرِف في كلام العرب من فنون مجازاتها وضُروب بلاغاتها، ممَّا يوافق عليه النقل والشرع، ويسلم به العقل والطَّبْع. ثم عاد محمد بن تومرت إلى المغرب ودعا الناس إلى سلوك هذه الطريقة، وجزم بتضليل من خالفها بل بتكفيره، وسمَّى أتباعه الموحِّدين تعريضًا بأن من خالف طريقته ليس بموحِّد، وجعل ذلك ذريعةً إلى الانتزاء على ملك المغرب.. ومن ذلك الوقت أقبل علماء المغرب على تعاطي مذهب الأشعري وتقريره وتحريره درسًا وتأليفًا إلى الآن، وإن كان قد ظهر بالمغرب قبل ابن تومرت فظهورًا ما، والله أعلم”([46]).
الوجه التاسع: الحال بعد فرض المذهب الأشعري:
بعد أن انتشر المذهب الأشعري بقوة السيف وأصبح المذهب الرسمي للبلاد السُنية أصبح عَلمًا على الصفاتية، وقسيمًا للمعتزلة والشيعة، فكان بعض العلماء ينتسب إليها نسبة عامة لتولي الوظائف العامة، إلا أنه لا يُصحح كلَّ أقوالهم في بحوثه وكتبه، والبعض الآخر يرفض المذهب إلا أنه لا يُعارض ذلك للمصلحة العامة للبلاد، ولعدم إحداث القلاقل والفتن.
ودليل ذلك ما يلي:
1- أنه قد درَّس كثير ممن ينتهجون منهج السلف في دار الحديث الأشرفية، وكان من شرطها أن يكون المدرِّس أشعريًّا، ومع ذلك فقد درَّس فيها بعض تلامذة ابن تيمية مثل الحافظ المزي وابن كثير وغيرهم، وقد وقَّع المزي على كونه أشعريًّا، مع أنه سُجن في محنة ابن تيمية.
يقول السبكي: “إنَّ صدر الدين المالكي لا يُنكر رتبة المزيّ في الحديث؛ ولكن كأنَّه لاحَظَ ما هو شرط واقِفِها من أن شيخها لا بدَّ وأن يكون أشعريَّ العقيدة، والمزي وإن كان حين وليَ كَتَبَ بخطِّه بأنه أشعريٌّ إلا أنَّ الناس لا يصدّقونه في ذلك”([47]).
وقبل هؤلاء ولي الأشرفية الحافظ أبو عمرو بن الصلاح، مع ما عُرف عن ابن الصلاح من منافحته عن طريقة السلف وانتقاده للمتكلمين، قال شيخ الإسلام ابن تيمية: “وقد أمر الشيخ أبو عمرو ابن الصلاح بانتزاع مدرسة معروفة من أبي الحسن الآمدي وقال: أخذها منه أفضل من فتح عكا”([48]).
2- انتقد ابنُ حجر الأشاعرة مراتٍ عديدةً في كتبه، فمن ذلك قوله: «وقد توسَّع من تأخّر [أي: متأخري الأشاعرة] عن القرون الثلاثة الفاضلة في غالب الأمور التي أنكرها أئمة التابعين وأتباعهم، ولم يقتنعوا بذلك، حتى مزجوا مسائل الديانة بكلام اليونان، وجعلوا كلام الفلاسفة أصلًا يرُدّونَ إليه ما خالَفَهُ من الآثار بالتأويل، ولو كان مستكرهًا، ثم لم يكتفوا بذلك حتى زعموا أن الذي رتّبوه هو أشرف العلوم وأولاها بالتحصيل، وأن من لم يَستعمِل ما اصطلحوا عليه فهو عامِّيٌّ جاهل، فالسعيد من تمسَّكَ بما كان عليه السلف واجتنب ما أحدثه الخلف”([49]).
وينقل الحافظ ابن حجر عن السمناني مقرًّا له بأن مسألة أول واجب على المكلف من مسائل المعتزلة التي بقيَت في المذهب الأشعريّ، فيقول: “هذه المسألة بقيت في مقالة الأشعري من مسائل المعتزلة، وتفرع عليها أن الواجب على كل أحد معرفة الله بالأدلة الدالة عليه، وأنه لا يكفي التقليد في ذلك”([50]).
ويؤيد الحافظ ابن حجر السمعانيَّ في تقرير فساد طريقة متأخري الأشعرية قائلًا: “واستدلَّ أبو المظفر بن السمعاني بآيات الباب وأحاديثه على فساد طريقة المتكلِّمين في تقسيم الأشياء إلى جسم وجَوهر وعرض، قالوا: فالجسمُ ما اجتمع من الافتراق، والجوهر ما حمل العرض، والعرض ما لا يَقوم بنفسه… -إلى أن قال:- فالحذر من الاشتغال بكلامهم والاكتراث بمقالاتهم؛ فإنَّها سريعةُ التهافت كثيرةُ التناقض، وما من كلام تَسمعه لفرقة منهم إلَّا وتَجدُ لخصومهم عليه كلامًا يوازنه أو يقاربه، فكلٌّ بكلٍّ مقابل، وبعضٌ ببعضٍ مُعارَض، وحسبُك من قبيح ما يلزم من طريقتهم أنَّا إذا جَرينا على ما قالوه وألزمنا الناسَ بما ذكروه لزِم مِن ذلك تكفيرُ العوَام جميعًا؛ لأنَّهم لا يعرفون إلَّا الاتِّباعَ المجرَّد”([51]).
3- صنَّف السيوطي كتابه: (صون المنطق والكلام عن علم المنطق والكلام)، وشحنه بكلام شيخ الإسلام ابن تيمية وأبي إسماعيل الهروي الحنبلي وأبي القاسم اللالكائي والخطيب البغدادي وأبي المظفر السمعاني، والكتاب جُلّه نقد لاذع لمتأخري الأشعرية ممن استطردوا في علم الكلام، ونقد لمصادر التلقي عندهم.
وختم السيوطي كتابه قائلًا: “هذا آخر ما لخَّصته من كتاب ابن تيمية، وقد أوردتُ عبارته بلفظه من غير تصرف في الغالب، وحذفتُ من كتابه الكثيَر، فإنه في عشرين كراسًا، ولم أحذف من المهمّ شيئًا، إنما حذفتُ ما لا تعلّق له بالمقصود مما ذُكر استطرادًا أو ردًّا على مسائل من الإلهيات ونحوها، أو مكرَّرًا، أو نقضًا لعبارات بعض المناطقة، وليس راجعًا لقاعدة كلية في الفن أو نحو ذلك، وإذا طالع كلّ أحد كتابي هذا المختصر استفاد منه المقصودَ بسهولة أكثر مما يدركه من الأصل؛ فإنه وعر صعب المأخذ، ولله الحمد والمنة”([52]).
4- الطاهر بن عاشور رغم أنه معدود في الأشاعرة إلا أنه خالفهم في مباحث كثيرة، بل وانتقدهم بالاسم.
يقول رحمه الله في مدحه لطريقة السلف ونقده للأشعرية: “فالسلفية الواقفون عند ما كان عليه الصدر الأول من أهل العصور الثلاثة الصحابة والتابعين وتابعيهم، وأصل طريقتهم أن لا يبحث في التوحيد على أكثر مما ورد في القرآن وصريح الأقوال النبوية وأن تشرح أدلتها الواضحة، حتى لو وجد من بينها ما ينفي ظاهره التنزيهَ حمل على متعارف اللغة حقيقة فيه، نحو اليد مع التنزيه عن مماثلة الخالق للمخلوق، وعلى هاته الطريقة أهل الحديث ومتقدمو الفقهاء… -إلى أن قال:- جاء من بعدُ جماعة راموا التوسط، وكان مذهبهم شرعيًّا مؤيدًا بالفلسفة، ولكن بظواهر منها أرادوا أن يقنعوا بها المعتزلة إذ يجادلونهم بما يقاوم أصولهم، ولكنهم ما سلموا من تقصير في إقناعهم، وهم الأشاعرة والماتريدية؛ فنالوا سخط الفريقين: فأما السلفيون فعدُّوهم مرجئين، وأما المعتزلة فعدّوهم جبرية، ومن الخطإ أنهم تطلَّعوا إلى نقض الفلسفة فارتكبوا خبطًا شديدًا”([53]).
وقال في تفسير قول الله تعالى: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا} بعدما أورد كلاما حول صفة الكلام: “فَاحتِجَاجُ كثِيرٍ مِنَ الأَشَاعرَةِ بِهذهِ الآيةِ على كَونِ الكلامِ الَّذي سَمِعهُ مُوسى الصِّفةَ الذَّاتيَّةَ القائِمَةَ بِالله تَعَالَى احْتِجَاجٌ ضَعِيفٌ”([54]).
5- يقول الشيخ حسن أيوب الأزهري: “أهل السنة هم أبو الحسن الأشعري وأبو المنصور الماتريدي ومن سلك طريقهما، وكانوا يسيرون على طريقة السلف الصالح في فهم العقائد، وقد جعلوا القرآن الكريم المنهل العذبَ الذي يلجؤون إليه في تعرُّف عقائدهم”([55]).
مع أن الشيخ حسن أيوب في نفس الكتاب رجَّح مذهب السلف في إثبات الصفات، وأثنى على ابن تيمية وابن القيم. فتأمل هذه المفارقة.
ويقول الشيخ حسن أيوب أيضًا بعدما نقل مذهب السلف والخلف: “والذي أرتضيه للقارئ هو أن يكون سلفيًّا بعيدًا عن التأويل، وأن يرفض مذهب الخلف رفضًا تامًّا؛ فإنه بدعٌ من القول لا يسوغ الأخذ به”([56]).
كما استدلَّ بشيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم في باب توحيد العبادة كالاستغاثة والنذر والتوكل وغير ذلك([57]).
والقصد مما سبق: أن أحوال جمهور المتأخرين وتصرفاتهم تدلَّ على أنهم من المُستقلين علميًّا، ومثل هؤلاء العلماء حتى ولو سلَّمنا نسبتهم إلى الأشعرية فهي نسبة عامة لا نسبة تحقيق، فهو المذهب الرسمي للبلاد في تلك العصور الذي يجب أن يقرَّ به العالم حتى يتولّى الوظائف العامة، إلا أن جمهورهم عند المحاققة لم ينتسبوا إلى هذا المذهب نسبة خاصّة، بمعنى عدم تصحيح أقوال متكلِّميهم وتحقيقها واعتقادها بالضرورة، بل أكثرهم ينقدها ويرفضها في بحوثه وتصرفاته. فينبغي التنبّه لهذه النكتة.
وعليه، فلا نُسلِّم أن أسانيد الأمة رواها الأشعرية كما يُدندن المعاصرون، بل جمهور هؤلاء من المستقلين علميًّا، ولا يخرجون من وصف أهل السنة بمجرد الخطأ أو التناقض في بعض المباحث.
الوجه العاشر: واقع الإجازة عند المتأخرين:
إن الإجازة في المتأخرين هي إجازة تشريفية لحصول البركة، أما علوم المسلمين فهي مدوَّنة ومحفوظة، فلقد تلقَّت الأمة هذه الكتب جيلًا بعد جيل، ونقلها النسّاخ، واهتم بضبطها أهل الصنعة بما هو مدوَّن في الكتب.
يقول الشيخ البشير الإبراهيمي: “زرتُ يوما الشيخ أحمد البرزنجي رحمه الله في داره بالمدينة المنورة وهو ضرير، وقد نمي إليه شيء من حفظي ولزومي دور الكتب، فقال لي بعد خوض في الحديث: أجزتك بكلِّ مروياتي من مقروء ومسموع بشرطه… إلخ، فألقي في روعي ما جرى على لساني، وقلت له: إنك لم تعطني علمًا بهذه الجُمَل، وأَحر أن لا يكون لي ولك أجر؛ لأنك لم تتعب في التلقين، وأنا لم أتعب في التلقّي، فتبسَّم ضاحكًا من قولي ولم ينكر… -إلى أن قال:- إن ثمرة الرواية كانت في تصحيح الأصول وضبط المتون وتصحيح الأسماء، فلما ضبطت الأصول وأمن التصحيف في الأسماء خفَّ وزن الرواية وسقطت قيمتها. وقلت له: إن قيمة الحفظ -بعد ذلك الضبط- نزلت قريبا من قيمة الرواية، وقد كانت صنعة الحافظ شاقّة يوم كان الاختلاف في المتون، فكيف بها بعد أن تشعَّب الخلاف في ألفاظ البخاري في السند الواحد بين أبي ذر الهروي والأصيلي وكريمة والمستملي والكشميهن وتلك الطائفة…”([58]).
شبهة انقطاع إسناد السلفيين في العصور المتأخرة:
من الشُّبه التي يثيرها المخالفون أن السلفيين منقطعو الإسناد عن علوم الإسلام، فليس لهم إسناد إلى كتب الحديث ولا كتب الفقه، ولا حتى إلى كتب شيخ الإسلام ابن تيمية. ثم يوردون سؤالًا: كيف تدعون إلى كتب ابن تيمية ولا إسناد لكم إليه؟!
ولا ندري ما الذي يحمل المخالف إلى هذه الموثوقية وهو يكتب هذه الشبهة، رغم أنه لم يكلِّف نفسه البحثَ في المسألة، فقط استوحى فكرةً معينة في رأسه ثم صدَّق نفسه، ثم بعد ذلك جعلها مُسلَّمة لا تقبل بحثًا ولا نقاشًا!
ونحن نقول: إن هذا الكلام غير صحيح، والكتب التي صنِّفت في أسانيد أهل العلم المعاصرين أكثر من أن تحصر، منها ما هو مطبوع، ومنها ما هو مدوَّن في ثبَت المشايخ، لكنَّ المخالف دائمًا في شبهاته يعتمد على جهل المُتلقّي كما قررنا مسبقًا.
ولقد طلب شيخ المحدثين بالأزهر الشيخ الدكتور أحمد معبد عبد الكريم الإجازة بكتب الحديث من الشيخ العلامة عبد العزيز ابن باز، فقال في برنامج (ذكرياتي) أثناء حديثه عن لقائه بالشيخ ابن باز: “فطلبتُ من سماحته الإجازة بالحديث في ذلك الوقت”([59]).
ولو أن الشيخ ابن باز ليس له إسناد بالحديث لما جاز للشيخ أحمد معبد أن يطلب منه هذا الطلب.
فهذه الدعوى مجرَّد شائعة (شعبوية بامتياز) ولا أساس لها من الصحة، فأسانيد النجديين محفوظة في الكتب والمجاميع، ومنها كتاب (الإجازة العلمية في نجد، قراءة استقرائية) للدكتور هشام السعيد في سبع مجلدات، وهي دراسة علمية تُعنى بأسانيد علماء النجديين منذ عصر الشيخ محمد بن عبد الوهاب وأبنائه وتلاميذه، وكلها متَّصلة الإسناد بكتب الحديث من صحاح وسنن ومسانيد ومجاميع وأطراف، وكذا كتب الفقه الحنبلي، وكتب الأصول، وكتب العقيدة، وكتب شيخ الإسلام ابن تيمية، فهي موسوعة علمية حافلة بأسانيد النجديين.
ثم أين حمرة الخجل من قائل هذا الكلام وهو يعلم أن من أعلام الإجازة والذين عليهم مدار الرواية في العصور الحديثة: الشيخ المُسند عبد الحق الهاشمي رحمه الله، وابنه الشيخ عبد الوكيل بن عبد الحق الهاشمي، ويروي عنهما السلفيون والأشاعرة على حدٍّ سواء.
وللشيخ عبد الحق الهاشمي (الثبت الكبير) مطبوع، مع رسالة اعتقاد الفرقة الناجية، وقد قرظها الشيخ عبد العزيز بن باز، رحمهما الله تعالى.
وكذلك مسندو العصر الشيخ العلامة حماد الأنصاري والشيخ عبد الله بن عقيل الحنبلي والشيخ محمد الأمين الشنقيطي ومحمد الأمين بوخبزة التطواني ومحمد بن إسماعيل العمراني اليمني، وغيرهم كثير([60]).
ولا يخلو عالم سلفيّ معاصر إلا وله ثبت بالسماع والإجازة في كتب الحديث والقراءات والتفسير وغير ذلك، وبعض الشيوخ قد جمع ثبته في مجلدة.
شبهة أن أسانيد شيخ الإسلام ابن تيمية مهدورة لأنه خالف مشايخه:
ثمة اعتراضٌ أخير يورده المخالف، مفاده: أن أسانيد شيخ الإسلام ابن تيمية إلى الإمام أحمد لا يعتدّ بها؛ وذلك لأن ابن تيمية قد خالف من سبقه في بعض المسائل العقدية، وبالتالي فأسانيده لا فائدة منها، وقد أثار هذه الشبهة بعض من ينتسب إلى الحنابلة المعاصرين.
ولو تأنى المخالف وأعمل عقله قليلًا لما سوَّد الصفحات بهذه المغالطة المنطقية؛ وذلك لأن مخالفة السابقين في بعض مسائل العلم -على فرضية وقوع ذلك- لا يعني إهدار الكتب المروية عنهم بالإسناد ولا تحمُّل العلم عنهم، فهذه نقرة وتلك نقرة أخرى، فما زال العلماء يخالفون بعضهم بعضًا في المسائل العلمية، وما اعتبروا ذلك إلغاءً لسلسلة الأسانيد.
ففي العقيدة: قد خالف القاضي أبو يعلى شيخه الحسن بن حامد في أخصِّ مسائل الأسماء والصفات، ومع ذلك فهو من أجلِّ مشايخه الذين يروي عنهم بالإسناد إلى الإمام أحمد، ولم يهدر القاضي إسناد شيخه.
وفي علم الكلام: للفخر الرازي اختيارات وتحقيقات كلامية تخالف من سبقه من المتكلمين، وكثيرًا ما يتعقبهم ويناقشهم، ولم يكن ذلك إهدارًا لسلسلة الإسناد.
وفي علم الفقه: للإمام النووي تحقيقات علمية تخص المذهب الشافعي تخالف شيوخه من الشافعية، ومع ذلك لم يهدر أسانيدهم.
وفي علم الأصول: للإمام القرافي استدلالات أصولية لم يُسبق إليها كانت إثراءً لعلم الأصول، ولم يكن ذلك انقطاعًا في سلسلة الإسناد.
والسبب في ذلك: أن الإسناد هو الخبر إلى قائله، وأما فهم المسائل والاجتهاد فقد يختلف من عالمٍ إلى آخر، فرب حامل فقهٍ إلى من هو أفقه منه.
وهذا كان آخر ما تيسَّر من الأجوبة على مغالطات بعض المعاصرين التي لو أعملوا الفكر والروية، وانتهجوا منهج الإنصاف، وكلفوا أنفسهم بالبحث، وتركوا الخصومة بالتشهّي، لما وقعوا في غالب تلك المغالطات التي لا تندرج تحت البحث العلمي الجاد.
وصلِّ اللهم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(المراجع)
([1]) جمع الجيوش والدساكر (ص: 280).
([2]) الإشارة إلى مذهب أهل الحق (ص: 404-405).
([3]) تبيين كذب المفتري (ص: 331).
([4]) جمع الجيوش والدساكر (ص: 283).
([5]) جمع الجيوش والدساكر (ص: 281).
([6]) جمع الجيوش والدساكر (ص: 281-281).
([7]) ينظر: سير أعلام النبلاء (18/ 513).
([8]) ينظر: طبقات الحفاظ (1/ 522).
([10]) النشر في القراءات العشر (1/ 34).
([11]) النشر في القراءات العشر (1/ 67-68).
([12]) سير أعلام النبلاء (18/ 13).
([13]) قد نسب شيخ الإسلام ابن تيمية الأهوازي إلى السالمية من أهل الحديث، وهم يوافقون أهل الحديث إلا في أمور يسيرة، وكلامنا السابق من باب محاججة الأشاعرة. قال شيخ الإسلام كما في مجموع الفتاوى (5/ 556): “كان أبو الحسن الأشعري لما رجع عن الاعتزال سلك طريقة أبي محمد بن كلاب، فصار طائفة ينتسبون إلى السنة والحديث من السالمية وغيرهم كأبي علي الأهوازي يذكرون في مثالب أبي الحسن أشياء هي من افتراء المعتزلة وغيرهم”. وينظر أيضًا: مجموع الفتاوى (5/ 484)، وتاريخ الإسلام للذهبي (30/ 126) ـ
([14]) سير أعلام النبلاء (17/ 567).
([15]) ينظر: مجموع الفتاوى (3/ 219)، واجتماع الجيوش الإسلامية (ص: 76).
([16]) ينظر: سير أعلام النبلاء (17/ 77).
([17]) الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان (ص: 48-49).
([18]) مجموع الفتاوى (٥/ ١١٩).
([19]) التوضيح عن توحيد الخلَّاق في جواب أهل العراق (ص: 69). وقد نُسب كتاب توحيد الخلاق أيضًا إلى الشيخ محمد الغريب -زوج بنت الشيخ محمد بن عبد الوهاب-، وقيل: قد اشترك في كتابته مع الشيخ سليمان، وفي كل الأحوال لن يخرج الكلام السابق عن أحدهما، وهما من كبار علماء نجد آنذاك.
([20]) مجموع رسائل وفتاوى أبا بطين (ص: 101).
([21]) لكن لا يلزم من ذلك أن الشيخ أبا بطين ينفي الأفعال الاختيارية، وإنما نقل كلامًا ظنه صوابًا في مسألة مخصوصة.
([22]) شرح العقيدة السفارينية (1/ 307).
([23]) مجموع الفتاوى (3/ 348).
([24]) درء تعارض العقل والنقل (3/ 234).
([25]) سير أعلام النبلاء (5/ 271).
([26]) سير أعلام النبلاء (14/ 40).
([27]) ينظر: البداية والنهاية (12/ 214).
([30]) سير أعلام النبلاء (18/ 471).
([31]) ينظر: لسان الميزان (4/ 226).
([33]) منهاج السنة النبوية (4/ 544).
([34]) رواه أبو داود (4291). وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (599).
([35]) ينظر: طبقات الفقهاء الشافعية (1/ 254).
([36]) انظر: سير أعلام النبلاء للذهبي (19/ 327).
([37]) تاريخ الإسلام (10/ 424).
([41]) المواعظ والاعتبار بذكر الخطط والآثار (4/ 166-167).
([42]) المواعظ والاعتبار بذكر الخطط والآثار (4/ 192). وينظر مقدمة موسوعة أعلام السلفية، من إصدارات مركز سلف.
([43]) طبقات الشافعية الكبرى (8/ 230).
([44]) طبقات الشافعية الكبرى (8/ 238).
([45]) تاريخ ابن خلدون (6/ 302).
([46]) الاستقصا لأخبار دول المغرب الأقصى (1/ 196-197).
([47]) طبقات الشافعية الكبرى (10/ 398).
([48]) مجموع الفتاوى (18/ 52).
([52]) صون المنطق والكلام عن فن المنطق والكلام (ص: 343).
([53]) أليس الصبح بقريب؟! (ص: 187-189).
([54]) التحرير والتنوير (6/ 39).
([55]) تبسيط العقائد الإسلامية (ص: 299).
([56]) تبسيط العقائد الإسلامية (ص: 81).
([57]) انظر: تبسيط العقائد الإسلامية (ص: 239-258).
([58]) آثار البشير الإبراهيمي (3/ 545).
([59]) من برنامج (ذكرياتي). مع الشيخ أحمد معبد عبد الكريم، الجزء الثاني (الدقيقة: 27)، رابط الحلقة:
https://www.youtube.com/watch?v=psgtK3kNZaY
([60]) ينظر أمثلة لأسانيد السلفيين في كتاب: كوكبة من أئمة الهدى ومصابيح الدجي، للقريوتي (ص: 144-147).