بدعية المولد .. بين الصوفية والوهابية
للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة
مقدّمة:
من الأمور المقرَّرة في دين الإسلام أن العبادات مبناها على الشرع والاتباع، لا على الهوى والابتداع، فإنَّ الإسلام مبني على أصلين: أحدهما: أن نعبد الله وحده لا شريك له، والثاني أن نعبده بما شرعه على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم، فالأصل في العبادات المنع والتوقيف.
عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: (لَوْ كَانَ الدِّينُ بِالرَّأْيِ لَكَانَ أَسْفَلُ الْخُفِّ أَوْلَى بِالْمَسْحِ مِنْ أَعْلَاهُ، وَقَدْ رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَمْسَحُ عَلَى ظَاهِرِ خُفَّيْهِ)([1]).
وعن عُمَرَ بْنَ الخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ مخاطبا الحجر الأسود: (أَمَا وَاللَّهِ إِنِّي لَأَعْلَمُ أَنَّكَ حَجَرٌ لا تَضُرُّ وَلاَ تَنْفَعُ، وَلَوْلاَ أَنِّي رَأَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اسْتَلَمَكَ مَا اسْتَلَمْتُكَ)([2]).
قال شيخ الإسلام بن تيمية رحمه الله: “فباستقراء الشريعة نعلم أن العبادات التي أوجبها الله أو أحبَّها لا يثبت الأمر بها إلا بالشرع”([3]).
ومن البدع والمحدثات المنتشرة: بدعة الاحتفال بالمولد الذي تقيمه طوائف من الصوفية في الثاني عشر من ربيع الأول من كلّ عام، وما يصاحب ذلك من المخالفات والمنكرات.
ثم جاؤوا بفرية ما أنزل الله بها من سلطان؛ فقد زعموا أن الاحتفال بالمولد أصل من أصول الدين، وأنه من إظهار الفرح والسرور بخير المرسلين والشكر لله رب العالمين، وأن عليه عمل المسلمين، ثم زعموا أنه لم ينكر ذلك إلا من أطلقوا عليهم لقب الوهابية؛ نسبة لشيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب (ت: 1206هـ) رحمه الله.
وفي هذه الورقة العلمية تفنيد هذه الدعاوى.
مركز سلف للبحوث والدراسات
أولًا: هل القول ببدعية المولد بدعة الوهابية؟
قديمًا كان خصوم السلفيين يحبون أن يصفوهم بوصف “الحنابلة”؛ إذ إنهم وإن نسبوهم إلى إمامٍ كتبَ الله له الذكر الحسن والثناء الجميل في الأمة إلا أنهم بذلك توصلوا إلى الادعاء بأن المنهج السلفي يدافع عن اجتهادات إمامٍ مسبوق بأئمةٍ غيره.
وفي الحقيقة: إن المنهج السلفي يدافع عن إجماع الصحابة والتابعين، وعن مجمل إنتاج هؤلاء الأئمة دون أن يقدِّس أيًّا منهم، وإنما ينادي بالتزام قول السلف متى أجمعوا على شيءٍ، وإلى الالتزام بالقدر المشترك بيْن أقوالهم فيما اختلفوا فيه.
ثم جاءت الفرصة لخصوم المنهج السلفي أن ينزلوا به رتبة على إثر الحركة الإصلاحية السلفية الشاملة التي قام بها شيخ الإسلام ابن تيمية (661-728هـ/ 1263-1328م) رحمه الله، والتي لا زالت الأمة -وعلى رأسها خصوم ابن تيمية- تستفيد مِن آثارها المباركة، والتي كان لها -بفضل الله- أكبر الأثر في أن تستفيق الأمة بعد كبوةٍ عسكريةٍ وفكريةٍ قاصمةٍ؛ فبدا لخصوم السلفية أن ينسبوها لابن تيمية بدلًا مِن الإمام أحمد (164-241هـ/ 780-855م) رحمهما الله، ثم أعادوا الكرَّة مع ظهور حركة شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب (1115-1206هـ/ 1703-1792م) رحمه الله، فوجدوا بغيتهم في استعمال وصف “الوهابية” لكل مسألة لا تروق لهم، فما مِن مسألة يختلفون فيها مع المنهج السلفي إلا ونسبوها للوهابية، ولعل هذا يتجلى بشكلٍ واضحٍ جدًّا في مسألة الاحتفال بالمولد النبوي؛ فهي مسألة متّفق على كونها محدَثة، حتى عند من يقول بمشروعيتها، ورغم ذلك يزعم خصوم المنهج السلفي أن القول ببدعية الاحتفال بالمولد بدعة وهابية.
ومِن أعجب ما يقابلك: أنهم يصوِّرون أن المولد يوم أحدثه مَن أحدثه قد تلقّته الأمة بالقبول، بل ربما جازف بعضهم فعدّه إجماعًا؛ هذا مع أن جُلّ مَن قال بمشروعية المولد قد اعتمد على رسالة السيوطي (849-911هـ/ 1445-1505م) -رحمه الله وعفا عنه- المسماة بـ”حسن المقصد في عمل المولد“، وهي رسالة يقرِّر فيها مشروعية عمل المولد، ويناقش فيها الإمام الفاكهاني المالكي السكندري (654-734هـ/ 1256-1334م) الذي قال بالبدعية؛ مما يعني أننا أمام “مناظرة مصرية” خالصة قبْل أن يولَد الإمام محمد بن عبد الوهاب (1115-1206هـ/ 1703-1792م) أصلًا([4]).
ثانيًا: نشأة بدعة المولد:
من يتتبّع التاريخ الإسلامي يجد أن مثل هذه الاحتفالات لم تكن موجودة عند المسلمين في القرون الأولى التي شهد لها الرسول صلى الله عليه وسلم بأنها خير القرون، بل بعد تلك القرون، فإن الأمة كانت في عافية من الوقوع في هذه الموالد المبتدعة التي صارت وكرًا للفساد والمفسدين في العالم الإسلامي إلى يومنا هذا، حتى جاءت الدولة الفاطمية الباطنية العبيدية والتي انتسبت إلى فاطمة رضي الله عنها -ظلمًا وعدوانًا- من أجل أن يكسبوا ودَّ المسلمين، وقد ذكر كثير من المؤرخين أن هؤلاء الفاطميين ينحدرون من أصل يهوديّ يقال لهم: العبيديون، وهم أبناء عبيد الله بن ميمون بن ديصان المشهور بالقدّاح([5])، قيل: إنه يهودي، وقيل: إنه مجوسيّ، فجدّهم هو ابن ديصان المعروف بالقدّاح، وكان مولى لجعفر بن محمد الصادق، وكان من الأهواز، وأحد مؤسسي مذهب الباطنية، وذلك بالعراق، ثم رحل إلى المغرب، وانتسب في تلك الناحية إلى عقيل بن أبي طالب، وادّعى أنه من نسله ونسبه، وقال لأتباعه: أنا عبيد الله بن الحسن بن محمد بن إسماعيل بن جعفر الصادق، فظهرت فتنته بالمغرب.
وجمهور المصنّفين من المتقدّمين والمتأخرين -حتى القاضي ابن خلكان في تاريخه([6])- ذكروا بطلان نسبهم، وكذلك ابن الجوزي([7]) وأبو شامة([8])، وغيرهم من أهل العلم بذلك.
حتى صنَّف العلماء في كشف أسرارهم، وهتك أستارهم؛ كالقاضي أبي بكر الباقلاني في كتابه المشهور في كشف أسرارهم وهتك أستارهم، وذكر أنهم من ذرية المجوس، وذكر من مذاهبهم ما بيَّن فيه أنها شرّ من مذاهب اليهود والنصارى، بل ومن مذاهب الغالية الذين يدَّعون إلهية عليّ أو نبوَّته، فهم أكفر من هؤلاء، وكذلك ذكر القاضي أبو يعلى في كتابه “المعتمد”([9]) فصلًا طويلًا في شرح زندقتهم وكفرهم، وكذلك ذكر أبو حامد الغزالي رحمه الله في كتابه الذي سمَّاه “فضائل المستظهرية وفضائح الباطنية”، قال: “ظاهر مذهبهم الرفض، وباطنه الكفر المحض”([10]).
وكذلك القاضي عبد الجبار بن أحمد وأمثاله من المعتزلة المتشيّعة الذين لا يفضّلون على عليِّ غيره، بل يفسِّقون من قاتله ولم يتُب من قتاله. يجعلون هؤلاء من أكابر المنافقين الزنادقة. فهذه مقالة المعتزلة في حقهم، فكيف تكون مقالة أهل السنة وجماعة؟!([11]).
ثالثًا: ذكر الموالد التي أحدثها الفاطميون:
جاء في خطط المقريزي تحت عنوان: “ذكر الأيام التي كان الخلفاء الفاطميون يتخذونها أعيادًا ومواسم تتسع بها أحوال الرعية وتكثر معهم” قوله: “وكان للخلفاء الفاطميين في طول السنة أعياد ومواسم، وهي: موسم رأس السنة، وموسم أوّل العام، ويوم عاشوراء، ومولد النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، ومولد عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه، ومولد الحسن، ومولد الحسين عليهما السلام، ومولد فاطمة الزهراء عليها السلام، ومولد الخليفة الحاضر، وليلة أوّل رجب، وليلة نصفه، وليلة أوّل شعبان، وليلة نصفه، وموسم ليلة رمضان، وغرّة رمضان، وسماط رمضان، وليلة الختم، وموسم عيد الفطر، وموسم عيد النحر، وعيد الغدير، وكسوة الشتاء، وكسوة الصيف، وموسم فتح الخليج، ويوم النيروز، ويوم الغطاس، ويوم الميلاد، وخميس العدس، وأيام الركوبات”([12]).
وجاء في “صبح الأعشى” للقلقشندي في كلام طويل له في جلوسات الخليفة الفاطمي العبيدي الباطني، قال بعد أن ذكر جلوسه في المجلس العام أيام المواكب، وجلوسه ليلة أول رجب، وليلة نصفه، وليلة أول شعبان، وليلة نصفه للقاضي والشهود في ليالي الوفود الأربع من كل سنة، قال: “الجلوس الثالث: جلوسه في مولد النبي صلى الله عليه وسلم، في الثاني عشر من شهر ربيع الأول”([13]).
بل كان الفرنسيون لما احتلوا مصر يأمرون بإحياء هذه الموالد والمواسم؛ لما فيها من بدع وخرافات، وخروج عن الشرائع، واجتماع النساء واتباع الشهوات والتلاهي وفعل المحرمات. فقد ذكر الجبرتي في تاريخه: “أن المستعمرين الفرنسيين عندما احتلّوا مصر بقيادة نابليون بونابرت انكمش الصوفية وأصحاب الموالد، فقام نابليون وأمرهم بإحيائها ودعمها”([14]).
وقال في مظهر التقديس: “وفيها -أي: سنة 1213هـ في ربيع الأول- سأل صاري العسكر عن المولد النبوي ولماذا لم يعملوه كعادتهم، فاعتذر الشيخ البكري بتوقف الأحوال وتعطل الأمور وعدم المصروف، فلم يقبل وقال: (لا بد من ذلك)، وأعطى الشيخ البكري ثلاثمائة ريـال فرانسة يستعين بها، فعلقوا حبالا وقناديل، واجتمع الفرنسيس يوم المولد، ولعبوا ودقوا طبولهم وأحرقوا حراقة في الليل وسواريخ تصعد في الهواء ونفوطًا”([15]).
رابعًا: ذكر أقوال أهل العلم غير الوهابية في الاحتفال بالمولد النبوي وغيره من الموالد:
اتّضح مما سبق أن الاحتفال بالمولد النبوي أو غيره من الموالد لم يكن معروفًا في القرون الثلاثة الهجرية الأولى المشهود لأهلها بالخيرية، وإنما أحدثه العبيديون، وقام بنشره في العالم الإسلامي الصوفيون.
وفيما يلي ذكرٌ لموقف أهل العلم من غير الوهابية من هذه البدعة، ملحقين بها أقوال بعض المتأخرين من علماء الأمة، وأقوال بعض أهل العلم من الأزهر:
1- الشيخ عمر بن علي اللخمي المالكي المشهور بالفاكهاني (734هـ)([16]):
قال: “فإنه تكرر سؤال جماعة من المباركين على الاجتماع الذي يعمله بعض الناس في شهر ربيع الأول ويسمونه: المولد، هل له أصل في الشرع، أو هو بدعة وحدث في الدين؟ وقصدوا الجواب عن ذلك مبينًا، والإيضاح عنه معينًا، فقلت وبالله التوفيق:
لا أعلم لهذا المولد أصلًا في كتاب ولا سنة، ولا ينقل عمله عن أحدٍ من علماء الأمة، الذين هم القدوة في الدين، المتمسكون بآثار المتقدمين، بل هو بدعة أحدثها البطّالون، وشهوة نفس اعتنى بها الأكّالون، بدليل أن إذا أدرنا عليه الأحكام الخمسة قلنا: إما أن يكون واجبًا، أو مندوبًا، أو مباحًا، أو مكروهًا، أو محرمًا، وهو ليس بواجب إجماعًا، ولا مندوبًا؛ لأن حقيقة المندوب ما طلبه الشرع من غير ذم على تركه، وهذا لم يأذن فيه الشرع، ولا فعله الصحابة ولا التابعون ولا العلماء المتدينون فيما تعلمت، وهذا جوابي عنه بين يدى الله تعالى إن عنه سئلت، ولا جائز أن يكون مباحًا؛ لأن الابتداع في الدين ليس مباحًا بإجماع المسلمين، فلم يبق إلا أن يكون مكروهًا أو حرامًا… -إلى أن قال:- هذا مع أن الشهر الذي ولد فيه صلى الله عليه وسلم -هو ربيع الأول- هو بعينه الشهر الذي توفي فيه، فليس الفرح فيه بأولى من الحزن فيه، وهذا ما علينا أن نقول، ومن الله تعالى نرجو حسن القبول”([17]).
2- ابن الحاج([18]):
قال: “فَصْلٌ فِي مَوْلِدِ النَّبِيّ والبدع المحدثة فِيهِ: وَمِنْ جُمْلَةِ مَا أَحْدَثُوهُ مِنْ الْبِدَعِ مَعَ اعْتِقَادِهِمْ أَنَّ ذَلِكَ مِنْ أَكْبَرِ الْعِبَادَاتِ وَإِظْهَارِ الشَّعَائِرِ مَا يَفْعَلُونَهُ فِي شَهْرِ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ مِنْ مَوْلِدٍ، وَقَدْ احْتَوَى عَلَى بِدَعٍ وَمُحَرَّمَاتٍ جُمْلَةٍ. فَمِنْ ذَلِكَ اسْتِعْمَالُهُمْ الْمَغَانِي وَمَعَهُمْ آلَاتُ الطَّرَبِ مِنْ الطَّارِ الْمُصَرْصَرِ وَالشَّبَّابَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا جَعَلُوهُ آلَةً لِلسَّمَاعِ”.
ثم ذكر رحمه الله بعض المفاسد التي تحدث في شهر ربيع الأول، ثم قال: “فَانْظُرْ -رَحِمَنَا اللَّهُ وَإِيَّاكَ- إلى مُخَالَفَةِ السُّنَّةِ مَا أَشْنَعَهَا وَمَا أَقْبَحَهَا وَكَيْفَ تَجُرُّ إلى الْمُحَرَّمَاتِ. أَلَا تَرَى أَنَّهُمْ خَالَفُوا السُّنَّةَ الْمُطَهَّرَةَ وَفَعَلُوا الْمَوْلِدَ لَمْ يَقْتَصِرُوا عَلَى فِعْلِهِ، بَلْ زَادُوا عَلَيْهِ مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ مِنْ الْأَبَاطِيلِ الْمُتَعَدِّدَةِ، فَالسَّعِيدُ السَّعِيدُ مَنْ شَدَّ يَدَهُ عَلَى امْتِثَالِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالطَّرِيقِ الْمُوَصِّلَةِ إلى ذَلِكَ وَهِيَ اتِّبَاعُ السَّلَفِ الْمَاضِينَ -رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ- لِأَنَّهُمْ أَعْلَمُ بِالسُّنَّةِ مِنَّا إذْ هُمْ أَعْرَفُ بِالْمَقَالِ وَأَفْقَهُ بِالْحَالِ. وَكَذَلِكَ الِاقْتِدَاءُ بِمَنْ تَبِعَهُمْ بِإِحْسَانٍ إلى يَوْمِ الدِّينِ، وَلْيَحْذَرْ مِنْ عَوَائِدِ أَهْلِ الْوَقْتِ وَمِمَّنْ يَفْعَلُ الْعَوَائِدَ الرَّدِيئَةَ. وَهَذِهِ الْمَفَاسِدُ مُرَكَّبَةٌ عَلَى فِعْلِ الْمَوْلِدِ إذَا عَمِلَ بِالسَّمَاعِ، فَإِنْ خَلَا مِنْهُ وَعَمِلَ طَعَامًا فَقَطْ وَنَوَى بِهِ الْمَوْلِدَ وَدَعَا إلَيْهِ الْإِخْوَانَ وَسَلِمَ مِنْ كُلِّ مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ فَهُوَ بِدْعَةٌ بِنَفْسِ نِيَّتِهِ فَقَطْ؛ إذْ إنَّ ذَلِكَ زِيَادَةٌ فِي الدِّينِ وَلَيْسَ مِنْ عَمَلِ السَّلَفِ الْمَاضِينَ، وَاتِّبَاعُ السَّلَفِ أَوْلَى بَلْ أَوْجَبُ مِنْ أَنْ يَزِيدَ نِيَّةً مُخَالِفَةً لِمَا كَانُوا عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُمْ أَشَدُّ النَّاسِ اتِّبَاعًا لِسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَتَعْظِيمًا لَهُ وَلِسُنَّتِهِ صلى الله عليه وسلم، وَلَهُمْ قَدَمُ السَّبْقِ فِي الْمُبَادَرَةِ إلى ذَلِكَ، وَلَمْ يُنْقَلْ عَنْ أَحَدٍ مِنْهُمْ أَنَّهُ نَوَى الْمَوْلِدَ، وَنَحْنُ لَهُمْ تَبَعٌ، فَيَسَعُنَا مَا وَسِعَهُمْ.
وَقَدْ عُلِمَ أَنَّ اتِّبَاعَهُمْ فِي الْمَصَادِرِ وَالْمَوَارِدِ كَمَا قَالَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ أَبُو طَالِبٍ الْمَكِّيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ، وَقَدْ جَاءَ فِي الْخَبَرِ: «لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يَصِيرَ الْمَعْرُوفُ مُنْكَرًا وَالْمُنْكَرُ مَعْرُوفًا» انْتَهَى. وَقَدْ وَقَعَ مَا قَالَهُ -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ- بِسَبَبِ مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ وَمَا سَيَأْتِي بَعْدُ؛ لِأَنَّهُمْ يَعْتَقِدُونَ أَنَّهُمْ فِي طَاعَةٍ، وَمَنْ لَا يَعْمَلُ عَمَلَهُمْ يَرَوْنَ أَنَّهُ مُقَصِّرٌ بَخِيلٌ، فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إلَيْهِ رَاجِعُونَ”([19]).
3- محمد بن عبد السلام خضر القشيري([20]):
قال: “فصل فِي شهر ربيع الأول وبدعة المولد فِيهِ: لَا يخْتَص هَذَا الشَّهْر بِصَلَاة وَلَا ذكر وَلَا عبَادَة وَلَا نَفَقَة وَلَا صَدَقَة، وَلَا هُوَ موسم من مواسم الْإِسْلَام كالجُمَع والأعياد الَّتِي رسمها لنا الشَّارِع -صلوَات الله وتسليماته عَلَيْهِ وعَلى سَائِر إخوانه من الْأَنْبِيَاء وَالْمُرْسلِينَ-، فَفِي هَذَا الشَّهْر ولد [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] وَفِيه توفّي، فلماذا يفرحون بميلاده وَلَا يَحْزَنُونَ لوفاته؟! فاتخاذ مولده موسما والاحتفال بِهِ بِدعَة مُنكرَة ضَلَالَة لم يرد بهَا شرع وَلَا عقل، وَلَو كَانَ فِي هَذَا خير فَكيف يغْفل عَنهُ أَبُو بكر وَعمر وَعُثْمَان وَعلي وَسَائِر الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ وتابعيهم وَالْأَئِمَّة وأتباعهم؟! لَا شكّ أَن مَا أحدثه إِلَّا المتصوفون الأكّالون البطّالون أَصْحَاب الْبدع، وَتبع النَّاس بَعضهم بَعْضًا فِيهِ إِلَّا مَن عَصَمه الله ووفقه لفهم حقائق دين الْإِسْلَام.
ثمَّ أَيّ فَائِدَة تعود وَأيّ ثَوَاب فِي هَذِه الْأَمْوَال الباهظة الَّتِي تعلّق بهَا هَذِه التَّعَالِيق وتنصب بهَا هَذِه السرادقات وتضرب بهَا الصواريخ؟! وَأي رضًا لله فِي اجْتِمَاع الرقاصين والرقاصات والمومسات والطبالين والزمارين واللصوص والنشالين وَالْحَاوِي والقرداتي؟! وَأي خير فِي اجْتِمَاع ذَوي العمائم الْحَمْرَاء والخضراء والصفراء والسوداء، أهل الْإِلْحَاد فِي أَسمَاء الله، والشخير والنخير، والصفير بِالْغَابَةِ، والدق بالبارات والكاسات، والشهيق والنعيق، بأح أح يَا ابْن الْمرة أم أم ان ان سبا بَينهَا، يَا رَسُول الله يَا صَاحب الْفَرح المدا آد يَا عَم يَا عَم، اللع اللع، كالقرود؟!
مَا فَائِدَة هَذَا كُله؟! فَائِدَته سخرية الإفرنج بِنَا وبديننا، وَأخذ صُورَة هَذِه الْجَمَاعَات لأهل أوروبا، فيفهمون أَن مُحَمَّدًا [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] -حاشاه حاشاه- كَانَ كَذَلِك هُوَ وَأَصْحَابه، فَإنَّا لله وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُون، ثمَّ هُوَ خراب ودمار فَوق مَا فِيهِ النَّاس من فقر وجوع وَجَهل وأمراض، فلماذا لَا تنْفق هَذِه الْأَمْوَال الطائلة فِي تأسيس مصانع يعْمل فِيهَا الألوف من العاطلين؟! أَو لماذا لَا تنْفق هَذِه النَّفَقَات الباهظة فِي إِيجَاد آلَات حربية تقاوم بهَا أَعدَاء الْإِسْلَام والأوطان؟!
وَكَيف سكت الْعلمَاء على هَذَا الْبلَاء وَالشَّر بل وأقروه؟! ولماذا سكتت الْحُكُومَة الإسلامية على هَذِه المخازي وَهَذِه النَّفَقَات الَّتِي ترفع الْبِلَاد إلى أعلى عليين؟ فإمَّا أَن يزيلوا هَذَا الْمُنكر، وَإِمَّا وصمتهم بالجهالة”([21]).
4- الشيخ علي محفوظ:
قال تحت عنوان: “المواسم التي ينسبونها إلى الشرع وليست منه”: “ومن تلك المواسم التي ينسبونها إلى الشرع وليست منه ليلة الثاني عشر من ربيع الأول، يجتمع لها الناس في المساجد وغيرها، فيهتكون حرمة بيوت الله تعالى، ويسرفون في الوقود فيها، ويرفع القراء أصواتهم بقصائد الغناء التي تثير شهوة الشباب إلى الفسوق والفجور، فتراهم عند ذلك يصيحون بأصوات منكرة، ويحدثون في المساجد ضجّة فظيعة، وقد لا يتعرّضون في قصائدهم لشيء من خصائص رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخلاقه الكريمة وأعماله النافعة الجليلة، وفيهم من يشتغل بالأذكار المحرّفه، وكل ذلك لم يأذن به الله ورسوله، ولم يُعهد عن السلف الصالح، فهو بدعة ضلالة“([22]).
5- الشيخ محمد بخيت المطيعي الحنفي مفتي الديار المصرية سابقًا([23]):
قال رحمه الله وهو يتكلم عن بدعية الموالد وأول من أحدثها: “مما أُحدِث وكثر السؤال عنه الموالد، فنقول: إن أول من أحدثها بالقاهرة الخلفاء الفاطميون، وأولهم المعز لدين الله، توجَّه من المغرب إلى مصر في شوال سنة (361هـ)، فوصل إلى ثغر الإسكندرية في شعبان سنة (362هـ)، ودخل القاهرة في 7 رمضان من تلك السنة، فابتدعوا سنة الموالد: المولد النبوي، ومولد أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، ومولد السيدة فاطمة الزهراء، ومولد الحسن والحسين، ومولد الخليفة الحاضر. وبقيت هذه الموالد على رسومها إلى أن أبطلها الأفضل بن أمير الجيوش”.
وقال أيضًا: “وفي خلافة الآمر بأحكام الله أعاد الموالد الستة المذكورة بعد أن أبطلها الأفضل وكاد الناس أن ينسونها، وقد استمر عمل الموالد إلى الآن، غير أن الناس تركوا بعض الموالد الخمسة وزادوا موالد أخرى، حتى إن الموالد الآن لا تكاد تحصى، وزادوا على ما كان يعمل فيها زمن الفاطميين أشياء، ونقصوا أشياء، وزادوا في أيامها”([24]).
6- شمس الدين أبو العون محمد بن أحمد السفاريني الحنبلي (1188هـ):
قال رحمه الله وهو يتحدث عن بدعية إحياء ليالي معينة لم ينصّ عليها الشرع -كليلة الإسراء والمعراج وليلة المولد وغيرها-: “قَالَ الْإِمَامُ ابْنُ عَقِيلٍ: أَنَا أَبْرَأُ إلى اللَّهِ تَعَالَى مِنْ جُمُوعِ أَهْلِ زَمَانِنَا فِي الْمَسَاجِدِ وَالْمَشَاهِدِ لَيَالِي يُسَمُّونَهَا إحْيَاءً، لَعَمْرِي إنَّهَا لِإِحْيَاءِ أَهْوَائِهِمْ، وَإِيقَادِ شَهَوَاتِهِمْ.
قَالَ صاحب الْآدَابِ: وَهَذَا فِي زَمَانِهِ الَّذِي بَيْنَنَا وَبَيْنَهُ نَحْوُ ثَلَاثِمِائَةِ سَنَةٍ. قَالَ: وَمَا يَجْرِي بِالشَّامِ وَمِصْرَ وَالْعِرَاقِ وَغَيْرِهَا مِنْ بِلَادِ الْإِسْلَامِ فِي الْمَوَاسِمِ مِنْ الْمُنْكَرَاتِ فِي زَمَانِنَا أَضْعَافُ مَا كَانَ فِي زَمَانِهِ فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إلَيْهِ رَاجِعُونَ.
قُلْت: وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ ابْنُ مُفْلِحٍ فِي آدَابِهِ فِي زَمَانِهِ، وَهُوَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَدْ تُوُفِّيَ سَنَةَ ثَلَاثٍ وَسِتِّينَ وَسَبْعِمِائَةٍ، فَمَا بَالُك بِعَصْرِنَا هَذَا الَّذِي نَحْنُ فِيهِ وَهُوَ فِي الْمِائَةِ الثَّانِيَةَ عَشَرَ، وَقَدْ انْطَمَسَتْ مَعَالِمُ الدِّينِ، وَطفِئَتْ إلَّا مِنْ بَقَايَا حَفَظَةِ الدِّينِ، فَصَارَتْ السُّنَّةُ بِدْعَةً، وَالْبِدْعَةُ شِرْعَةً، وَالْعِبَادَةُ عَادَةً وَالْعَادَةُ عِبَادَةً؟!
فَعَالِمُهُمْ عَاكِفٌ عَلَى شَهَوَاتِهِ، وَحَاكِمُهُمْ مُتَمَادٍ فِي غَفَلَاتِهِ، وَأَمِيرُهُمْ لَا حُلْمَ لَدَيْهِ وَلَا دِينَ، وَغَنِيُّهُمْ لَا رَأْفَةَ عِنْدَهُ وَلَا رَحْمَةَ لِلْمَسَاكِينِ، وَفَقِيرُهُمْ مُتَكَبِّرٌ، وَغَنِيُّهُمْ مُتَجَبِّرٌ.
مَطْلَبٌ: مُتَصَوِّفَةُ زَمَانِنَا وَمَا يَفْعَلُونَهُ مِنْ الْمُنْكَرَاتِ:
فَلَوْ رَأَيْت جُمُوعَ صُوفِيَّةِ زَمَانِنَا وَقَدْ أَوْقَدُوا النِّيرَانَ، وَأَحْضَرُوا آلَاتِ الْمَعَازِفِ بِالدُّفُوفِ الْمُجَلْجِلَةِ وَالطُّبُولِ وَالنَّايَاتِ وَالشَّبَابِ، وَقَامُوا عَلَى أَقْدَامِهِمْ يَرْقُصُونَ وَيَتَمَايَلُونَ، لَقَضَيْت بِأَنَّهُمْ فِرْقَةٌ مِنْ بَقِيَّةِ أَصْحَابِ السَّامِرِيِّ، وَهُمْ عَلَى عِبَادَةِ عِجْلِهِمْ يَعْكُفُونَ”([25]).
7- الشيخ محمد عبده مفتي الديار المصرية:
قال الشيخ محمد عبده منكرًا هذه الموالد وإقامتها: “ولقد سارت طريقة مدِّعي التصوف في هذا الزمان، وصارت رسومهم بالأهواء والمعاصي أشبه. انظر إلى الاجتماعات التي يسمونها الموالد، وما يكون فيها من نصب السرادقات وتقديم الخدمات، فقد جذبوا إليها الفقراء، واستخفّوا عقول الأغنياء، وصاروا يبذلون فيها الأموال العظيمة، زاعمين أنهم يتقربون بها إلى الله تعالى، ولو طلب منهم بعض هذا المال لمساعدة الجمعيات التي قامت للدعوة إلى الله وهداية الناس، أو معونة المرشدين الذين تصدوا لنشر العلم والفضيلة ومحاربة البدع والرذيلة، أو إعانة منكوب أو إسعاف مصاب لضنوا وبخلوا”([26]).
8- زين الدين محمد المدعو بعبد الرؤوف بن تاج العارفين بن علي بن زين العابدين الحدادي ثم المناوي القاهري (1031هـ):
قال عند شرحه لحديث: «اجْعَلُوا فِي بُيُوتِكُمْ مِنْ صَلاَتِكُمْ، وَلاَ تَتَّخِذُوهَا قُبُورًا»([27]): “الحديث يؤخذ منه أن اجتماع العامة في بعض أضرحة الأولياء في يوم أو شهر مخصوص من السنة، ويقولون: هذا يوم مولد الشيخ، ويأكلون ويشربون -وربما يرقصون- منهي عنه شرعًا، وعلى ولي الشرع ردعُهم على ذلك وإنكاره عليهم وإبطاله”([28]).
9- شيخ الأزهر أحمد مصطفى المراغي (1881-1945م):
قال عند تفسير قوله تعالى: {حُنَفاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ}: “ظلمهم لها بالابتداع، إذ يبغونها عوجا بما يزيدون في الدين من البدع المحدثات التي لم يرد بها كتاب ولا سنة، ومستندهم في ذلك تأويلات جدلية ومحاولات للتوفيق بين الدين والفلسفة في الاعتقادات، أو زيادات في العبادات والشعائر كحفل الموالد وترتيلات الجنائز وأذكار المآذن، أو تحريم ما لم يحرمه الله من الطيبات من الرزق، أو تحليل ما حرم الله كبناء المساجد على القبور وإيقاد المصابيح والشموع وغيرها عليها”([29]).
10- محمد رشيد بن علي رضا صاحب المنار (1282-1354هــ):
قال: “أنا أسعى إلى إبطال البدع والخرافات والتقاليد والعادات التي أفسدت العقائد والأخلاق والأعمال، وروّجت في المسلمين أسواق الدجل والخرافات، وما تبعها من الفواحش والمنكرات، ولا سيما بدع الموالد، وعبادة القبور والمشاهد، وأكبر مفاسدها اشتراك علماء الأزهر فيها، وسكوت غير المشتركين فيها عن إنكارها؛ فكانوا بذلك قدوة سيئة للعوام، وفتنة منفّرة للمتكلمين عن الإسلام، وحجة للكافرين على المسلمين”([30]).
11- محمد بن أحمد بن محمد عليش أبو عبد الله (1217هـ/ 1802م-1299هـ/ 1882م) الفقيه المالكي:
قال رحمه الله: “من نذر ذبح عجل يوم المولد لا يلزمه شيء؛ لأن عمل مولد الرسول صلى الله عليه وسلم ليس مندوبًا، خصوصًا إذا اشتمل على مكروه كقراءة بتلحين، أو غناء، ولا يسلم في هذا الزمان من ذلك، وما هو أشد منه، والنذر إنما يلزم به ما ندب”([31]).
12- أبو عبد الله محمَّد بن علي شهر الحفار الأنصاري الغرناطي المالكي:
قال أحمد بن يحيى الونشريسي: “وسئل الأستاذ أبو عبد الله الحفار عن رجل حبس أصل توت على ليلة مولد سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم ثم مات المحبس، فأراد ولده أن يتملك أصل التوت المذكور، فهل له ذلك أم لا؟
فأجاب: وقفت على السؤال فوقه، وليلة المولد لم يكن السلف الصالح -وهم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم والتابعون لهم- يجتمعون فيها للعبادة، ولا يفعلون فيها زيادة على سائر ليالي السنة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لا يعظَّم إلا بالوجه الذي شرع فيه تعظيمه، وتعظيمه من أعظم القرب إلى الله، لكن يتقرب إلى الله جل جلاله بما شرع، والدليل على أن السلف لم يكونوا يزيدون فيها زيادة على سائر الليالي أنهم اختلفوا فيها، فقيل: إنه صلى الله عليه وسلم ولد في رمضان، وقيل: في ربيع، واختلف في أي يوم ولد فيه على أربعة أقوال، فلو كانت تلك الليلة التي ولد في صبيحتها تحدث فيها عبادة بولادة خير الخلق صلى الله عليه وسلم لكانت معلومة مشهورة لا يقع فيها اختلاف، ولكن لم تشرع زيادة تعظيم”([32]).
13- الإمام أبو عمرو بن العلاء:
قال: “لا يزال الناس بخير ما تعجب من العجب، هذا مع أن الشهر الذي ولد فيه رسول الله -وهو ربيع الأول- هو بعينه الشهر الذي توفي فيه، فليس الفرح بأولى من الحزن فيه، وهذا ما علينا أن نقول، ومن الله تعالى نرجو حسن القبول”([33]).
14- الإمام الشوكاني:
قال رحمه الله: “المولد لم أجد إلى الآن دليلًا يدل على ثبوته من كتاب، ولا سنة، ولا إجماع، ولا قياس، ولا استدلال، بل أجمع المسلمون أنه لم يوجد في عصر خير القرون، ولا الذين يلونهم، ولا الذين يلونهم”([34]).
وقال أيضًا: “الحق أكبر من كل أحد، على أنّا إذا عولنا على أقوال الرجال، ورجعنا إلى التمسك بأذيال القيل والقال، فليس القائل بالجواز -أي: بجواز المولد- إلا شذوذ من المسلمين”([35]).
وقال رحمه الله: “وسريان البدع أسرع من سريان النار، لا سيما بدعة المولد، فإن أنفس العامة تشتاق إليها غاية الاشتياق”([36]).
15- الحافظ ابن حجر رحمه الله (852هـ):
يقول الحافظ رحمه الله في شرحه لحديث برقم 3641: “وَقَدْ أَبْدَى بَعْضهمْ لِلْبُدَاءَةِ بِالْهِجْرَةِ مُنَاسَبَة فَقَالَ: كَانَتْ الْقَضَايَا الَّتِي اتّفقَتْ لَهُ وَيُمْكِن أَنْ يُؤَرَّخ بِهَا أَرْبَعَة: مَوْلِده وَمَبْعَثه وَهِجْرَته وَوَفَاته، فَرَجَحَ عِنْدهمْ جَعْلهَا مِنْ الْهِجْرَة لِأَنَّ الْمَوْلِد وَالْمَبْعَث لَا يَخْلُو وَاحِد مِنْهُمَا مِنْ النِّزَاع فِي تَعْيِين السَّنَة، وَأَمَّا وَقْت الْوَفَاة فَأَعْرَضُوا عَنْهُ لِمَا تُوُقِّعَ بِذِكْرِهِ مِنْ الْأَسَف عَلَيْهِ، فَانْحَصَرَ فِي الْهِجْرَة”([37]).
16- شيخ الإسلام ابن تيمية (728هـ):
وممن صرح ببدعية الاحتفال بالمولد شيخ الإسلام ابن تيمية حيث قال: “فَلَوْ أَنَّ قومًا اجْتَمَعُوا بَعْضَ اللَّيَالِي عَلَى صَلَاةِ تَطَوُّعٍ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَتَّخِذُوا ذَلِكَ عَادَةً رَاتِبَةً تُشْبِهُ السُّنَّةَ الرَّاتِبَةَ لَمْ يُكْرَهْ. لَكِنَّ اتِّخَاذَهُ عَادَةً دَائِرَةً بِدَوَرَانِ الْأَوْقَاتِ مَكْرُوهٌ؛ لِمَا فِيهِ مِنْ تَغْيِيرِ الشَّرِيعَةِ وَتَشْبِيهِ غَيْرِ الْمَشْرُوعِ بِالْمَشْرُوعِ. وَلَوْ سَاغَ ذَلِكَ لَسَاغَ أَنْ يَعْمَلَ صَلَاةً أُخْرَى وَقْتَ الضُّحَى أَوْ بَيْنَ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ أَوْ تَرَاوِيحَ فِي شَعْبَانَ أَوْ أَذَانًا فِي الْعِيدَيْنِ أَوْ حَجًّا إلى الصَّخْرَةِ بِبَيْتِ الْمَقْدِسِ، وَهَذَا تَغْيِيرٌ لِدِينِ اللَّهِ وَتَبْدِيلٌ لَهُ. وَهَكَذَا الْقَوْلُ فِي لَيْلَةِ الْمَوْلِدِ وَغَيْرِهَا. وَالْبِدَعُ الْمَكْرُوهَةُ مَا لَمْ تَكُنْ مُسْتَحَبَّةً فِي الشَّرِيعَةِ وَهِيَ أَنْ يُشَرِّعَ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ، فَمَنْ جَعَلَ شَيْئًا دِينًا وَقُرْبَةً بِلَا شَرْعٍ مِنْ اللَّهِ فَهُوَ مُبْتَدِعٌ ضَالٌّ، وَهُوَ الَّذِي عَنَاهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَوْلِهِ: «كُلُّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ»([38]).
وقال أيضًا: “وَأَمَّا اتِّخَاذُ مَوْسِمٍ غَيْرِ الْمَوَاسِمِ الشَّرْعِيَّةِ -كَبَعْضِ لَيَالِي شَهْرِ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ الَّتِي يُقَالُ: إنَّهَا لَيْلَةُ الْمَوْلِدِ أَوْ بَعْضِ لَيَالِيِ رَجَبٍ أَوْ ثَامِنَ عَشَرَ ذِي الْحِجَّةِ أَوْ أَوَّلِ جُمْعَةٍ مِنْ رَجَبٍ أَوْ ثَامِنِ شَوَّالٍ الَّذِي يُسَمِّيهِ الْجُهَّالُ عِيدَ الْأَبْرَارِ- فَإِنَّهَا مِنْ الْبِدَعِ الَّتِي لَمْ يَسْتَحِبَّهَا السَّلَفُ وَلَمْ يَفْعَلُوهَا”([39]).
ويقول رحمه الله عن اتخاذ مولد النبي صلى الله عليه وسلم عيدًا مع اختلاف الناس في مولده: “فإن هذا لم يفعله السَّلَفُ مع قيام المقتضي له وعدم المانع منه لو كان خيرًا. ولو كان هذا خيرًا محضًا أو راجحًا لكان السلف رضي الله عنهم أحق به منا، فإنهم كانوا أشد محبة لرسول الله صلى الله عليه وسلم وتعظيمًا له منا، وهم على الخير أحرص. وإنما كمال محبته وتعظيمه في متابعته وطاعته واتباع أمره، وإحياء سنته باطنًا وظاهرًا، ونشر ما بعث به، والجهاد على ذلك بالقلب واليد واللسان. فإن هذه طريقة السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار، والذين اتبعوهم بإحسان”([40]).
شبهة:
أورد بعض من يقول بجواز الاحتفال بالمولد بعضَ النصوص المشتبهة الواردة عن شيخ الإسلام وأراد منها أن يروِّجَ لهذه الاحتفالات، فهل شيخ الإسلام يجيز فعلا الاحتفال بالمولد؟!
وللجواب عن ذلك نقول: قال شيخ الإسلام: “فتعظيمُ المولد واتخاذُه موسمًا قد يفعله بعضُ الناس، ويكون له فيه أجر عظيم لحسن قصده، وتعظيمه لرسول الله صلى الله عليه وسلم، كما قدمته لك أنه يحسن من بعض الناس ما يستقبح من المؤمن المسدد”([41]).
فهذا هو النص الذي يستدل به من يثير هذه الشبهة، وشيخ الإسلام إنما يقول ذلك في حق من فعله جاهلًا، قال الشيخ ابن باز: “والشيخ تقي الدِّين أحمد بن تيمية رحمه الله ممن يُنكِرُ ذلك -الاحتفال بذكرى المولد النبوي- ويرى أنه بدعة. لكنه في كتابه (اقتضاء الصراط المستقيم لمخالفة أصحاب الجحيم) ذكر في حق مَن فعله جاهلًا، ولا ينبغي لأحدٍ أن يغترَّ بمن فعله من الناس أو حبَّذ فعله أو دعا إليه… لأن الحجة ليست في أقوال الرجال، وإنما الحجة فيما قال الله سبحانه أو قاله رسولُه صلى الله عليه وسلم أو أجمع عليه سلف الأمة”([42]).
ثم هذا الكلام المجمل لشيخ الإسلام مُفسَّرٌ بكلامه في مواضع أخرى، مثل قوله رحمه الله: “سائر الأعياد والمواسم المبتدعة من المنكرات المكروهات، سواء بلغت الكراهة التحريم أو لم تبلغه”، وقوله: “ما أحدث من المواسم والأعياد فهو منكر وإن لم يكن فيه مشابهة لأهل الكتاب”، وقوله أيضًا: “من ندب إلى شيء يتقرب به إلى الله أو أوجبه بقوله أو فعله من غير أن يشرعه الله فقد شرع من الدين ما لم يأذن به الله، ومن اتبعه في ذلك فقد اتخذه شريكًا لله، شرع له من الدين ما لم يأذن به الله”([43]).
الخاتمة:
والحاصل من هذه النقول -وغيرها كثير مما تركناه خشية الإطالة- أن المجوزين للمولد هم شذوذ بالنسبة للمانعين، وأن القول ببدعيته هو قول السلف، وقول جماهير علماء الأئمة، فلم ينفرد به الوهابية، ولم يكن من بدعهم، بل هو القول الذي دلت عليه نصوص الكتاب والسنة، وأفتى به علماء الأمة قبل الوهابية وبعدهم.
فإذا عرفنا بعد ذلك أنه من ذرائع المنكرات، وأنه باب من أبواب الشرك بالله، والغلو في النبي صلى الله عليه وسلم؛ فهو ممنوع منه بالاتفاق.
هذا، وصل اللهم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلِّم.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(المراجع)
([3]) القواعد النورانية الفقهية (ص: 112).
https://anasalafy.com/ar/79734-%D9%85%D9%86%D8%A7%D8%B8%D8%B1%D8%A9-%D9%85%D8%B5%D8%B1%D9%8A%D8%A9-%D8%AD%D9%88%D9%84-%D8%A8%D8%AF%D8%B9%D9%8A%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D9%85%D9%88%D9%84%D8%AF-%D9%82%D8%A8%D9%84-%D8%B8%D9%87%D9%88%D8%B1
([5]) سمي القداح لأنه كان كحَّالا يقدح العيون إذا نزل فيها الماء. انظر: وفيات الأعيان (3/ 118)، والبداية والنهاية (11/ 202)، ولسان العرب (2/ 556) مادة (قدح).
([8]) الروضتين في أخبار الدولتين (2/ 214).
([9]) مختصر المعتمد في أصول الدين (ص: 404).
([10]) انظر: فضائح الباطنية، لأبي حامد الغزالي، (ص: 37).
([11]) انظر: البدع الحولية، عبد الله بن عبد العزيز التويجري، ط: دار الفضيلة، (ص: 142-143).
([12]) المواعظ والاعتبار بذكر الخطط والآثار، ط: دار الكتب العلمية، (2/ 436).
([13]) صبح الأعشى في صناعة الإنشا، ط: الهيئة المصرية العامة للكتاب، (3/ 494-498).
([15]) مظهر التقديس بزوال دولة الفرنسيس (ص: 47).
([16]) هو: عمر بن علي بن سالم اللخمي، تاج الدين أبو حفص، ولد سنة 654هـ، وسمع الحديث واشتغل بالفقه، وكان على حظ وافر من الدين المتين واتباع السلف الصالح، توفي بالإسكندرية سنة 734هـ. من مؤلفاته: شرح العمدة في الحديث، والإشارة في العربية وشرحها، والفجر المنير في الصلاة على البشير النذير. ينظر: البداية والنهاية (14/ 146)، والديباج المذهب (ص: 186-187)، والدرر الكامنة (3/ 178) ترجمة رقم (418).
([17]) المورد في عمل المولد، ط: دار العاصمة، (ص: 1-13).
([18]) هو: محمد بن محمد بن محمد بن الحاج أبو عبد الله العبدري، المالكي، الفاسي. توفي بالقاهرة سنة 737هـ عن نحو ثمانين عامًا. من كتبه: المدخل، وشموس الأنوار وكنوز الأسرار. ينظر: الديباج المذهب (ص: 327-328)، والدرر الكامنة (4/ 237) ترجمة رقم (627)، وشجرة النور الذكية (ص: 318) ترجمة رقم (769).
([19]) المدخل، ط: دار التراث، (2/ 2-10).
([20]) لم أجد له ترجمة غير أنه ذكر في آخر كتابه “السنن والمبتدعات” أنه فرغ من تأليفه سنة 1352هــ.
([21]) السنن والمبتدعات المتعلقة بالأذكار والصلوات، ط: دار الفكر، (ص: 138-139).
([22]) الإبداع في مضار الابتداع (ص: 141).
([23]) هو: محمد بخيت بن حسين المطيعي الحنفي الصعيدي ثم القاهري (1271-1354هـ/ 1854-1935م) الفقيه المفسر الأصولي المنطقي الفيلسوف المحقق المدقق، ولد في القطيعة من أعمال أسيوط، وهو الذي غير اسمها إلى المطيعة تفاؤلًا فاشتهرت بذلك، عين بمنصب المفتي في الديار المصرية. ينظر: الموسوعة الحرة ويكيبيديا:
https://ar.wikipedia.org/wiki/%D9%85%D8%AD%D9%85%D8%AF_%D8%A8%D8%AE%D9%8A%D8%AA_%D8%A7%D9%84%D9%85%D8%B7%D9%8A%D8%B9%D9%8A
([24]) أحسن الكلام فيما يتعلق بالسنة والبدعة من الأحكام (ص: 47).
([25]) غذاء الألباب في شرح منظومة الآداب، ط: مؤسسة قرطبة – مصر (2/ 314).
([26]) انظر: الإبداع في مضار الابتداع (ص: 325-328).
([27]) رواه البخاري (1187)، ومسلم (777).
([28]) انظر: فيض القدير، للمناوي (4/ 199).
([29]) تفسير المراغي، أحمد بن مصطفى المراغي، ط: شركة مكتبة ومطبعة مصطفى البابى الحلبي وأولاده بمصر، (8/ 158).
([30]) المنار والأزهر (ص: 250).
([31]) فتح العلي المالك في الفتوى على مذهب الإمام مالك (1/ 171).
([32]) المعيار المعرب والجامع المغرب عن فتاوي علماء أفريقية والأندلس والمغرب (7/ 99-101).
([33]) ينظر: الحاوي، للسيوطي (1/ 190).
([34]) الفتح الرباني من فتاوى الشوكاني، ط: دار السلام، (2/ 1088).
([35]) الفتح الرباني من فتاوى الشوكاني -ط: دار السلام- (2/ 1089).
([36]) الفتح الرباني من فتاوى الشوكاني (2/ 1089).
([37]) فتح الباري شرح صحيح البخاري، ط: دار المعرفة – بيروت، (7/ 268).
([38]) مجموع الفتاوى (23/ 133).
([39]) مجموع الفتاوى (25/ 298).
([40]) اقتضاء الصراط المستقيم لمخالفة أصحاب الجحيم، ط: دار عالم الكتب، (2/ 123-124).
([41]) اقتضاء الصراط المستقيم لمخالفة أصحاب الجحيم (2/ 126).
([42]) مجموع فتاوى الشيخ عبد العزيز بن باز (9/ 211).
([43]) انظر هذه الأقوال وغيرها كثير من كلام شيخ الإسلام في: اقتضاء الصراط المستقيم (2/ 82) وما بعدها.