صيانة الشريعة لحق الحياة وحقوق القتلى، ودفع إشكال حول حديث قاتل المئة
للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة
المقدمة:
إنّ أهلَ الأهواء حين لا يجدون إشكالًا حقيقيًّا أو تناقضًا -كما قد يُتوهَّم- أقاموا سوق الأَشْكَلة، وافترضوا هم إشكالا هشًّا أو مُتخيَّلًا، ونحن نهتبل فرصة ورود هذا الإشكال لنقرر فيه ولنثبت ونبرز تلك الصفحة البيضاء لصون الدماء ورعاية حقّ الحياة وحقوق القتلى، سدًّا لأبواب الغواية والإضلال المشرَعَة، وإن كان إشكالهم أقلَّ من شبهة وأوهن من هباء.
ولا شك أن حقَّ الحياة وحِفظ النفس من أهمّ حقوق الإنسان التي نادت بها الشريعة، حاضَّةً على حفظها، بل وما دونها، وتمهيدًا لسبل ذلك، وتشريعًا محكمًا لتأمينها، ومعاقبة المعتدي عليها، وسدَّت كلّ الطرق على ما يعترضها أو يتلِفها.
ومِنَ العجب أن يُثار إشكال مفترَض في حديث “قاتل المئة نفس” فيقولون: إنه أهمل حقوق العباد، وقَبل توبته ولم يذكر حقوقهم أو عقابه على جنايته الكبيرة، فتعيَّن الجواب، ومع الجواب تقريرُ حقّ الحياة وحقوق القتلى، ثم انتزاع لفتيل تلك الشبهة، تحقيقًا لما أخذه مرز سلف للبحوث والدراسات على نفسه من الدفاع عن الإسلام عقائده وأحكامه، وأئمّته وأعلامِه، والله تعالى الموفّق والمعين.
مركز سلف للبحوث والدراسات
المبحث الأول: حقّ الحياة في الإسلام:
المراد بحقِّ الحياة هنا ثبوتُ حماية النفس من التَّلف كليّة بالوفاة، وكذلك حفظ بعض الجسد من التلَف، وهي الأجزاء التي يؤدّي إتلافها إلى ما يقرب من انعدام المنفعة الكلي بالنفس، ويكون في إتلافها خطأً ديةٌ كاملة([1]). والتعبير بـ”حق الحياة” تعبيرٌ قانونيٌّ، كما عبَّروا عنه أيضًا بـ”حرمة الجسم”([2]).
فقد ثبت هذا الحقُّ، وجُعل حقًّا شرعيًّا بجعل الله له، وثبت ذلك بمقتضى الخطاب الشرعي، وكلُّ واجبٍ في الشريعة يقابله حقٌّ([3])؛ فحق الحياة حقّ وواجبٌ في آنٍ واحد؛ لارتباطه بالتكليف والأمانة التي حملها الإنسان لعمارة الدنيا والاستخلاف فيها، وتطبيقا لسننه في الكون. وحرم الإسلام على الإنسان الاعتداء على نفسه أو إزهاقها أو السماح لغيره بشيء من ذلك، اللهم إلا إذا كان ذلك لتحقيق قصد شرعي؛ كجهاد العدو، أو المحافظة على حياة، كبتر عضو مريض يتوقّع منه سريان فساده لبقية البدن والتعرض لخطر محقق([4]).
وحق الحياة ليس حقًّا خالصًا للفرد يتصرف فيه كيف يشاء؛ بل هو مقيَّد بالغاية التي من أجلها وجد الإنسان، وهي عبادة الله وعمارة الكون، وتنظيم الحياة فيه على مقتضى من النظر الشرعي، وهو تشريع لم تأخذ به معظَم القوانين الحديثة في العالم.
ويعدُّ الحفاظ على النَّفس في صدارة كليات الشريعة ومقاصدها العامة بعد الحفاظ على الدين، كما تعدّ جميع المقاصد الضرورية الأخرى متوقّفة على وجود النفس الإنسانية والحفاظ عليها؛ لأنه لو عدم المكلَّف لعُدِم من يتديّن وينهض بأصل الحفاظ على الدين، ولعدمت معه ضرورة النسل التي تتفرع عن الحفاظ على النفس وبقائها، ولعُدم العقل الذي لا يقوم أصلا بغير نفس، ولعُدمت أهمية المال الذي يكتسب قيمته من انتفاع الأنفس به وتموّلها له؛ فالمصالح الضرورية إنما تقوم وتتحقَّق إذا وجدت النفس الإنسانية وتحقّق الحفاظ عليها.
فمن أوضح الواضحات الشرعية بيان أن حقَّ الإنسان في الحياة مقرّر شرعًا ومحفوظ، وأن الجناية عليه ليست كأي جناية.
بل أعلى من ذلك نقول: إن حق الحياة مكفول شرعًا للحيوان، كما روى عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «عذبت امرأة في هرة؛ حبستها حتى ماتت جوعا، فدخلت فيها النار»، قال: فقال والله أعلم: «لا أنتِ أطعمتِها ولا سقيتِها حين حبستيها، ولا أنتِ أرسلتها فأكلت من خشاش الأرض»([5]).
المبحث الثاني: دور الشريعة في الحفاظ على النفس البشرية وحفظ الأرواح:
اعتبرت الشريعة أن أعظم الفساد الذي يقع في الدنيا هو مفسدة تفويت الحياة الإنسانية بانتهاك حقِّ الإنسان في الحياة، قال ابن تيمية: “الفساد إما في الدين وإما في الدنيا؛ فأعظم فساد الدنيا قتل النفوس بغير الحق، ولهذا كان أكبر الكبائر بعد أعظم فساد الدِّين الذي هو الكفر”([6]).
لذا شرعت السبل لحفظ الروح الإنسانية، واعتبرت أن “أهم قواعد الشرائع حماية الدماء عن الاعتداء وحياطته بالقصاص، كفًّا وردعًا للظالمين والجائرين، وهذا من القواعد التي لا تخلو عنها الشرائع، والأصول التي لا تختلف فيها الملل”([7]).
من هذه السبل:
1- حرمة القتل بغير حق:
قال الله تعالى: {وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا} [النساء: 29].
فقد أجمع أهل التأويل على أن المراد بهذه الآية النهيُ أن يقتل بعضُ الناس بعضًا، ثم لفظها يتناول أن يقتل الرجل نفسه بقصد منه للقتل في الحرص على الدنيا وطلب المال بأن يحمل نفسه على الغرر المؤدّي إلى التلف، ويحتمل أن يقال: ولا تقتلوا أنفسكم في حال ضجَر أو غضب، فهذا كله يتناوله النهي([8]).
ويقول تعالى: {ولاَ تَقْتُلوا النَّفْسَ التِّي حَرّم اللهُ إلاَّ بالحقِّ} [الأنعام: 151]. وهذا لأن القتل هدم لبناء أراده الله، وسلب لحياة المجني عليه، واعتداء على عصبته الذين يعتزون بوجوده، وينتفعون به، ويحرمون بفقده العون، ويستوي في التحريم قتل المسلم والذمي وقاتل نفسه.
والناظر للقتل بغير حق يجده جريمة كبرى؛ لأنه اعتداء على حق الحياة، وإفساد، والله تعالى لا يحب الفساد.
كما أن الناس جميعًا متساوون في حقِّ الحياة. ومادام القاتل قد اجترأ على واحد فمن الممكن أن يَجترئ على الباقين. أو أن يكون فعله أُسْوَة لغيره، ومادام قد اسْتَن مثل هذه السُّنة، سنجد كلَّ من يغضب منْ آخر يقتله، وتظل السلسلة من القتلة والقتلى تتوالى.
2- تشريع القصاص:
فتشريع القصاص راعت فيه الشريعة حقَّ الحياة وحفظ النفوس؛ فالله تعالى يقول: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} [البقرة: 179].
وكون القصاص حياةً يرجع إلى أنه “إذا أقيم وتحقق الحكم فيه ازدجر من يريد قتل آخر، مخافة أن يُقتصّ منه، فحييا بذلك معا”([9]).
كما “قررت أن الحياة هي المطلوبة بالذات، وأن القصاص وسيلة من وسائلها؛ لأن من علم أنه إذا قتل نفسًا يُقتل بها يرتدِع عن القتل، فيحفظ الحياة على من أراد قتله وعلى نفسه، والاكتفاء بالدية لا يردع كلّ أحد عن سفك دم خصمه إن استطاع، فإن من الناس من يبذل المال الكثير لأجل الإيقاع بعدوه، وفي الآية من براعة العبارة وبلاغة القول ما يذهب باستبشاع إزهاق الروح في العقوبة، ويوطِّن النفوس على قبول حكم المساواة؛ إذ لم يسم العقوبة قتلا أو إعداما، بل سماها مساواة بين الناس تنطوي على حياة سعيدة لهم”([10]).
“ولكم في هذا الجنس من الحكم الذي هو القصاص حياة عظيمة، أو نوع من الحياة، وهو الحياة الحاصلة بالارتداع عن القتل؛ لوقوع العلم بالاقتصاص من القاتل”([11]).
وثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه أقام القصاص لقتل جارية صغيرة فقتل بها رجلًا؛ فعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: عدا يهودي في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم على جارية، فأخذ أوضاحًا([12]) كانت عليها، ورضخ رأسها، فأتى بها أهلها رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي في آخر رمق وقد أصمتت، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم : «من قتلك؟ فلان؟» لغير الذي قتلها، فأشارت برأسها: أن لا، قال: فقال لرجل آخر غير الذي قتلها، فأشارت: أن لا، فقال: «ففلان؟» لقاتلها، فأشارت: أن نعم، فأمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم فرضخ رأسه بين حجرين([13]).
3- النهي عن إلقاء النفس إلى التهلكة:
يقول الله تعالى: {وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} [البقرة: 195].
فقد نهى الله سبحانه وتعالى عن المخاطرة بالنفس، وحرم تعريضها إلى خطر الهلاك إلا في الجهاد أو عند دفع الصائل([14]).
قال الإمام الطبري رحمه الله: “إن الله -جل ثناؤه- قد حرم على كل أحد تعريض نفسه لما فيه هلاكها، وله إلى نجاتها سبيل”([15]).
4- تشريع الرخص للحفاظ على الحياة:
فقد شرع الله سبحانه بعض الرخَص للحفاظ على حياة الإنسان، ورفعًا للحرج عن المكلَّف، ذلك أن حفظ النفس هو أحد مقاصد الشريعة الخمس.
والضرورة هي ما يرجع إلى المقاصد الخمسة التي لم تخل من رعايتها ملة من الملل، ولا شريعة من الشرائع، وهي حفظ الدين والنفس والعقل والنسل والمال([16]).
فيصبح المحظور في حق المضطر واجبًا كأكل الميتة إذا لم يجد ما يغنيه عنها لقوله: {وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ}، وقوله: {وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ}.
ومن هذه الرخَص: أن الشارع رخص للمريض مرضًا شديدًا الفطر، فإن أدى امتناعه عن الفطر إلى إهلاك نفسه فإنه يكون قد ألقى بنفسه إلى التهلكة، والله سبحانه قد أمره بألا يلقي بنفسه إلى التهلكة، وقد كان قادرًا على إحياء نفسه بما أحله الله له، أما إن امتنع فإنه يأثم، وليس في دين الله ولا شريعته إلزام الإنسان بالصوم على وجه يوجب هلاكه([17]).
5- تحريم الإجهاض ودية الجنين:
وهو قتل الجنين في الرحم، فإن حصل عمدًا وباعتداء وجب فيه الغُرة، وهي نصف عشر الدية، وإن نزل حيًّا ثم مات فتجب فيه الدية كاملة، قال تعالى: {وَلا تَقْتُلُواْ أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَـقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُم إنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئًا كَبِيرًا} [الإسراء: 31]، وقال تعالى: {يٰأَيُّهَا ٱلنَّبِىُّ إِذَا جَاءكَ ٱلْمُؤْمِنَـٰتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَىٰ أَن لاَّ يُشْرِكْنَ بِٱللَّهِ شَيْئًا وَلاَ يَسْرِقْنَ وَلاَ يَزْنِينَ وَلاَ يَقْتُلْنَ أَوْلْـدَهُنَّ وَلاَ يَأْتِينَ بِبُهُتَـنٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلاَ يَعْصِينَكَ فِى مَعْرُوفٍ فَبَايِعْهُنَّ وَٱسْتَغْفِرْ لَهُنَّ ٱللَّهَ إِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} [الممتحنة: 12].
قال ابن كثير: “وهذا يشمل قتله بعد وجوده، كما كان أهل الجاهلية يقتلون أولادهم خشية الإملاق، ويعمُّ قتله وهو جنين، كما قد يفعله بعض الجهلة من النساء، تطرح نفسها لئلا تحبل إما لغرض فاسد أو ما أشبهه”([18]).
ولما كانت الشريعة داعيةً إلى حفظ النفوس وراعيةً للحقوق كان من مقتضى ذلك أن لا يقتل الجنين في بطن أمه، ولو كان مخَلَّقًا من ماء الزنا، فقد جاء التوجيه النبوي بتركه حتى يولد ثم يرضع حتى يطعم الطعام.
عن عبد الله بن بريدة، عن أبيه: أن ماعز بن مالك الأسلمي رضي الله عنه أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم … الحديث وفيه: فجاءت الغامدية فقالت: يا رسول الله، إني قد زنيت فطهِّرني، وإنه ردَّها، فلما كان الغد قالت: يا رسول الله، لم تردُّني؟ لعلك أن تردَّني كما رددتَ ماعزا، فوالله إني لحبلى، قال: «إما لا فاذهبي حتى تلدي»، فلما ولدت أتته بالصبيّ في خرقة، قالت: هذا قد ولدتُه، قال: «اذهبي فأرضعيه حتى تفطميه»، فلما فطمَته أتته بالصبيّ في يده كسرةُ خبزٍ، فقالت: هذا يا نبي الله قد فطمتُه، وقد أكل الطعام، فدفع الصبيَّ إلى رجل من المسلمين، ثم أمر بها فحفر لها إلى صدرها، وأمر الناس فرجموها، فيقبل خالد بن الوليد بحجر، فرمى رأسها فتنضح الدم على وجه خالد فسبّها، فسمع نبي الله صلى الله عليه وسلم سبَّه إياها، فقال: «مهلا يا خالد، فوالذي نفسي بيده، لقد تابت توبة لو تابها صاحب مكس لغفر له»، ثم أمر بها، فصلى عليها، ودفنت([19]).
ففي الحديث دليلٌ على أنه إذا وجبت على الحامل عقوبة لا تقام عليها ما لم تضَع الحمل؛ لأنَّ في معاقبتها قبل الوضع إهلاك البريء بسبب المجرم، سواء كانت العقوبة لله سبحانه وتعالى أو للعباد([20]).
ومن شدة عناية الاسلام بحماية الأنفس أنه حرم إسقاط الجنين بعد أن تدبّ الحياة فيه، إلا إذا كان هناك سببٌ حقيقيّ يوجب إسقاطه، كالخوف على أمه من الموت ونحو ذلك، وأوجب في إسقاطه بغير حق غرة([21]).
6- تحريم الانتحار:
حرم الإسلام الانتحار حماية للنفس، ولأنه اعتداء عليها، إذ الحياة ليست في الحقيقة مِلكًا لصاحبها، بل هي هبة من الله تعالى في يد صاحبها، فلا يحل له الاعتداء عليها.
وقرر أبو إسحاق الشاطبي رحمه الله أن نفس المكلف أيضا داخلة في هذا الحق -أي: حق الله تعالى-؛ إذ ليس له التسلّط على نفسه ولا على عضو من أعضائه بالإتلاف([22]).
فلهذا اعتبر الإسلام الانتحار جريمة شنيعة، وأن لصاحبه أشد الإثم والعقاب في الآخرة، فعن أبي هريرة رضي الله عنه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من تردّى من جبل فقتل نفسه فهو في نار جهنم يتردى فيه خالدًا مخلدًا فيها أبدًا، ومن تحسى سما فقتل نفسه فسمه في يده يتحساه في نار جهنم خالدًا مخلدا فيها أبدًا، ومن قتل نفسه بحديدة فحديدته في يده يجأ بها في بطنه في نار جهنم خالدًا مخلدًا فيها أبدًا»([23]).
قال ابن دقيق العيد: “هذا من باب مجانسة العقوبات الأخروية للجنايات الدنيوية. ويؤخذ منه أن جناية الإنسان على نفسه كجنايته على غيره في الإثم؛ لأن نفسه ليست مِلكا له، وإنما هي ملك لله تعالى، فلا يتصرَّف فيها إلا أذن له فيه”([24]).
7- مشروعية دفع الصائل:
الأصل في دفع الصائل قوله تعالى: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُواْ عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} [البقرة: 194].
والمقصود بالنفس الآدمية التي عُنيت الشريعة بحفظها هي النفس المعصومة بالإسلام أو الجزية أو الأمان، فنفس المسلم وكذلك نفس الذمي والمعاهد والمستأمَن هي النفوس المحترمة التي لا يجوز إهدارها في نظر الإسلام، أما ما عداها من الأنفس -مثل نفس المحارب ونفس المرتد إن لم يتب- فلا عصمةَ لها، على أن النفس المعصومة في الأصل قد يجوز إزهاقها بسبب شرعي كقتل الزاني المحصن، أو القصاص من القاتل عمدًا عدوانًا([25]).
8- تحريم المبارزة والاقتتال:
لما كفلت الشريعةُ حقَّ الحياة للجميع إلا إذا استحقّ غير ذلك، وكان الوعيد الشديد على من أزهق النفس بغير حق، أو عزم على ذلك وباشر أسبابه.
عن الأحنف بن قيس رضي الله عنه قال: ذهبتُ لأنصر هذا الرجل، فلقيني أبو بكرة فقال: أين تريد؟ قلت: أنصر هذا الرجل، قال: ارجع، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار»، فقلت: يا رسول الله، هذا القاتل فما بال المقتول؟! قال: «إنه كان حريصًا على قتل صاحبه»([26]).
فهذا الحديث فيه وعيد شديد وزجر عن هذا التصرف، وإيماء إلى حرمة الدماء، ورعاية حق الحياة.
والمبارزة هنا هي “الاقتتال بين شخصين لإثبات حقّ، أو لدفع العار والإهانة”([27]).
المبحث الثالث: إشكال حول حديث قاتل المئة وجوابه:
أولًا: نص حديث قاتل المئة نفس:
عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «كان في بني إسرائيل رجل قتل تسعة وتسعين إنسانا، ثم خرج يسأل، فأتى راهبا فسأله فقال له: هل من توبة؟ قال: لا. فقتله، فجعل يسأل، فقال له رجل: ائت قرية كذا وكذا. فأدركه الموت، فناء بصدره نحوها، فاختصمت فيه ملائكة الرحمة وملائكة العذاب، فأوحى الله إلى هذه أن تقربي، وأوحى الله إلى هذه أن تباعدي، وقال: قيسوا ما بينهما، فوجد إلى هذه أقرب بشبر، فغفر له»([28]).
وفي لفظٍ لمسلم: «انطلق إلى أرض كذا وكذا، فإن بها أناسا يعبدون الله فاعبد الله معهم، ولا ترجع إلى أرضك فإنها أرض سوء. فانطلق حتى إذا نصف الطريق أتاه الموت، فاختصمت فيه ملائكة الرحمة وملائكة العذاب. فقالت ملائكة الرحمة: جاء تائبا مقبلا بقلبه إلى الله. وقالت ملائكة العذاب: إنه لم يعمل خيرا قط. فأتاه ملك في صورة آدمي، فجعلوه بينهم، فقال: قيسوا ما بين الأرضين، فإلى أيتهما كان أدنى فهو له. فقاسوه فوجدوه أدنى إلى الأرض التي أراد، فقبضته ملائكة الرحمة»([29]).
ثانيًا: تصوير الإشكال حول الحديث:
قالوا: هذا الحديث فيه قبول توبة قاتل المئة، وأنه قبضته ملائكة الرحمة، ولم يُذكر فيه حقوق القتلى المئة، فهل مجرد أن يتوب الإنسان ويعلن توبته تسقط هذه الحقوق ولا يعاقب عليها؟!
والجواب عن ذلك في النقاط التالية:
1- أن حقّ الإنسان في الحياة مقرّر شرعًا ومحفوظ:
وقد سبق تقرير ذلك في المبحثين الأول والثاني، فإن توهمنا إشكالًا فالواجب الردّ إلى المحكم لا تشييد البناء على فهمٍ محتملٍ مُوهم.
2- هذه دعوى مردودة بمثلها، ونلزم المخالف بنظير ما فرّ منه:
فإن حديث قاتل المئة إنما سيق حفظًا للأرواح، وتشجيعًا على التوبة، وإزراءً على الجهل المتسبب في بعض هذه الجنايات، وفتحًا لباب الأمل لكل من أخطأ أنّ الفرصة أمامه لتصحيح ما قد تسبب فيه شريطة التوقف والإقلاع والندم، وأما تشريع التصحيح فكل أمّة لها شريعتها.
3- أن الله تعالى يقبل توبته، وأما حقوق الآدميين فإن الله يرضيهم ويوفيهم حقوقهم يوم القيامة:
قال ابن تيمية: “وأما القاتل عمدا فعليه الإثم، فإذا عفا عنه أولياء المقتول أو أخذوا الدية لم يسقط بذلك حقّ المقتول في الآخرة، وإذا قتلوه ففيه نزاع في مذهب أحمد، والأظهر أن لا يسقط، لكن القاتل إذا كثرت حسناته أخذ منه بعضها ما يرضى به المقتول أو يعوّضه الله من عنده إذا تاب القاتل توبة نصوحا”([30]).
وقال ابن القيم: “القتل يتعلّق به ثلاث حقوق: حقّ لله، وحقّ للمقتول، وحقّ للولي. فإذا سلّم القاتل نفسَه طوعًا واختيارًا إلى الولي ندمًا على ما فعل، وخوفًا من الله، وتوبةً نصوحًا، سقط حقُّ الله بالتوبة، وحقُّ الولي بالاستيفاء أو الصلح أو العفو، وبقي حقّ المقتول يعوّضه الله عنه يوم القيامة عن عبده التائب المحسن، ويصلح بينه وبينه، فلا يذهب حقّ هذا، ولا تبطل توبة هذا”([31]).
وقال: “إذا تاب القاتل من حقِّ الله وسلَّم نفسه طوعًا إلى الوارث يستوفي منه حقَّ موروثه سقط عنه الحقَّان، وبقي حقُّ الموروث لا يضيِّعه الله، ويجعل من تمام مغفرته للقاتل تعويضَ المقتول، فإن مصيبته لم تنجبر بقتل قاتله، والتَّوبةُ النَّصوح تهدم ما قبلها، فيعوِّض هذا عن مظلمته، ولا يعاقِب هذا لكمال توبته. وصار هذا كالكافر المحارب لله ورسوله إذا قتل مسلمًا في الصفِّ ثمَّ أسلم وحسُن إسلامه، فإنَّ الله سبحانه يعوِّض الشَّهيد المقتول، ويغفر للكافر بإسلامه ولا يؤاخذه بقتل المسلم ظلمًا، فإنَّ هدم التوبة لما قبلها كهدم الإسلام لما قبله”([32]).
قال المظهري: “وإن قلنا: تقبل توبته، فقد خالفنا أيضًا أصل الشرع، فإن حقوق الآدميين لا تقبل فيها التوبة، بل توبته أداؤها إلى مستحقيها أو الاستحلال منها. ودَفْعُ الإشكالِ بأن نقول: تقبل توبة العبد وإن كان عليه حقوق لآدميين، ونعني بقبول توبته: أن الله تعالى لا يطرده من بابه بأن لا يقبل طاعته وخيراته بعد القتل المحرَّم وغيرِه من الذنوب، بل لا يضيع شيئًا من طاعته وخيراته التي عملها قبل القتل المحرم وغيره من الذنوب، ولا ما يعمله بعد ذلك، بل يُثيبه بما عمل من الطاعات والخيرات ويغفر الذنوب التي بينه وبينه تعالى. وأمَّا ما عليه من حقوق الآدميين فهو في مشيئة الله تعالى، إن شاء يُرضي بكَرَمٍ خُصماءهَ، كان شاء أخذه بحقوقهم”([33]).
4- أنه شرع من قبلنا:
ففي أول هذا الحديث قال النبي صلى الله عليه وسلم: «كان فيمن كان قبلكم»، وهذا بالتحديد كان بعد زمان عيسى عليه السلام، ففي روايةٍ لمسلم: «فدُلَّ على راهب»([34]) أي: على رجل عابد من رهبان النصارى وعُبَّادهم، فلفظ الراهب يدلّ أن ذلك كان بعد رفع عيسى عليه السلام؛ لأن الرهبانية إنما ابْتَدَعها أتباعه بَعْدَ رفعهِ إلى السماء؛ كما دل عليه القرآن الكريم([35]).
ولا يلزم أن تكون طريقة إيفاء حقوق القتلى في شرعهم كما هي عندنا في الإسلام.
5- أن القاتل كان كافرًا وقت الجناية:
فالكافر القاتل للنفس إذا أراد الإسلام لا يُعاقب على جنايته حال كفره، خلافًا للمسلم القاتل إذا أراد التوبة. «أفلا ترى أنه لما كان كافرًا، فقتل مائة نفس، فقبلت توبته، ولو كان مسلمًا كانت مظالم المقتولين في عنقه باقية؟!»([36]).
وقاتل المئة هنا أراد التوبة والإنابة، ومُلئ قلبه بالندم، وشُغل بحقائق الإيمان؛ مما كان حريًّا به أن تُقبل توبته، ويتوجه إلى هجرة بلده ويتّجه إلى بلد الصالحين ويصحح توبته.
6- قوام الشبهة استدلال بعدم الذكر على عدم الوجود:
ومن المقرّر عقلًا أن عدم الذكر لا يستلزم عدم الوجود، وليس شرطًا في كل نص شرعي أن يذكر الحكم كاملًا وملابساته واحترازاته، فدون ذلك مشقّة لا تحتمل، ولا يكاد يتصوّر هذا أحد، وهنا يظهر علم العليم ونظره وفحصه وإلمامه بالأدلة وجمعها، والتنبيه على مراتبها، والمواءمة بين أنواعها المختلفة، والسبك بين مجملها ومبيّنها، وعامّها وخاصّها، ومطلقها ومقيدها، وناسخها ومنسوخها، ومقدّمها ومؤخّرها، وحاظرها ومبيحها.
الخاتمة:
إن حديث قاتل المئة وثيقة عظيمة جدًّا في الحضّ على التوبة إلى الله تعالى، وفيه بيان سعة رحمة الله تعالى، وأنها تتّسع لتقبل من فرّط في حقّه وحقّ العباد، وقتل أنفسًا كثيرة، وباب الله لا يُغلق أمام عبد أتاه، ففيه حضّ على التوقف عن التمادي في المعصية والتفريط، وتحفيز للعاصي أن يقلع وينتهي لا أن يسرف في طغيانه وعصيانه، وليس فيه أدنى إشارة إلى إهمال حقّ القتيل في الإسلام، بل العكس صريحه ومنطوقه ومفهومه في حفظ حق القتلى وتقليل الجريمة.
والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(المراجع)
([1]) نحو تفعيل مقاصد الشريعة، د. جمال الدين عطية، ص142، وانظر مقاصد الشريعة، لابن عاشور، ص303.
([2]) نحو تفعيل مقاصد الشريعة، ص142.
([3]) مراعاة المالكية لمقاصد المكلفين (نظرية وتطبيق)، رسالة ماجستير لميلود الفروجي، جامعة الجزائر، 1422هـ، 2002م.
([4]) حقوق الإنسان في الإسلام لجمل الليل، ص15.
([5]) رواه البخاري (2365)، ومسلم (2242).
([6]) اقتضاء الصراط المستقيم 1/ 76.
([7]) أحكام القرآن لابن العربي (2/ 88)، وانظر: المعجزة الكبرى القرآن، لأبي زهرة، ص147.
([8]) تفسير القرطبي 5/ 165-157.
([9]) الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 2/ 256.
([10]) تفسير المنار، محمد رشيد رضا (2/ 107).
([11]) البحر المحيط في التفسير (2/ 154)
([12]) الأوضاح: حلي الفضة. شرح السنة للبغوي (10/ 164).
([13]) أخرجه البخاري (5295)، ومسلم (1672).
([14]) الموسوعة الفقهية 19/ 207.
([16]) انظر: الرخصة عند الأصوليين وعلاقتها بمراتب مقاصد الشريعة، ص20.
([17]) انظر: أضواء البيان للشنقيطي (1/ 132-133).
([18]) تفسير ابن كثير (8/ 100).
([20]) شرح السنة للبغوي (10/ 296).
([23]) رواه البخاري (5778)، ومسلم (175).
([24]) إحكام الأحكام، (2/ 261)، وينظر أيضًا: فتح الباري لابن حجر (11/ 539).
([25]) ينظر: بدائع الصنائع للكاساني 7/ 236، مصلحة النفس في الشريعة الإسلامية للدكتور محمد أحمد المبيض ص125، مقاصد الشريعة لليوبي ص211-212، الموسوعة الفقهية 30/ 139.
([26]) رواه البخاري (31)، ومسلم (2888).
([27]) حقوق الإنسان محور مقاصد الشريعة، ص104.
([28]) رواه البخاري (3470) واللفظ له، ومسلم (2766)، وابن ماجه (2622).
([30]) مجموع الفتاوى (34/ 138).
([31]) الداء والدواء (ص: 334-335).
([32]) مدارج السالكين (1/ 610).
([33]) المفاتيح في شرح المصابيح (3/ 175).
([35]) انظر: فتح الباري لابن حجر (6/ 517)، شرح سنن ابن ماجه للهرري (15/ 280).