
توظيف التاريخ في تعزيز مسائل العقيدة والحاضر العقدي
للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة
مقدمة:
إنَّ دراسةَ التاريخ الإسلاميِّ ليست مجرَّدَ استعراضٍ للأحداث ومراحل التطور؛ بل هي رحلة فكرية وروحية تستكشف أعماقَ العقيدة وتجلّياتها في حياة الأمة، فإنَّ التاريخ الإسلاميَّ يحمل بين طياته دروسًا وعبرًا نادرة، تمثل نورًا يُضيء الدروب ويعزز الإيمان في قلوب المؤمنين.
وقد اهتم القرآن الكريم بمسألة التاريخ اهتمامًا بالغًا عن طريق القصص وأحداث الأمم السابقة، بل قد حضَّ الله تعالى عباده بشكلٍ عامٍّ على دراسة التاريخ، فقال على سبيل المثال: ﴿أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ﴾ [غافر: 82].
إنَّ العودة إلى التاريخ الإسلامي تمنح الفرصة لاستلهام معاني الصبر والثبات، حيث واجه سلف هذه الأمة التحديات والأزمات بإيمانٍ راسخ وقلوبٍ مملموءة باليقين، فكانوا مثالًا يُحتذى به في السعي نحو الحقيقة. وفي عالمٍ مليء بالتحديات الفكرية تبرز أهمية فهم تلك اللحظات التاريخية التي شكلت مسيرة الأمة، لتصبح وسيلةً لتعزيز العقيدة وتمتين الأواصر بين الأجيال المتعاقبة، وهي السبيل لفهم الحاضر وتوجيه المستقبل.
وفي ذلك يقول ابن خلدون: “اعلم أن فن التاريخ فنٌّ عزيز المذهب، جم الفائدة، شريف الغاية؛ إذ هو يوقفنا على أحوال الماضين من الأمم في سيرهم، والملوك في دولهم وسياساتهم؛ حتى تتم فائدة الاقتداء في ذلك لمن يرومه في أحوال الدين والدنيا”([1]).
وسيرة النبيّ المُصطفى عليه الصلاة والسلام هيَ قطب الرحى من دراسة التاريخ الإسلاميّ من خلال معرفةِ حياة النبيّ صلّى الله عليه وسلّم وسننه وآدابه، والأحداث والغزوات وأسباب النزول وغير ذلك من شئونه الذي هو المصدر الأول بعد القرآن في تثبيت العقائد وتعزيز اليقين.
وفي إطار النهوض بالعقيدة الإسلامية الصحيحة كانت هذه الورقة العلمية من مركز سلف للبحوث والدراسات، والتي ستنتظم في ثلاثة مطالب. ونبدأ بالمطلب الأول مستعينين بالله تعالى، ومستلهمين منه التوفيق والسداد.
مركز سلف للبحوث والدراسات
المطلب الأول: أوجه الاستفادة من التاريخ في علم العقيدة:
من خلال استعراض الأحداث التاريخية نستطيع استنتاج الدروس المستفادة التي تعزّز معاني الإيمان، ومعالجة القضايا العقدية المعاصرة. وتكمن الاستفادة من التاريخ في أمور نوجزها فيما يلي:
1- الاعتبار من سنن الله الكونية:
السنن الكونية أو ما يُشار إليها في القرآن الكريم بالآيات هي القوانين الثابتة التي تحكم الكون والحياة، هذه السنن تعمل وفق نظام دقيق لا يتغيّر، وهي مصمَّمة لخدمة الإنسان وتوجيهه نحو معرفة الحقائق الكبرى، ومن أمثلة ذلك قوله تعالى: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ} [فصلت: 53].
أما “السنن الكلية” فهي قوانين أوسع، تُعدّ مفاتيح رئيسية لتطور المجتمعات وقيام الحضارات. فالله سبحانه وتعالى وضع هذه السنن كمحدّدات لنجاح الحضارات على مر التاريخ أو سقوطها وفق أعمال الأمم وسلوكياتها، ومن ذلك قوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَىٰ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَٰكِن كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُم بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [الأعراف: 96]، حيث تؤكد هذه الآية أن الإيمان والتقوى هما الشرطان الأساسيان لفتح أبواب الخير والبركات على الأمم.
ومن الأمثلة على السننية في القرآن: سُنة (التمكين في الأرض)، المصرّح بها في قوله تعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَىٰ لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا} [النور: 55]، فقد صرحت الآية الكريمة أن التمكين في الأرض والاستخلاف فيها منوط بالإيمان والعمل الصالح، فإذا تحقق الإيمان الصحيح والعمل الصالح تحقق للمؤمنين التمكينُ والاستخلاف والأمن، وإذا تخلَّف هذان الشرطان أو أحدهما انعدم التمكين والاستخلاف والأمن.
وعلاقة ذلك بعلم العقيدة: أنه عندما تضعُف العقيدة ويضعف اليقين فإن النتائج تكون وخيمة، مثلما حدث في الأندلس مع ملوك الطوائف، ومثلما حدث مع المسلمين من غزو التتار.
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: “وكان من أسباب دخول هؤلاء -أي: التتار- ديار المسلمين ظهور الإلحاد والنفاق والبدع، حتى إنه صنف الرازي كتابا في عبادة الكواكب والأصنام وعمل السحر سماه: (السر المكتوم في السحر ومخاطبة النجوم)”([2]).
من هذا المنطلق يمكن فهم أن السنن الكونية والكلية لا تتغير بتغير الزمان أو المكان، بل هي قوانين راسخة يجب على الأفراد والمجتمعات أن يتعلموا منها ويستفيدوا منها.
2- الاستفادة من النوازل العقدية في التاريخ:
وذلك بلَحظ النوازل العقدية التي مرّت في تاريخ المسلمين وكيف تعامل معها فقهاء المسلمين، وتوظيفها في مواجهة تحديات العقيدة في العصر الحالي. فعلى مر عصور تاريخ المسلمين حدثت نوازل في زمانهم وأمور مُشكلة، وقد حكم فيها العلماء العدول ممن يُظنّ فيهم الاقتداء، ولا شك أن طالب العلم إذا أشكلت عليه مسألة معاصرة وكانت محل تجاذب بين أصحاب المذاهب والأفكار المعاصرة، ثم رأى بعض الأئمة العدول في التاريخ حكم في نازلة مُشابهة، اطمأن قلبه في أن له سلفًا.
ومثال ذلك: نازلة استعانة ملوك الطوائف بالفرنج النصارى، فقد اعتمد بعض فقهاء المسلمين وقتها أنها معصية وكبيرة دون الكفر الأكبر، وإن اختلفوا فيها.
ومن ذلك ما حكاه أبو القاسم البرزلي: “وأحفظ أني رأيت لابن الصيرفي في دولة لمتونة من صنهاجة أن المعتمد بن عباد استعان بهم -أي: بالنصارى- في حرب المرابطين، فنصرهم الله عليه وهرب هو، ثم نزل على حكم يوسف بن تاشفين أمير صنهاجة، فاستفتى فيه الفقهاء فأكثرهم أفتى أنها ردة، وقاضيه مع بعض الفقهاء لم يرها ردة، ولم يُبح دمه بالردة، فأمضى ذلك من فتواه، وأخذ بالأيسر، ونقله إلى أغمات، وسكَّنه بها إلى أن مات بها”([3]).
3- استلهام الدروس العقدية وانتقاء القدوات الصالحة:
استلهام الدروس من الصحابة والتابعين والقادة الصالحين عبر التاريخ مما يُعزز تفعيل الجانب العملي في العقيدة، وشحذ الهمم، وبعث روح اليقين من جديد، والتنافس في الخير والصلاح والعطاء، مع تطبيق ما يُناسب من دروس التاريخ على الواقع المعاصر، بما يخدم مقاصد الشريعة مع مراعاة اختلاف الزمان والمكان.
فتاريخ المسلمين حافل بالدرر والكنوز والجواهر التي تتضمن مواقف تدل على رسوخ العقيدة ومكارم الأخلاق وشهامة المسلمين، وليس كما يصوّره بعض المعاصرين بأنه تاريخ أسود! وعبارة عن دسائس وقتال! فالتاريخ الإسلامي ليس محصورًا -كما عند قاصري العقول- في وقعة الحرة، أو في مقتل الحسين، أو في انقلاب بني العباس على الأمويين، أو في مواقف تخلّلها نوع هوى أو تأويل، أو غير ذلك.
بل هذا قد يكون في بعض الجوانب السياسية فقط لا في سائر أحوال الأمة، والأمراء ليسوا معصومين، ولم تخلُ من هذه الأمور السلبية أمة من الأمم -وهو في أمتنا قليلٌ والحمد لله-، ولم يكن هو الأصل في تاريخ المسلمين؛ وإنما اشتهرت تلك الوقائع عند أنصاف المثقفين بسبب أن أهل التواريخ يسلّطون الضوء على الوقائع المشهورة فقط، فتبقى عالقة في الأذهان بما يُخيَّل أنها هي الأصل في تاريخنا، وليس الأمر كذلك.
وإلا لو كانت هذه الوقائع السلبية هي الأصل في تاريخنا لما وجد المسلمون وقتًا للتقدّم الحضاري في كافة العلوم والمجالات، ولا وجدوا وقتًا لتأسيس العلوم كالنحو والصرف والبلاغة وعلم التفسير والأصول والفقه والحديث، ولا حصلت مناظرات فقهية ولغوية والتي كانت بإشراف الخلفاء؛ كمناظرة سيبويه والكسائي في حضرة هارون الرشيد، ولا ليالي المسامرة في الآداب والفنون في حضرة الخلفاء، بل ولا برزوا في العلوم التجريبية وتأسيس علم الجبر والهندسة والطب والجراحة والفيزياء وغيرها.
وكما يُقرر علماء الاجتماع: التقدم العلمي لا يتأتى حصوله إلا مع وجود الرخاء والاستقرار السياسي، وهو دليل على رقي الأمم والحضارات، ويدل على الاتزان النفسي وكمال العقل.
والمقصود: أنَّ الجانب الإيجابي هو الذي كان يغلب على تاريخنا الإسلامي، لا سيما في العصور الأولى والعصور الوسيطة، ومن تأمَّل كتاب (سير أعلام النبلاء) للذهبي وغيره ممن صنفوا في السير سيجد تاريخ الأمة يتفجَّر من بين جنباته بالمواقف الجليلة التي تدل على اليقين وقوة العقيدة والزهد ومكارم الأخلاق، بل وكرامات الأولياء، ما يغبطنا عليه الأمم الأخرى.
ولا يماري في ذلك إلا جاهل بالتاريخ، أو منافق معلوم النفاق، كيف لا والله عز وجل هو الذي وصف هذه الأمة بأنها خير أمةٍ أُخرجت للناس؟!
المطلب الثاني: أمور يجب مراعاتها عند البحث العقدي التاريخي:
إن البحث في المسائل العقدية من منظور تاريخي يتطلب منهجية دقيقة تضمن عدم الوقوع في التفسيرات الخاطئة أو التأويلات المنحرفة، وليس غرضُنا في هذا المقام استيفاء منهجية قراءة التاريخ وإلا طال المقام جدًّا، ولأنَّ هذا محلّه كتب مناهج البحث التاريخي، وإنما هذه وَمَضات ومحطات سريعة، يُمكن أن تفتح للباحث آفاقًا جديدة لقراءة واعية للتاريخ من منظورٍ عقدي.
فمن جملة الأمور التي ينبغي مراعاتها:
1- تحصيل المعرفة التاريخية من المصادر المعتبرة:
وذلك من خلال الاطلاع على التاريخ الإسلامي بشكل موسَّع، مع التركيز على الأحداث والمواقف العقدية المؤثرة.
فمن كتب التاريخ: (تاريخ الأمم والملوك) للإمام الطبري، و(تاريخ الإسلام)، و(سير أعلام النبلاء) كلاهما للحافظ الذهبي، و(الكامل في التاريخ) لابن الأثير، و(الوافي بالوفيات) للصفدي، و(عجائب الآثار) للجبرتي، وغير ذلك من الكتب.
ومن كتب التأريخ للفرق والمذاهب: كتاب (مقالات الإسلاميين) لأبي الحسن الأشعري، وكتاب (الفصل في الملل والأهواء والنحل) لابن حزم، وكتاب (الملل والنحل) للشهرستاني، وكتاب (الفرق بين الفِرق) للبغدادي.
ويجب على الباحث المهتمّ بالعقيدة في تحرير تاريخ الصحابة والتابعين أن يهتم بمصادر أهل الحديث من صحاحٍ وسنن ومسانيد، وكتب العلل والتواريخ للمحدثين، كـ(التاريخ الكبير) للبخاري، و(الجرح والتعديل) لابن أبي حاتم، ونحوها من الكتب؛ فإنها الأصل في معرفة تاريخ صدر الإسلام من هذه الأمة؛ وذلك لأن أهل الحديث أوثق من الإخباريين في نقل الأخبار، فيجب تقديم خبرهم على خبر غيرهم.
ولكن هذا لا يمنع الاعتمادَ على غيرها من المصادر أيضًا؛ وذلك لأن رواية أهل الحديث للتاريخ قليلة ومقتصِدة، ولكنَّ المقصود تقديمها عند وجود التعارض بين الروايات، أو في الأمور التاريخية المُشكلة؛ وذلك لأن الإخباريين -لا سيما الشيعة- قد أكثروا من رواية تاريخ الصحابة وبني أمية، وشانوا التاريخ بروايات مكذوبة.
2- الإلمام بمناهج المؤرخين في التأريخ العقدي:
من المهمّ أن ينتبه الباحث لمناهج مؤرخي الإسلام كالإمام الطبري في (تاريخ الأمم والملوك) وغيره ممن أرخوا للفِرق العقدية كالشهرستاني في (الملل والنحل) أو ابن حزم في (الفصل في الملل والأهواء والنحل)؛ فإن الإلمام بمناهجهم أمرٌ مهمّ في التثبت والتوثيق العقدي.
ومن ذلك: أنَّ الإمام الطبري في تاريخه كان منهجه جمع كل ما قيل في الباب الواحد، ولم يشترط الصحة، فهو يورد جميع الروايات -صحيحها وسقيمها- لتكون مرجعًا عند أهل الإسلام ليقفوا على الصحيح والسقيم معًا.
قال الطبري في مقدمة تاريخه: “فما يكن في كتابي هذا من خبرٍ ذكرناه عن بعض الماضين مما ينكره قارئه أو يستشنعه سامعه، من أجل أنه لم يعرف له وجهًا في الصحة ولا معنى في الحقيقة، فليعلم أنه لم يؤت في ذلك من قِبلنا، وإنما أتي من قِبل بعض ناقليه إلينا، وأنَّا إنما أدينا ذلك عن نحو ما أُدي إلينا”([4]).
وقال الشهرستاني في مقدمة كتابه: “وشرطي على نفسي أن أورد مذهب كل فرقة على ما وجدته في كتبهم؛ من غير تعصبٍ لهم، ولا كسرٍ عليهم؛ دون أن أُبيِّن صحيحه من فاسده، وأعيّن حقه من باطله”([5]).
3- تمحيص ما يمسّ جناب العقيدة:
الأصل في رواية التاريخ وسير الخلفاء والفتوح أنه يُتساهل في إيرادها دون تدقيق في قواعد المحدِّثين ما دامت مدوّنة ومتلقاة بالقبول في الكتب المعتبرة، ولذلك قال الإمام أحمد: “ثلاثةُ ليس لها أصل: التفسيرُ، والملاحم، والمغازي”([6])، وقال: “وأما ابن إسحاق فيكتب عنه هذه الأحاديث -يعني السير والمغازي ونحوها- فإذا جاء الحلال والحرام أردنا قومًا هكذا”، قال أحمد بن حنبل بيده، وضم يديه وأقام أصابعه الإبهامين([7]).
وهنا على الباحث أن يُميِّز بين أمور:
أ- ما له مساس بالعقيدة: ما كان من السير والتواريخ مُتعلقًا -بشكلٍ أو بآخر- بصحة اعتقاد المسلم فينبغي غربلة الروايات في ذلك، ثم ما صحَّ منها يكون التعامل بمقتضاها.
من ذلك مثلًا: قضية التحكيم المشهورة بين عليّ ومعاوية، فقد اشتهرت قصة مكذوبة تُغني شهرتها عن إيرادها، فيها تصوير الصحابة مخادعين، وهي من رواية الإخباريين، وينتهي إسنادها إلى أبي مخنف لوط بن يحيى، قال الذهبي: “أبو مخنف لوط بن يحيى: أخباريٌ تالف، لا يوثق به، تركه أبو حاتم وغيره. وقال الدارقطني: ضعيف. وقال ابن معين: ليس بثقة. وقال مرة: ليس بشيء”([8]).
والصواب في هذه القصة: ما رواه أهل الحديث -كالإمام الدارقطنيّ- بسندٍ صَحيح عن التابعي الثِّقة حُضَين بن المنذر أنَّه سأل عمرَو بن العاص عن ذلك، فقال عمرو -يحكي ما وقع بينه وبين أبي موسى-: قلت لأبي موسى: يا أبا موسى، ما ترى في هذا الأمر؟ فقال أبو موسى: أرى أنَّه في النَّفر الذين توفِّي رسولُ الله صلى الله عليه وسلم وهو راضٍ عنهم، فقال عمرو: فأين تجعلني أنا ومعاوية؟ فقال أبو موسى: إن يستعن بكما ففيكما المعونة، وإن يستغنِ عنكما فطالما استغنى أمرُ الله عنكما([9]).
ويلحق بهذا ما إذا كان الأمر متعلّقًا بثلب أحد من العلماء والأئمة ممن ثبتت عدالته، أو تنقّصهم وتدليس حالهم على الناس؛ لأن كل من ثبتت عدالته لا يقبل جرحه حتى يتبيَّن ذلك عليه بأمرٍ لا يحتمل غير جرحه، كما قال ابن حجر([10]).
ب- ما ليس له مساس بالعقيدة: كسياسة خلفاء بني أمية وبني العباس، وأحوالهم، وشئونهم، والانقلابات والدسائس والمعارك، والفتوحات الإسلامية كفتوح الترك وأذربيجان والأندلس، فهذه الأمور وأمثالها الأصل فيها القبول والإمرار، ما دامت مُتلقاة بالقبول في المصادر المعتبرة، وإلا لو أعملنا قواعد المحدثين في كتب التاريخ لأهدرنا جُل تاريخ الإسلام.
إلا إذا استُدِلّ بالحادثة لثلب أحد ممن يتوسَّم عدالتهم؛ فهنا ينبغي التثبت من النقل أولًا، من باب (ثبِّت العرش ثم انقش)؛ كحادثة إحراق طارق بن زياد السفن، أو التدقيق في شبهةٍ على صلاح الدين الأيوبي؛ لدفع كلام المستشرقين مثلًا، فهذا وإن كان أمرًا حسنًا، إلا أنه أمر اجتهادي مصلحي، ولا يمسّ العقيدة بحال.
يقول الدكتور أكرم ضياء العمري: “أما اشتراط الصحة الحديثية في قبول الأخبار التاريخية التي لا تمس العقيدة والشريعة ففيه تعسُّف كثير، والخطر الناجم عنه كبير؛ لأن الروايات التاريخية التي دوَّنها أسلافنا المؤرخون لم تُعامل معاملة الأحاديث، بل تم التساهل فيها، وإذا رفضنا منهجهم فإن الحلقات الفارغة في تاريخنا ستمثل هوّة سحيقة بيننا وبين ماضينا؛ مما يولد الحيرة والضياع والتمزق والانقطاع.. لكن ذلك لا يعني التخلّي عن منهج المحدثين في نقد أسانيد الروايات التاريخية، فهي وسيلتنا إلى الترجيح بين الروايات المتعارضة، كما أنها خير معين في قبول أو رفض بعض المتون المضطربة أو الشاذة عن الإطار العام لتاريخ أمتنا، ولكن الإفادة منها ينبغي أن تتم بمرونة، آخذين بعين الاعتبار أن الأحاديث غير الروايات التاريخية، وأن الأولى نالت من العناية ما يمكنها من الصمود أمام قواعد النقد الصارمة”([11]).
المطلب الثالث: نماذج من توظيف العلماء للتاريخ في مسائل العقيدة:
على مر العصور قام العديد من العلماء بتوظيف الأحداث التاريخية في توضيح مسائل العقيدة وشرحها، مما ساهم في إثراء الفكر العقدي. وسوف نستعرض بعض النماذج البارزة التي توضح كيف استخدم هؤلاء العلماء التاريخ كأداة لتوضيح المفاهيم العقدية:
المثال الأول: توظيف الإمام أحمد لحادثة خروج ابن الأشعث للزجر عن الخروج على الأمراء:
فعن أبي الحارث قال: سألت أبا عبد الله في أمرٍ كان حدث ببغداد، وهمَّ قومٌ بالخروج، فقلت: يا أبا عبد الله، ما تقول في الخروج مع هؤلاء القوم؟ فأنكر ذلك عليهم، وجعل يقول: سبحان الله! الدماء، الدماء، لا أرى ذلك، ولا آمر به، الصبر على ما نحن فيه خيرٌ من الفتنة يسفك فيها الدماء، ويُستباح فيها الأموال، وينتهك فيها المحارم، أما علمت ما كان الناس فيه؟! -يعني أيام الفتنة-، قلت: والناس اليوم، أليس هم في فتنة يا أبا عبد الله؟! قال: وإن كان، فإنما هي فتنةٌ خاصَّة، فإذا وقع السيف عمّت الفتنة، وانقطعت السبل، الصبر على هذا، ويسلم لك دينك خيرٌ لك. قال: ورأيته ينكر الخروج على الأئمة، وقال: الدماء، لا أرى ذلك، ولا آمر به([12]).
ومن خلال النص السابق: يُظهر الإمام أحمد فهمه العميق للتاريخ الإسلامي، حيث يستشهد بمواقف سابقة، ويشير إلى الفتنة التي وقعت في زمن الفتن الكبرى؛ مثل فتنة ابن الأشعث وغيرها، ويستفيد منها لتحذير الأمة في زمانه من تكرار نفس الأخطاء.
والإمام أحمد يميز بين نوعين من الفتن: الفتنة العامة التي تعم الأمة، والفتنة الخاصة التي قد تصيب فئة معينة.
وهو يدعو للصبر في الفتن العقدية الخاصة لتجنب الوقوع في الفتن الكبرى التي تنتهي بسفك الدماء، فيميز الإمام بين الفتن ذات الأثر العقدي الكبير مثل الفتنة التي تستبيح الدماء وتنتهك المحارم، وبين الفتن الأخرى التي يجب التحمل فيها حفاظًا على الدين.
كما يربط الإمام الماضي بالحاضر ويؤكّد أن التاريخ قد يعيد نفسه إذا لم نستفد من العبر والدروس السابقة؛ وذلك بتوظيف الفتن السابقة -مثل فتنة ابن الأشعث- للتحذير من الوقوع في نفس الأخطاء في زمنه. ويوضح أن نتائج الخروج هي دائمًا مأساوية، مما يجعله يوصي بالصبر في الحاضر.
وهذا المعنى يؤكده شيخ الإسلام ابن تيمية بقوله: “ولعله لا يكاد يعرف طائفة خرجت على ذي سلطان إلا وكان في خروجها من الفساد ما هو أعظم من الفساد الذي أزالته”([13]).
ويتجلى موقف أحمد في معرفة أنَّ سنن الله الكونية تعمل في تكرار الأحداث التاريخية إذا تكررت المعطيات نفسها. فهو يرى أن الخروج والفتن التي تبدأ بشيء صغير قد تنتهي بكوارث كبرى.
كما ينظر في مقاصد الشريعة الكبرى، وهي (حفظ الدماء والأموال والدين والعرض). فهو يرى أن الخروج على الأئمة لا يؤدّي إلى أيّ خير، بل يؤدّي إلى سفك الدماء وانتهاك المحارم، مما ينافي مقاصد الشريعة.
المثال الثاني: تسلُّط الأعداء بسبب فساد العقيدة:
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: “لما ظهر في الشام ومصر والجزيرة الإلحاد والبدع سلط عليهم الكفار، ولما أقاموا ما أقاموه من الإسلام وقهر الملحدين والمبتدعين نصرهم الله على الكفار.. وكذلك لما كان أهل المشرق قائمين بالإسلام كانوا منصورين على الكفار المشركين من الترك والهند والصين وغيرهم، فلما ظهر منهم ما ظهر من البدع والإلحاد والفجور سلط عليهم الكفار… وكان بعض المشايخ يقول: هولاكو ملك الترك التتار الذي قهر الخليفة بالعراق وقتل ببغداد مقتلة عظيمة جدا -يقال: قتل منهم ألف ألف وكذلك قتل بحلب دار الملك حينئذ-، كان بعض الشيوخ يقول: هو للمسلمين بمنزلة بختنصر لبني إسرائيل. وكان من أسباب دخول هؤلاء ديار المسلمين ظهور الإلحاد والنفاق والبدع، حتى إنه صنف الرازي كتابا في عبادة الكواكب والأصنام وعمل السحر سماه: (السر المكتوم في السحر ومخاطبة النجوم)”([14]).
في هذا النص: يُظهر ابن تيمية إلمامه العميق بالتاريخ الإسلامي، سواء في ذكر الأحداث الكبرى مثل غزو هولاكو لبغداد أو الغزو التتري للشام وحلب، وكذلك إشارته إلى حوادث تاريخية دينية مهمة مثل حادثة بختنصر مع بني إسرائيل، ثم يستخدمها لفهم المواقف العقدية، مما يعكس إدراكه للعلاقة بين العقيدة والتاريخ السياسي للأمة.
كما يوظف شيخ الإسلام ابن تيمية التاريخ لتوضيح العلاقة بين الانحراف العقدي والابتعاد عن الإسلام وبين الهزائم والابتلاءات التي تعرض لها المسلمون عبر التاريخ. ودونك التحليل لكيفية توظيفه للتاريخ في حاضره العقدي: فهو يشير إلى أن البدع والإلحاد هي عوامل عقدية واضحة أدت إلى تسليط الأعداء على الأمة. هذه النقطة تسلط الضوء على فهمه بأن أي انحراف في العقيدة يتبعه عواقب دنيوية، مما يجعله يعتمد بشكل أساسي على الحوادث ذات التأثير العقدي؛ كاستشهاده بكتاب الرازي (السر المكتوم) الذي يتناول قضية عقدية تتعلق بالشرك والسحر.
كما أن ابن تيمية يربط في هذا النص بين الأحداث التاريخية بمقاصد الشريعة، وهو تأكيد على أن (حفظ العقيدة) من أهم المقاصد التي تضمن للأمة النصر والتوفيق. فكل توظيفه للتاريخ هنا يهدف إلى خدمة هذا المقصد الأساسي: حماية العقيدة.
المثال الثالث: عدم تأثيم ملوك المسلمين العدول:
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: “فهذان القولان متوسطان؛ أن يُقال: الخلافة واجبة وإنما يجوز الخروج عنها بقدر الحاجة، أو أن يُقال: يجوز قبولها مع المُلك بما ييسر فعل المقصود بالولاية ولا يعسّره؛ إذ ما يبعد المقصود بدونه لا بد من إجازته، وأما الملك فإيجابه أو استحبابه محل اجتهاد… وهنا طرفان: أحدهما: من يوجب ذلك -أي: الخلافة الراشدة- في كل حال وزمان، وعلى كل أحد، ويذمّ من خرج عن ذلك مطلقًا أو لحاجة كما هو حال أهل البدع من الخوارج والمعتزلة وطوائف من المتسنّنة والمتزهدة، والثاني: من يُبيح الملك مطلقًا من غير تقيّد بسنة الخلفاء، كما هو فعل الظلمة والإباحية وأفراد المرجئة. وهذا تفصيل جيِّد وسيأتي تمامه. وتحقيق الأمر أن يُقال: انتقال الأمر عن خلافة النبوة إلى الملك إما أن يكون لعجز العباد عن خلافة النبوة، أو اجتهاد سائغ، أو مع القدرة على ذلك علما وعملا، فإن كان مع العجز علمًا أو عملًا كان ذو المُلك معذورا في ذلك، وإن كانت خلافة النبوة واجبة مع القدرة كما تسقط سائر الواجبات مع العجز؛ كحال النجاشي لما أسلم وعجز عن إظهار ذلك في قومه، بل حال يوسف الصديق تشبه ذلك من بعض الوجوه، لكن المُلك كان جائزا لبعض الأنبياء كداود وسليمان ويوسف، وإن كان مع القدرة علمًا وعملًا وقُدِّر أن خلافة النبوة مستحبة ليست واجبة وأن اختيار الملك جائز في شريعتنا كجوازه في غير شريعتنا فهذا التقدير إذا فُرض أنه حق فلا إثم على الملك العادل أيضا. وهذا الوجه قد ذكره القاضي أبو يعلى في المعتمد لما تكلم في تثبيت خلافة معاوية”([15]).
من خلال هذا النص: يتناول ابن تيمية موضوعَ الانتقال من الخلافة الراشدة إلى المُلك، محاولًا موازنة الأحكام الشرعية مع الظروف التاريخية. ويظهر هنا كيف يمكن توظيف التاريخ لفهم قضايا العقيدة ومفاهيم الحكم والولاية. ويذكر ثلاثة اتجاهات رئيسية حول الخلافة والملك وفصّل القول فيها.
ووجهُ توظيف ابن تيمية للتاريخ: قيامُه بتوظيف أمثلة تاريخية من نظام الحكم عند بني إسرائيل مثل داود وسليمان ويوسف عليه السلام؛ لتوضيح أن الملك ليس بالضرورة محرمًا شرعًا؛ ما يعكس فهمًا عميقًا للتاريخ وتوظيفه في مسائل العقيدة، حيث يعتبر أن هناك حالات في تاريخ الأنبياء كانت فيها الولاية الملكية جائزة ومشروعة. ومعلوم بحسب التاريخ أن الملك في بني إسرائيل متوارث في الأبناء، وقد فعل الأنبياء هذه العادة حتى إنَّ سليمان ولَّى ولدَه ولم يكن نبيًّا، مما جعل ابن تيمية يحتمل الجواز ولا يجزم ببطلانه، وإن اختار أنه واجب في شريعتنا.
وهنا يوازن ابن تيمية بين المثالية الدينية وبين الاجتهاد الواقعيّ القائم على الظروف التاريخية. وهذا النوع من توظيف التاريخ يهدف إلى تعزيز الفهم المرن للشريعة، ويعتبر قاعدة مهمة في مواجهة الجماعات الغالية والتي تعتبر قضية الحكم هي المحور الأساس في الدين، حتى إنَّ بعض الكُتَّاب المعاصرين طعن في خلافة معاوية بحجة أنه هو أول من أسس للملكية في الإسلام. وهذا يعكس أهمية دراسة التاريخ لفهم الحراك المعاصر.
المثال الرابع: اختلاف الفقهاء في ردّة ملوك الطوائف في استعانتهم بالنصارى:
قال أبو القاسم البرزلي: “ولم يتكلَّم في حكم الفئة التي وقعت استعانتها بالعدو، وأحفظ أني رأيت لابن الصيرفي في دولة لمتونة من صنهاجة أن المعتمد بن عباد استعان بهم في حرب المرابطين، فنصرهم الله عليه وهرب هو، ثم نزل على حكم يوسف بن تاشفين أمير صنهاجة، فاستفتى فيه الفقهاء فأكثرهم أفتى أنها ردّة، وقاضيه مع بعض الفقهاء لم يرها ردّة، ولم يُبح دمَه بالردة، فأمضى ذلك من فتواه، وأخذ بالأيسر، ونقله إلى أغمات، وسكَّنه بها إلى أن مات بها”([16]).
قال أبو حامد الغزالي: “فيجب على الأمير -يعني ابن تاشفين- وأشياعه قتال هؤلاء المتمرّدة عن طاعته، ولا سيما وقد استنجدوا بالنصارى المشركين وأوليائهم، وهم أعداء الله في مقابلة المسلمين الذين هم أولياء الله، فمن أعظم القربات قتالهم إلى أن يعودوا إلى طاعة الأمير العادل المتمسّك بطاعة الخلافة العباسية ويتركوا المخالفة، وجب الكفّ عنهم، وإذا قاتلوا لم يجز أن يتتبع مدبرهم، ولا أن يذفف (يُجهز) على جريهم، بل متى سقطت شوكتهم وانهزموا وجب الكفُّ عنهم، أعني المسلمين منهم دون النصارى الذين لا يبقى لهم عهد مع التشاغل بقتال المسلمين، وأما ما يظفر به من أموالهم فمردود عليهم أو على وريثهم، وما يؤخذ من نسائهم وذراريهم في القتال مهدرة لا ضمان فيها، وحكمهم في الجملة في البغي على الأمير المتمسك بطاعة الخلافة والمستولي على المنابر والبلاد بقوة الشوكة حكم الباغي على نائب الإمام”([17]).
ومن النصين السابقين: كلٌّ من البرزلي والغزالي يشيران إلى أحداث تاريخية مهمة في تاريخ الأندلس، وهي استعانة بعض ملوك الطوائف بالنصارى في مواجهة الأمير يوسف بن تاشفين أمير المرابطين. هذه الأحداث لها أثر عقديّ كبير، حيث إنها موالاةٌ من الملوك لغير المسلمين في حالات الحرب والتحالفات.
الاستفادة من توظيف العلماء: الفقهاء اختلفوا في حكم هذه الاستعانة، حيث رأى بعضهم أنها ردة تستوجب قتل المعتمد بن عباد، بينما رأى البعض الآخر أنها ليست ردة.
أما البرزلي فيعرض اختلاف الفقهاء حول قضية الاستعانة بالنصارى، والغزالي يوضح موقفه من قتال هؤلاء المتمردين مع ضبط الأحكام الفقهية المتعلقة بالقتال.
فالغزالي يظهر أنه لا يختار كفر ملوك الطوائف، بل يراهم متمرّدين آثمين، وينصح ألا يتبع مدبرهم ولا يجهز على جريحهم.
ولعلَّ اختلاف العلماء الذي نقله البرزلي سببه: أن المعتمد بن عباد كانت له سوابق محمودة تُظهر إيمانــه وإسلامه، وذلك لما استعان بابن تاشفين ضد ألفونسو في بادئ الأمر رافضًا أن يعطيه الجزية لما استهزأ ألفونسو بالإسلام، فهذه قرينة قوية تُظهر إيمانه.
ومناط التكفير بالموالاة هو الموالاة التامة التي تتضمن حبّ ظهور الكفر على الإيمان، أما الموالاة لمصلحة دنيوية طمعًا في السياسة والدنيا فليست كفرًا على الصحيح([18]).
فبعض العلماء رأى أن المعتمد بن عباد أحب ظهور الكفر على الإسلام، والآخرون استحضروا سوابقه كقرينة تدل على عدم حبّه للكفر، كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم مع حاطب بن أبي بلتعة، واستحضر سوابقه لكونه من أهل بدر.
ووجه استفادة الباحث في العقيدة من هذه النازلة: أنَّ حكم الفقهاء هو بمثابة وثائق يطمئن إليها الفقيه ويعتضد بها إذا ما حصلت نازلة مشابهة في العصر الحالي، وقد استخدم بعض المعاصرين تاريخ الفتن والتحالفات في الأندلس كدروس لتحديد الأحكام المعاصرة، وتعكس أهمية الاستفادة التاريخية من النوازل.
ويُستفاد أيضًا معرفة سنة الله في الأمم السابقة: عندما تضعف العقيدة أو يحصل تحالف مع الأعداء لأسباب غير شرعية، فإن النتائج تكون وخيمة، مثلما حدث في الأندلس مع ملوك الطوائف.
المثال الخامس: بطلان نسبة مذهب الاعتزال إلى زيد بن علي:
تناول ابن الوزير اليماني القصة المشهورة التي نقلها الشهرستاني وهي تتلمذ زيد بن علي على واصل بن عطاء، ثم مناظرات زيد بن عليّ مع أخيه محمد الباقر حول الاعتزال.
قال العلامة ابن الوزير: “فهذا من الأباطيل بغير شك، ولعله من أكاذيب الروافض، ولم يورد له الشهرستاني سندا ولا شاهدا من رواية الزيدية القدماء، ولا من رواية علماء التاريخ، ولا الشهرستاني ممن يوثق به في النقل، وكم قد روى في كتابه هذا من الأباطيل المعلوم بطلانها عند أئمة الشأن… ولو كان الشهرستاني كامل المعرفة والإنصاف لذكر مع ما ذكره ما هو أشهر منه في كتب الرجال وتواريخ العلماء وأئمة السنة وفي (الجامع الكافي)، ثم ذكر الراجح بين النقلين، وقواه بوجوه الترجيح.. ومما يدل على عدم تحقيقه في معرفة الرجال أنه عد زيد بن علي من أتباع المعتزلة، ثم ذكر بعد ذكر الإمامية جماعة جلّة من أئمة السنة ورواة الصحاح، وعدهم من أتباع زيد بن علي، وسماهم زيدية، بل عدهم من مصنفي كتب الزيدية منهم: شعبة، ووكيع، ويحيى بن آدم، ومنصور الأسود، وهارون بن سعد العجلي، وعبيد الله بن موسى، والفضل بن دكين، وعلي بن صالح، ويزيد بن هارون، والعلاء بن راشد، وهيثم بن بشير، والعوام بن حوشب، ومستلم بن سعيد، وجعلهم كلهم مثل أبي خالد الواسطي في الدعاء إلى مذهب الزيدية، والتأليف فيه.. فكيف يصح هذا مع كون مذهب زيد والزيدية هو مذهب المعتزلة، وفي هؤلاء رؤوس خصوم المعتزلة لولا عدم معرفته وتحقيقه في أحوال الرجال؟!”([19]).
من خلال النص السابق: يتبيّن أهمية التثبُّت من النقل العقدي إذا كانت سترجع بالثلب على أئمة السلف، فابن الوزير ينتقد الشهرستاني في إيراده هذا الكلام؛ إذ لم يقدّم سندًا أو شاهدًا موثوقًا من الروايات القديمة، وهذا يعكس فهم ابن الوزير لمناهج التأريخ. وهو يؤكد على أهمية التحقق من المصادر والتأكد من صحتها قبل قبول الروايات التاريخية والعقدية.
ويؤكد ابن الوزير على نقد نسبة الأقوال العقدية وتمحيصها؛ لأنَّ هذه الرواية تؤثر على فهم الناس لمكانة زيد بن علي ودوره كإمام من أئمة السلف الصالح، ولا شكّ أن نسبة زيد إلى الاعتزال سيُضفي نوعًا من الشرعية على مذهب الاعتزال؛ لأن زيدًا من أئمة السلف.
ولعل الشهرستاني نقلها من بعض الزيدية الذين يريدون “شرعنة” ما هم عليه من اعتزال، واعتمد على تلك المعلومة كثير من الكتاب والصحفيين -بل والشيوخ- دون تحقيق.
وكيف يصح هذا وقد نشأ زيد في مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخذ عن أجلة أهل البيت كأبيه علي زين العابدين وغيره، وعن أجلة التابعين كسعيد بن جبير وسعيد بن المسيب ونافع؟! فكيف يُعقل أن يأخذ عن مبتدع مقطوع العلم وأصغر منه سنًّا؟!
كما أن أئمة أهل الحديث وكتب الرجال لم يذكروا عنه هذا المذهب، بل ذكر أئمة السلف خلاف ذلك عنه، فقد جاء رجل إلى زيد بن علي فقال له: أنت الذي تزعم أن الله تعالى أراد أن يُعصى؟ فقال زيد بن علي: أفيعصى عنوة؟!([20]).
وهذا صريح مذهب أهل السنة، وهو مما يُبرئ زيدا من بدعة الاعتزال.
ولا زال هذه الخطـأ التاريخي الذي وقع فيه الشهرستاني يعتمد عليه في حاضرنا بعض الكتاب والصحفيين بل والشيوخ دون تحقيق، فقد اعتمد عليه الشيخ محمد أبو زهرة في كتابه (زيد بن علي). هذا يؤكّد أهميةَ التوثيق والتحقق من المصادر المعاصرة وتأثيرها على الفهم العقدي المعاصر.
المثال السادس: تعدد الخلفاء في ديار المسلمين:
قال شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله: “الأئمة مجمعون من كل مذهب على أن من تغلّب على بلد أو بلدان له حكم الإمام في جميع الأشياء، ولولا هذا ما استقامت الدنيا؛ لأن الناس من زمن طويل قبل الإمام أحمد إلى يومنا هذا ما اجتمعوا على إمام واحد، ولا يعرفون أحدا من العلماء ذكر أن شيئا من الأحكام لا يصح إلا بالإمام الأعظم”([21]).
من خلال النص السابق: يوضح الشيخ محمد بن عبد الوهاب أن العلماء منذ زمن ما قبل الإمام أحمد لم يشترطوا وجود خليفة واحد لحكم صحة الأحكام الشرعية في البلاد المختلفة. واستدل على ذلك بتأييد العلماء لهذه الأوضاع.
وهو يقصد أنه منذ استقلال عبد الرحمن الداخل (صقر قريش) بالأندلس لم يكن المسلمون تحت خليفة واحد، وأقرَّ الفقهاء هذا الأمر، ولم يأمر الأئمة الأربعة تلامذتهم من الأندلسيين بنقض بيعة إمامهم.
كما يوظف الشيخ محمد بن عبد الوهاب هذا التاريخ لتوضيح مسألة في الحاضر العقدي حول عدم ضرورة وجود خليفة واحد لكل المسلمين، حيث كانت السلطنة العثمانية قائمة وتضم بعض البلدان، وبلاد نجد وضواحيها تحت الإمام محمد بن سعود، وكانت اليمن مستقلة تحت الإمام المنصور، وكان المماليك استقلّوا بالعراق تحت سليمان باشا المملوكي.
فكما قَبِلَ الأئمة الأربعة حكم المتغلّب في الماضي يجب أن يُقبل ذلك في الحاضر؛ لتجنب الفوضى وحفظ النظام العام.
خاتمـة:
تناولنا في هذا البحث أوجه الاستفادة من التاريخ في علم العقيدة، وضرورة مراعاة عدد من الأمور عند البحث التاريخي العقدي لضمان تحقيق فهم دقيق وصحيح. كما استعرضنا نماذج من توظيف العلماء للتاريخ في مسائل العقيدة.
كل ما سبق كان ومضات سريعةً، وليس الغرض الاستيفاء، وإنما التنبيه على أبرز جوانب تلك الاستفادة؛ لينطلق منها الباحث إلى جوانب أخرى تُمكِّنه من أن يحقق رؤى متجدّدة ومتينة، تتماشى مع التحديات الفكرية المعاصرة.
وتوظيف التاريخ في مجال العقيدة لا يقتصر فقط على الإثراء العلمي، بل يمتد ليشكل سلاحًا فكريًّا في مواجهة الأفكار المنحرفة وتحديات الحاضر، مما يعزّز قوة العقيدة لدى الأجيال الحالية، ويدفعها للتمسّك بثوابتها بروح واعية وفهم عميق للتاريخ ودوره الفاعل في بناء الوعي العقدي.
وصلِّ اللهم على نبينا محمدٍ، وعلى آله وصحبه وسلم.
____________________
(المراجع)
([1]) مقدمة ابن خلدون (1/ 16).
([2]) مجموع الفتاوى (8/ 81-82).
([4]) تاريخ الأمم والملوك (1/ 24).
([6]) ينظر: الجامع لأخلاق الراوي، الخطيب البغدادي (2/ 162)، مقدمة أصول التفسير، ابن تيمية (ص: 28).
([7]) ينظر: تاريخ ابن معين (2/ 504-505).
([8]) ميزان الاعتدال (3/ 419).
([9]) أخرجه ابن عساكر (46/ 175)، وانظر: العواصم من القواصم (ص: 180).
([10]) تهذيب التهذيب (7/ 273).
([11]) دراسات تاريخية (ص: 27).
([12]) كتابه السنة، لأبي بكر الخلال (1/ 132).
([14]) مجموع الفتاوى (8/ 81-82).
([15]) رسالة الخلافة والملك (ص: 29-30)، وهي ضمن مجموع الفتاوى (15/ 30-35).
([17]) ينظر: الشواهد الجلة في مشاهد الإسلام، لأبي بكر بن العربي (ص: 31).
([18]) يُمكن مراجعة أقوال العلماء في مسألة الموالاة من هذا الرابط:
([19]) العواصم والقواصم (2/ 316) مختصرًا.
([20]) ينظر: تاريخ الإسلام (8/ 107)، تذهيب التهذيب (3/ 257).