
ولاية الفقيه الشيعية.. أصولها العقدية، ومناقضتها للوحي والنبوة
للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة
مقدمة:
جريا على نهج مركز سلف للبحوث والدراسات في تعميق البحث في أصول المعتقدات وفروعها حررنا هذه الورقة العلمية في موضوع “ولاية الفقيه الشيعية.. أصولها العقدية، ومناقضتها للوحي والنبوة“، قصدنا فيها إلى الكشف عن أصولها العقدية داخل المذهب، وحقيقة شكلها السياسي من خلال القراءة الخمينية، معتمدين على تراث الخميني وما حام حوله من دراسات عن الولي الفقيه باختصار وإيجاز، راجين من الله تعالى فسحة عمر وصحةً لاستكمال النظر فيها، واستشراف ما يؤول إليه شكلها ومضمونها بسبب التغيرات الجيوسياسية للمشروع الشيعي في العالم الإسلامي، وقد جعلنا الورقة في مقدمة وستة مباحث وخلاصات.
تعددت ألقاب الشيعة بتعدد وجوه التلقيب، فهم شيعة لدعواهم التشيع لآل البيت، وسُمّوا: إمامية نسبة لأئمة آل البيت، وسُمّوا تعليمية لقولهم بأن العلم لا يؤخذ إلا من الإمام، وسمِّيت إحدى فرقهم: رافضة أو روافض لرفضهم إمامة زيد بن علي رضي الله عنه، وقيل: لرفضهم إمامة الخليفتين الراشدين، ونخصُّ لقب “الإمامية” بالنظر، لأنه أصل باب “ولاية الفقيه”، ويرجع هذا إلى أن هؤلاء الشيعة آل أمرهم إلى اعتقاد وجوب وراثة الخلافة النبوية في أئمة آل البيت، واختلفوا في “سلسلة الوراثة” لأسباب متعلقة بموت بعض الأئمة الوارثين في حياة المورّثين، وكان ذلك سببا في تفرقهم شيعًا، مثل الإسماعيلية والرافضة على وجه الخصوص، والذين اعتقدوا النص على اثني عشر إماما، أولهم علي بن أبي طالب، وآخرهم محمد بن الحسن العسكري، وقد تتبَّعها بالتفصيل والتحليل والنقد أحمد الكاتب في “تطور الفكر السياسي الشيعي“.
يدور المعنى اللغوي لعبارة “الولي الفقيه” الشيعية حول معنى الحكم وإدارة البلاد وتنفيذ أحكام الشرع بالاجتهاد الفقهي والسياسي، فهي عبارة جامعة لأوصاف متعلقة بأمور ثلاثة: الحكومة، والإدارة، والتنفيذ، فالولي الفقيه هو المجتهد عند غيبة الإمام الموالي له النائب عنه، القائم بأمر الحكومة الإمامية المدير لمؤسساتها المنفذ للأحكام بأدواتها([1])، وقد تولى الخميني شرح هذه النظرية مبسوطة في كتابه “الحكومة الإسلامية“، وعقد لها فصلا خاصا في الكتاب بعنوان: “ولاية الفقيه“، كما عقد لها فصلا في كتابه “البيع”([2])، وعلى هذا اعتمد شراح النظرية بعده، وعلى تأصيله بنوا مؤلفاتهم، ولذلك لن نُحيل كثيرا إلى كتابه لأنه أصل مادة هذه الورقة العلمية.
مركز سلف للبحوث والدراسات
المبحث الأول: أصل ولاية الفقيه وتاريخها:
يعتقد الشيعة الإمامية أنه لا “دولة” إلا بإمام “ظاهر“، ولكن فرقة الاثني عشرية وجدت نفسها أمام إشكالية حقيقية حينما زعموا أن محمد بن الحسن العسكري غاب في سرداب، وزعموا أن بينه وبين شيعته نوابا يوصلون إليه الخُمُس واستفتاءات الناس، ويوصلون لهم أجوبته الموقعة من جهته، وعند وفاة النائب الرابع انتقلت الغيبة من كونها صغرى إلى غيبة كبرى، وكان ذلك يعني انقطاعا تاما بين الإمام والناس، فدخل الشيعة بسبب ذلك في ركود فقهي وسياسي طويل.
كان لا بد من إيجاد حل لهذه الإشكالية، فبدأ بعض فقهاء الشيعة يجتهدون لفتح باب الاجتهاد شيئا فشيئا في مسائل الأموال والصلاة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وحاولوا استخراج نصوص عن أئمتهم تؤصل لهذا الفتح الضروري، وتطور الأمر إلى إقامة بعض الدول الشيعية، وكانوا يحتاجون في ذلك إلى دعم من فقهائهم، فانبرت طائفة لتوفير مستند شرعي للنظرية، وتظاهروا مع بعض من كانت نفوسهم تتطلع إلى الحكم والنفوذ.
يقول أحمد الكاتب ملخصا تسلسل هذه المحاولات: (وقد كانت تلك المحاولات متفرقة ومتدرجة بابا بابا، وجزءا فجزءا، ولكنها لم ترق لتعالج المشكلة من جذرها، حيث لم تبحث موضوع الإمامة والغيبة من الأساس، ومع ذلك فقد حاول العلماء تطوير نظرية سياسية بديلة عن الإمامة والإمام المهدي، وذلك بافتراض النيابة الواقعية أو الحقيقية عن الإمام الغائب، عندما يأمر حاكم جائر أحدا بتنفيذ الحدود، وقد تطورت هذه النظرية البسيطة الافتراضية في بداية القرن الخامس الهجري، لتصبح نظرية سياسية متكاملة في نهاية القرن الرابع عشر تحت اسم: “ولاية الفقيه”)([3]).
احتاجت هذه النظرية لتتكامل إلى نحو تسعة قرون، وكان القصد منها إزالة إشكالية توقف إقامة مراسيم الدولة والدين، فانتقلت هذه المحاولة من كف فقيه إلى كف آخر، إلى أن وصلت إلى كف الخميني الذي كان قد نفي إلى العراق ثم إلى فرنسا، فأقام يطوّرها، ونقل بها (الفكر السياسي الشيعي من مرحلة “إجازة الفقهاء للملوك للحكم باسمهم ووكالة عنهم” إلى مرحلة جديدة، هي حكم الفقهاء المباشر، وممارسة مهمات الإمامة بصورة كاملة)([4])، والتي آلت إلى إقامة ما سمي: الجمهورية الإسلامية الإيرانية.
يزعم شيعة “الولي الفقيه” أن “ولاية الفقيه” أصيلة في الفكر الشيعي، (فلا يظن أحد أن فكرة ولاية الفقيه ابتدعها الإمام الخميني -قدس سره- لأنه من خلال نظرة تأملية بسيطة نجد أن هذه الفكرة متأصلة في الفكر الإسلامي، ومتجذرة في روايات أهل البيت -عليهم السلام- وكلمات العلماء، وقد رسم المعصومون الأطهار -عليهم السلام- معالم هذا السبيل وأبرزوا بعضا من جوانبه، وهو الرجوع إلى من أعمل الفكر والنظر في الأحاديث الصادرة عنهم عليهم السلام، ويمكن رصد عدد من النصوص الواردة عنهم -عليهم السلام- التي تُرجع إلى “الفقيه” السلطة والولاية، فبذور “ولاية الفقيه” موجودة في صريح أحاديثهم عليهم السلام)([5]). وهذه دعوى ينقضها معارضة كبيرة ومعتبرة من كثير من الفقهاء والمرجعيات الشيعية، وبعد ذلك توالت ملاحظات علماء المسلمين ونقدهم للنظرية، ومن لطيفهم “نقد ولاية الفقيه” لمحمد مال الله، فإنه نقض النظرية في قراءتها الخمينية على وجه الخصوص.
تطورت نظرية “الولي الفقيه” في صورتها الحديثة في فترة ممتدة بين وجود الخميني في إيران، ثم في العراق، ثم في فرنسا، حيث اكتمل المشروع على عين المخابرات الفرنسية والأمريكية، والتي كانت تجهز المجال الحيوي السياسي في إيران لاستقبال الخميني ومشروعه، فكانت الثورة، وهروب الشاه، وتولى الخميني الشاه الجديد عرش أسلافه، لكن بجبة وعمامة سوداوين، وعوض أن يلتف حوله رجال بلاط ببدلات أوروبية التف حوله رجال معممون.
لم تكن نظرية الولي الفقيه في مضمونها بدعا من القول، ولم يكن الخميني من تولى كبرها، بل هو القاطف، ومن قبله كان الغارس المتعهّد، (فهذه كتب فقهاء الشيعة من المتقدمين، كالشيخ المفيد والشيخ الطوسي في أوائل الغيبة الكبرى، إلى المحقق الحلي، والعلامة الحلي والشهيدين، والمحقق الكركي، والمقدس الأردبيلي وغيرهم من المتأخرين، كالنراقي وكاشف الغطاء، وصاحب الجواهر والشيخ الأعظم، والأنصاري، وكذلك المعاصرين، حتى مثل السيد الخوئي في كثير من كتبه، خاصة في كتابه منهاج الصالحين، الطبعة الثامنة والعشرون، وغيرهم من الفقهاء، هذه كتبهم مليئة بالكلمات النيرة التي تنبئ عن اعتقادهم العميق بأطروحة ولاية لافقيه، كطريق شرعي توصل إليه الفقهاء بإرشاد أئمة الهدى، أو بالأدلة العقلية لحل مشكلة القيادة، وسد فراغ الزعامة الاجتماعية والدينية)([6]).
هي إذن نظرية “قيادة سياسية وزعامة اجتماعية ودينية“، ولأجلها بذل كل أولئك الفقهاء أوقاتهم وأعمارهم، وكانت النتيجة التي وقعت بيد الخميني دولة محكومة برأي الشخص المدّعي الولاية والاتصال بالمهدي، الجامع لخصال الدين والدنيا، الكامل من كل وجه، الفقيه والفيلسوف والحكيم، ويلخص الخامنئي هذه الميزة التي اختص بها الخميني فيقول: (الإمام الخميني هو الذي استطاع أن يقدم القراءة الأمثل، وترجمها إلى واقع مما أثر ذلك على القراءة التقليدية، وأظهر ضعف مبانيها، لتنحصر فيما بعد في الذين لا يجرءون على مخالفة أساتذتهم، وهم برغم أسماءهم قلة)([7])، فهي إذن قراءة خمينية لنظرية شيعية قديمة، تخطّى بها الخميني القراءة التقليدية.
المبحث الثاني: ولاية الفقيه وأمّ القرى:
حاول الشيعة طوال فترة الركود السياسي أن يجدوا طريقة لكسره، والقيام بدولة شيعية تقيم الولاء الشيعي وتظهره، فكان من ذلك الدولة السردبارية والدولة المرعشية والدولة المشعشعية والدولة البويهية، ثم الدولة الصفوية وغيرها، ثم الدولة الخمينية دولة الولي الفقيه، والتي ستتحول من دولة “الشخص” إلى دولة “المؤسسات“، فعند لبس خامنئي ذي الأصول الأذرية عمامة الولي الفقيه كانت الدولة قد تطورت، فظهرت حول “الشخص” “مؤسسات“، ما لبث أن اتحد بها، ليتحولوا جميعا إلى “مؤسسات الولي الفقيه“، وصار لهذه الدولة هيكل سياسي جديد، تداخل فيه السياسي بالاقتصادي بالعسكري، وكان لا بد من نظام سياسي مناسب لمثل هذا النمط الجديد من الدولة الشيعة، فطور كبار الإستراتيجيين الإيرانيين نظرية مركبة، سميت فيما بعد: “نظرية أم القرى“، ويقصدون بأم القرى إيران نفسها.
كانت طبيعة العلاقة بين “الدولة” و”نظرية النيابة عن الإمام” قوية، وسر قوتها أن “النائب” ينبغي أن يكون له اتصال بسلسلة العصمة، ولم يكن طريق إلا نوع من الاتصال الإلهامي القريب المعنى من الإلهام الصوفي، ومن ذلك حال إسماعيل شاه الصفوي الذي حاول الانفكاك من سجن “الغيبة” و”التخلص من ثقل “التقية“، فكان التفافه على كل ذلك بادعائه أخذ الإجازة المباشرة عن الإمام المهدي الغائب، أو صاحب الزمان كما يسمونه، ووضعت لذلك قصة مناسبة، بل ادعى أنه شاهد الإمام علي بن أبي طالب في المنام، فكانت مطية الرجل في هذا مطية صوفية، فأثبت لنفسه “الاتصال” بالسلسلة المعصومة كي يضمن “الولاء الشعبي“، فهو عنده نائب الله، وخليفة الرسول والأئمة المعصومين، والإمام المخفي على وجه الخصوص([8]).
عقد نبيل الحيدري في كتابه “التشيع العربي والتشيع الفارسي” بابا للحديث عن لقاءات الشيعة بالإمام في الغيبتين، وهو مبحث مهم جدا، ومن المسائل المثيرة ما حكاه عن مزاعم الخميني لقاءه بالمهدي، واعتماده على ذلك في تأسيس زعامته المطلقة، ونقل عن الحرس الثوري وحمايته الخاص زعمهم قصصا عجيبة وغريبة في ذلك، بل كان الخميني يذكر ذلك في خطبه وهو يحرض الجند في حرب العراق، ملهما إياهم الثبات بدعوى أنهم يقاتلون مع الإمام المهدي، وهو ناصرهم، ثم علق على هذا بقوله: (الشعوب الإيرانية الطيبة بشكل عام هي عاطفية، تأثرت بعضها بالدعاية الضخمة والمشاعر المهدوية، وهي تتوهم صورة الخميني والمهدي في القمر، وصدور كتب ومقالات وتحليلات ومنابر كثيرة عن ملاقاة الخميني بالمهدي، بل كرامات ومعجزات الخميني، مثل كتاب “كرامات الخميني”، “الخميني توطئة للمهدي المنتظر“)([9]). هكذا أسس الخميني لولايته الفقهية، وبناها بإحكام وذكاء، وصارت هذه المقامات والأحوال محورا تدور عليه النظرية، بل كل الدولة الإيرانية.
وصل أحمد الكاتب في عرضه لتطور النظرية السياسية الشيعية إلى ولاية الفقيه، واستقر عند صورتها الحديثة، وصاحبها الخميني الهندي الأصل، وكشف عن طبيعة الفكر السياسي عنده متجردا منصفا، وأبان عن حقيقة ولاية الفقيه الخمينية بشواهد من كلامه، والتي تدل على نزعة ديكتاتورية، بل علمانية ملحدة، فالخميني يريد حكومة خمينية وإن سماها: حكومة إسلامية، خلافا للستة الذين حاولوا التمويه بعرض الفكر السياسي الخميني في صورة مستحسنة منمقة في كتابهم “دراسات في الفكر السياسي للإمام الخميني“، فقد كانوا مائلين عن التجرد، غالين في الرجل، حتى وصفوه بالتفرد في تاريخ الإصلاح الإسلامي، والذي أضيفه هنا أن ولاية الفقيه بعد الخميني انتقلت من “الفردانية” إلى “مؤسسات“: الولي الفقيه، والحرس الثوري، والملالي المعممين، والأوليغارشية المالية الإيرانية.. أو البازار!
لعل أفضل من بين حقيقة نظرية “أم القرى” هو الإستراتيجي الإيراني الخبير محمد جواد لاريجاني في رسالته: “مقولات في الإستراتيجية الوطنية“، وهو كتاب يشرح فيه مقومات النظرية السياسية للدولة الإيرانية الملالية، وفي الرسالة معلومات خطيرة وجديرة بالملاحظة والمتابعة التحليلية والنقدية، وفي الرسالة تنبيه في غاية الأهمية من المؤلف، وهو أن من أدلة كون حكومة إيران الخمينينة حكومة إسلامية وجود “الولي الفقيه” على رأس الهرم السياسي والديني في إيران!([10]).
تنبني نظرية “أم القرى” على كون إيران هي نواة الدولة الإسلامية، على رأسها “الولي الفقيه“، وهي المسؤولة عن نشر العدل والحق والإسلام في العالم، ويجب على الدول حولها أن تلتحق بفلكها، فتصير ولايات أو مقاطعات تابعة للدولة الأم، وإيران التي هي أم القرى هي المسؤولة عن ضمان حمايتها، لكنها عند الشعور بالخطر يكون من حقها التضحية بدول الأطراف وبعض المقاطعات لضمان سلامة المركز، أو قل يجب على تلك الدول أن تضحي بنفسها لحماية الدولة الأم، فدولة الولي الفقيه هي الدولة الوحيدة المؤهلة لقيادة العالم الإسلامي، وهي النواة والمركز، فإن ذهبت ذهب العالم الإسلامي، فهي دولة تمثل “الإمام الغائب“، تقوم بما كان سيقوم به، أو بما يأمر به عن طريق الولي الفقيه المتصل به، وبهذا تكتمل صورة دولة الولي الفقيه، حينما يصير الولي الفقيه متصلا بالإمام الغائب.
لعل أخطر شيء في نظرية ولاية الفقيه من الجانب العملي هو تقديم حكم الولي الفقيه على الأحكام الإلهية الشرعية المنزلة على الأنبياء إن اقتضى الحال، وبيان هذا في رسالة وجهها الخميني لعلي الخامنئي قال فيها: (الحكومة التي تعني الولاية المخولة من قبل الله إلى النبي الأكرم صلى الله عليه وسلم، مقدمة على جميع الأحكام الفرعية الإلهية… لا بد أن أوضح أن الحكومة شعبة من ولاية رسول الله صلى الله عليه وسلم المطلقة، وواحدة من الأحكام الأولية للإسلام، ومقدمة على جميع الأحكام الفرعية، حتى الصلاة والصوم والحج، إن باستطاعة الحاكم أن يعطل المساجد عند الضرورة، وأن يخرب المسجد الذي يصبح كمسجد ضرار… وتستطيع الحكومة أن تلغي من طرف واحد الاتفاقيات الشرعية التي تعقدها مع الشعب إذا رأتها مخالفة لمصالح البلد والإسلام، وتستطيع أن تقف أمام أي أمر عباديّ إذا كان مضرا بمصالح الإسلام)([11]).
“ديكتاتورية دينية“، هكذا وصفها أحمد الكاتب، وهي عند التحقيق تسلط وفرعونية، والله تعالى قال فيه: {قَالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَىٰ وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ} [غافر: 28]، وهذا هو الوجه السياسي الأكثر إثارة في نظرية ولاية الفقيه، فحينما يجعل الخميني لنفسه ومن يليه سلطة فوق سلطة الوحي، ويسلم لنفسه كل الصلاحيات الممكنة في أخذ القرارات، فهو في نهاية الأمر موكل إلهي، بل نائب إمامي، ومخالفته مخالفة لله ورسوله وإمامهم، أي: أن المخالفة لقرارات الولي الفقيه كفر بالله تعالى، ويلخص هذا أحمد الكاتب بطريقة صادمة فيقول: (يعود جذر المشكلة إلى أن الإمام الخميني لا يعتبر شرعية الفقيه في الحكم مستمدة من الأمة، وإنما هو منصوب ومجعول ومعين من قبل الإمام المهدي، أو الأئمة السابقين، ولذلك فإنه ليس بحاجة إلى أخذ رضا الأمة في أية مسألة، وله الحق أن يعمل بما يتوصل إليه في اجتهاده، وعلى الأمة أن تطيعه بلا مناقشة أو تردد، وهو ما يمنحه صلاحيات مطلقة أخرى، ويجيز له ولأي فقيه أن يستولي على السلطة بالقوة أو الانقلابات العسكرية، أو يحتكرها بعد ذلك ويصادر الحريات والحقوق العامة)([12])، ومقام مثل هذا حري أن تتطلع إليه نفوس كل فقيه معمم، فيدفع الراغبين فيه إلى سلوك كل مسلك لتحصيلها؛ تارة بالكذب، وتارة بالمؤامرات، وتارة ربما بالاغتيالات والتصفيات الجسدية!
المبحث الثالث: أركان ولاية الفقيه وأدلتها:
لم يعدم منظرو الشيعة حيلة لذلك، فقد وجدوا في أصولهم ما يرفع الإشكال دون أن يقع تعارض مع قواعدهم النظرية، فزعموا أن “الولي الفقيه” يجب أن يجمع خصالا ثلاثا، الأولى: الأهلية العلمية، فيكون له اطلاع كامل على قانون الشرعية، الثانية: أن يكون تقيا نقيا، جامعا للقيم الأخلاقية، والثالثة: أن يكون خبيرا ومتمرسا بالجانب الإداري للدولة الشيعية([13])، ولا يمكن التعرف على صاحب هذه الخصال إلا بتعيين الله تعالى له عن طريق نص الإمام عليه، أي: “محمد بن الحسن العسكري“، وهذا يعني أنه لا بد أن يكون لهذا الفقيه الولي النائب الوكيل تفويض مباشر من هذا الإمام المتغيب، ومآل هذا إلى “كسر” مفهوم “الغيبة الكبرى” التي تعني انقطاع الإمام الغائب عن أي اتصال مع الشيعة، فإن ثبت التفويض فقد انقطعت “الغيبة الكبرى“، ورجع الأمر إلى “الغيبة الصغرى” بوجه من الوجوه، فإن من مقتضيات هذا استمرار اتصال الإمام مع هذا الوكيل، كما كان اتصاله بنوابه الأربعة على ما تحكيه المصادر الشيعية.
بمقتضى كل هذا فالولي الفقيه سيكون جامعا لكل شيء، لذلك وصف أول ولي فقيه -وهو الخميني- بأنه (جمع بين المرجعية الدينية العليا في الفتوى والتقليد وقيادة الأمة والثورة والدولة، وبين وجهي العرفان النظري والعملي، وبين السياسة والعقيدة والعبادة وغيرها)([14]).
يحتج الشيعة بنصوص عن أهل البيت يزعمون صحتها عنهم، دالة على “ولاية الفقيه” الولاية السياسية، من ذلك أن عمر بن حنظلة سأل جعفرا الصادق أبا عبد الله عن رجلين اختصما وتنازعا في أمر دين أو ميراث، فقال لهما: (ينظران من كان منكم ممن قد روى حديثنا، وعرف حلالنا وحرامنا، وعرف أحكامنا، فليرضوا به حكما، فإني قد جعلته عليكم حاكما، فإذا حكم بحكم ولم يقبله منه، فإنما بحكم الله استخف، وعلينا رد، والراد علينا كالراد على الله، وهو على حد الشرك بالله)([15]).
ظاهر من الخبر أن جعفرا يقصر الأمر على “القضاء“، ويخص الدليل بما يروى عن الأئمة من “حديثهم” و”حلالهم وحرامهم“، فلا مجال للاجتهاد بمقتضى هذا التخصيص، ومع ذلك فمنظرو الشيعة يحتجون به على “تشريع الحكم والقضاء به وتنفيذه”، فوسعوا بغير موسع، وملَّكوا “الولي الفقيه” السلطات الثلاثة، فـ(إن للفقيه جميع ما للإمام عليه السلام، إلا إذا قام الدليل على أن الثابت له عليه السلام ليس من جهة ولايته وسلطنته، بل لجهات شخصية، تشريفا له، أو دل الدليل على أن الشيء الفلاني، وإن كان من شؤون الحكومة والسلطنة، لكن يختص بالإمام عليه السلام، ولا يتعدى منه، كما اشتهر ذلك في الجهاد غير الدفاعي، وإن كان فيه بحث وتأمل)([16]).
لست أفوّت الفرصة هنا، فأنظر في كلام الخميني، وأول ما يثير النظر أنه حاول أن يضيق اختصاصات الإمام، فزعم أنها راجعة إلى “ذاته الشريفة“، ومع أنه زعم أن الاختصاص قد يكون أيضا في بعض مسائل الإدارية والحكومة والسياسة مثل “جهاد الفتح“، فإنه جعل ذلك عنده “محلا للنظر والتأمل” أي: أن الخميني يرى أن الفقيه الولي جائز له تولي “جهاد الفتح“، أي: “احتلال” الدول المجاورة لنشر التشيع وتوسعة سيطرة “دولة الولي الفقيه“!
الخطير في نص المجلسي -وهو المقصود الأكبر لأنصار النظرية- هو القسم الأخير منه، ففيه أن حكم هذا “الولي الفقيه” ملزم لأنه في مقام “الإمام الغائب“، فمن رد حكمه فقد كفر! وهنا خطورة النظرية، وعلى هذا يتربى أبناء الطائفة الشيعية على تقديس “تشريعات الولي الفقيه وأحكامه القضائية وإنفاذه لذلك”، فلا يجوز الاعتراض عليه في كل هذه المراحل التشريعية، وهو ما استغله “الخميني” أخطر استغلال، واستعمله لمناقضة الشريعة الإسلامية، ولو كان مصدرها القرآن الكريم!
لم تسلم النظرية من نقد هادم لأصولها، فرغم محاولات فقهاء الشيعة استخراج الأدلة النقلية من كتبهم ورواياتهم، فإنهم فشلوا في الوقوف على نصوص صحيحة صريحة، ولذلك كانوا محتاجين دائما إلى تعزيزها بالأدلة العقلية التي تتضارب فيها الوجهات، ولا يستقيم أمرها على حال واحدة، ولا توصل بالتحقيق للقول بالولي الفقيه كما زعمها الخميني، ولذلك يقول أحمد الكاتب: (وفي الحقيقة لم يدَّع أحد من أنصار ولاية الفقيه قوة سند تلك الروايات، وإنما حاولوا تعضيدها بالعقل)([17]).
لا أخرج من هذا المبحث إلا بالتنبيه على محاولة خمينية تستحق الوقوف عندها طويلا، وهي تدل على علاقة “الإمامة” بـ”الولي الفقيه” باعتبار الدليل الموجب للحجية، فقد قال الخميني: (فما هو دليل الإمامة بعينه دليل على لزوم الحكومة بعد غيبة ولي الأمر -عجل الله فرجه الشريف-، ولا سيما مع هذه السنين المتمادية، ولعلها تطول -والعياذ بالله- إلى آلاف من السنين)([18]). ولاحظ “القلق الخميني” من امتداد الغيبة في الزمان، لتعرف سبب “الإصرار الخميني” على تحولية “ولاية الفقيه“من “نظرية” إلى “دولة“.
المبحث الرابع: ولاية الفقيه بين العصمة والطعن في النبوة:
تمتد نظرية الولي الفقيه أبعد مما قد يبدو من أول نظرة نقدية، فهي نظرية تقوم على دعوى خطيرة، مفادها أن الأنبياء كلهم -بما في ذلك النبي صلى الله عليه وسلم- فشلوا في إقامة دولة الإسلام في العالم، فيقول الخميني: (لقد جاء الأنبياء جميعا من أجل إرساء قواعد العدالة في العالم، لكنهم لم ينجحوا، حتى النبي محمد خاتم الأنبياء الذي جاء لإصلاح البشرية، وتنفيذ العدالة، وتربية البشر لم ينجح في ذلك، وأن الشخص الذي سينجح في ذلك ويرسي قواعد العدالة في جميع أنحاء العالم في جميع مراتب إنسانية الإنسان وتقويم الانحرافات هو المهدي المنتظر)([19])، وإذا كان الولي الفقيه هو النائب عنه فهو المسؤول عن إقامة ما عجز عنه الأنبياء، وعلى رأس هؤلاء القائمين بالأمر الخميني ومن يخلفه! وبهذا يمكن تجاوز ما قيل في الخميني من قبيل (شخصية إلهية مقتفية لمنهج الأنبياء)([20])، ليكون الخميني شخصية إلهية فوق الأنبياء، وإن كانت مرتبة الإمام عند الشيعة وعند الخميني اعتمادا على بعض مروياتهم لا يصلها نبي مرسل ولا ملك مقرب([21])، لكونهم أنوارا أزلية، فكذلك النائب عنه… الولي الفقيه من بعض الوجوه!
يعد مفهوم “عصمة” الأئمة المحور الذي تدور عليه العقيدة الشيعية، فالإمام في مقام النبي المعصوم الذي يوحى إليه، وأحد الأسس التي سيحاول فقهاء الشيعة بناء نظرية “الولي الفقيه” عليها، فمع توكيل الإمام لهذا الفقيه الموالي ليقوم بمهام الإمام الدنيوية لغيبته انتقلت أيضا دعوى العصمة إلى هذا الفقيه الولي لتعطي لمقام الولي مقاما مقاربا لمقام الإمام في العصمة ووجوب الطاعة بالتفويض المطلق، فتحول هذا الولي الفقيه باجتماع السلطتين الدينية والدنيوية إلى “ديكتاتور“، يتقمص جل صفات “الإمام” الغائب.
قد يقال: إن الذي عليه منظرو “ولاية الفقيه” أنهم يخصون الإمام بالعصمة لا “الولي الفقيه“، فحديثهم عن (العدالة لا العصمة، بمعنى أن الولاية الفقهية هي امتداد للإمامة من حيث وظائفها العامة، عدا ما يتصل بالنص الخاص على كل فقيه فقيه، وبالعصمة الموقوفة على النبي صلى الله عليه وآله وسلم والأئمة من بعده فقط)([22])، ومع ذلك فـ(الفقيه العادل هو الوحيد المخول بالاتصال بالله)([23]) عن طريق العرفان الصوفي في غيبة الإمام، فرجع الأمر إلى العصمة والنص مرة أخرى!
المبحث الخامس: ولاية الفقيه ووحدة الوجود:
يعتبر اعتقاد وحدة الوجود وما يحوم حوله من اعتقاد الحلول والاتحاد من العقائد الأصيلة في الفكر الديني والفلسفي القديم، بدءًا بأقصاه حيث اليابان والصين، مرورا بالهند وفارس والعراق ومصر، وصولا إلى اليونان وشمال أفريقيا والأندلس القديم، فرغم اختلاف عقائد هذه الأمم في شكلها وتفاصيلها إلا أنها تشترك في اعتقاد الوحدة بين ما يعتقد أنه الخالق وبين الكون المخلوق بطريقتها الخاصة، رغم ما قد يبدو مناقضا لها من اعتقاد الآلهة المتعددة عند بعض هذه الديانات الوثنية الإشراكية.
وقد تسرب هذا الفكر إلى ثقافة المسلمين عبر مداخل كثيرة، أشهرها المدخل الصوفي، والذي عرف به ابن عربي الحاتمي، والذي تلقاه ممن سبقه، فطوّره وعدّله، واستخرج منه نظرية متكاملة في مسائل الإيمان والأخلاق والسياسة، وسماه ابن خلدون: تصوف التجلي([24])، ويمثل له ابن عربي بطريقتين شهيرتين، الأولى: أن الموجودات صور لله تعالى في مرآة الممكنات، فالعالم عنده «مرآة وجود الحق»([25])، وصوره فيها أشباح لا حقيقة لها([26])، بل هي صورة واحدة في مرايا متعددة([27])، والمرآة حبس برزخي([28])، وهو قريب من نظرية المثل الأفلاطونية على ما حكاه الشهرستاني([29]).
فـ«إنما الكون خيال *** وهو حق في الحقيقة»([30])
وعند بن عربي، «لولا سريان الحق في الموجودات بالصورة ما كان للعالم وجود»([31]) و«أنت له كالصورة الجسمية لك، وهو لك كالروح المدبر لصورة جسدك»([32])، وهو نفسه مرآة «يظهر لك صورنا فيه، فيظهر بعضنا لبعض في الحق»([33])، والخلاصة أنه «ما في الوجود إلا الله»([34]).
ليس المقصود هنا الكشف عن مذهب الوجود عند ابن عربي الحاتمي وتفصيله وتشريحه، بل بيان وجه الصلة بينه وبين “الولي الفقيه” الشيعي، وذلك بالتنبيه على طبيعة العلاقة أو التعلق بين الخميني وابن عربي ومذهبه، وبيان هذا أن ابن عربي كان أحد ملهمي الفكر الخميني، وقد بلغ به الأمر في ذلك إلى الاشتغال بكتبه، والتعليق مثلا على كتابه “الفصوص”، وقد تبين لاحقا أن ابن عربي لم يكن يمثل أصلا روحيا دينيا للخميني فقط، بل أصلا في فكره السياسي أيضا، ودليل ذلك ذكره له في رسالته إلى غورباتش رئيس الاتحاد السوفياتي سابقا([35]).
أما ما يدل على مذهب الخميني في وحدة الوجود فمنتشر في كتبه، من ذلك قوله: (نور: حضرة المشيئة المطلقة لفنائها في الذات الأحدية، واندكاكها في الحضرة الألوهية، واستهلاكها تحت سطوع نور الربوبية، لا حكم لها في نفسها، بل لا نفسية لها أصلا، فهي ظهور الذات الأحدي في هياكل الممكنات، على قدر استحقاقها، وبروز الجمال السرمدي في مرآة الكائنات على قدر صفائها، وبها يكسو كسوة الإمكان، ويتلبس بلباس الأكوان، فظهر واستتر وبرز وضمر وتجرد وتمثل، وتوحد وتكثر، فلقد أشار إلى ذلك بكمال اللطافة، وأرمز بقوله تعالى: {اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [النور: 35])([36]).
المبحث السادس: متممات:
- ولاية الفقيه وشيخ الجبل:
شيخ الجبل الحسن الصباح أحد أئمة وقادة الطائفة الإسماعيلية النزارية المعروفة بالحشاشين، وقد ألف للتعريف بها أحد كبار المستشرقين أمريكيين، وهو برنارد لويس كتابه “الحشاشون“، وفيه كشف لتاريخهم وأصولهم وعقائدهم وأهم الأحداث التي ميزت مرحلتهم السياسية في إيران، ومما تميزت به هذه الطائفة وجود فرق للفداوية ممن كانت توكل إليهم مهام القتل والاغتيال، وقد تطورت هذه الفرقة عبر الزمن، وترسخت أقدامها داخل المؤسسات الأمنية العالمية، وكانت حاضرة في كل تاريخ الحركات السياسية الشيعية بوجوه مختلفة، وقد امتزجت فكرة الفداوية مع فكرة الدعاة المنتشرين في الآفاق لتتحول إلى شبه ميليشيات عسكرية، تمد أم القرى بالدعم السياسي والمالي، وتنفذ عملياتهم العسكرية والأمنية، ولها ولاء مطلق للولي الفقيه، كولاء الفداوية لشيخ الجبل، وتحولت مع الوقت إلى أذرع عسكرية وسياسية ومالية، شبه امتداد لدولة أم القرى، ولا تزال الدولة الأم تعتمدها، لكنها تتخلى عنها كلما كان ذلك أنسب لها، وتعيد صناعة غيرها، كهيئة السحلية التي تقطع ذيلها الذي ما يلبث أن يتجدد.
- ولاية الفقيه في فرنسا([37]):
بدأت قصة الخميني قديما خلاف ما قد يعتقده بعض الناس، فحينما اشتد عود المعارضة عند الخميني، وضاقت عليه بذلك أرض العراق بما رحبت، طار إلى مكان تحكمه حكومة لا يظلم عندها أحد! فقد وجدناه يلجأ إلى واحدة من أكبر الحكومات الاستعمارية في العالم، وأم الكاثوليكية النصرانية، ومهد الاستشراق الفرنسي الآثم، ومجمع الصهيونية، فهناك كان محط رحاله، حيث الأمان من الخوف والجوع، فقد بذلت الحكومة الفرنسية لتوفير ذلك كل ما كان في وسعها، وكان مقابلُ ذلك كله متوقفا على ظهور الخميني وسقوط الشاه، وعند حصول الانقلاب الثوري أُوصل الخميني في طائرة من سرب الخطوط الجوية الفرنسية معززا مكرما، وجلس أعضاء الحكومة الفرنسية يهنئ بعضهم بعضا على ما حصلوا عليه مقابل كل ذلك!
كلنا يعرف الحضور الفرنسي في الشام في سوريا حيث صنعوا “العلويين“، وفي لبنان حيث ولاء بعض المارونيين لهم، ومعهم حليفهم “حزب الله” خديم المشروع الخميني الذي كان يوما ضيفا كريما على فرنسا.
- ولاية الفقيه والبازار الإيراني:
كان البازار الإيراني -أي: الأوليغارشية المالية الشيعية- جزءا أساسا دائما في “الدولة الشيعية” النائبة عن “الإمام الغائب“، وقد تطور حضورها من مساعد ومناصر إلى أن يتحول إلى جزء من “الولي الفقيه“، وتحولت النظرية من “الفردانية” إلى “المؤسسة“، وتظاهر البازار مع النخبة السياسية والعسكرية والفكرية والدينية لتقوية “الولي الفقيه“، وجعله مؤسسات متداخلة المصالحة، متعاونة على إقامة مشروع الدولة الشيعي، وأقاموا لذلك مؤسسات موجهة مثل “مصلحة تشخيص النظام” وغيرها، وكان للجيش -بل قل: الحرس الثوري- دور مهم جدا في بناء دولة “الولي الفقيه” الحديثة، وقد صار العسكري والديني مختلطا بالاقتصادي والسياسي، وصار الجنرالات والمعممون من كبار المستثمرين، ودخل الحرس الثوري في التجارة في أمور ليس لها علاقة بالسلاح والعسكرية مثل صحون الدش([38])!
- ولاية الفقيه في مقابلة الدول الملكية:
لماذا تحرص الدعاية الإيرانية اليوم على التحرش بالمملكات الثلاثة: المغرب والأردن والسعودية؟ لعل الجواب مضمّن في عمق حقيقة “ولاية الفقيه“، فلئن كان ملك المغرب هو “أمير المؤمنين” وكان ملك السعودية “خادم الحرمين“، فإنه لا بد أن يكون شيء في نفس مستوى اللقبين، بما احتوتهما من تشريف وتكليف، ولم يكن إلا “الولي الفقيه” بما احتوته الكلمة من حشوات دينية وسياسية، ولا تزال هذه الدول متمنعة عليهم، وليس من سبب إلا “المقام” الذي ارتضته هذه الدول لطبيعة الحكم عندها، الجامع بين الالتزام الديني والمسؤولية السياسية، وهنا مكمن “التعارض” بين “نظرية الولي الفقيه” وبين “مقامات” تأخذ تكليفها وتشريفها من أصول الشريعة الإسلامية، أما الأولى ففي البيعة وإمارة وخدمة المؤمنين وحمايتهم، وأما الثانية فمثلها وزيادة خدمة الحرمين الشريفين، ولذلك لا يستغرب الحرص الشديد الذي تبذله كل مؤسسات “الولي الفقيه” لإسقاط هذه الملكيات الثلاث، أما السعودية فباحتلال الحرمين اللذين هما الشرف الأكبر للدولة والشعب السعودي، وأما المغرب فبالكيد له من جهة قضيته الوطنية قضية الصحراء المغربية، والتي ضبط حزب الله اللبناني متورطا في تأهيل “البوليزاريو” ضدها، وصحت المعلومات بتلقي ميليشاته التدريبات في معسكرات الحرس الثوري، وأما الأردن فالعين عليها شاخصة.
خلاصات:
تحيط ببلدان المسلمين تحديات أمنية وأيديولوجية كبرى، على رأسها خطر التمدد الشيعي، وقد كان الباحثون يحذرون من التمدد الثقافي والعقدي للفكر الشيعي، إلى أن انكشف لنا بعد آخر لهذا الخطر المتسرب، هو البعد السياسي، فقد صار الباحثون يلاحظون وجود نوع آخر من الولاء للدولة الأم أي: إيران، وهو الولاء السياسي، والتشيع السياسي، بتلميع صورة المشروع الإيراني الذي يهدف إلى استئصال النفوذ الإسلامي أو ما يسميه بعضهم: النفوذ السني، وتعقد إيران لأجل ذلك المعاهدات والتحالفات الغادرة بالأمة الإسلامية، فمع حرصها على تصدير الثورة لاستيراد الثروة، سواء كانت مادية أو إنسانية، فإنها لا تنفك عن ممارسة هوايتها المفضلة وهي “الخيانة” السياسية، والأحداث في زماننا شاهدة تحكي قصة دولة “الولي الفقيه” ومشروعها التوسعي، وهو ما يحتاج إلى دراسات موفية بحق هذا الخطر، وقد كتب علماؤنا كثيرا في هذا، لكن الذي نحتاجه أن نعيد القراءة بشكل أعمق، ونغوص في الأصول الحقيقية لنظرية “الولي الفقيه” ومعها نظرية “أم القرى” لوضع إستراتيجية ثقافية وأمنية وسياسية قوية ومستدامة وقابلة للتطوير والتجديد بتطور وتجدد “دولة الولي الفقيه“، فنحن على مشارف عالم جديد، ولا بد من أخذ المواقع المناسبة، بمقاربات أمنية وثقافية مناسبة.
ــــــــــــــــــــــــــــــــ
(المراجع)
والله تعالى أعلم، والحمد لله رب العالمين.
([1]) الحكومة الإسلامية، للخميني، دار الولاء (ص: 74-75).
([2]) كتاب البيع، مؤسسة تنظيم ونشر آثار الإمام الخميني (2/ 617).
([3]) تطور الفكر السياسي الشيعي (ص: 317).
([4]) تطور الفكر السياسي الشيعي (ص: 414).
([5]) دروس في ولاية الفقيه (ص: 15).
([6]) ولاية الفقيه، لمحسن الحيدري (ص: 13).
([7]) الولي الفقيه، للخامنئي (ص: 50).
([8]) تطور الفكر السياسي الشيعي (ص: 374-375).
([9]) التشيع العربي والتشيع الفارسي، لنبيل الحيديري (ص: 298).
([10]) مقولات في الإستراتيجية الوطنية (ص: 87).
([11]) صحيفة كيهان، العدد (13223)، بواسطة: تطور الفكر السياسي الشيعي (ص: 423).
([12]) تطور الفكر السياسي الشيعي (ص: 436).
([13]) اكتفى الخميني في الحكومة الإسلامية (ص: 69)، وكتاب البيع (2/ 623) بمعرفة القانون، أي: الأهلية العلمية، والعدالة أي: النقاء والتقوى الدينية.
([14]) دراسات في الفكر السياسي للإمام الخميني، لمجموعة من الباحثين (ص: 5).
([15]) بحار الأنوار، مؤسسة الوفاء، الطبعة الثانية المصححة (101/ 261).
([17]) تطور الفكر السياسي الشيعي (ص: 429).
([19]) من خطبة للخمبني نقلا عن: نهج الخميني (ص: 46).
([20]) مقدمة لرسالة الخميني إلى الرئيس السوفييتي ميخاييل غورباتشوف (ص: 7).
([21]) الحكومة الإسلامية (ص: 78).
([22])الإمامة حتى ولاية الفقيه (ص: 49).
([28]) الفتوحات المكية (3/ 62).
([34]) الفتوحات المكية (4/ 224).
([35]) دعوة إلى التوحيد، رسالة الإمام الخميني زعيم الثورة الإسلامية ومؤسس الجمهورية الإسلامية إلى الزعيم السوفييتي ميخائيل غورباتشوف.
([36]) مصباح الهداية إلى الخلافة والولاية (ص: 47).
([37]) ينظر لهذا: الخميني في فرنسا، لهوشنك نهاوندي.
([38]) يراجع لبسط هذا الموضوع إلى كتاب: أجندة إيران اليوم، لريز إرليخ.