
كيف نُؤمِن بعذاب القبر مع عدم إدراكنا له بحواسِّنا؟
مقدمة:
إن الإيمان بعذاب القبر من أصول أهل السنة والجماعة، وقد خالفهم في ذلك من خالفهم من الخوارج والقدرية، ومن ينكر الشرائع والمعاد من الفلاسفة والملاحدة.
وجاءت في الدلالة على ذلك آيات من كتاب الله، كقوله تعالى: {ٱلنَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ ٱلسَّاعَةُ أَدْخِلُواْ ءَالَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ ٱلْعَذَابِ} [غافر: 46].
وقد تواترت الأحاديث بذلك تواترًا معنويًّا، وممن أفردها بالتصنيف: الإمام أبو بكر البيهقي في جزء صغير سمّاه (إثبات عذاب القبر).
قال الإمام ابن رجب: (فإن حياة البرزخ ليسَت حياةً تامَّةً مُستقِلَّةً كحياة الدُّنيا، وكالحياة الآخرة بعد البعث، وإنَّما فيها نوعُ اتصالِ البدن بالرُّوح، بحيث يحصُل بذلِكَ شُعور البَدَن، وإحساسٌ بالنعيم والعذاب وغيرهما، وليس هُو حياةً تامَّةً حتى يكون انفصال الروح به موتا تامًّا، وإنما هو شبيه بانفصال روح النائم عنه ورجوعها إليه فإن ذلك يسمى موتًا وحياة.
كما كان يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا استيقظ: «الحمد لله الذي أحيانا بعد ما أماتنا وإليه النشور»، وسماه الله تعالى وفاة لقوله: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى} الآية [الزمر: 42].
ومع هذا فلا ينافي ذلك أن يكون النائم حيا، وكذلك اتصال روح الميت ببدنه وانفصالها عنه لا توجب أن يصير حيًّا حياةً مُطلَقة)([1]).
ومن هذا المنطلق جاء مقال مركز سلف ليسلط الضوء على مسألة عذاب القبر وبيان موقف أهل السنة منها
مركز سلف للبحوث والدراسات
ومن اعتراضات الملاحدة على عذاب القبر أنهم قالوا: إنَّنا نكشِفُ القبر ولا نجِد فيه ملائكةً يَضرِبون الموتى بمَطارِق الحديد، ولا نجِد ثَمَّ حيَّات وثعابين ونيران.
وكيف يُفسَح للميِّت مدَّ بَصَره أو يُضيَّق عليه ونحن نجِده بحاله ومساحَتُه على حالها؟!
وكيف يَتَّسِع ذلك اللحدُ الضيِّق له ولمَن يؤنِسُه أو يوحِشُه ونحن نرى المصلوب على الخَشَبة مُدةً طويلةً، لا يُسأل ولا يُجيب ولا يتحرَّك، ولا يتوقَّد جسمُه نارًا؟! ومَنِ افترسته السباعُ، ونهشتُه الطير، وتفرَّقت أجزاؤه في حواصل الطيور وأجواف السِّباع وبُطون الحيَّات ومدارج الرياح، فكيف يُسألُ؟! وكيف يَصير القبرُ على هذا رَوْضة أو حُفرة؟! وكيف يتَّسِع قبرهُ أو يَضيق؟!
والجواب عن هذه الأسئلة في ما يأتي([2]):
1- الإيمان بعذاب القبر هو منَ الإيمان بالغيب، والإيمان الغيب هو الذي يَمتاز به المؤمنون عن غيرهم:
وقد أحسن الإمام القرطبي حيث يقول: (الذي جاء بهذا هم الذين جاؤوا بالصلوات الخمس، وليس لنا طريق إلا ما نقلوه لنا من ذلك)([3]).
وقد ذكر الإمام ابن القيم في هذا الموضع ما مُلخَّصُه أن الله سبحانه جعَل أمرَ الآخِرةِ، وما كان مُتصلًا بها غَيبًا، وحجَبها عن إدراك المُكلَّفين في هذه الدار، وذلك من كمال حكمتِه، وليتميَّز المؤمنون بالغَيبِ من غيرهم.
فأول ذلك أنَّ الملائكة تنزِلُ على المُحتَضَرِ، وتَجلسُ قريبًا منه ويُشاهِدهم عِيانًا، ويتحدَّثون عندَه ومعهمُ الأكفانُ والحَنوطُ، إما منَ الجَنَّة، وإما منَ النارِ، ويؤمِّنون على دُعاءِ الحاضرين بالخيرِ والشرِّ، وقد يُسلِّمون على المُحتَضَر، ويرُدُّ عليهمُ السلامَ تارةً بلفظهِ، وتارةً بإشارة، وتارةً بقَلبه إذا لم يتمكَّنْ من نُطقِ وإشارةٍ.
ويَكْفي في ذلك قولُه تعالى: {فَلَوْلَا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ * وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ * وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لَا تُبْصِرُونَ} [الواقعة: 83-85].
ثم يمُدُّ الملَكُ يدَه إلى الروح، فيقبضُها، ويخاطبها. والحاضرون لا يرونه، ولا يسمعونه. ثم تخرج، فيخرج لها نور مثلُ شعاع الشمس، ورائحةٌ أطيب من رائحة المسك. والحاضرون لا يرون ذلك، ولا يشمُّونه. ثم تصعد بين سِماطَين من الملائكة، والحاضرون لا يرونهم. ثم تأتي الروح فتشاهِد غسلَ البدن وتكفينَه وحملَه، وتقول: قدِّموني قدِّموني، أو: إلى أين تذهبون بي؟! ولا يسمع الناس ذلك.
فإذا وُضِع في لحده وسُوِّي عليه التراب لم يحجب الترابُ الملائكة عن الوصول إليه، بل لو نُقِر له حجرٌ فأودع فيه وخُتِم عليه بالرصاص لم يمنع وصولَ الملك إليه، فإن هذه الأجسام الكثيفة لا تَمنَعُ خرق الأرواح لها، بل الجنُّ لا يمنعها ذلك، بل قد جعل الله سبحانه الحجارة والتراب للملائكة بمنزلة الهواء للطير. واتساعُ القبر وانفساحُه للروح بالذات، والبدنِ تَبَعًا، فيكون البدن في لحدٍ أضيقَ من ذراع، وقد فُسِح له مَدَّ بصره تبعًا لروحه.
أمَّا ما كان من أمر الآخِرة فقد أُسبِلَ عليه الغطاءُ، ليكونَ الإقرار والإيمانُ به سببًا لسعادتهم، فإذا كُشِف عنهمُ الغطاءُ صار عيانًا مُشاهدًا([4]).
ومع ذلك فنقول: إنَّه لا يمتَنِع أنْ يُطلِع الله تعالى بعضَ عباده على شيء من أحوال المَوتى في قُبورهم، من نَعيم أو عذاب، ويكون ذلك شَهادةً بالنسبة لهم، غيبًا بالنسبة لغيرهم، وقد ورَدَت في ذلك قصصٌ كثيرةٌ ينقُلها العلماءُ، ويذكُرونها في كُتُبهم.
وقد ذكر ابن القيم بعض تلك القصص ثم قال: (وهذه الأخبار وأضعافُها وأضعاف أضعافِها -مما لا يتَّسع لها الكتاب- مما أراه الله سبحانه لبعض عباده من عذاب القبر ونعيمه عِيَانًا)([5]). وأرود ابن رجب في كتابه (أهوال القبور) جملةً صالحةً منها، واستفاد من شيخ ابن القيم في ذلك، وصرح بالنقل عنه في بعضها.
2- في الدُّنيا منَ المُشاهَدات التي رآها المؤمنون ما هو من جِنس ما يَستَنكِره نُفاةُ عذاب القبر:
فهذا جِبريلُ عليه السلام كان ينزِل على النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، ويتمثَّلُ له رجُلًا، فيُكلِّمه بكلام يَسمَعه، ومَن إلى جانب النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ لا يَراه، وكذلك غيرُه منَ الأنبياء، وأحيانًا يأتيه الوَحيُ مثلَ صَلصَلة الجَرَس، ولا يَسمَعه غيرُه منَ الحاضرين.
وهؤلاء الجنُّ يتحدَّثون، ويتكلَّمون بالأصوات المرتفعة بيننا، ونحن لا نسمَعُهم.
وقد كانتِ الملائكة تضرِب الكفار بالسياط، وتَضرِبُ رقابَهم، وتَصيح بهم، والمُسلمون معهم لا يرَوْنَهم، ولا يَسمَعون كلامهم.
والله سبحانه قد حجَب ابنَ آدمَ عن كثير ممَّا يحدُث في الأرض، وهو بينهم.
وقد كان جبريل يُقرئ النبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، ويُدارِسه القرآن، والحاضرون لا يَسمَعونه.
وقد ذكر هذا الوجه في الجواب عن هذه الشبهة القاضي أبو بكر ابن الباقلاني كما نقله عنه القرطبي وابن القيم([6]).
قال ابن القيم: (وقدرة الربِّ تعالى أوسع وأعجب من ذلك. وقد أرانا من آيات قدرته في هذه الدار ما هو أعجبُ من ذلك بكثير، ولكنَّ النفوس مولعة بالتكذيب بما لم تُحِط به علمًا، إلا من وفَّقه الله وعصمه)([7]).
ومن الأمثلة الواضحة التي نعايشها يوميًّا لعذاب وألم لا نحس بهما: ما يحس به النائم من عذاب وألم.
يقول ابن القيم: (وقد أرانا الله سبحانه بلطفه ورحمته وهدايته من ذلك أنموذجًا في الدنيا من حال النائم، فإنَّ ما يُنَعَّم به أو يُعذَّب في نومه يجري على روحه أصلًا، والبدنُ تبع له؛ وقد يقوى حتى يؤثرَ في البدن تأثيرًا مشاهَدًا، فيَرى النائم في نومه أنه ضُرِب، فيُصبح، وأثرُ الضرب في جسمه. ويرى أنه قد أكل أو شرب، فيستيقظ، وهو يجد أثر الطعام والشراب في فيه، ويذهب عنه الجوع والظمأ.
وأعجبُ من ذلك أنك ترى النائم يقوم في نومه، ويضربُ، ويبطِش، ويدافع، كأنه يقظانُ، وهو نائم لا شعور له بشيء من ذلك. وذلك أنَّ الحكمَ لمَّا جرى على الروح استعانت بالبدن من خارجه، ولو دخلت فيه لاستيقظ وأحسَّ.
فإذا كانت الروح تتألَّم وتنعَم ويصل ذلك إلى بدنها بطريق الاستتباع فهكذا في البرزخ، بل أعظم، فإنَّ تجرُّدَ الروح هناك أكملُ وأقوى وهي متعلقة ببدنها لم تنقطع عنه كلَّ الانقطاع. فإذا كان يومُ حشر الأجساد وقيامِ الناس من قبورهم، صار الحكم والنعيم والعذاب على الأرواح والأجساد ظاهرًا باديًا أصلًا.
ومتى أعطيتَ هذا الموضع حقَّه تبيَّن لك أنّ ما أخبر به الرسول صلى الله عليه وسلم من عذاب القبر ونعيمه، وضيقه وسعته، وضمِّه، وكونه حفرةً من حفر النار، أو روضةً من رياض الجنة مطابقٌ للعقل، وأنَّه حقٌّ لا مِريَة فيه، وأنَّ مَن أشكَلَ عليه ذلك فمن سوء فهمه وقلة علمه أُتيَ، كما قي:
وكم مِن عائبٍ قولًا صحيحًا … وآفَتُه من الفهمِ السَّقيمِ
وأعجبُ من ذلك أنك تجد النائمَين في فراش واحد، وهذا روحُه في النعيم، ويستيقظ وأثرُ النعيم على بدنه. وهذا روحُه في العذاب، ويستيقظ وأثرُ العذاب على بدنه. وليس عند أحدهما خبرٌ بما عند الآخر. فأمرُ البرزخ أعجبُ من ذلك)([8]).
3- ليس في أحوال الموتى التي أخبَر بها الرسول صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ ما هو مُحالٌ عقلًا، وإن كانت العقول تحار فيه أو تستبعده، فالرسل عليهم الصلاة والسلام يأتون بمحارات العقول لا محالات العقول:
إن جميعَ ما يَعتَرِض به المُعتَرِضون على عذاب القبر لم يَأْتوا له بأدلة عقليَّة قاطعة، وليس معهم إلا مجرد الاستبعاد، وقد قال أبو حامد الغزالي: (ما لا برهان على إحالته لا ينبغي أن يُنكَر بمُجرَّدِ الاستبعادِ)([9]).
يقول ابن القيم: (الرسل -صلوات الله وسلامه عليهم- لم يخبروا بما تُحيله العقول وتقطع باستحالته، بل أخبارهم قسمان:
أحدهما: ما تشهد به العقول والفِطَر.
الثاني: ما لا تدركه العقول بمجرَّدها، كالغيوب التي أخبروا بها عن تفاصيل البرزخ واليوم الآخر، وتفاصيل الثواب والعقاب ولا يكون خبرهم مُحالًا في العقول أصلًا.
وكلُّ خبر يُظَنُّ أنَّ العقل يُحيله فلا يخلو من أحد أمرين: إما أن يكون الخبر كذبًا عليهم، أو يكون ذلك العقلُ فاسدًا. وهو شبهة خيالية يظنُّ صاحبُها أنَّها معقول صريح. قال تعالى: {وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ وَيَهْدِي إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ} [سبأ: 6]، وقال تعالى: {أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى} [الرعد: 19]، وقال تعالى: {وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَفْرَحُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمِنَ الْأَحْزَابِ مَنْ يُنْكِرُ بَعْضَهُ} [الرعد: 36]. والنفوس لا تفرح بالمحال.
وقال تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ * قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا} [يونس: 57، 58]. والمحال لا يَشفي، ولا يحصل به هدًى ولا رحمةٌ، ولا يُفرَح به.
فهذا أمرُ مَن لم يستقرَّ في قلبه خيرٌ، ولم يثبُتْ له على الإسلام قدمٌ، وكان أحسن أحواله الحيرة والشكّ)([10]).
فإذا عُلم ذلك فإنه لا يَلزَم من شيء ممَّا ذَكَروه منِ استبعادات انتفاءُ عذاب القبر، إذ لا يُستَبْعد مع إثباتِ قُدرة الله تعالى شيءٌ مما ذكروه من استبعاداتٍ، فقدرةُ الله تعالى تتعلق بكل مُمكنٍ جائزٍ.
قال أبو عبد الله القرطبي: (إنا نؤمن بما ذكرناه، ولله أن يفعل ما يشاء من عقابٍ ونعيم، ويصرف أبصارنا عن جميع ذلك بل يُغيِّبُه عنا.
فلا يبعد في قدرة الله تعالى فعلُ ذلكَ كُلِّه، إذ هو قادرٌ على كل ممكن جائز، فإنَّا نحن لو شئنا لأزلنا الزئبق عن عينيه، ثم نُضجعه، ونردُّ الزئبق مكانه، وكذلك يُمكننا أن نُعمِّق القبر ونوسعه حتى يقوم فيه قيامًا فضلًا عن القعود، وكذلك يمكننا أن نُوسِّع القبر ذراعًا فضلًا عن سبعين ذراعًا، والربُّ سبحانه أبسطُ مِنَّا قُدرة، وأقوى منا قُوَّة، وأسرعُ فعلًا، وأحصى منا حسابًا، {إِنَّمَا أَمْرُهُۥٓ إِذَا أَرَادَ شَيْـًٔا أَن يَقُولَ لَهُۥ كُن فَيَكُونُ} [يس: 82]، ولا رَبَّ لمن يَدَّعي الإسلامَ إلا مَن هذه صفته، فإذا كشفنا نحن عن ذلك ردَّ الله سبحانه الأمر على ما كانَ)([11]).
وأما عدم استحالة الصورة التي ورد ذكرها في السؤال:
أ- فلو كان الميتُ بين الناس موضوعًا، لم يمتنِعْ أنْ يأتيَه المَلَكان، فيسألانِه من غير أنْ يشعُرَ الحاضرون بذلك، ويُجيبُهما من غير أنْ يَسمَعوا كلامَه، ويَضرِبانِه من غير أنْ يُشاهِد الحاضرون ضربَه، وهذا الواحدُ منَّا يَنام إلى جنب صاحبه، فيُعذَّب في النوم، ويُضرَب، ويألَمُ، وليس عند المُستيقِظ خبرٌ من ذلك البتَّةَ([12]).
ب- وأمَّا عَصْرةُ القبر حتى تختَلِف أضلاعُ بعض الموتى، فلا يَرُدُّه حِسٌّ ولا عقلٌ ولا فِطرةٌ، ولو قُدِّرِ أنَّ أحدًا نَبَش عن ميت، فوجَد أضلاعه كما هي، لم يمتَنِع أنْ تكون قد عادت.
ج- وغيرُ ممتَنِع أنْ تُردَّ الأرواحُ إلى المصلوب والغريق ونحوهما، ونحن لا نشعُر بها؛ إذ ذلك الرَّدُّ نوعٌ آخَرُ غيرُ المعهود، فهذا المُغْمى عليه والمسكوتُ والمبهوتُ أحياءٌ وأرواحُهم معهم، ولا نشعُر بحالتهم([13]).
د- ومَن تفرَّقَت أجزاؤه لا يمتَنِع على مَن هو على كل شيء قديرٌ أنْ يجعَل للرُّوح اتِّصالًا بتلك الأجزاء على تباعُد ما بينها وقُربه، ويكون في تلك الأجزاء شعورٌ بنوع الألم واللَّذة([14]).
4- أحوال البرزخ لا تُقَاس على ما يشاهده الناس في الدنيا:
يقول الإمام القرطبي في تقرير ذلك: (وبالجملة: فأحوالُ المقابِر وأهلِها على خلافِ عاداتِ أهلِ الدُّنيا في حياتِهم، فلَيس تَنقاسُ أحوالُ الآخرة على أحوالِ الدنيا، وهذا مما لا خِلَاف فِيه، ولولا خبر الصادق بذلك لم نَعْرِف شيئًا مما هنالك)([15]).
ويقول الإمام ابن القيم: (وهل قياسُ أمر البرزخ على ما يشاهدُه الناس في الدنيا إلا محض الجهل والضلال، وتكذيب أصدق الصادقين، وتعجيز رب العالمين؟! وذلك غايةُ الجهل والظلم)([16]).
فالنارُ التي في القبر ليست من نار الدنيا، فيُشاهدها مَن شاهَدَ نارَ الدُنيا، وإنَّما هي من نار الآخِرة، وهي أشدُّ من نار الدنيا، ولا يُحسُّ بها أهلُ الدنيا، فإنَّ الله يُحمي عليه ذلك الترابَ والحجارةَ التي عليه وتحتَه، حتى تكونَ أعظمَ حرًّا من حَرِّ نار الدُّنيا، ولو مسَّها أهل الدنيا لم يُحسُّوا بذلك.
وأعجَبُ من ذلك أنَّ الرجُلَيْن يُدْفَنان، فيكون أحدُهما إلى جنب صاحبه، وهذا في حُفرة من حُفَر النار، لا يصِل حرُّها إلى جاره، وذلك في رَوْضة من رياض الجنَّة لا يصِل نعيمُها إلى جاره، وقدرةُ الرّبِّ تعالى أوسَعُ وأعجَبُ من ذلك، ويُفرَش للكافر لَوْحان من نار يُشَعلُ عليه قبرُه بهما، كما يُشعَل التنُّورُ([17]).
يقول ابن القيم: (وسرُّ المسألة: أنَّ هذه التوسعةَ والضيق والإضاءة والخضرة والنار ليس من جنس المعهود في هذا العالم، والله سبحانه إنما أشهدَ بني آدم في هذه الدار ما كان فيها ومنها. فأما ما كان من أمر الآخرة، فقد أَسْبَلَ عليه الغطاءَ ليكون الإقرارُ به والإيمانُ سببًا لسعادتهم، فإذا كُشِفَ عنهم الغطاءُ صار عيانًا مشاهدًا)([18]).
5- الحكمة من إخفاء عذاب القبر عن أهل الدنيا وعدم شعورهم به:
يقول ابن القيم: (وكيف يَستنكر من يعرف الله سبحانه ويُقِرُّ بقدرته أن يُحدِثَ حوادثَ يَصرِفُ عنها أبصارَ بعض خلقه، حكمةً منه ورحمةً بهم؛ لأنّهم لا يطيقون رؤيتها وسماعَها؟ والعبد أضعفُ بصرًا وسمعًا من أن يثبُتَ لمشاهدة عذاب القبر. وكثيرٌ ممن أشهده الله ذلك صَعِق وغُشي عليه، ولم ينتفع بالعيش زمنًا. وبعضهم كُشِف قناعُ قلبه، فمات. فكيف ينكَر في الحكمة الإلهية إسبالُ غطاء يحول بين المكلَّفين وبين مشاهدة ذلك، حتى إذا كُشِفَ الغطاءُ رأوه وشاهدوه عيانًا؟!)([19]).
ويقول: (فإذا شاء الله سبحانه أن يُطلِع على ذلك بعضَ عَبيده أطلعه، وغيَّبه عن غيره؛ إذ لو اطَّلع عليه العباد كلُّهم لزالت حكمةُ التكليف والإيمان بالغيب، ولما تدافَنَ الناس، كما في الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم: «لولا أن تدافنوا لدعوتُ الله أن يُسمِعَكم من عذاب القبر ما أسمع»([20]).
ولما كانت هذه الحكمة منفيَّةً في حقّ البهائم سمعت ذلك وأدركته، كما حادت برسول الله صلى الله عليه وسلم بغلتُه، وكادت تُلقِيه لمّا مرَّ بمن يُعذب في قبره.
وحدَّثني صاحبنا أبو عبد الله محمد بن الرُّزَيز الحَرَّانيُّ أنه خرج من داره بعد العصر بآمِدَ إلى بستانٍ. قال: فلمّا كان قبل غروب الشمس توسطتُ القبورَ، فإذا بقبر منها، وهو جمرةُ نار مثلُ كُور الزجَّاج، والميتُ في وسطه. فجعلتُ أمسح عينيَّ، وأقول: أنائم أنا أم يقظانُ؟ قال: ثم التفتُّ إلى سور المدينة، وقلت: والله ما أنا بنائم. ثم ذهبت إلى أهلي، وأنا مدهوشٌ، فأتَوْني بطعام، فلم أستطع أن آكلُ. ثم دخلت البلد، فسألت عن صاحب القبر، فإذا به مَكَّاسٌ قد توفِّي ذلك اليوم.
فرؤيةُ هذه النار في القبر كرؤية الملائكة والجنِّ تقع أحيانًا لمن شاء الله أن يُريه ذلك)([21]).
ومن القصص التي وثَّقَها المؤرِّخُون لإطلاع الله تعالى بعضَ عبادِه على عذاب القبر، وهو مما تتبين به حكمة إخفاء الله تعالى لعذاب القبر عنّا: ما ذكره الشيخ أحمد بن عبد الوهاب في تاريخه المسمى (نهاية الأرب) حيث قال: (وفي سنة سبع وتسعين وستمائة، في العشر الأول من جمادى الأولى، ورد على السلطان الملك المنصور حسام الدين لاجين مطالعة مضمونها: أن شخصا بقرية جينين من الساحل الشامي كانت له زوجة، فتوفيت إلى رحمة الله تعالى، فحملت بعد تغسيلها وتكفينها ودفنت، فلما عاد زوجها من المقبرة تذكر أن منديله وقع في القبر، وفيه جملة من الدراهم، فأتى إلى فقيه في القرية، فاستفتاه في نبش القبر، فقال له في ذلك: يجوز نبشه وأخذ المال منه، ثم تداخل الفقيه المفتي في ذلك شيء في نفسه، فقام وحضر معه إلى القبر، فنبش الزوج القبر ليأخذ المال والفقيه على جانب القبر، فوجد الزوج زوجته مقعدة مكتوفة بشعرها، ورجليها مكتوفتين بشعرها، فحاول حل كتافها، فلم ينحل له ذلك، فأمعن في ذلك، فخسف به وبزوجته، ولم يوجد أو لم يعلم للخسف منتهى. وأما الفقيه فإنه أقام مغشيًّا عليه يومًا وليلة أو ليلتين.
نسأل الله أن يسترنا ولا يفضحنا، وأن لا يؤاخذنا بسوء أفعالنا.
ولما وردت المطالعة على السلطان بهذه الحادثة عرَضَها على شيخنا قاضي القضاة تقي الدين ابن دقيق العيد وغيره، وكتب يستعلم عن سيرة هذه المرأة والزوج المخسوف بهما، فما علمت ما ورد عليه من الجواب في ذلك)([22]).
ولا يخفى أن ما وقع لذلك الفقيه لو كان مما يتكرر فإنه لا تحتَمِلُه نفوسُ كثيرٍ من الناس، ولا تستقيمُ به حياتهم، عافانا الله تعالى وإياكم.
وخلاصة القول:
إنَّ جميعَ ما أخبَر به النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ لا يُعارِض العقولَ، وعذاب القبر من ذلك. وما يراه مُنكِرو عذاب القبر بَعيدًا أو مُحالًا عقلًا ليس كذلك؛ فإنَّ كثيرًا منَ الأمور في الدنيا حجَبَها اللهُ عنَّا، ونحن نؤمِن بها، ونُصدِّق بها، مع عدم شعورنا بها. وكذلك فإنَّ أحوال البَرْزَخ ليست كأحوال الدنيا، ولتلك الدار أحكام خاصَّة في تعلُّقات الرُّوح بالبدن، ليست كأحكام تلك التعلُّقات في الدنيا.
والله أعلم، وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.
ــــــــــــــــــــــــــــــ
(المراجع)
([2]) سوف نرجع في الجواب عن هذه الشبهات بشكل أساسي إلى ما قرره ابن القيم في كتاب الروح، وقد استفاد ابن القيم فيه من بحث القرطبي لهذه المسألة في التذكرة، كما استفاد من ابن القيم من جاء بعده، حيث لخص السفاريني كلامه في البحور الزاخرة في أمور الآخرة، كعادته في الاستفادة من كلام ابن القيم والتعويل عليه.
([3]) التذكرة بأحوال الموتى وأمور الآخرة (1/ 375).
([4]) كتاب الروح (1/ 187-192).
([5]) كتاب الروح (1/ 205-206).
([6]) التذكرة بأحوال الموتى وأمور الآخرة (1/ 375-376)، الروح (1/ 206-207).
([8]) كتاب الروح (1/ 186-187).
([9]) الاقتصاد في الاعتقاد (ص: 277).
([10]) كتاب الروح (1/ 182-183).
([11]) التذكرة بأحوال الموتى وأمور الآخرة (1/ 371-372)، واستفاده اللقاني في عمدة المريد (3/ 1395-1396) وعزاه للأشعرية. وفي هذا المبحث نقل اللقاني عن كتاب الروح لابن القيم واستفاد منه أيضًا.
([12]) التذكرة بأحوال الموتى وأمور الآخرة (1/ 372)، كتاب الروح (1/ 209).
([13]) التذكرة بأحوال الموتى وأمور الآخرة (1/ 376)، كتاب الروح (1/ 209).
([15]) التذكرة بأحوال الموتى وأمور الآخرة (1/ 373).
([20]) أخرجه مسلم (2867، 2868).
([21]) كتاب الروح (1/ 192-193).
([22]) نهاية الأرب (31/ 344-345)، ونقل القصة السيوطي عن تاريخ المقريزي في كتابه شفاء الصدور بشرح حال الموتى والقبور (ص: 180-181)، وعنه السفاريني في البحور الزاخرة (1/ 261).