
علم الكلام السلفي الأصول والآليات
للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة
مقدمة:
اختلف العلماء في الموقف من علم الكلام، فمنهم المادح الممارس، ومنهم الذامّ المحترس، ومنهم المتوسّط الذي يرى أن علم الكلام نوعان: نوع مذموم وآخر محمود، فما حقيقة علم الكلام؟ وما الذي يفصِل بين النوعين؟ وهل يمكن أن يكون هناك علم كلام سلفيّ؟ وللجواب عن هذه الأسئلة وغيرها رأى مركز سلف للبحوث والدراسات إنجازَ هذه الورقة العلمية لتحقيق المفاهيم المؤصّلة، وتحرير موضع الخلاف، وتقرير الصواب في كل ذلك؛ رفعا لكلّ لبس مشوّش، ودفعا لكل توهّم مضلّل، والله الموفق للصواب.
مركز سلف للبحوث والدراسات
علم الكلام:
عرف ابن خلدون “علم الكلام” في المقدمة بقوله: (هو علم يتضمن الحجاج عن العقائد الإيمانية بالأدلة العقلية، والرد على المبتدعة المنحرفين في الاعتقادات عن مذاهب السلف وأهل السنة)([1]).
فهو “علم حجاج عقلي” عن “عقيدة السلف أهل السنة“، وهو على هذا غير موضوع لـ”إثبات العقائد” ابتداءً، بل للذب عنها، بحسن بيانها والانتصار لما هو ثابت أصلا فيها، أو الرد على عقائد الآخرين لبيان زيفها وكشف مواضع خللها، دفعا في صدور البدع والمقالات الرديئة، فكانت محض “كلام“.
وعلى هذا بنى ابن خلدون موقفا آخر فقال: (هذا العلم الذي هو علم الكلام غير ضروري لهذا العهد على طالب العلم؛ إذ الملحدة والمبتدعة قد انقرضوا، والأئمة من أهل السنة كفونا شأنهم فيما دونوا وكتبوا، والأدلة العقلية إنما احتاجوا إليها حين دافعوا ونصروا)([2]). وهذا يؤكد أن علم الكلام ليس هو نفسه “عقائد الإيمان” في أصل وضعه، ولذلك ساغ ترك الاشتغال به عند عدم وجود ما يقتضيه.
ومما ينبغي الانتباه له في كلام ابن خلدون جعله علم الكلام مسلكا “عقليا“، تستعمل فيه “الأدلة العقلية” لمدافعة الخصم الذي لا يسلّم بالنقل في “المفاوضات“، أو في “الإنشاءات“، أو في بعضها، والأصل في إثبات عقائد الإيمان هو النقل المحض من الكتاب وصحيح الحديث النبوي والإجماع على قول، وهذا أصل مهم ينبغي استصحابه لفهم ما يليه. ومثل ابن خلدون فعل الفارابي قبله في إحصاء العلوم، وهو أحرى أن يعي حقيقة هذا العلم لأنه استعمله، واستعمل ضده، وهو يقول فيه: (صناعة الكلام يقتدر بها الإنسان على نصرة الآراء والأفعال المحدودة التي صرح بها واضع الملة، وتزييف كل ما خالفهما بالأقاويل)([3]).
لم يكن ابن خلدون من الأشاعرة بدعا في ما ذهب إليه، بل سبقه ما لعله أصله في ذلك، والسابق إليه فيما أعلم أبو حامد الغزالي، وعبارته في هذا أقوى وأمتن، قال الغزالي: (لما نشأت صنعة الكلام، وكثر الخوض فيه، وطالت المدة، تشوّف المتكلمون إلى مجاوزة الذب عن السنة بالبحث عن حقائق الأمور، وخاضوا في البحث عن الجواهر والأعراض وأحكامها، ولكن لما لم يكن ذلك مقصود علمهم لم يبلغ كلامهم فيه الغاية القصوى)([4]).
وكلام الغزالي كلام مجرّب محقّق، ولعل أخطر عبارة في كلامه وأقواها قوله: «مجاوزة الذب»، وهي عبارة كافية للدلالة على المقصود، ومعناها أن المتكلمين تجاوزوا مقاصد “الكلام” إلى محاولة تأسيس العقائد، فوقع اختيارهم على ما كان في زمانهم نظرية علمية طبيعية، فرأوا فيها أصلا صالحا للبناء، فتلقفه المعتزلة أولا، ثم تابعهم الأشاعرة وغيرهم، فقام لعلم الكلام بذلك سوق جديد، ووقعت “المجاوزة“، وصار بعدها بناء العقائد “عقليا” على “طبيعيات” متوهمة، عوض أن تبنى على حقائق علمية وعلى الكتاب والسنة، كما كانت عليه “عقائد السلف“، وعلى هذا النوع من “علم الكلام” تنزل عبارات الأئمة في النهي والذم، والله أعلم.
المصطلح الحادث:
لكل علم مصطلحاته، تبدأ قليلة العدد، أعمَّ في المعنى، ثم تتطور كثيرا وتؤول في دلالاتها إلى الأخصية، والقصد منها التفاهم في الخطاب، والأصل فيها عدم المشاحة، لكن لوضعها ضوابط عند الواضعين، تمنع من فوضى الوضع والاستعمال في مجالها التداولي.
وقد حظي علم الكلام ومباحثه بمصطلحات كثيرة، ذات أصول منطقية وفلسفية في الدلالة والمعنى، مولدة ومعربة، وقد انتبه العلماء لخطورة هذا الباب، فاحتاطوا له، ووضعوا لقبول المصطلح واستعماله ضوابط عاصمة، وكان لأهل الحديث في هذا موقف صارم، فقد كانوا لا يقبلون المصطلح إلا بعد تبين معناه ومقاصده عند مستعمله، ولا يركنون إلا إلى المصطلح القرآني والنبوي عند الحديث في أصول الدين، فلم يكن عندهم صد عن “المصطلح” لذاته، بل لما ضمنه واضعوه من المعاني الفاسدة المعارضة للكتاب والسنة، وقد لخص شيخ الإسلام ذلك عنهم فقال: (وأما مخاطبة أهل الاصطلاح باصطلاحهم ولغتهم فليس بمكروه إذا احتيج إلى ذلك، وكانت المعاني صحيحة… فإن هذا جائز حسن للحاجة، وإنما كرهه الأئمة إذا لم يحتج إليه)([5])، بل نص على أن ذم الكلام المخالف للكتاب والسنة لم يكن لأجل ما فيه من محدثات المصطلحات في علم التوحيد وقال: (فالسلف والأئمة لم يذموا الكلام لمجرد ما فيه من الاصطلاحات المولدة، كلفظ الجوهر والعرض والجسم وغير ذلك، بل إن المعاني التي يعبرون عنها بهذه العبارات فيها من الباطل المذموم في الأدلة والأحكام ما يجب النهي عنه، لاشتمال هذه الألفاظ على معان مجملة في النفي والإثبات… فإذا عرفت المعاني التي يقصدونها بأمثال هذه العبارات، ووزنت بالكتاب والسنة، بحيث يثبت الحق الذي أثبته الكتاب والسنة، وينفى الباطل الذي نفاه الكتاب والسنة، كان ذلك هو الحق، بخلاف ما سلكه أهل الأهواء من التكلم بهذه الألفاظ نفيا وإثباتا في الوسائل والمسائل، من غير بيان التفصيل والتقسيم الذي هو من الصراط المستقيم)([6]). وهذا كاف لبيان المسلك السلفي في “الاصطلاحات المولدة والوافدة” في علم الكلام وغيره.
نوعا علم الكلام:
قال الجويني: (حقيقة علم أصول الدين هي العلم بما يؤدي العلمَ بالله تعالى وبصفاته وبصفات رسله وأحكام دينه، وهو العلم الذي غلب عليه عرف الاستعمال بتسميته بأنه الكلام، وربما سمي علم الكلام)([7]).
وقد اشتهر عن أئمة السلف وتابعيهم بإحسان ذمهم لعلم الكلام ذما شديدا، وقد روى عنهم ذلك ثلة من المصنفين، مثل الهروي في “ذم الكلام“، وتفاوت ذمهم له بين مبدّع ومكّفر، واجتمعت كلمتهم على التحذير من الاشتغال به، وشككوا في قدرته على تحقيق ما وكل به، وقوى هذا تراجع عدد من كبار المتكلمين عن القول به الاشتغال به، بل تحذيرهم منه، مثل الجويني والرازي وغيرهما، وأصر آخرون على خلافهم، فدافعوا عنه، واستشهدوا بالإمام أبي الحسن الأشعري، إذ زعموا أن له كتابا في ذلك، وهو المطبوع باسم “استحسان الخوض في علم الكلام“، والنسبة إليه مشكوك فيها، فإما أنه ألفه حينما كان معتزليا، وإما أن كاتبه معتزلي، فصاحب هذه الرسالة يتحدث بمصطلحات اعتزالية معروفة، مثل “العدل والتوحيد“، وليس هذا محل بيان ذلك، فما الذي دفع هؤلاء الذامين إلى ذمه؟ وما الذي دفع المادحين إلى مدحه؟
يذهب المدافعون عن علم الكلام إلى أنه علم حجاج ومفاوضة ومناظرة عن عقائد الإسلام، وأن ذلك من الواجبات الشرعية على علماء الأمة، وعند التحقيق يتبين كما مر التنبيه عليه أن الذي ذمه الذامون هو بناء ذلك على طريقة الفلاسفة والمناطقة، وتأسيسه على نظريات طبيعية متوهمة، فظهر أن محل المدح ليس هو نفسه محل الذم، وعلى هذا يمكن الخلوص إلى أن هناك طرقا أخرى في الحجاج لا ينالها الذم، وهي التي بناها العلماء على المسالك القرآنية في الحجاج، وعلى طرق عقلية صريحة، فيصح إذن تقسيم علم الكلام إلى نوعين: نوع محمود، ونوع مذموم، وهو الذي فهم من صنيع شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله.
العقل القرآني:
أقصد بالعقل القرآني الطريقة العقلية التي جادل بها القرآن خصومه، ويدخل تحت هذا “المنهج العام” و”الأدلة التفصيلية“، وقد تولى بيان هذا الباحثة أفنان الغماس في “منهج القرآن في دحض شبهات الملحدين“([8])، والدكتورة مي الهدب في مقال بعنوان: “منهج القرآن الكريم في الرد على الشبهات، خصائصه وقواعده“([9]).
وقد انتبه المتقدمون لبعض هذا، بعض الفلاسفة كابن رشد، وبعض المتكلمين كالغزالي، وقبلهم ومعهم وبعدهم من أهل الحديث قديما وحديثا، ومن الأمثلة المشهور عند المتكلمين ما يسمونه دليل التمانع، وهو قوله تعالى: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا} [الأنبياء: 22]، وهو من أدلة المتكلمين على ما يسمونه وحدانية الله وتفرده، وقد انتقده ابن تيمية في تحريراته في “الدرء” وغيره، وليس هذا ما يهمني هنا، إنما يهمني بيان أخذ أهل الحديث بالمنهج القرآني بقوة، ولست أنسى أنني حينما سألت أستاذي الدكتور جمال علال البختي في إحدى محاضراته بكلية أصول الدين بتطوان حينما كانت تابعة لجامعة القرويين عن استعمال أهل الحديث للعقل في مناظراتهم، أجابني بالإحالة على (رد الإمام أحمد على الجهمية)، وقال: “هذا العقل القرآني”. فوقع في قلبي تبين ذلك في ما أحالني إليه، وقد كان الأمر كما قال، عند أحمد وغيره.
ومن الأدلة العقلية التي وقف عندها العلماء -ومنهم ابن كثير- قوله تعالى: {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ، أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بَلْ لَا يُوقِنُونَ} [الطور: 35، 36]، قال ابن كثير مفسرًا: (هذا المقام في إثبات الربوبية وتوحيد الألوهية، فقال تعالى: {أَمْ خُلِقُواْ مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ}، أي: أوجدوا من غير موجد أم هم أوجدوا أنفسهم؟! أي: لا هذا ولا هذا، بل الله هو الذي خلقهم وأنشأهم بعد أن لم يكونوا شيئًا مذكورًا)([10]). وبهذه الآية وغيرها أسلم جبير بن مطعم، فقد كان وقع دلالتها العقلية قويا على قلبه فإنه قال: (كاد قلبي أن يطير)، وتتبع هذا يحتاج إلى مجلد أو أكثر.
كان العلامة الصنعاني اليماني صارما في الاحتفاء بالعقل القرآني وتقديمه على غيره، حازما في انتقاد ما يخالفه، ويشهد على هذا كتابه “ترجيح أساليب القرآن على أساليب اليونان“، ولخص ذلك في مقدمته فقال: (الحمد لله الذي جمع بالقرآن العظيم لأهل الإسلام بين أصح العلوم وأوضحها في الأفهام، وأفضل الأعمال وأيسرها على الموفقين من الأنام، حيث أربى لما أودعه من البراهين العظام على فني المنطق والكلام، لما فيه من النفع العام للخواص والعوام، ولسلامته مما اشتملا عليه في الجليات من فضلات الكلام، وفي الخفيات من التعمق والأوهام، والمشي وراء الفلاسفة والمبتدعة في مداحض الأقدام)([11])، وزاد فوصفه بأنه (أجل نفعا وخطرا وقدرا وأثرا من جميع تصانيف المتقدمين المتعمقين، وتدقيق المتكلمين)([12]). وكان الصنعاني في ذلك كله مقررا اتباع (ما كان عليه السلف الصالح المتقدم الذين يصلح أن نجعلهم بيننا وبين الله تعالى)([13]).
العقل عند أهل الحديث:
للعقل مكانة لا ينبغي أن يخالف فيها أحد، وقد وجه القرآن الكريم إلى وجوب الاهتمام والاحتفاء به، واستعماله في أخطر المباحث وهي التوحيد وأدلة الوجود الإلهي، وأما مكانته في الإسلام فقد تولى بيانها ثلة من الأفاضل في مؤلفات خاصة، أشار إلى ستة من أهمها الدكتور حسني زينة في كتابه (العقل عند المعتزلة)، منها كتاب (الإسلام والعقل) للدكتور عبد الحليم محمود رحمه الله.
لا بد لكل مذهب أو فرقة من مصادر للتلقي، بها تتميز، ومنها تصدر في طروحاتها ومبادئها ومواقفها، وقد حاول العلامة عبد الرحمن المعلمي رحمه الله أن يلخص مصادر الإسلاميين مجملة في أربعة مصادر: العقل والكشف، والشرع والفطرة، وجعل الأوَّلين خلفيَّين والثانيَين سلفيين أي:
1- الشرع: والمقصود به كتاب الله تعالى وصحيح سنته عليه الصلاة والسلام، والإجماع الدال على أحدهما كما يقول الأصوليون، خصوصا في مسائل المعتقد، ولست أطيل في هذا وإن كان يحسن التوسع فيه قليلا في ما يخص حجية خبر الآحاد في العقائد عندهم خلافا لغيرهم.
2- الفطرة: فهي أصل الخلقة لقوله تعالى: {فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} [الروم: 30]، ويصل الأمر بالمعلمي إلى أن يجعلها مرادفة للعقل الصريح الذي يشترك فيه الجميع، أو يضيفه أحيانا إليها كقوله: (العقل الفطري)([14])، وأحيانا (العقل العادي)([15])، ويقصد به العقل في أصل خلقته بدون مشوشات أو تأثيرات خارجية.
حقيقة العقل في فكر المدرسة السلفية:
– (ع ق ل) كما يقول ابن فارس رحمه الله: (أصل واحد منقاس مطرد، يدل عُظْمُه على حُبْسَة في الشيء أو ما يقارب الحبسة، من ذلك العقل، وهو الحابس عن ذميم القول والفعل)([16]).
وحقيقة العقل من المباحث الكبرى التي اختلفت فيها الفرق بين مؤله ومهدر، واختار السلفيون له معنى خاصا حاولوا استخراج أسسه من الكتاب والسنة.
قال المعلمي: (كلمة العقل وقع فيها التدليس، فهناك العقل الفطري الصريح الذي لا التباس فيه، وهو الذي أعده الله تعالى ليبني عليه الشرع والتكليف، وهو الذي كان حاصلًا للأمم التي بعث الله تعالى فيها رسله وأنزل فيها كتبه، وهو الذي كان حاصلًا للصحابة ومن لعدهم من السلف، فهذا هو الذي يسوغ أن يقال: إن ما أثبته قطعًا فهو حق، ودون ذلك نظر متعمق فيه، مبني على تدقيق وتخرص ومقاييس يلتبس فيها الأمر في الإلهيات ويشتبه ويكثر الخطأ واللغط)([17]). فيظهر من كلام المعلمي أن العقل نوعان: عقل فطري صريح، وعقل متكلف متعمق.
أما الأول فهو العقل الذي يعتمده أتباع المدرسة السلفية، مستندين إلى منهجية القرآن والسنة في استعمال قياساته المنتجة الصحيحة، وأما العقل المتعمق فيما لا يعنيه ولا يقدر على الغوص فيه فهو المرفوض عندهم.. وهو أصل المتكلمين في مقالاتهم ومنهجهم العام.
لعل من أهم الأسئلة التي قد يطرحها كل باحث في المجال الكلامي والعقدي: ما مكانُ العقل في المنظومة العقدية السلفية؟ خصوصا وقد صنفت على أنها مدرسية نصوصية أو حرفية أو ظاهرية، لا مكان للعقل عندها في مجال العقيدة بمختلف مكوناتها عند المتكلمين: (الطبيعيات) و(الإلهيات) و(النبوات)، ولا محل للحجاج العقلي والجدل في مباحثهم ومناظراتهم وتقريراتهم للعقيدة، مع التنبيه على أن مجال الاتهام لهم كان ولا يزال أوسع من العقيدة، فقد اتُّهمت المدرسة السلفية بإهدار العقل وتعطيله مطلقا في كل شيء، وتفاوتت درجات التهم باختلاف الفرق المتهِمة، وهو ما دفع مخالفيهم قديما كالمعتزلة وحديثا كالأشاعرة إلى وصفهم بعدم الأهلية والقدرة على مواجهة خصوم الإسلام من باطنية ونصارى وفلاسفة، ووسموا منهجهم بالعجز عن المواجهة الفكرية لخصوم الملة، وقد دافعت المدرسة السلفية عن نفسها بشواهد الواقع في كتابات أعلامها، وبينت الجانب العقلاني في الفكر السلفي عند كبار منظريها، ولعل من أبرز مظاهره كما قال الدكتور مفرح القوسي: (1- نبذ التقليد، 2- استخدام الأقيسة العقلية في الاستدلالات الشرعية([18])، 3- اعتقادهم عدم وجود تعارض بين العقل والوحي)([19]).
ويوضح ابن تيمية موقف المدرسة السلفية من العقل بقوله: (اعلم أن أهل الحق لا يطعنون في جنس الأدلة العقلية، ولا فيما علم العقل صحته، وإنما يطعنون فيما يدعي المعارض أنه يخالف الكتاب والسنة)([20]). فجعل التعارض بينهما من دعاوى المخالفين خلافا لمدرسته التي لا ترى ذلك، وقوله: (لا يطعنون في جنس الأدلة) واضح في بيان موقفهم من العقل وأدلته ابتداء.
ويؤكد هذا الدكتور محمد عمارة فيقول: (لم ينكروه لأن السمعيات قد تحدثت عنه.. ولكنهم أنكروا العقل كما تصوره الفلاسفة اليونان ومن نحا نحوهم من علماء الإسلام وفلاسفته)([21]).
وأهم مظهرين من مظاهر موقفهم من تلك العلاقة أن العقل عندهم موافق للوحي ابتداء، وهو الأصل عندهم، ومنه يصدرون، ولذلك استعملوه بطريقة موازية للنصوص حين احتاجوا لذلك، وشهدوا بنتائجه لما دلت عليه نصوص الكتاب والسنة عندهم، فكانوا يرون أن العقل وسيلة شاهدة لا مقررة، فلم يستعملوا منهج المتكلمين في الاحتجاج والجدل به، بل ركنوا إلى المنهج القرآني في ذلك، واستخدموا قوالب الأقيسة القرآنية، والمقصود قياس الأولى في حق الله تعالى لا قياس الشمول ولا قياس التمثيل، يقول ابن تيمية رحمه الله: (وهذا النمط هو الذي كان عليه السلف والأئمة كالإمام أحمد وغيره من السلف يسلكونه من القياس العقلي في أمر الربوبية، وهو الذي جاء به القرآن)([22]).
ومن ذلك أنهم أثبتوا صفات لله تعالى بالعقل، وقد جعل ابن تيمية هذا القاعدة السابعة في كتابه العقيدة التدمرية([23]) فقال: (إن كثيرا مما دل عليه السمع يعلم بالعقل أيضا، والقرآن يبين ما يستدل به العقل، ويرشد إليه وينبه عليه). ثم ذكر من أمثلة ذلك: الحياة العلم والقدرة والإرادة والسمع والكلام والبصر، بل والحب والرضا والغضب، وكذلك علو الله تعالى، ونسب ذلك إلى الإمام أحمد([24])، بل أشار إلى إمكانية إثبات رؤية المؤمنين لربهم بالعقل فقال: (منهم من أثبتها بأن كل موجود تصح رؤيته، ومنهم من أثبتها بأن كل قائم بنفسه يمكن رؤيته، وهذه الطريق أصح من تلك)([25])، ويقول ابن القيم رحمه الله في الدارمي عن كتابيه الرد والنقض: (فيهما من تقرير التوحيد والأسماء والصفات بالعقل والنقل ما ليس في غيرهما)([26])، وفي خصوص صفة الكلام فقد أثبتها بعض نظار المدرسة كالإمام أحمد رحمه الله في كتابه (الرد على الزنادقة والجهمية)، قال ابن تيمة رحمه الله: (السلف والأئمة وغيرهم لهم في إثبات كونه متكلما طريقان، فإنهم يثبتون ذلك بالسمع تارة، وبالعقل أخرى كما يوجد مثل ذلك في كلام الإمام أحمد وغيره من الأئمة)([27]).
وقد اشتهر عند الدارسين كتاب كبير لابن تيمية في حجمه ومضمونه ومقصوده، وهو كتاب: (درء تعارض العقل والنقل)، ألفه ابن تيمية للرد على الفرق الثلاث المخالفة للمدرسة السلفية: (الفلاسفة) و(المعتزلة) و(الأشاعرة) خاصة، إذ هو مقرر للرد على قاعدة الرازي في تعارض العقل والنقل، وفحوى الكتاب ورسالته أنه لا تعارض بين صريح العقل وصحيح النقل.. ويقصد بالعقل العقل المطلق عن أن يقيد بشخص أو مدرسة.
مناظرات أهل الحديث للملل والنحل:
الرد على أهل الضلال سيرة جارية، فقد جادل الأنبياء ضلال قومهم، وتابعهم حواريوهم، واستقر أمر المحسنين على طريقتهم، قال الجويني بعد ذكر قوله تعالى: {قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [البقرة: 111]، وقوله عليه الصلاة والسلام: «يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله، ينفون عنه تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين»: (وهذه الألفاظ عموم في التوحيد والشريعة، وهي أيضا سيرة الرسل عليهم السلام مع أممهم، وسيرة رسولنا صلى الله عليه وسلم، وسيرة علماء الصحابة رضي الله عنهم بعده، ومن بعدهم من التابعين وأتباعهم إلى يومنا هذا، وعليه عادة العقلاء في أديانهم ومعاملاتهم ومعاشراتهم)([28]). فمحاججة أهل الباطل سنة مستمرة، وفّى حقَّها أهل الحديث في كل مرة اقتضاها الحال.
كان السلف الأوائل متفطنين لتسلل الشبه والعقائد الباطلة إلى مجتمعات المسلمين، وكانوا يتصدون لها بكل جدية وحزم، ويتصيدون كل متسللة خفية، فقد ناظر ابن عباس الخوارج، ورد ثلة عظيمة منهم إلى الحق، ونقض ابن عمر عقيدة نفي علم الله عند طائفة قدرية بصرية وتبرأ منهم، واحتج عليهم بحديث جبريل، واستمر الأمر على هذا بعدهم، وقام أهل الحديث بالحفاظ على هذه العادة، وأعجبني في هذا قول الدكتور علي الفقيهي رحمه الله في ردود أهل الحديث على الجهمية وغيرهم: (وردود السلف في القرون الأولى تعتبر أول رد على هذه النزعات في تاريخ الإسلام الذي توسع فيه من جاء بعدهم إلى عصر شيخ الإسلام ابن تيمية)([29]). فليس من الإنصاف إذن أن يقال: إن السلف ومن يليهم من الخلف المتبعين لهم بإحسان لم يتصدوا للبدع والضلالات بالتأليف والتصنيف، فشواهد التاريخ قائمة، فليس لزور التهمة محل ولا مقام.
كان أهل الحديث لا يظهرون الرد ولا ينشطون للمناظرة إلا إذا رأوا في ذلك تحقيقا لدفع مفسدة في دين الناس، وإلا فإنهم كانوا يؤثرون الكف عن ذلك منعا من إشهار أمر أهل البدع وبدعهم بين الناس، ولعدم قبولهم قواعد النظر التي يستعملها أولئك مما استجلبوه من الفلسفة اليونانية والهندية والفارسية وغيرها، وعندما ظهر قرن الجهمية واشتغل الزنادقة ببث الشبه والضلالات بين الناس، تصدّوا لهم بالتأليف والمناظرة، وصدوهم عن مقاصد الإفساد، وقد نقل العلماء مناظرات السلف لأهل البدع والديانات الباطلة، مثل أبي حنيفة والشافعي وأحمد وغيرهم، واعتبروا بذلك للشهادة لجواز المناظرة والجدل مع المخالفين، قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (والمقصود أن هذه الأمة -ولله الحمد- لم يزل فيها من يتفطن لما في كلام أهل الباطل من الباطل ويرده)([30])، فتأمل قوله: (يتفطن لما في أهل الباطل من الباطل ويرده)، فهو ملخّص لمقاصد هذه الورقة، فأهل الحديث والسنة عندهم تفطن لما تقتضيه مقالات أهل الزندقة والبدع، ومرد هذا إلى عقل متيقظ فطن منتبه، عارف بأصول الكلام ومعاقده ومآلاته ومنافذه، وعلى هذا ينبني رده لها وكشفهم بواطن الظواهر، ونقض على هدى من الله لكل بناء مقام على ضلالة، وهو قيام بواجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وقيام بواجب النصيحة للمؤمنين، وللدكتور بكر أبو زيد رحمه الله فصل لطيف ممتع في بيان أصل مشروعية الردود على أهل الضلالة، بل وجوبها، جعله مقدمة لكتابه “الردود“، وفيه تأصيل مفيد وتفريعات جيدة، أعجبها ما عرضه عن المنهج الحجاجي القرآني، فيحسن مراجعته.
تنوعت ردود أهل الحديث على الخارجين عن التوحيد والسنة بتنوع المردود عليهم، فردوا على الزنادقة والملاحدة، والجهمية والفلاسفة، والمتكلمين والمتصوفة، وعلى اليهود والنصارى، والسمنية والمجوس، وناقشوهم بالنقل والعقل، وناظروهم في المجالس أحسن مناظرة، فمن ذلك مناظرات الصحابة، مثل مناظرات ابن عباس رضي الله عنه للخوارج، وانتقاد ابن عمر رضي الله عنهما للقدرية الأولى نفاة علم الله تعالى، ومناظرات الشافعي للجهمية والمعتزلة، وردود الإمام أحمد والدارمي وابن قتيبة والبخاري وابن منده على الجهمية، وردود ابن تيمية وابن القيم على الروافض والقدرية والنصارى والفلاسفة والمنطقيين والمتصوفة والمتكلمين والباطنية، وتتبع هذا يحتاج إلى تصنيف خاص، ولا تزال الردود مستمرة إلى الآن والحمد لله، وينبغي أن تستمر.
علم الكلام الحنبلي:
وكما ذكرتُ: لستُ أنسى -إن شاء الله تعالى- سؤالي لأستاذي الدكتور جمال البختي في درس علم الكلام في كلية أصول الدين في تطوان عن استعمال أهل الحديث للعقل في ردودهم العلمية في مسائل العقيدة، فكان جوابه بإحالتي على كتاب “الرد على الزنادقة والجهمية” للإمام أحمد بن حنبل، وقال: “استعمل الإمام أحمد العقل القرآني“. وقد أثار هذا انتباهي حينها كثيرا، ورجعت إلى الكتاب فوجدت فيه شواهد ذلك، مثل نقده لدليل سبر وتقسيم فاسد، واعتماده على الاستقراء، وإفساده لقياسٍ ببيان الفارق، وتنبيهه على ما سماه “مغالطة“، وغير ذلك من العمليات العقلية المعروفة عند أهل هذا الشأن، ثم وقفت على شهادات الحنابلة في ذلك، منهم العلامة أبو يعلى فإنه قال: (وقد احتج أحمد رحمه الله بدلائل العقول في مواضع فيما خرجه في الرد على الزنادقة والجهمية)([31])، ثم ذكر أمثلة على ذلك، وقال ابن مفلح الحنبلي: (وقد صنف الإمام أحمد رحمه الله كتابا في الرد على الزنادقة والقدرية في متشابه القرآن وغيره، واحتج فيه بدلائل العقول)([32]).
وقد كان السلف ينهون عن المفاوضة بهذه المسالك، لكنهم فعلوا ذلك درءًا للمفسدة، حتى تبين لهم أن الكلام صار واجبا، وعلى هذا مذهب الحنابلة، ففي الآداب الشرعية لابن مفلح: (ما تمسك به الأولون من قول أحمد فهو منسوخ، قال أحمد في رواية حنبل: قد كنا نأمر بالسكوت، فلما دعينا إلى أمر ما كان بد لنا أن ندفع ذلك ونبين من أمره ما ينتفي عنه ما قالوه، ثم استدل لذلك بقوله تعالى: {وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [النحل: 125]، وبأنه قد ثبت عن رسله الجدال، ولأن بعض اختلافهم حق وبعضه باطل، ولا سبيل إلى التمييز بينهما إلا بالنظر، فعلمت صحته)([33])، وفيه أيضا: (ووجدت في كتاب لولد ولد القاضي أبي يعلى ذكر فيه خلافا في المذهب، وكلام أحمد في ذلك، قال: والصحيح في المذهب أن علم الكلام مشروع مأمور به، وتجوز المناظرة فيه والمحاجة لأهل البدع، ووضع الكتب في الرد عليهم، وإلى ذلك ذهب أئمة التحقيق القاضي والتميمي في جماعة المحققين)([34]),
وعلى هذا النهج سار شيخ الإسلام، فانبرى لخصوم التوحيد والسنة بالنقد والنقض، وتوسع في ذلك كثيرا.
ابن تيمية وعلم الكلام:
من الأمور المثيرة في كلام ابن تيمية حرصه على تقييد علم الكلام الذي يرده بالمذموم، والقيد روح الكلام، وهذا التقييد أمارة على أن ثم علمَ كلام آخر محمودًا عنده، وهو الذي استعمله في جل كتبه، فبه ناظر الفلاسفة والمتكلمين، والمتصوفة والنصارى، واليهود والباطنية وغيرهم([35])، ومن واضح عباراته في ذلك قوله: (فإن جميع هؤلاء دخلوا في الكلام المذموم الذي عابه السلف وذموه)([36])، وقوله: (وهذا كثيرا ما يقع في كلام أهل الكلام المذموم، يطولون في الحدود والأدلة)([37])، وقوله: (طريق الجهمية والمعتزلة ونحوهم من أهل الكلام المذموم -عند السلف المحدث في الإسلام وهم الذين ابتدعوا هذه الطريقة والاستدلال بها- والتزام لوازمها والتفريع عليها، وإن كان قد شركهم في ذلك قوم من غير المسلمين أو سبقوهم إلى ذلك، سواء كانوا من الصابئين أو اليهود أو غيرهم… وهذه وأمثالها هي من الكلام الذي اتفق سلف الأمة وأئمتها على ذمه والنهي عنه، وتجهيل أصحابه وتضليلهم، حيث سلكوا في الاستدلال طرقا ليست مستقيمة، واستدلوا بقضايا متضمنة للكذب، فلزمهم بها مسائل خالفوا بها نصوص الكتاب والسنة، وصرائح المعقول، فكانوا جاهلين كاذبين ظالمين في كثير من مسائلهم ووسائلهم، وأحكامهم ودلائلهم)([38])، وهذا من أجمع نصوص ابن تيمية في هذا.
ومن المواضع المهمة في تراث ابن تيمية مما يجلي حقيقة موقفه تأصيلا وعملا نقله عن ابن عساكر من “تبيين كذب المفتري” كلامه في ذم السلف لعلم الكلام، وألطف ما في ذلك أن ابن عساكر فرق بين “علم كلام مذموم” و”علم كلام محمود“، موافقا في ذلك البيهقي، وقد نقل ابن تيمية كلامه ولم ينتقده من هذا الوجه، فالظاهر أنه موافق له ومعتمد، ومن ذلك توجيه ذم الشافعي لعلم الكلام فإنه قال: (إنما عنى الشافعي الكلام البدعي)([39])، فدل على وجود “علم كلام سني”، ومن ذلك أيضا قوله: (فأما الموافق للكتاب والسنة، الموضح لحقائق الأصول عند الفتنة، فهو محمود عند العلماء)([40])، وهذا صريح في التنويع، وأصرح منه قول البيهقي: (وفي كل هذا دلالة أن الكلام المذموم إنما هو كلام أهل البدع الذي يخالف الكتاب والسنة، فأما الكلام الذي يوافق الكتاب والسنة، ويبين بالعقل والعبرة، فإنه محمود مرغوب فيه عند الحاجة، تكلم فيه الشافعي وغيره من أئمتنا رضي الله عنهم)([41]). وهذا تأصيل حسن جدا، ووجه الشهادة من هذا أن ابن تيمية نقله معتمدا عليه، وهو الموافق لتصرفاته في مصنفاته.
ومما يبين موقف ابن تيمية في هذا من صريح كلامه قوله ردًّا على من حمل ذم العلماء لعلم الكلام على الإطلاق، وأن مشروعية الجدل في القرآن منسوخة بآية السيف: (وطائفة تظنّ أنّ الكلام الذي ذمّه السلف هو مطلق النظر والاحتجاج والمناظرة، ويزعم من يزعم من هؤلاء أنّ قوله: {وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [العنكبوت: 46]، و{وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [النحل: 125] منسوخٌ بآية السيف وهؤلاء أيضا غالطون؛ فإن الله تعالى قد أخبر عن قوم نوح، وإبراهيم بمجادلتهم للكفار؛ حتى: {قَالُوا يَا نُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا} [هود: 32]، وقال عن قوم إبراهيم: {وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ} [الأنعام: 80]، إلى قوله: {وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ} [الأنعام: 83]، وذكر محاجة إبراهيم للكافر، والقرآن فيه من مناظرة الكفار، والاحتجاج عليهم ما فيه من شفاء وكفاية)([42]).
علم الكلام الجديد:
هناك حديث اليوم عن “علم كلام جديد“، تولاه طائفة من الباحثين في الفكر الكلامي والأشعري خاصة، وقد صدرت مؤلفات حاول فيها أصحابها وضع أصول هذا العلم الجديد، بربطه بقديمه، وربما تجاوزه، وهم من توجهاتٍ ومدراسَ مختلفة، بل متناقضة أحيانا، وتختلف مقاصدهم من ذلك باختلاف انتماءاتهم الفكرية، فهناك من يريد علم كلام جديد لمواجهة الإلحاد والباطنية الجديدة والعلمانية وأخواتها، وهناك من يريده لتصفية حسابات طائفية مذهبية، وهناك من يريد به أن ينتقد الإسلام نفسه في مصادره وأصول تراثه، وإنما يهمني الطائفة الأولى، وجلهم ينتمون إلى المدرسة السلفية، وهذا أمر لافت للنظر، فجلّ ما يقبل الناس على مطالعته هي مؤلفات باحثين صرّحوا بأنهم على منهج الصحابة في العلم والعمل، وهؤلاء مشتغلون بنقد ونقض أصول المذاهب الباطلة وتزييف عقائدها، وتفسير الشبه التي يصدرونها للناس، وكثير من المنتسبين للمذاهب الكلامية -خاصة من المنتسبين في زعمهم للأشعري- منشغلون بنقد المدرسة السلفية!
يعتمد علم الكلام الجديد على توظيف كل النظريات العلمية والفكرية الموضوعة لمواجهة الإلحاد بإعادة تدويرها وصياغتها صياغة إسلامية، مثل نظرية “الانفجار الكبير“، ونظرية “التصميم الذكي” التي ابتدعها المؤمنون بالخلق في الولايات المتحدة الأمريكية، وهي نظرية ملائمة لطريقة النظر في المخلوقات التي استعملها العلماء المسلمون المتقدمون، ورجع إليها بعض كبار المتكلمين، كما يعتمد على طرق حديثة للحجاج وكشف المغالطات، ولذلك يحسن بالمشتغلين بالرد على الإلحاد والمذاهب الحديثة أن يستوعبوا هذه المناهج والنظريات، مع مراعاة الحدود العقلية والشرعية في ذلك، وهذا يحتاج إلى إستراتيجية موضوعة بعناية فائقة، تقوم على صياغتها مراكز بحثية ومؤسسات علمية، والله الموفق للحق.
وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.
ـــــــــــــــــــــــــــ
(المراجع)
([1]) مقدمة ابن خلدون، تحقيق حامد الطاهر، دار الفجر للتراث، الطبعة الثانية، 1431هـ، 2010م (ص: 551).
([2]) مقدمة ابن خلدون (ص: 561).
([3]) إحصاء العلوم، تحقيق علي بوملحم، دار ومكتبة الهلال، الطبعة الأولى، 1996م (ص: 76).
([4]) المنقذ من الضلال، دار الرشاد الحديثة، الطبعة الأولى، 1423هـ – 2003م (ص: 38-39).
([5]) درء تعارض العقل والنقل -جامعة الإمام محمد بن سعود- (1/ 43).
([6]) درء تعارض العقل والنقل (1/ 44).
([7]) الكافية في الجدل (ص: 28).
([9]) منشور بـ”مجلة علوم الشريعة والدراسات الإسلامية”.
([10]) تفسير ابن كثير -دار طيبة- (7/ 437).
([11]) ترجيح أساليب القرآن على أساليب اليونان (ص: 7).
([14]) القائد إلى تصحيح العقائد -المكتب الإسلامي- (ص: 150). ولا بد هنا من التفرقة بين هذا العقل الفطري وبين الذي يقصده الأنثروبولجي الفرنسي لوسيان ليفي بريل Lucien Lévy-Bruhl من العقل البدائي La Mentalité primitive فإنه يقصد به العقل الفوضوي الذي لا يضبط تفكيره شيء كما زعم، وقد خالفه ثلة من بني جلدته.
([15]) القائد إلى تصحيح العقائد (ص: 38).
([16]) مقاييس اللغة -دار إحياء التراث العربي- (ص: 647).
([17]) القائد إلى تصحيح العقائد (ص: 201).
([18]) يجدر التنبيه هنا على أن المقصود بالدليل الشرعي ما هو أعم من الدليل النصي، فإنه يدخل تحته أيضا الدليل العقلي الموجه بالوحي أيضا.
([19]) الموقف المعاصر من المنهج السلفي في البلاد العربية (ص: 164-165).
([20]) در تعارض العقل والنقل -دار الكتب العلمية- (1/ 112).
([22]) شرح الأصفهانية -مكتبة الرشد- (ص: 97).
([23]) التدمرية -المكتب الإسلامي- (ص: 93).
([26]) اجتماع الجيوش الإسلامية (ص: 231).
([27]) شرح الأصفهانية (ص: 96).
([28]) الكافية في الجدل -مكتبة الكليات الأزهرية- (ص: 23).
([29]) الرد على الجهمية، لابن منده، مقدمة المحقق -مكتبة الغرباء- (ص: 5).
([30]) مجموع الفتاوى (9/ 233).
([31]) العدة في أصول الفقه -تحقيق المباركي- (4/ 1273).
([32]) الآداب الشرعية -الرسالة- (1/ 227).
([33]) الآداب الشرعية (1/ 227).
([34]) الآداب الشرعية (1/ 226).
([35]) انظر: موقف شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله من علم الكلام، لنجلاء عبد الله مليباري، رسالة دكتوراه بجامعة أم القرى بمكة المكرمة، 2021م، وموقف مدرسة أهل الحديث من علم الكلام، ابن تيمة أنموذجا، مقال للدكتور عبد الرحمن طيبي، منشور بمجلة “المنهل”، المجلد 04، العدد 01.
([36]) النبوات -أضواء السلف- (2/ 632).
([37]) درء تعارض العقل والنقل -دار الكنوز الأدبية- (2/ 48).
([39]) درء تعارض العقل والنقل (7/ 245).
([40]) درء تعارض العقل والنقل (7/ 248).