حديث سِحر النبي صلى الله عليه وسلم | وشبهات معارضيه
من العجائب – والعجائب جمّة – أن تُرَدَّ أحاديث ثابتة بل في أعلى درجات الصحة بسبب فهم مغلوط لبعضهم أو توهّم غير صحيح، أو معارضة متمحّلة، أو بسبب إثارة شبهات تصاغ بأوجه مختلفة.
ومن هذه الأحاديث الصحيحة التي كثر الشغب عليها: حديث سحر اليهودي لبيد بن الأعصم للنبي صلى الله عليه وسلم، وهذا الحديث متفق على صحته من حديث عائشة رضي الله عنها، قالت: سَحَرَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم رَجُلٌ مِنْ بَنِي زُرَيْقٍ، يُقَالُ لَهُ: لَبِيدُ بْنُ الأَعْصَمِ، حَتَّى كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُخَيَّلُ إِلَيْهِ أَنَّهُ كَانَ يَفْعَلُ الشَّيْءَ وَمَا فَعَلَهُ، حَتَّى إِذَا كَانَ ذَاتَ يَوْمٍ أَوْ ذَاتَ لَيْلَةٍ وَهُوَ عِنْدِي، لَكِنَّهُ دَعَا وَدَعَا، ثُمَّ قَالَ: «يَا عَائِشَةُ، أَشَعَرْتِ أَنَّ اللَّهَ أَفْتَانِي فِيمَا اسْتَفْتَيْتُهُ فِيهِ، أَتَانِي رَجُلاَنِ، فَقَعَدَ أَحَدُهُمَا عِنْدَ رَأْسِي، وَالآخَرُ عِنْدَ رِجْلَيَّ، فَقَالَ أَحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ: مَا وَجَعُ الرَّجُلِ؟ فَقَالَ: مَطْبُوبٌ([1])، قَالَ: مَنْ طَبَّهُ؟ قَالَ: لَبِيدُ بْنُ الأَعْصَمِ، قَالَ: فِي أَيِّ شَيْءٍ؟ قَالَ: فِي مُشْطٍ وَمُشَاطَةٍ([2])، وَجُفِّ طَلْعِ نَخْلَةٍ ذَكَرٍ. قَالَ: وَأَيْنَ هُوَ؟ قَالَ: فِي بِئْرِ ذَرْوَانَ». فَأَتَاهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي نَاسٍ مِنْ أَصْحَابِهِ، فَجَاءَ فَقَالَ: «يَا عَائِشَةُ، كَأَنَّ مَاءَهَا نُقَاعَةُ الحِنَّاءِ، أَوْ كَأَنَّ رُؤوسَ نَخْلِهَا رُؤوسُ الشَّيَاطِينِ» قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ: أَفَلاَ اسْتَخْرَجْتَهُ؟ قَالَ: «قَدْ عَافَانِي اللَّهُ، فَكَرِهْتُ أَنْ أُثَوِّرَ عَلَى النَّاسِ فِيهِ شَرًّا» فَأَمَرَ بِهَا فَدُفِنَت([3]).
والمراد بالحديث: أنه كان صلى الله عليه وسلم يخيّل إليه أنه وطئ زوجاته ولم يكن فعل ذلك، وهذا كثيرًا ما يقع تَخيُّله للإنسان في المنام، فلا يبعد أن يُخيَّل إليه في اليقظة([4])، ويشهد لهذا المعنى ما ورد عند البخاري بلفظ: «حَتَّى كَانَ يَرَى أَنَّهُ يَأْتِي النِّسَاءَ وَلَا يَأْتِيهِنَّ»([5]). وعند الحميدي بلفظ: «يُخَيَّلَ إِلَيْهِ أَنَّهُ يَأْتِي أَهْلَهُ وَلَا يَأْتِيهِمْ»([6]).
وقد أنكر بعض المبتدعة قديما هذا الحديث([7])، واعتاص على كثير من أهل الكلام وغيرهم، وأنكروه أشد الإنكار وقابلوه بالتكذيب، وصنف بعضهم فيه مصنفًا مفردًا([8])، وتبعهم على ذلك طوائف من العقلانيين المعاصرين، ومن انطلى عليه بعض ما ذكروه من الشبهات حوله، ولو ردُّوها إلى أهل العلم لانجلت عنهم الغمة، ولَعلِموا حقيقة أمرها، ولو أنهم رجعوا إلى شروح الحديث لزال عنهم اللَّبس، قال تعالى: ]وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ[ [النساء: 83]
وجملة ما تعلقوا به في إنكارهم ثلاثة أمور:
الأول: رد الحديث؛ لأنه من رواية هشام بن عروة، وكان في العراق يرسل عن أبيه عروة بن الزبير ما سمعه من غيره.
والجواب عن هذا: أن كلامهم هذا “مردود عند أهل العلم؛ فإن هشامًا من أوثق الناس وأعلمهم، ولم يقدح فيه أحد من الأئمة بما يوجب ردَّ حديثه، فما للمتكلمين وما لهذا الشأن؟ وقد رواه غير هشام عن عائشة رضي الله عنها، وقد اتفق أصحاب الصحيحين على تصحيح هذا الحديث، ولم يتكلم فيه أحد من أهل الحديث بكلمة واحدة، والقصة مشهورة عن أهل التفسير والسنن والحديث والتاريخ والفقهاء، وهؤلاء أعلم بأحوال رسول الله صلى الله عليه وسلم وأيامه من المتكلمين”([9]).
الثاني من دعاويهم: أنه تنكره حجة العقل والنظر([10])، وذلك أن هذا الحديث -بزعمهم- يحط من منصب النبوة ويشكك فيها، وكل ما أدى إلى ذلك فهو باطل، وزعموا أن تجويز هذا يزعزع الثقة بما شرعه من الشرائع، فلعله يُخيَّل إليه جبريل – عليه السلام – وليس ثمَّ ما يراه، أو أنه أوحى إليه وما أُوحي إليه.
والجواب عن هذا من وجوه:
- أنه باطل؛ وذلك أن الدليل قد قام على صدقه صلى الله عليه وسلم فيما يبلغه عن الله سبحانه، وعلى عصمته فيه، والمعجزة شاهدة بصدقه، وتجويز ما قام الدليل على خلافه باطل([11]).
- أن ما أصابه عليه الصلاة والسلام من السحر لم يترتب عليه شيء مما يُخِلُّ بالرسالة ويقدح بالنبوة، والله -جل وعلا- عصمه من الناس مما يمنع وصول الرسالة وتبليغها، وعصمه من القتل، كما جاء في تفسير الآية: ]وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ[ [المائدة: 67]([12]).
أما ما يصيب الرسل من أنواع البلاء فإنه لم يُعصم منه عليه الصلاة والسلام، فقد ثبت أنه جُرح يوم أحد، وكُسرت رباعيته، ودخلت في وجنتيه بعض حلقات الـمِغفر، وسقط في بعض الحفر التي كانت هناك، وقد ضيَّقوا عليه في مكة تضييقًا شديدًا، وأصابه عليه الصلاة والسلام شيء مما أصاب الرسل قبله، ومما كتبه الله عليه، ورفع الله به درجاته، وأعلى به مقامه، وضاعف به حسناته، ولكن الله عصمه منهم، فلم يستطيعوا قتله ولا مَنْعَه من تبليغ الرسالة، ولم يَحُولوا بينه وبين ما يجب عليه من البلاغ، فقد بلَّغ الرسالة وأدى الأمانة صلى الله عليه وسلم حتى قبضه الله تعالى إليه([13]). وكذلك ما أصابه عليه الصلاة والسلام لم يُنْزِل من مكانته وقدره شيئًا، كما لم يؤثِّر على شيء من الوحي.
- والحقيقة التي لا مرية فيها: أن ما حصل لنبينا صلى الله عليه وسلم من السحر إنما هو عرض من الأعراض التي تجوز في حق الأنبياء، قال القاضي عياض: “وإنما السحر مرض من الأمراض وعارض من العلل يجوز عليه كأنواع الأمراض مما لا يُنكر ولا يقدح في نبوته، وأما ما ورد أنه كان يُخيَّل إليه أنه فعل الشيء ولا يفعله، فليس في هذا ما يدخل عليه داخلة في شيء من تبليغه أو شريعته أو يقدح في صدقه؛ لقيام الدليل والإجماع على عصمته من هذا، وإنما هذا فيما يجوز طُرُوُّهُ عليه في أمر دنياه التي لم يبعث بسببها، ولا فُضِّلَ من أجلها، وهو فيها عرضة للآفات كسائر البشر، فغير بعيد أن يُخيَّل إليه من أمورها ما لا حقيقة له، ثم ينجلي عنه كما كان”([14]).
الثالث مما اعترضوا به على الحديث: أنه مؤيِّد لاتهام الكفار والمشركين للنبي صلى الله عليه وسلم، كما أخبر الله عنهم بقوله تعالى: ]وَقَالَ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُورًا[ [الفرقان: 8]. فزعموا أنهم لو قالوا بصحة الحديث لوافقوا المشركين في هذه الدعوى.
والجواب عن هذا: أنه كلام مردود؛ لأن الكافرين أرادوا بقولهم هذا أن رسول الله عليه الصلاة والسلام إنما يَصدُر عن خبال وجنون في كل ما يقول ويفعل، وفيما يأتي وما يذَر؛ لأنه مسحور أو مطبوب، قد خبله السحر فاختلط عقله والتبس عليه أمره، وأنه ليس رسولًا، ولم يُوحَ إليه شيء، وأن القرآن ليس من عند الله، وإنما هو خيالُ مسحور، وانفعال مجنون، وبناء عليه ليس علينا تصديقه ولا اتباعه. وهم يقولون ذلك لتنفير الناس عنه.
ودعوى المشركين هذه خلاف ما دل عليه الحديث من أن النبي صلى الله عليه وسلم سُحِر أيامًا، فليس هذا تصديقًا للمشركين، ولا موافقة لهم فيما أرادوا وقصدوا؛ لأن الذي ورد في الحديث وتناوله شُرّاحه غير الذي أراده هؤلاء الظالمون. قال العلامة محمد الأمين الشنقيطي رحمه الله: “…وإذا علمت أن أقوال العلماء في قوله ]مَسْحُورًا[ راجعة إلى دعواهم اختلال عقله بالسحر أو الخديعة، أو كونه بشرًا علمت أنه لا دليل في الآية على منع بعض التأثيرات العرَضية التي لا تعلُّق لها بالتبليغ والتشريع كما ترى، والعلم عند الله تعالى”([15]).
والخلاصة: أن الحديث صحيح تلقاه الأئمة بالقبول، وأنه لا يتعارض مع مقام النبوة، وأن الله جل وعلا يحفظ نبيه ويعصمه من أن يؤثّر السحر أو غيره من الأعراض في تبليغ رسالة ربه.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه.
([1]) مطبوب: أي مسحور. فتح الباري (1/145).
([2]) المشاطة: الشعر الذي يسقط من الرأس واللحية عند تسريحه بالمشط. الديباج على صحيح مسلم بن الحجاج (5/207).
([3]) رواه البخاري (3268)، ومسلم (2189).
([7]) ينظر: المعلم (3/ 159)، وممن رد الحديث الشيخ محمد عبده في تفسير جزء عم.
([8]) ينظر: التفسير القيم (ص: 630).
([10]) ينظر: تأويل مختلف الحديث لابن قتيبة (ص: 177).
([11]) ينظر: المعلم بفوائد مسلم (3/ 159).
([12]) ينظر “معالم التنزيل” للبغوي (3/79)، و”اللباب في علوم الكتاب” لابن عادل الحنبلي (7/1837).
([13]) ينظر “مجموع فتاوى ومقالات متنوعة” للشيخ ابن باز (8/150).
([14]) الشفا بتعريف حقوق المصطفى (2/181). وانظر زاد المعاد (4/113).