الدَوْلَةُ الأُمَوَيَّة والسنَّة النَّبويَّة (20)
للتحميل كملف PDF اضغط هــنــا
مقدمة
تحتلُّ السنَّة النَّبويَّة منزلةً عظيمةً في نفوس المسلمين، فهي مصدر التشريع الثاني، وهي كلام رسول الله صلَّى اللهُ علَيهِ وسَلَّم المبيِّنِ لكلام الله تعالى مصدرِ التشريعِ الأوَّل، والشارح له أيضًا كما قال تعالى: ﴿وَأَنزَلنا إِلَيكَ الذِّكرَ لِتُبَيِّنَ لِلنّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيهِم وَلَعَلَّهُم يَتَفَكَّرونَ﴾ [النحل: ٤٤]، ولا يكتمل فهم الإسلام بل لا يصحُّ فهمه على الوجه الحق إلا بالسنَّة.
وهذا الأمر هو ما جعلها غرضا لسهامِ المشكِّكين والمغرضين قديما وحديثا، لتهوينها وإضعاف هيبتها في النفوس.
ومن تلك السِّهام القديمة الحديثة الموجَّهة إلى السنَّة النبوية ادِّعاء أنَّ الدَّولَة الأُمويَّة التي أشرفت على تدوين الحديث النبوي استغلَّت منصبها ووضعت بعض الأحاديث النبوية؛ لتدعم سلطانها وتضفي المشروعية الدينية على نظامها، وتُقصِي شيعة آل البيت، وتقرِّب العلماء الموالين لهم المعاونين لهم في ذلك؛ كالصَّحابي الجليل أبي هُريرة رضِيَ اللهُ عَنه، والإمام الزهري رحمه الله في وضع الأحاديث؛ حيث اتُّهِم الزهري الذي أشرف على عملية تدوين جانب كبير من السنَّة بمجاملة بني أُمَيَّة، وإجازَتهم بأحاديث وضعوها، فقد جاءه رجل منهم يقال له إبراهيمُ بن الوليد وعرض عليه كتابا وقال: “أحدِّث بهذا عنك يا أبا بكر؟” قال له: “إي لعمري، فمن يحدِّثكُموه غيري!” وأنه وضع حديث لا تشد الرحال؛ بغيةَ صرف الناس عن الحج أثناء صراع عبد الملك مع ابن الزبير! حتى أن الزهري اعترف بذلك فقال -على حد زعمهم-: “إن هؤلاء الأمراء أكرهونا على كتابة أحاديث”.
وقد أسس لهذه الشبهة: المستشرق اليهودي (جولد زيهر)، الذي تعدُّ كتاباته مرجعًا هامًّا للمستشرقين في العصر الحديث، وتَأثَّر به كثير من الذين يُخدعون بالبحث العلمي والموضوعية المتوهَّمة عند هؤلاء المستشرقين؛ كأحمد أمين صاحب سلسلة فجر الإسلام وضحى الإسلام وظهر، ومحمود أبو رية صاحب كتاب أضواء على السنَّة، وغيرهما.
فكانت هذه الورقة للكشف عن عوار هذه الشبهة، وإثبات حفظ الله لدينه وشِرعَتِه التي بيَّنها نبيُّه عليه الصَّلاة والسلام.
تمهيد:
قبل أن نجيب عن هذه الشبهات لا بد أن ننطلق من أصلٍ ثابت، وهو أنَّ السنَّة من الذِّكر الذي تكفَّل الله بحفظه كما في قوله تعالى: ﴿إِنّا نَحنُ نَزَّلنَا الذِّكرَ وَإِنّا لَهُ لَحافِظونَ﴾ [الحجر: ٩]، حيث إن الذكر يشمل الكتاب والسنَّة كما قال تعالى ﴿وَأَنزَلنا إِلَيكَ الذِّكرَ لِتُبَيِّنَ لِلنّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيهِم وَلَعَلَّهُم يَتَفَكَّرونَ﴾ [النحل: ٤٤].
ويؤكد هذا: أنَّ الله تعالى أمر بالردِّ إليه تعالى وإلى رسوله صلَّى اللهُ علَيهِ وسَلَّم عند النِّزاع، والردُّ إلى الرسول صلَّى اللهُ علَيهِ وسَلَّم بعد وفاته: هو الردُّ إلى سنته، هذا فضلا عن عشرات الآيات التي تأمر بطاعة الرسول صلَّى اللهُ علَيهِ وسَلَّم.
ومن المحال أن يحيلنا الله تعالى على أصل يعلم زواله أو تحريفه بالكلية كما يزعم المغرضون، فإنهم يزعمون أن أصحَّ الكتب التي بأيدينا قد تأثرت بأهواء السَّاسة والملوك، ووضَعها الرُّواة نفاقًا ومجاملةً لهم، فكيف بما دونها من الكتب؟!
إن هذا المسلك يؤدِّي إلى إلغاء اعتبار السنَّة النَّبويَّة التي هي بمنزلة القرآن -تشريعا لا تشريفا- كما في الحديث “ألا إني أوتيت الكتاب ومثله معه”([1])، فهي مبيِّنة لمجمله، ومخصِّصة لعامّه، ومقيِّدة لمطلقه، وتستقلُّ بالتشريع، على ما هو مبيَّن في كتب أصول الفقه.
ولننطلق الآن في كشف تهافت هذه الشبهة، وفي سبيل ذلك سنطرح سؤالين رئيسيَّيْن تَنظِم لنا عِقد هذا البحث، وتُجلِّي لنا انعدام موضوعية هذه الدعوى وتهافتها، وهما:
- هل كان بنو أُمَيَّة بهذا السوء والنفاق حتى يأمروا العلماء بالكذب على النَّبي صلَّى اللهُ علَيهِ وسَلَّم؟!
- هل كان العلماء حينها -وفيهم بعض الصحابة رضِيَ اللهُ عَنهم بهذا الضعف حتى يطاوعوهم جميعًا دون إنكارِ أحدٍ منهم؟ ولماذا لم يُتدارك الأمر بعد زوال حكم بني أُمَيَّة إن حصل؟
وقد آن الأوان لتفصيل القول في هذين الجانبين ولنبدأ بالجانب الأول:
بنو أُمَيَّة في ميزان العدل:
تَعرَّض تاريخُ بني أُمَيَّة لِكَمٍّ هائل من التشويه والتحريف وتضخيم السلبيات وإغفال الإيجابيات، وهذا نِتاجٌ طبيعي لكون أغلب التاريخ كُتب في زمن خصومهم العباسيين، والتاريخ يكتبه المنتصر -كما يقولون- وامتلأت كتب الأدب والتواريخ بأخبار كثيرة تُنوقلت دون تحقيق، ساهمت في رسم صورة ذهنية غير حقيقية عن طبيعة دولة بني أُمَيَّة.
ولكن دعنا نبدأ بحثنا بالتنقيب عن مؤسِّس هذه الدَّولَة لننتقل بعد إلى ملوكها الذين خلفوه.
حال مؤسِّس الدَّولَة الأُمويَّة:
مؤسس الدَّولَة الأُمويَّة هو مُعاوِيَة بن أبي سُفيَان رضِيَ اللهُ عَنه، وهو صحابيٌّ جليل، وأحد كَتَبَة الوحي للنبي صلَّى اللهُ علَيهِ وسَلَّم، وخالُ المؤمنين وأميرُهم، أسلَم قبل فتح مكة وقت عمرة القضاء وأخفى إسلامه إلى فتح مكة([2])، وحسن إسلامه بالاتفاق، ودعا له النَّبي صلَّى اللهُ علَيهِ وسَلَّم فقال: “اللهم علم مُعاوِيَة الكتاب والحساب وقه العذاب”([3]).
روى عنه كثير من الصحابة؛ كابن عباس وجرير والنعمان بن بشير، ومن التابعين ابنُ المسيب وعروة بن الزبير وابن سيرين وغيرهم.
وكان عاقلًا في دنياه حاكمًا قويًّا جيدَ السِّياسة تحبُّه رعيَّته واجتمعُوا عليه، مشهورا بالحلم والكرم والرأي والحزم، يقول عنه شيخ الاسلام رحمه الله: “فلم يَكن مِن مُلوك المسلمين ملِكٌ خيرٌ من مُعاوِيَة إذا نسبت أيامُه إلي أيام مَن بعده أما إذا نسبت أيامه إلي أيام أبي بكر وعمر ظهر التفاضل” وقال أيضا: “ومُعاوِيَة ممن حسن إسلامه باتفاق أهل العلم؛ ولهذا ولَّاه عمر بن الخطاب -رضِيَ اللهُ عَنه- موضعَ أخيه يزيد بن أبي سُفيَان لما مات أخوه يزيد بالشام، وكان يزيد بن أبي سُفيَان من خيارِ الناس، وكان أحد الأمراء الذين بعثهم أبو بكر وعمر لفتح الشام: يزيد بن أبي سُفيَان، وشرحبيل بن حسنة، وعمرو بن العاص، مع أبي عبيدة بن الجراح، وخالد بن الوليد، فلما توفي يزيد بن أبي سُفيَان ولَّى عمرُ بن الخطاب مُعاوِيَةَ مكانه، وعمرُ لم يكن تَأخذه في الله لومةُ لائم، وليسَ هو ممَّن يُحابِي في الولاية، ولا كان ممَّن يحب أبا سُفيَان أباه، بل كان من أعظم الناس عداوة لأبيه أبي سُفيَان قبل الإسلام، حتى إنه لما جاء به العباس يوم فتح مكة كان عمر حريصا على قتله، حتى جرى بينه وبين العباس نوع من المخاشنة بسبب بغض عمر لأبي سُفيَان، فتولية عمر لابنه مُعاوِيَة ليس لها سبب دنيوي، ولولا استحقاقه للإمارة لما أمَّره”([4]).
وقد قادَ أوَّل حملةٍ بحريةٍ شبَّه الرسول صلَّى اللهُ علَيهِ وسَلَّم قادتَها بالملُوك على الأَسِرَّة، فعن أمِّ حرام رضِيَ اللهُ عَنها مرفوعًا: “ناسٌ من أمتي عُرِضُوا عليَّ غُزاةً في سبيل الله يركبون ثَبَج هذا البحر ملوكًا على الأَسِرَّة”([5]) وبتولِّيه حَصل الاجتماعُ وقَوِيت الشَّوكة، وامتدَّت بلاد المسلمين شرقًا وغربًا، ولولا الفتنةُ التي جرت بينه وبين عليٍّ وأصحابه لما ذكره أحد إلا بخير.
موقفه من عليٍّ رضِيَ اللهُ عَنهما:
لم يكن مُعاوِيَة رضِيَ اللهُ عَنه يشكُّ في فضل علي رضِيَ اللهُ عَنه عليه، كما ذكر ذلك عنه ابن كثير حيث يقول: “وقد وَرَد من غير وجه: أنَّ أبا مسلم الخولاني وجماعة معه دخلوا على مُعاوِيَة فقالوا له: هل تُنازع عليًّا أم أنت مِثله؟ فقال: والله إنِّي لأعلم أنه خيرٌ مني وأفضل، وأحقُّ بالأمرِ منِّي”([6])، ونَقَل ابنُ كثير أيضًا عن جرير بن عبد الحميد عن مغيرة قال: “لما جاء خبرُ قتلِ عليٍّ إلى مُعاوِيَة جعلَ يَبكِي، فقالت له امرأتُه: أتَبكِيه وقد قَاتلته؟ فقال: ويحكِ إنكِ لا تدرين ما فقد الناس من الفضلِ والفقهِ والعلمِ”([7]).
ولم يثبت بسندٍ صحيح سبُّ مُعاوِيَة لعليٍّ رضِيَ اللهُ عَنهما، يقول القرطبي رحمه الله تعالى: “يبعد على مُعاوِيَة أن يصرِّح بلَعنِه وسبِّه؛ لِما كان مُعاوِيَة موصوفاً به من العقل والدين، والحلم وكرم الأخلاق، وما يُروى عنه من ذلك فأكثره كذبٌ لا يصحُّ، وأصحُّ ما فيها قولُه لسَعد بنِ أبي وقَّاص: (ما يمنعك أن تسبَّ أبَا تُراب؟) وهذا ليس بتصريح بالسبِّ، وإنما هو سؤالٌ عن سببِ امتناعه ليستخرجَ ما عنده من ذلك، أو من نقيضه، كما قد ظهر من جوابه، ولما سمع ذلك مُعاوِيَة سكت وأذعن، وعرف الحق لمستحقه”([8]).
وهو يشير إلى ما رواه مسلم في صحيحه في باب فضائل علي عن عامر بن سعد بن أبي وقاص، عن أبيه قال: “أمر مُعاوِيَة بن أبي سُفيَان سعداً فقال: ما منعك أن تسُبَّ أبا تراب؟ فقال: أمّا ما ذكرت ثلاثاً قالهنَّ له رسول الله صلَّى اللهُ علَيهِ وسَلَّم، فلن أسُبّهُ، لأن تكون لي واحدة منهنَّ أحبُّ إليَّ من حُمر النَّعم، سمعت رسول الله صلَّى اللهُ علَيهِ وسَلَّم يقول له وخلّفه في مغازيه فقال له عليّ: يا رسول الله، خلَّفْتني مع النساء والصبيان؟ فقال له رسول الله صلَّى اللهُ علَيهِ وسَلَّم: “أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى، إلا أنه لا نبوّة بعدي”، وسمعته يقول يوم خيبر: “لأُعْطينَّ الراية رجلاً يحبُّ الله ورسوله ويحبُّه الله ورسوله”، قال: فتطاولنا لها فقال: “ادع لي علياً” فأُتي به أرْمَد فبصق في عَيْنه ودفع الراية إليه، ففتح الله عليه، ولمّا نزلت هذه الآية: {فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ} [آل عمران: 61]، دعا رسول الله صلَّى اللهُ علَيهِ وسَلَّم عليًّا وفاطمة وحسنًا وحُسينًا، فقال: “اللهم هؤلاء أهلي”([9]).
وجوابه أن يُقال: هذا الحديث لا يفيد أن مُعاوِيَة أمر سعداً بسبِّ عليّ، وإنما أراد مُعاوِيَةُ أن يستفسرَ عن المانع من سبِّ عليّ، فكشف له سعدُ عن ذلك، ولم نعلم أن مُعاوِيَةَ عندما سمع ردَّ سعدٍ غضبَ منه ولا عاقَبَه، وسكوتُ مُعاوِيَةَ هو تصويبٌ لرأيِ سعد، ولو كان مُعاوِيَةُ ظالماً يُجبر الناسَ على سبِّ عليٍّ كما يدّعي الشيعة ومن تابعهم، لما سكتَ عن سعدٍ ولأَجبَره على سبِّه، ولكن لم يحدث من ذلك شيءٌ، فعُلم أنه لم يأمر بسبّه ولا رضي بذلك.
قال النووي رحمه الله شارحًا هذا الحديث: “قول مُعاوِيَة هذا، ليس فيه تصريح بأنه أمر سعداً بسبِّه، وإنما سأله عن السبب المانع له من السبِّ، كأنه يقول: هل امتنعت تورعاً أو خوفاً أو غير ذلك. فإن كان تورعاً وإجلالاً له عن السبِّ، فأنت مصيبٌ محسنٌ، وإن كان غير ذلك، فله جواب آخر. ولعل سعداً قد كان في طائفة يسبّون، فلم يسبَّ معهم، وعجزَ عن الإنكار وأنكر عليهم، فسأله هذا السؤال.
قالوا: ويحتمل تأويلاً آخر أنَّ معناه: ما منعك أن تُخطِّئَه في رأيه واجتهاده، وتُظهر للناس حسن رأيِنا واجتهادنا وأنه أَخطأ”([10]).
وقال شيخ الإسلام رحمه الله: “ولم يكن مُعاوِيَة قبل تحكيم الحكمين يدَّعي الأمر لنفسه ولا يتسمَّى بأمير المؤمنين، بل إنَّما ادَّعى ذلك بعد حكم الحكمين، وكان غير واحد من عسكرِ مُعاوِيَة يقول له: لم ذَا؟ تُقاتلُ عليًّا وليس لك سابقته ولا فضله ولا صهره وهو أولى بالأمر منك؟ فيعترف لهم مُعاوِيَة بذلك، لكن قاتلوا مع مُعاوِيَة لظنِّهم أن عسكر علي فيه ظلمة يعتدون عليهم كما اعتدوا على عثمان، وأنهم يُقاتَلون دفعا لصيالهم وقتالُ الصَّائل جائز”([11]).
وقد روى مسلم في صحيحه وأحمد وغيرهما من حديث أبي سعيد الخدري رضِيَ اللهُ عَنه أن رسول الله صلَّى اللهُ علَيهِ وسَلَّم قال: “تفترق أمتي فِرقَتين فتَمرُق بينهما مارقةٌ فيقتلها أولى الطائفتين بالحق”، وهو يدل على أن طائفة مُعاوِيَة معها حقّ، ولكن الأخرى أقرب للحق.
وإنما أطلنا في هذا -نسبيا- لكون سبِّ مُعاوِيَة والطعنِ فيه مدخلُ عامَّةِ أهل البدع والانحراف سواءً من الروافض والمعتزلة قديمًا والمستشرقين وأذنابهم حديثًا.
وَمِمَّا سبق يتبين لنا كذب الرواياتِ التي تقول أن مُعاوِيَة أوصى المغيرة بن شعبة قائلا: “لا تُهمل في أن تسبَّ عليًّا وأن تطلبَ الرَّحمة لِعثمان وأن تسبَّ أصحاب علي وأن تضطهد من أحاديثهم وأن تمدح أصحاب عثمان وأن تقربهم وتسمع إليهم” وهي الرواية التي يذكرها (جولد زيهر) مستدلا بها علي دعواه وَضعَ بني أُمَيَّة للأحاديث!
إن أصل العبارة كما رواها الطبري: “لا تُحجِم عن شتم عليِّ وذرِّيته، والترحُّم على عثمان والاستغفار له، والعيبِ على أصحاب عليِّ والإقصاء لهم، وتركِ الاستماع منهم، وإطراءِ شيعةِ عثمان، والإدناء إليهم والاستماعِ منهم”.
فانظر كيف حرّف هذا المستشرق الموضوعي -كما يتصور كثير من المغرورين- لإثبات مزاعمه لفظ: “والإقصاء لهم” وبدَّله إلى لفظ “وتضطهد من أحاديثهم” فإن كلمة من أحاديثهم، لا وجود لها في أصل النص، لإثبات مزاعمه([12]).
هذا فضلا عن كون الرواية باطلة، فإن مدار الخبر علي أبي مخنف وهو شيعي كذاب.
قال فيه أبو حاتم “متروك الحديث” وقال الدارقطني “إخباري ضعيف” وقال ابن عدي “شيعي محترق”، فكيف يستدل بمثل هذا الرجل على مثل هذه المسائل العظيمة([13])؟!
حال ملوك بني أُمَيَّة بعد مُعاوِيَة:
لا يكاد يختلف اثنان أن حالهم كان أقل ممَّا كان عليه معاوية، ونحن لا نقول إنها كانت خلافة راشدة، بل هناك أخطاء وظلم، وأعظم ما نقمه الناس على بني أُمَيَّة شيئان:
أحدهما: تكلُّمهم في عليٍّ رضي الله عنه.
والثاني: تأخير الصلاة عن وقتها، إضافة إلى المظالم التي وقعت من بعض ولاتهم، كالحجَّاج وعبيد الله بن زياد، وغيرهم.
ونحن أيضًا نُنكِرها ولا نُقرُّها، مع العلم بأن سلطان التأويل في مثل هذه الفتن بالحفاظ على الدَّولَة وتماسكها ومنع الفتن فيها، حاضر.
ومع وجود هذه الإشكالات إلا أن خلفاء الدَّولة الأُمويَّة في الجملة جمعوا خلال الخير ونصروا الإسلام وفتحوا البلدان وكسروا الصلبان، وإليك هذه الشهادة من ابن حزم رحمه الله التي نطق بها بيانه بعد انقضاء آخر معاقل الدَّولَة الأُمويَّة في الأندلس وبدأ عصر ملوك الطوائف فقال: “فسار منهم -من بني أُمَيَّة- عبد الرحمن بن مُعاوِيَة إلى الأندلس وملكها هو وبنوه، وقامت بها دولة بني أُمَيَّة ثلاثمائة سنة، فلم يك في دول الإسلام أنبل منها ولا أكثر نصرا على أهل الشرك ولا أجمع لخلال الخير”([14]).
ومهما يكن من أمر فإن الدَّولَة الأُمويَّة لا يُعرف أحدٌ من خصومهم اتَّهمهم بوضع الأحاديث والكذب على رسول الله صلَّى اللهُ علَيهِ وسَلَّم، وأكثر ما يُروى من الأكاذيب والمبالغات مأخوذ من المستشرقين الحاقدين على الإسلام وتاريخه، ولا غرابة ولا عجب من حقدهم على هذه الدَّولَة؛ إذ كانت هي السبب في دخول الإسلام عقر ديارهم، وحوَّلت كثيرًا من مماليك الدَّولَة الرومانية الشرقية والغربية إلى مماليك إسلامية.
وغالبُ اعتمادِ هؤلاء المستشرقين على الرِّوايات الشيعية الملفَّقة، والموجودة في بعضِ كتب التاريخ.
وفي حقيقة الأمر لو أردنا التنقيب في الرِّوايات، فإن الرِّوايات تدلُّنا على عكس ما ادَّعوه من التضييق على العلماء ووضع الأحاديث، وهذا ينقلنا للإجابة عن السؤال الثاني.
حال العلماء زمن بني أُمَيَّة:
تحدَّثنا فيما سبق عن حال الملوك في العصر الأموي، وننتقل الآن للبحث والتنقيب عن حال علماءها.
وتشهد الرِّوايات أن حرية الانتقاد والإنكار كان مظهرًا سائدًا في المجتمع الأموي، وأن العلماء لم ينفكُّوا عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأن الاستبداد عند الأمويين إنما كان مصروفا للحفاظ على سلطانهم ليس إلا، كما يقول رشيد رضا في تفسيره: “وقد وردت أخبار صحيحة تدل على وجود الإنكار من الصحابة والتابعين لِمَا استنكروه من أعمال بني أُمَيَّة”([15]).
علماء الصحابة في العصر الأمويّ:
فأما عن الصَّحابة فحاشاهم أن يتركوا النهي عن المنكر وإنكاره خوفًا أو مجاملةً، ولنتأمَّل الرِّوايات والأخبار الصحيحة التي نُقلت عنهم في ذلك العصر، فهي تعطينا صورة مقاربة لطبيعة تعامل العلماء مع حكَّام بني أُمَيَّة.
قال البخاري رحمه الله في صحيحه: “باب الخروج إلى المصلَّى بغيرِ مِنبر” ثم روى عن أبي سعيد الخدري، قال: “كان رسول الله صلَّى اللهُ علَيهِ وسَلَّم يخرج يوم الفطر والأضحى إلى المصلى، فأولُ شيء يبدأ به الصلاة، ثم ينصرف، فيقوم مقابل الناس، والناسُ جلوس على صفوفهم فيَعِظهم ويوصيهم ويأمرهم، فإن كان يريد أن يقطع بعثا: قطعه، أو يأمر بشيء: أمر به، ثم ينصرف”، قال أبو سعيد: “فلم يزل الناس على ذلك حتى خَرجْت مع مَروان -وهو أمير المدينة- في أضحى أو فطر، فلما أتينا المصلى إذا منبرٌ بناه كَثيرُ بن الصَّلْت، فإذا مروان يُريد أن يَرتقِيه قَبل أن يصلِّي، فجَبَذت بثوبه، فجَبَذَني، فارتفع، فخطب قبل الصلاة، فقلت له: غيَّرتم والله، فقال أبا سعيد: قد ذهب ما تعلم، فقلت: ما أعلم والله خير مما لا أعلم، فقال: إن الناس لم يكونوا يجلسون لنا بعد الصلاة، فجعلتها قبل الصلاة”([16])، وعند مسلم “فقام إليه رجل فقال: الصلاة قبل الخطبة ومد بها صوته”([17]).
فتأمَّل كيف أن إنكار المنكر سمةٌ ظاهرةٌ في ذلك العصر، وكيف قام رجلٌ وانتقد فِعلَهم مع أن مروان صنعه بتأويل، وتأمَّل فعلَ أبي سعيد وردَّ فعل مروان على كل هذا؟!
- روى البخاري من حديث سعيد بن جبير، قال: كنتُ مع ابن عمر حين أصابه سنانُ الرُّمح في أخمُصِ قدمه، فلزَقت قدمُه بالرِّكاب، فنَزَلت، فنَزَعتها وذلك بمُنى، فبلغ الحجاج فجعل يعُوده، فقال الحجَّاج: لو نَعلم مَن أَصَابك، فقال ابن عمر: «أنت أصبتني» قال: وكيف؟ قال: «حملتَ السِّلاح في يومٍ لم يكن يُحمل فيه، وأَدخَلت السِّلاح الحرَم ولم يكن السلاح يدخل الحرم»([18]).
ومن ذلك إنكار الصحابة على من خَطَبَ جالسا من بني أُمَيَّة، فروى مسلم عن كعب بن عجرة: أنه دخل المسجد وعبد الرحمن بن أم الحكم -والي مُعاوِيَة على الكوفة- يخطب قاعدًا، فقال: “انظروا إلى هذا الخبيث يخطب قاعدًا، وقال الله تعالى: {وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا} [الجمعة: 11]”([19]).
وروى مسلم إنكار عمارة بن رويبة على بشر بن مروان لما رَآه على المنبر رافعًا يديه في الدعاء، وقال “قبَّح الله هاتين اليدين لقد رأيت رسول الله صلَّى اللهُ علَيهِ وسَلَّم ما يزيد على أن يقول بيَديْه هكذا ويُشير بأصبعه السبابة”([20]).
ومن ذلك ما في الصحيحين من إنكار أبي هُريرة رضِيَ اللهُ عَنه على مروان في التصوير، فعن أبي زرعة قال: “دخلت مع أبي هريرة في دار مروان، فرأى فيها تصاوير، فقال: سمعت رسول الله صلَّى اللهُ علَيهِ وسَلَّم يقول: “قال الله تعالى: ومن أظلم ممن ذهب يخلق خلقًا كخلقي، فليخلقوا ذرة، أو ليخلقوا حبة أو ليخلقوا شعيرة”([21]).
وروى البخاري عن عمرو بن يحيى بن سعيد بن عمرو بن سعيد قال أخبرني جدي قال: “كنتُ جالساً مع أبي هريرة في مسجد النَّبي صلَّى اللهُ علَيهِ وسَلَّم بالمدينة ومعنا مروان، قال أبو هريرة: سمعت الصادق المصدوق يقول: “هلاك أمتي على يدي غلمة من قريش”، وفي رواية: “غلمة سفهاء” فقال أبو هريرة: “لو شئت أن أقول بني فلان، وبني فلان لفعلت”([22])، وكان ذلك كما قال الحافظ في الفتح في زمن مُعاوِيَة رضِيَ اللهُ عَنه([23])، وفي ذلك تعريضٌ ببعض أمراء بني أُمَيَّة.
فهل يُتصوَّر من أبي هريرة رضي الله عنه أن يصرِّح بمثل هذا ثم هو يضع لهم الأحاديث مجاملةً ونفاقًا أو كُرهًا في شيعة علي وأهل البيت وهو من روى أحاديث فضائلهم ومناقبهم؟!
وأما حديث الوعاءين الذي يُدندن به كثير من المبتدعة والمشكِّكة، وهو الحديث الذي رواه البخاري في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: “حفظت من رسول الله صلَّى اللهُ علَيهِ وسَلَّم وعاءين: فأما أحدهما فبَثَثْتُه، وأما الآخر فلو بثَثَته قُطع هذا البلعوم”([24]).
فهذا الحديث اتَّخذتْه كلُّ طائفة من المبتدعة، ليزوِّقوا به باطلهم، ويدَّعوا أن ذلك الباطل من العلم المكتوم الذي كتمه أبو هريرة!!
فنجد الشيعة استدلَّت به على فِريتهم العُظمى حصرُ الإمامة في آل البيت، وأنه مما أوصى به النَّبي صلَّى اللهُ علَيهِ وسَلَّم وكتَمَه الصَّحابة كأبِي هريرة، ويستدلُّ به الصوفية على الحقيقة التي يختصُّ بها الأولياء دون عوام الناس المكلفين بالشريعة، ويستدل به الطاعنون في السنَّة ورواتها وزاعموا ضياعها؛ كأبي ريَّة ومن أخذ عنهم من المستشرقين.
والجواب عن ذلك:
- أنَّ أبا هريرة رضِيَ اللهُ عَنه ليس ممَّن يكتم العلم لأجل الناس ولو كانوا أهلَ سلطان، فقد كان من أكثر الناس رواية عن النَّبي صلَّى اللهُ علَيهِ وسَلَّم، وفسَّر هو بنفسه ذلك الإكثار؛ بأنَّه حرص على نشر العلم وخوف من الله من كتمانه، قال رضي الله عنه: “يقولون إن أبا هريرة يُكثِر الحديث، واللهُ الموعد، ويقولون: ما للمُهاجِرين والأَنصَار لا يحدِّثون مِثل أحادِيثه، وإنَّ إِخوتي من المهاجرين كان يَشغلهم الصَّفق بالأسواق، وإن إخوتي من الأنصار كان يَشغلهم عملُ أموالهم، وكنت امرأً مِسكِينًا أَلزَم رسولَ الله صلَّى اللهُ علَيهِ وسَلَّم على ملءِ بطني، فأَحضُر حين يَغيبون، وأَعِي حين يَنسَون …” إلى أن قال: “والله لولا آيتان في كتابِ الله ما حدَّثتكم شيئا أبدا: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ (159) إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} [البقرة: 159، 160]”([25]).
فكيف يستقيم مع هذا أن يكتم شيئا تتعلق به مصلحة المسلمين؟!
فإن قيل: حَمَله على ذلك الخوف كما يدل عليه قوله “لقُطع هذا البلعوم”
فالجواب: أن كَتم العلم الذي ينبني عليه عملٌ عِبادي لا يجوز ولو كان الحامل عليه الخوف، وقد رأينا: أنَّ إنكار أبي هريرة على بني أُمَيَّة مشهور في أحاديث قد سبق ذكر بعضها، وكلُّها في أمور يتعلق بها عمل؛ كإنكاره على مروان في التصوير، مما ينفي تهمة الخوف عنه رضِيَ اللهُ عَنه؛ لأن من لا تمنعه سطوةُ السلطان من بثِّ علمٍ يتعلق بالتصوير، هل يُعقل من مثله أن تمنعه سطوة السلطان عن بثِّ علمٍ يتعلق بأصول العقيدة، كما يزعمه الشيعة من كتم أمر الإمامة، والمتصوفة من كتم أمر الحقيقة.
فلا بد إذن من سببٍ يُحْمَل عليه تركُ بثِّه للوعاء الذي تركه من العلم، ويكون مغايرًا للعلم الذي توعَّد الله على كتمانه، وهو ما بيَّنه غير واحد من أئمة الإسلام:
قال ابن بطال رحمه الله: “قال المهلب، وأبو الزناد: يعنى أنها كانت أحاديث أشراط الساعة، وما عَرَّف به صلَّى اللهُ علَيهِ وسَلَّم من فساد الدين، وتغيير الأحوال، والتضييع لحقوق الله تعالى، كقوله صلَّى اللهُ علَيهِ وسَلَّم: “يكون فساد هذا الدين على يدي أغيلمة سفهاء من قريش”([26])، وكان أبو هريرة يقول: لو شئت أن أسميهم بأسمائهم، فخشي على نفسه، فلم يُصَرِّح.
وكذلك ينبغي لكلِّ من أمر بمعروف إذا خاف على نفسه في التصريح أن يُعَرِّض. ولو كانت الأحاديث التي لم يحدث بها من الحلال والحرام ما وَسِعَهُ تركها؛ لأنه قال: “لولا آيتان في كتاب الله ما حدثتكم”، ثم يتلو: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ (159) إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} [البقرة: 159، 160]”([27]).
فابن بطال يستنتج من قول المهلب وأبي الزناد: أن ما كتمه أبو هُريرة ليس من أحاديث الحلال والحرام، بل من أحاديث الفتن وأشراط الساعة ما قد يكون في عدم الإخبار بها فقهًا ووعيًا؛ لأن كثيرًا من النَّاس حين تبلغه أمثال هذه الأحاديث يتخبَّطون في تنزيلها على واقعهم، ولربَما حدث من ذلك شرٌ أعظم من شرِّ كتمانه.
وقال ابن الجوزي رحمه الله: “ولقائل أن يقول:
كيف استجاز كتم الحديث عن رسول الله صلَّى اللهُ علَيهِ وسَلَّم وقد قال: “بلغوا عني”؟
وكيف يقول رسول الله صلَّى اللهُ علَيهِ وسَلَّم ما إذا ذُكِرَ قُتِلَ راويه؟
وكيف يستجيز المسلمون من الصحابة الأخيار والتابعين قتلَ من يروي عن رسول الله صلَّى اللهُ علَيهِ وسَلَّم؟
فالجواب: أن هذا الذي كتمه ليس من أمر الشريعة؛ فإنه لا يجوز كتمانها وقد كان أبو هريرة يقول: ” لولا آية في كتاب الله ما حدثتكم ” وهي قوله: “{إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى…} [البقرة: 159]، فكيف يُظنُّ به أن يَكتم شيئا من الشريعة بعد هذه الآية وبعد أمر رسول الله صلَّى اللهُ علَيهِ وسَلَّم أن يبلغ عنه؟! وقد كان يقول لهم: “ليبلغ الشاهد منكم الغائب”([28]) وإنما هذا المكتوم مثل أن يقول: فلان منافق، وستقتلون عثمان، و”هلاك أمتي على يدي أغيلمة من قريش”([29]) بنو فلان، فلو صرح بأسمائهم لكذبوه وقتلوه”([30]).
ويقول الإمام الذهبي رحمه الله: “عن مكحول، قال: كان أبو هريرة يقول: رُبَّ كيس عند أبي هريرة لم يفتحه – يعني: من العلم -.
قلت – أي الإمام الذهبي -: هذا دال على جواز كتمان بعض الأحاديث التي تحرك فتنة في الأصول أو الفروع، أو المدح والذم، أما حديث يتعلق بحلّ أو حرام فلا يحل كتمانه بوجه، فإنه من البينات والهدى، وفي صحيح البخاري: قول علي رضِيَ اللهُ عَنه: “حدثوا الناس بما يعرفون، ودعوا ما ينكرون، أتحبون أن يُكذَّب الله ورسوله”([31]). وكذا لو بثَّ أبو هريرة ذلك الوعاء لأُوذي، بل لقُتل، ولكن العالم قد يؤديه اجتهاده إلى أن ينشر الحديث الفلاني إحياء للسنة، فله ما نوى، وله أجر وإن غلط في اجتهاده”([32]).
إذن كلامُ العلماء في شرح مرادِ أبي هُريرة يدور حول ذكر الفتن التي سوف تحدث لاحقًا، وأمراء السوء وأشراط الساعة، وما يحدث في آخر الزمان، وهي أمور مضى بها القدر، ولن يغير إخبار أبي هُريرة بها شيئاً من الأمر، إذ إن وقوعها من أعلام نبوة حبيبنا محمد صلَّى اللهُ علَيهِ وسَلَّم، فسواء أخبر عنها أبو هُريرة أم لم يُخبر، فإنها واقعة لا محالة، بخبر المصدوق عليه أفضل الصلاة والسلام، وليس فيها كما قال العلماء شيء من ذكر أحكام العبادات، ومثل هذا إن كان في إعلانه مثاراً لمزيد من الفتن، أو كان في بثِّه ما يجلب الخطر على راويه فكتمانه حِينَئِذٍ مطلوب بل قد يكون واجبًا، وهذا من دقيق فقهه رضِيَ اللهُ عَنه، ويشهد له من السنَّة قوله صلَّى اللهُ علَيهِ وسَلَّم لمعاذ، لما أخبره بفضل الشهادة وأن الله لا يعذب من لا يشرك به شيئا، فقال مُعاذ: “أفلا أبشر الناس ؟ فقال صلَّى اللهُ علَيهِ وسَلَّم: لا تبشرهم فيتكلوا” متفق عليه([33]).
ووجه الاستدلال: أن النَّبي صلَّى اللهُ علَيهِ وسَلَّم نهى معاذاً رضِيَ اللهُ عَنه أن يُبَشِّر الناس، ويخبرهم بهذا العلم العظيم؛ لأن الأمة حينذاك حديثة عهد برسالة نبيها، وكانت أحوج ما تكون إلى العمل الذي يربِّي الناس على القرب من الله تعالى والصبر والبذل، وينمي فيهم تلك الصفات التي تحتاجها الأمّة في قدواتها؛ ليكونوا مؤهلين لما اختارهم الله تعالى له من نشر الإسلام وفتح الآفاق وإعزاز كلمة الله تعالى، وهو ما تم ولله الحمد على أيديهم، وربما كان إخبارهم بهذا العلم ذريعة للتقصير في العمل، فكان من حكمة رسول الله صلَّى اللهُ علَيهِ وسَلَّم عدم إذاعة هذا العلم، واختصاص فَقِيه من فقهاء الصحابة به كي يبشر به متى ما كان الوقت مناسبا، وهو ما كان من معاذ رضِيَ اللهُ عَنه حيث أخبر به قبل وفاته، بعدما كَثُر الناس واتَّسعت الفتوحات وبارك الله في العمل.
ونحن لا نشُكُّ أن حال بني أُمَيَّة ليس كالخلفاء الراشدين -كما سبق أن قلنا- وأنه قد نقص الحال، ولكن كان كبار الصحابة وفقهاؤُهم ينهون عن إثارة الفتن ويأمرون الناس بالصبر التزامًا منهم بالسنَّة الواردة في ذلك، وإدراكًا منهم للمآلات التي يمكن أن تفضي إليها الفتن.
ومَن تأمَّل ما ثار في زمنهم وما ترتب عليها أدرك عمق نظرة أبي هريرة وغيره من الصحابة والتابعين، فإن بثَّ هذه الأحاديث على العوام يشغلهم بالقيل والقال والجدل الذي لا ينفعهم، ويشغلهم عما ينفعهم في دينهم ودنياهم، وكتم مثل هذا مطلوب كما سبق، وجاء في الأثر “ما أنت بمحدِّث قومًا حديثا لا تبلغه عقولهم إلا كان لبعضهم فتنة”([34]).
وأما أن يُظَن أن أبا هريرة كَتَم أحاديث فضائل أهل البيت، فيُكذِّبه أنه رضِيَ اللهُ عَنه أحدُ رواةِ هذه الأحاديث التي امتلأت بها كتب السنَّة، فهي مشهورة ومذاعة ونكتفي هنا باثنين منها لهما دَلالةٌ لا تخفى:
1- عن البراء بن عازب، قال: أقبلنا مع رسول الله صلَّى اللهُ علَيهِ وسَلَّم في حجته التي حج، فنزل في بعض الطريق، فأمر الصلاة جامعة، فأخذ بيد علي، فقال: «ألست أولى بالمؤمنين من أنفسهم؟” قالوا: بلى، قال: “ألست أولى بكل مؤمن من نفسه؟” قالوا: بلى، قال: “فهذا ولي من أنا مولاه، اللهم وال من والاه، اللهم عاد من عاداه”([35])؛ وهذا حديث صحيح ورد عن عشرة من الصحابة، وهم: أبو هريرة وعلي بن أبي طالب، وسعد بن أبي وقاص، وأبي أيوب الأنصاري، وزيد بن أرقم، والبراء بن عازب، وبريدة بن الحصيب، وابن عباس، وأنس بن مالك، وأبي سعيد الخدري رضِيَ اللهُ عَنهم.
2- وعن أبي هريرة رضِيَ اللهُ عَنه قال: خرج علينا رسول الله صلَّى اللهُ علَيهِ وسَلَّم ومعه حسن وحسين، هذا على عاتِقه، وهذا على عاتِقه، وهو يلثم هذا مرة، وهذا مرة، حتى انتهى إلينا، فقال له رجل: يا رسول الله، إنك تحبهما، فقال: “من أحبهما فقد أحبني، ومن أبغضهما فقد أبغضني”([36]).
فانظر بإنصاف كيف روى أبو هريرة أحاديث فضائل علي آل البيت، وهي كثيرة امتلأت بها كتب السنَّة ينجلي لك فرية من يَتَّهم الصحابة ورواة الأحاديث بكتمان أحاديث فضائل أهل البيت مجاملة أو خوفا من بني أُمَيَّة!
علماء التابعين في العصر الأموي:
ما سبق كان حديثًا عن العلماء من الصَّحابة، وقد رأينا حالهم وورعهم وإخلاصهم، فهل سار تلامذتهم من التابعين على ما سار عليه الشيوخ؟ نعم لم يتغير الحال في التابعين بل ثابروا على ما تربَّوا عليه مع قدواتهم من الصَّحابة، فسعيد بن المسيِّب مثلًا أحد كبار التابعين، وقد عُرفَ بعلمه وحديثه، ما أنّه كذلك عُرِف باحتكاكه بالدَّولَة الأُمويَّة واستنكاره عليها، وقد سُجن وامتحن إثرًا لذلك.
أوَيُظن بمثل هؤلاء الأئمة أن يضعوا الأحاديث على نبيِّهم ورسولهم صلَّى اللهُ علَيهِ وسَلَّم مجاملة لهؤلاء الحكَّام؟!!
الإمام الزهري أحد علماء التابعين:
سنسلط الضوء في هذه الورقة على أحد الأئمة الذين ذاع صيتهم وانتشر علمهم وورعهم وديانتهم واشتهروا بحديث رسول الله صلَّى اللهُ علَيهِ وسَلَّم، ثم جاء بعض المغرضين في الأزمان المتأخِّرة ليطعنوا في ديانتهم حين لم يتمكَّنوا من التصريح بالطعن في دينهم!! ألا وهو الإمام الزهري.
علاقة الزهري بالدَّولَة الأُمويَّة:
الإمام الزهري هو محمد بن مسلم بن شهاب الزهري القرشي، وُلد سنة خمسين للهجرة، وأدرك كثيراً من صغار الصحابة وكبار التابعين، وروَى وكتَب وحدث، قال عنه ابن حجر في تقريب التهذيب: “وكنيته أبو بكر الفقيه الحافظ متفق على جلالته وإتقانه وثبته، وهو من رؤوس الطبقة الرابعة، مات سنة خمس وعشرين ومائة، وقيل: قبل ذلك بسنة أو سنتين”([37]).
ليس بمستنكر علاقة الزهري رحمه الله ببني أُمَيَّة، حيث كانت له وفادة على خلفاء بني أُمَيَّة، واختصاصٌ بهشام بن عبد الملك رحمهم الله جميعاً، واتِّصاله بهم ليس مذموما كما يتوهَّم البعض، بل ربُّما كان مطلوبا لمن يأمَن على نفسه الفتنة، ويرجو تكثير الخير وتقليل الشر بنصحهم وتذكيرهم، ولا يخفى على ذي عقل أنه لو امتنع أهل العلم والفضل والدين من مداخلة الملوك لتعطَّلت الشريعة المطهرة؛ لعدم وجود من يقوم بها، وتبدَّلت تلك المملكة الإسلاميَّة بالمملكة الجاهلية في الأحكام الشرعية من ديانة ومعاملة، وعمَّ الجهل وطمَّ، وخولفت أحكام الكتاب والسنَّة جهارا، لاسيَّما من الحاكم وخاصته وأتباعه، وحصل لهم الغرض الموافق لهم، وهذا كان حال الزهري رحمه الله، وتأمَّل في هذا المثال يتضح لك الحال:
روى البخاري عن معمر عن الزهري قال: “قال لي الوليد بن عبد الملك: أَبَلغك أن عليًّا كان فيمن قذف عائشة؟
قلت: لا، ولكن قد أخبرني رجلان من قومك، أبو سلمة بن عبد الرحمن، وأبو بكر بن عبد الرحمن: أنَّ عائشة رضِيَ اللهُ عَنها قالت لهما: (كان عليٌ مُسْلِماً في شأنها)، فراجعوه فلم يرجع”([38]).
ومعنى مُسْلِمَاً في شأنها: أي سَلك في حادثة الإفك مسلك المسلمين، وليس مسلك المنافقين.
وقوله: فراجعوه في شأنها، الضمير عائد إلى الزهري رحمه الله.
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: “وكأن بعض من لا خير فيه من النَّاصبة تقرَّب إلى بني أُمَيَّة بهذه الكذبة، فحرَّفوا قول عائشة إلى غير وجهه؛ لعلمهم بانحرافهم عن علي، فظنوا صحتها، حتى بيَّن الزهري للوليد أن الحق خلاف ذلك، فجزاه الله تعالى خيرا”([39]).
وقول ابن حجر “فحرفوا قول عائشة” أي بتصحيفه، فجعلوا كلمة (مسيئاً) بدل: (مسلما)، فجاء الزهري فأخبر الخليفة بالرواية الصحيحة.
فانظر إلى قوته رحمه الله في الحق، فضلا عن ديانته وروايته التي شهد له بها الجميع، وصار الطعن فيه سُلَّماً لهدم السنَّة كما الطعن في أبي هُريرة رضِيَ اللهُ عَنه.
وللأسف خَصَّ (جولد زيهر) ومن تابعه الزهريَّ رحمه الله بقسطٍ وافر من التشنيع والتشويه، فاتَّهمه بوضع الحديث إرضاء لبني أُمَيَّة، فزعم أن إبراهيم بن الوليد جاء إلى الزهري بصحيفة، وطَلب منه أن يأذن له بنشر أحاديثَ فيها على أنَّه سَمعَها منه، فأجازه الزهري!! وقال له: من يستطيع أن يجيزك بها غيري؟!! وأنه وضع حديث “لا تُشدُّ الرِّحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام ومسجد الرسول صلَّى اللهُ علَيهِ وسَلَّم ومسجد الأقصى” متفق عليه([40])؛ لصرف الناس عن الذهاب للحج أثناء صراع ابن الزبير مع عبد الملك الذي بنى مسجد الصخرة وزينها لذلك، وزعم كذلك أن الزهريَ اعترف بذلك فقال: “إن هؤلاء أكرهونا على كتابة أحاديث”([41]) .
ولنفصِّل القول في هذه الأمور بعد أن أوردنا اتهاماتهم وتشنيعاتهم.
أما القصة الأولى -فلو صحت- فمعناها أن إبراهيم بن الوليد عرض على الشيخ الصحيفة وفيها أحاديث من أحاديثه، فأجازه بها وهي طريقة من طرق تحمُّل الحديث معروفة عند المحدِّثين تسمي المناولة، لا أنه اختلقها من عند نفسه.
وأما قصَّة وضعه لحديث لا تشد الرحال فهي باطلة لعدة وجوه:
منها: أن أكثر المؤرخين على أن مَنْ بنى الصخرة هو الوليد وليس عبد الملك – والزهري ولد سنة إحدى وخمسين أو ثمانية وخمسون، وابن الزبير رضِيَ اللهُ عَنهما قتل سنة ثلاث وسبعين، فيكون عُمْرُ الزهري خمسة عشر عاماً أو اثنين وعشرين عاماً ولم يكن صيته في الأمة يُمَكِّنُه من هذا التأثير المُدَّعَى!
الثاني وهو مؤكِّد للأول: أن الزهريَ لم يلق عبد الملك إلا بعد مقتل ابن الزبير بسنوات، كما نَقل الذهبي عن الليث بن سعد أنه قال: “قدم ابن شهاب على عبد الملك سنة ٨٢ “([42]) أي بعد مقتل ابن الزبير بسنوات.
فما الداعي لصرف الناس عن الحج وقد استتب الأمر لعبد الملك؟ بل إن صرفهم عن الحج والحال تلك، ليس من صالح عبد الملك.
الثالث: كيف يمكن لعاقل أن يفهم من هذا الحديث الدعوة لصرف الوجوه عن المسجد الحرام وهو يحصر جواز شد الرحال في المساجد الثلاثة، وأولها المسجد الحرام!؟
ولو أراد الزهري صَرفَ الناس عن المسجد الحرام، ألم يكن له أن يصنع صنيع كثير من دعاة أهل البدع الذين جعلوا لأهل القبور من المكانة وفضل الزيارة ما للمسجد الحرام والمسجد النبوي؟! بل أكثر من ذلك كما هو حال رواة الشيعة في كربلاء وتفضيل زيارتها على الحج والعمرة؟!
ومع ذلك فهذا الحديث ليس فيه فضيلة الصخرة، بل فضيلة المسجد الأقصى وهي ثابتة بنصِّ القرآن {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ} [الإسراء: 1]، فما هي حاجة عبد الملك لهذا الحديث وعنده نصٌّ من القرآن؟!
الرابع: أن الحديث لم ينفرد بروايته الزهري، بل روته كتب السنَّة من طرق مختلفة، فأخرجه البخاري من طريق أبي سعيد من غير طريق الزهري([43])، وكذلك مسلم([44]).
الخامس: إن صحَّ ذلك الزعم فكيف لم يُبيِّن العلماء ذلك في زمنه، ومن بعدِه، وبعدَ زوال حكم بني أُمَيَّة؟!
مع أنهم بينوا أن كل الأحاديث التي وضعت في فضل الصخرة كذب كما ذكر ذلك ابن القيم في المنار المنيف([45]).
السادس: أن هذا يتنافى مع ديانته وعدالته المتفق عليها من جميع العلماء، بل ويتنافى مع طبائع الأحوال، فكيف يُظنُّ بالمسلمين قبولُ حديث في مثل هذا الأمر والسكوت عنه لو فهموا منه أنه يجعل الحج للصخرة بديلا عن الحج لبيت الله الحرام، لاسيّما وهم قريبو عهد برسول الله صلَّى اللهُ علَيهِ وسَلَّم وصحابته الكرام ؟!
وأما قول الإمام الزهري: “إن هؤلاء أكرهونا على كتابة أحاديث” فليس المقصود به وضع الحديث على رسول الله صلَّى اللهُ علَيهِ وسَلَّم تزلُّفًا للحكَّام كما يُريد أن يصوِّر هؤلاء الباحثون، وإنما أصل النص عند العلماء أن الزهري كان يمتنع عن كتابة الأحاديث للناس ليعتمدوا على ذاكرتهم، ولا يتَّكِلوا على الكتب، فلما طلب منه هشام وأصر عليه أن يملي على ولده ليمتحن حفظه، أملى عليه أربعمائة حديث، فلما خرج من عند هشام، نادى بأعلى صوته: ” يا أيها الناس إنا كنا منعناكم أمراً قد بذلناه الآن لهؤلاء، وإن هؤلاء الأمراء أكرهونا على كتابة الأحاديث ، فتعالوا حتى أحدثكم بها، فحدثهم بالأربعمائة حديث “، فيكون معنى العبارة: أنهم أكرهونا على كتابة أحاديث رسول الله – صلَّى اللهُ علَيهِ وسَلَّم -، بعد أن كنَّا نَمْتَنِعُ من ذلك” وهذا هو ما ذكره ابن عساكر وابن سعد والخطيب والذهبي وغيرهم([46]).
ومما يُؤكّد هذا المعنى: روايةُ الدارمي بإسناد صحيح لقول الزهري: “كنا نكره كتابة العلم حتى أكرهنا عليه السلطان، فكرهنا أن نمنعه أحداً”، وهو يدلك على مبلغ ديانة هذا الإمام، وأمانته وإخلاصه في نشر العلم، حيث لم يرض أن يبذل للأمراء ما منعه عن عامة الناس.
ولكن هذا المستشرق وجد في هذه الرِّواية سبيلًا لإبراز حقده، فأسقط (أل التعريف) ليتغير المعنى تماماً، وينقلب رأساً على عقب فيصير المعنى إنهم أكرهونا على وضع أحاديث من عندنا ننسبها إلى رسول الله صلَّى اللهُ علَيهِ وسَلَّم([47]).
الزهري وتدوين الحديث النبوي:
اشتهر عند كثير من الباحثين أن الحديث بقي أكثر من مائة سنة يتناقله العلماء حفظاً دون أن يكتبوه، وأنَّ أول ذلك: أن أمر عمرُ بن عبد العزيز (ت ١٠١هـ) ابنَ شهاب الزهري (ت ١٢٤هـ) تقريبا، وقد جمع الخطيب البغدادي رحمه الله هذه المسألة وبينها أحسن بيان في كتابه (تقييد العلم)، وبيَّن ما يلي:
١- نهى النَّبي صلَّى اللهُ علَيهِ وسَلَّم عن كتابة الحديث أوَّل الأمر، فروى مسلم من حديث أبي سعيد الخدري مرفوعا: “لا تكتبوا عني، ومن كتب عني غير القرآن فليمحه”([48])، وهذا حتى لا يَختلط بالقرآن، أو يتَّكلوا على الكتابة ويتركوا الحفظ، أو النهي عن كتابة القرآن مع غيره في صحيفة واحدة، ثم ورد الإذن في الكتابة، ففي حديث عبد الله بن عمرو بن العاص: أن النَّبي صلَّى اللهُ علَيهِ وسَلَّم قال له: “أكتب فو الَّذي نفسي بيده ما خرج مني إلا حق”([49]).
٢- وُجدت الكتابة في زمن النَّبي صلَّى اللهُ علَيهِ وسَلَّم، فروى البخاري من حديث أبي هريرة رضِيَ اللهُ عَنه قال: “ما من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أحد أكثر حديثا عنه مني، إلا ما كان من عبد الله بن عمرو، فإنه كان يكتب ولا أكتب”([50])، ووُجِدت صحيفة أبي بكر رضِيَ اللهُ عَنه في بيان فريضة الصدقة، وصحيفة علي رضِيَ اللهُ عَنه في أسنان الإبل وحرم المدينة، وصحيفة عبدالله بن عمرو بن العاص والمشهورة بالصادقة، وغيرها.
٣- استمر الأمر في عهد التابعين فوُجِدت الكتابة بجوار الحفظ وإن كان جل الاعتماد على الحفظ، كما روى الخطيب بسنده من عدة طرق عن الشعبي: أنه كان يقول: “إذا سمعت شيئاً فاكتبه ولو في الحائط فهو خيرٌ لك من موضعه من الصحيفة فإنك تحتاج إليه يوماً ما” ورُوي كذلك عن الحسن البصري قال: “ما قُيِّد العلم بمثل الكتاب، إنما نكتبه لنتعاهده”([51]) وعن سعيد بن جبير قال: “كنت أكتب عند ابن عباس في صحيفتي حتى أملأُها، ثم أكتب في ظهر نعلي، ثم أكتب في كَفِّي”.
وعن ابن شهاب الزهري قال: “لولا أحاديث تأتينا من قبل المشرق نُنْكِرها لا نعرفها، ما كتبت حديثاً ولا أَذِنْتُ في كتابه”([52])
٤- ظهر التوسُّع في الكتابة أكثر في زمن التابعين لسببين:
الأول: كثرة الأسانيد وتشعبها.
والثاني، وهو الذي يشير إليه الزهري: ظهور الوضع في الحديث لاسيما من جهة المشرق، فاحتاجوا للكتابة والتدوين أكثر، وزال المحظور أو ما يتخوف منه.
٥- جاءت مرحلة هامة في التدوين، وهي رعاية الدَّولَة لهذا الأمر في عهد الخليفة الزاهد عمر بن عبدالعزيز، حيث أمر العلماء بتدوين السنَّة وجمعها وإفشاء تعلِيمها، كما روى البخاري في صحيحه عن عبدالله بن دينار قال: “كتب عمر بن عبدالعزيز إلى أبي بكر بن حزم: انظر ما كان من حديث رسول الله صلَّى اللهُ علَيهِ وسَلَّم فاكتبه، فإني خفت دروس العلم وذهاب العلماء، ولا تقبل إلا حديث النَّبي صلَّى اللهُ علَيهِ وسَلَّم، ولتُفشُوا العلم، ولتجلسوا حتى يعلم من لا يعلم، فإن العلم لا يهلك حتى يكون سراً”([53]).
وعن ابن شهاب الزهري قال: ” أمرنا عمر بن عبد العزيز بجمع السنن فكتبناها دفتراً دفتراً، فبعث إلى كل أرضٍ له عليها سلطان دفتراً”([54]).
ويمكن أن يوصف هذا بالتدوين الاستقصائي الشامل، وأما مطلق التدوين فقد كان قبل ذلك كما سبق.
٦- يشير أثر الزهري السابق: إلى إتمام جزء من المهمة قبل موت عمر بن عبد العزيز، وأنه أرسل له دفاتر، وأن عمر أرسلها إلى الأقطار، وهذا يُعتبر حجر الأساس، ثم شاع التدوين في الجيل الذي يلي جيل الزهري، فجمعه بمكة ابن جريج، وبالمدينة ابن إسحاق وسعيد ابن أبي عروبة، والربيع، والإمام مالك، وبالبصرة حماد، وبالكوفة الثوري، وبالشام الأوزاعي، وهكذا.
وكثير من هؤلاء إنما بدأوا بنشر العلم بعد زوال دولة بني أُمَيَّة؛ كالإمام مالك وابن إسحاق وحماد.
وقد انتهت دولة بني أُمَيَّة سنة ١٣٢هـ أي: أن معظم القرن الثاني كان في خلافة بني العباس.
ثم جاء القرن الثالث، فكان أزهى عصور السنَّة، فصنفت المسانيد، كمسند الإمام أحمد، ومسدد، وإسحاق بن راهويه، ثم الصحاح: البخاري ومسلم، ثم أُلِّفَت بعدها السنن لأبي داود، والنسائي، وابن ماجه، والترمذي.
ومن أهم النتائج لهذا العرض السريع فيما يتعلق بموضوعنا:
- أن تدوين الزهري قد بدأ وتم الانتهاء منه في حياة عمر بن عبد العزيز (ت١٠١هـ) الخليفة المشهور بالعدل والإنصاف والديانة البالغة، فمن غير المتصوَّر أن يكون الزهري قد جامله في وضع الأحاديث كما يدعي المغرضون.
- أن حركة التدوين الكبرى قد اشتعل أوجها بعد زوال حكم بني أُمَيَّة تماما وانتقاله لخصومهم، وهو ما يجعلنا نستبعد التأثير المزعوم للدولة الأُمويَّة في وضع الأحاديث، خاصة أنَّ أحدا لم يشكك في مرويات الزهري أو غيره من أئمة العلم ورواة السنَّة، وهذا يقودنا للعنصر الثالث والأخير.
- لماذا لم يُصحَّح هذا الأمر بعد زوال ملك بني أُمَيَّة وانتقاله لخصومهم؟ ولماذا لم يكشف العلماء عما صنعه الزهري ويُبيِّنوا حاله وقد زال سوط السلطان؟
الذي حصل هو العكس تمامًا، وجدناهم أطبقوا على ذكر فضله وديانته وعدالته وشهدوا له بالإمامة ورووا أحاديثه في كتب الصحاح والسنن مع أن عامتها قد ألف بعد زوال حكم بني أُمَيَّة.
الخاتمة
كنَّا في جولة ممتعة مع كشف شبهةِ استغلال بني أميَّة لمنصب الخلافة في وضع أحاديث على النبي صلى الله عليه وسلم، وإخفاء ما لم يتناسب مع أهوائهم وأخذ ما وافق نظامَهم، وتصدير العلماء والمحدِّثين الذين يخنعون لقولهم ويطوِّعون لها السنَّة النبوية، واتهام بعض الصَّحابة وأئمة التَّابعين بالنِّفاق والخنوع لمثلِ هذه الرغبات من أمثال أبي هريرة والإمام الزهري، وقد بانت لنا حقيقة هذه الشبه، وإن شئتُ قلتُ: هذه البلبلة، فليست هي سوى اجتزاءٍ لنصوص بعض العلماء مع تحريفها واختزالها عن سياقاتها الصَّادرة فيها؛ لتُصنع منها شبهٌ لا خطام لها ولا زمام، وهي مُحاولةٌ لإسقاط رموز الإسلام التي صانت كيانه في العصر الأموي ليس إلا، ولكن من أبناء الإسلام من فُتن به!!
ليقضيَ الله أمرًا كان مفعولًا، وليعلوَ صوت الحقُّ، وتتبيَّن جهود السَّلف في حفظ الدِّين والسنَّة([55]).
اللهم انصر دينك وكتابك وسنَّة نبيِّك، واحشرنا في زمرة المتَّقين، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
([1]) رواه الترمذي برقم (٢٦٦٤)، وأبو دَاوُدَ برقم (٤٦٠٤)، وغيرهما من حديث المقدام بن معد يكرب وأبي هُريرة وغيرهما، وقال الترمذي: حديث حسن غريب، وصححه الالباني في صحيح أبي داود (1504).
([2]) في زمن إسلامه خلاف وقيل أسلم عام الفتح، ينظر: سير أعلام النبلاء للذهبي (3/ 120).
([3]) رواه الإمام أحمد من حديث العرباض بن سارية (17202)، وصححه بشواهده الألباني في السلسلة الصحيحة (3227).
([4]) مختصر منهاج السنَّة (١/٢٩٧).
([5]) متفق عليه، أخرجه البخاري (2788) ومسلم (1912).
([6]) البداية والنهاية لابن كثير (8/132).
([8]) المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم للقرطبي ( 6 / 278 – 279 ) .
([9]) سنن الترمذي (6/ 83) برقم (3724).
([10]) شرح النووي على مسلم (15/175).
([11]) مختصر منهاج السنَّة (١/٢٩٨).
([12]) ينظر: في سرد هذه الشبهة وكشفها كتاب السنَّة ومكانتها في التشريع الإسلامي للسباعي (ص٢٠٤).
([13]) ينظر: مرويات أبي مخنف في تاريخ الطبري للدكتور يحيى اليحيى.
([14]) رسائل ابن حزم (٢/ ١٤٦).
([21]) أخرجه البخاري (5953)، وأخرجه مسلم (101).
([23]) ينظر: فتح الباري لابن حجر (13/ 9).
([25]) أخرجه البخاري (2350) ومسلم (2492).
([27]) شرح صحيح البخاري لابن بطال (١/١٩٥).
([30]) كشف المشكل من حديث الصحيحين لابن الجوزي (ص/1014).
([32]) سير أعلام النبلاء للإمام الذهبي (2/597).
([33]) أخرجه البخاري (2856) ومسلم (48).
([34]) رواه مسلم في مقدمة صحيحه عن ابن مسعود رضِيَ اللهُ عَنه في باب النهي عن الحديث بكل ما سمع.
([35]) أخرجه ابن ماجه (1/ 43) برقم (116)، ورواه الإمام أحمد في مسنده (19302)، والنسائي في السنن الكبرى (8424)، وابن حبان في صحيحه (6931)، وصححه الألباني في السلسلة (1750).
([36]) رواه أحمد في مسنده (9673)، والحاكم في المستدرك (4777) وصححه ووافقه الذهبي، وصححه الألباني أيضًا في سلسلة الأحاديث الصحيحة (2895).
([37]) تقريب التهذيب (ص: 506).
([39]) فتح الباري لابن حجر (٧/٤٧٣).
([40]) أخرجه البخاري (1189) ومسلم (511).
([41]) ينظر: السنة ومكانتها للسباعي ط المكتب الإسلامي (1/ 213 وما بعدها).
([42]) سير أعلام النبلاء للذهبي (5/ 328).
([45]) ينظر: المنار المنيف لابن القيم (ص٩٥).
([46]) ينظر: تاريخ دمشق لابن عساكر (55/ 333)، الطبقات الكبرى لابن سعد (5/ 352)، سير أعلام النبلاء (5/ 334).
([47]) ينظر: في تفنيد هذه الشبه كتاب السنَّة ومكانتها في التشريع الإسلامي لمصطفى السباعي.
([49]) رواه أحمد (15/ 127) برقم (9231)، وصححه الألباني في الصحيحة (1532).
([51]) تقييد العلم للخطيب البغدادي (ص: 101)
([52]) تقييد العلم للخطيب البغدادي (ص: 100 وما بعدها).
([53]) صحيح البخاري (1/ 31) مقدمة باب: كيف يقبض العلم.
([54]) جامع بيان العلم وفضله لابن عبد البر (١: ٩٢).
([55]) مراجع للاستزادة في الموضوع: منهاج السنَّة لشيخ الإسلام ابن تيمية، الأنوار الكاشفة للمعلمي، والسنَّة ومكانتها في التشريع للدكتور مصطفى السباعي، دفاع عن السنَّة النَّبويَّة للدكتور محمد أبو شهبة، ، أبو هُريرة راوية الإسلام لمحمد عجاج الخطيب، دفاع عن أبي هريرة للعزي.