الشورى الشرعية وطرق تطبيقها والفرق بينها وبين شورى الديمقراطية
للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة
تعتبر الشورى قضية أساسية في الفقه السياسي عمومًا، وفي فقه السياسة الشرعية خصوصًا، وما من مؤلف في الفقه الإسلامي العام إلا ويتعرض لها شرحًا وتقريرًا وتبيينًا لطرق تطبيقها، فالمفسرون يتكلمون عنها أثناء التفسير للآيات التي تأمر بها وتتحدث عنها، كما يتكلم عنها الفقهاء في أبواب تولية الإمام والقضاء، ويجعلون تركها وعدم الاعتناء بها من أسباب نقض أحكام القاضي وعزل الحاكم.
وقد وردت نصوص شرعية تأمر بالشورى عمومًا في جميع نواحي الحياة المهمة، كالحياة الزوجية والبيع والشراء، كما وردت نصوص أخرى تأمر بها في الميدان العام الذي هو تسيير حياة الناس وسياستها، وهذا الأمر قد وُجِّه إلى أعلى شخصية في الإسلام وهو النبي صلى الله عليه وسلم فقال الله له:{فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِين} [آل عمران:159]. وهذا الأمر جاء في معرض تبيين طرق تسيير الحياة واستيعاب الناس على اختلاف طبائعهم، وأنه لا وسيلة لجمعهم إلا الصبر عليهم ومشاورتهم، وبغَضِّ النظر عما يفيده الأمر في الآية هل هو الندب أو الوجوب؛ فإن مطلق الأمر يدل على الاعتبار شرعًا، ولعل التطبيق العملي للنبي صلى الله عليه وسلم للشورى يفسر لنا وجه الأمر هل هو للوجوب أو للندب مطلقًا؟
وهل الشورى مُعْلِمة أم مُلْزِمة؟ أم في الأمر تفصيل؟
هذا وغيره هو ما سوف نحاول مناقشته في هذه الورقة العلمية.
مع المقارنة بين الشورى التي يريدها الإسلام وبين بعض أنماط الشورى المعاصرة التي اتسمت بها بعض النظم كالديمقراطية وغيرها.
ونظرًا لأن الشورى تشمل ناحيتين مهمتين هما شورى التولية، وشورى التدبير؛ فإننا سوف نتناولهما ونبين طريقة كل منهما وكيفية اعتبارها شرعًا، ولا بأس أن نبدأ بتعريف موجز للشورى:
تعريف الشورى:
الشورى لغة: هي التشاور، شاوره في كذا واستشرته: راجعته لأرى رأيه، وشاوره: طلب رأيه في الأمر.
والإشارة: التعيين باليد، والشار: حسن النظر، والشارة: الجمال الرائع([1]).
وفي الاصطلاح: لها تعاريف عدة، أهمها: “أنها استطلاع رأي الأمة، أو أهل الحل والعقد منها أو ذوي الاختصاص والخبرة فيها في الأمور العامة التي للرأي فيها مدخل؛ لاستخراج الرأي الأفضل والمعبِّر عن إرادة الأمة ووضعه موضع تنفيذ”([2]).
وهي كما قدمنا قسمان: شورى تولية، وشورى تدبير. ونبدأ بشورى التولية ونفصلها:
النوع الأول: شورى التولية
أولًا: يجدر التنبيه إلى أن الإمامة تنعقد بطريقتين:
الطريقة الشرعية: وهي نوعان:
النوع الأول: الشورى أو بيعة أهل الحَلِّ والعَقد،
والنوع الثاني: الاستخلاف.
الطريقة الثانية: غير الشرعية (القهرية): وهي الاستيلاء على السلطة من إمام قاهر قهر الناس بشوكته.
ونبدأ في الأولى ونشرحها مفصلة ونتبه بشرح الثانية:
النوع الأول الطريقة الشرعية في انعقاد الإمامة: الشورى
إن الأصل في الإمامة الشورى، والشورى حق عام للمسلمين دلت عليه النصوص الشرعية، والأصل عدم تخصيصها بطائفة من المسلمين.
الأدلة على عموم الشورى في التولية:
دلت نصوص الكتاب والسنة على عموم الشورى في التولية ولم تخصص أحدًا منهم دون أحد، والأدلة كالآتي:
قال تعالى: {وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلاَةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُون} [الشورى: 38]. فجعل من صفاتهم الاستجابة لله وإقامة الصلاة والشورى، وكل هذا ليس خاصًّا بأحد عن أحد.
وقال سبحانه: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ} [آل عمران: 159].
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: “لا غنى لولي الأمر عن المشاورة، فإن الله تعالى أمر بها نبيه صلى الله عليه وسلم فقال تعالى: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ}. وقد روى أبو هريرة رضي الله عنه قال: لم يكن أحد أكثر مشورة لأصحابه من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد قيل إن الله أمر بها نبيه صلى الله عليه وسلم لتأليف قلوب أصحابه وليقتدي به من بعده؛ وليستخرج بها منهم الرأي فيما لم ينزل به وحي من أمر الحروب وغير ذلك، فغيره أولى بالمشورة”([3]).
ولا شك أن الإمامة ليست مما نُصَّ فيه على شخص بعينه.
وقد دلَّت نصوص السنة وكلام الصحابة على أن الأصل في تولية الإمام هو شورى جمهور المسلمين من الرجال والنساء، وهذه الأدلة من السنة:
- عموم النصوص الواردة في ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم: فعن نافع قال: جاء عبد الله بن عمر إلى عبد الله بن مطيع حين كان من أمر الحَرَّة ما كان زمن يزيد بن معاوية، فقال: اطرحوا لأبي عبد الرحمن وسادة، فقال: إني لم آتك لأجلس! أتيتك لأحدِّثك حديثًا سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقوله، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «مَنْ خلع يدًا من طاعة لقِيَ الله يوم القيامة لا حُجَّة له، ومن مات وليس في عنقه بيعة مات ميتةً جاهليةً» ([4]).
فإذا كانت لا تحق له فكيف يأتي في حقه هذا الوعيد الشديد؟!
ووجه الدلالة من الحديث هو عمومه الذي ورد بلفظ «مَنْ».
- تبويب البخاري رحمه الله حيث قال في صحيحه: “باب بيعة النساء”، وأورد فيه أربعة أحاديث، ومنها حديث عائشة؛ كان النبي صلى الله عليه وسلم يبايع النساء بالكلام بهذه الآية([5]).
- ومن الأدلة على عموم الشورى قول الصحابة وفعلهم، فقد قال عمر: “من بايع رجلًا عن غير مشورة من المسلمين فلا يبايع هو ولا الذي بايعه تَغِرَّةً أَنْ يُقتَلا “([6]). والمسلمون لفظ عام، وكذلك فعل عبد الرحمن بن عوف كما في صحيح البخاري.
وبعد أن قررنا أن الأصل في شورى التولية هو اعتبار رأي جمهور المسلمين، فقد يرد إشكال هنا: ما المراد بأهل الحَلِّ والعَقْد عند العلماء؟ هل هو استلاب لحق المسلمين في السلطة أم لا؟ وما معنى أن الشورى مُعْلِمة أو مُلْزِمة؟
أولًا: مفهوم أهل الحَلِّ والعَقْد:
قبل الخوض في هذه المسألة نوَدّ أن نقرِّر المـُجمَع عليه عند العلماء في هذا المبحث، فقد أجمعوا على جواز استشارة الرجال في التولية، واتفقوا على أن أهل الذمة لا حَقَّ لهم في اختيار الحاكم، واختلفوا في النساء هل لهم حق اختيار الحاكم أم لا؟
فمنعه الجويني([7])، وأجازه آخرون بناءً على الأدلة التي ذكرنا، والناظر في هذا الأمر يجد أن أهل العلم استخدموا مصطلح أهل الحل والعقد استخدامين:
الاستخدام الأول: استخدام تخصيص، وهذا يحصرهم في أهل العلم الشرعي.
الاستخدام الثاني التمثيلي: وهذا يجعل أهل الحل والعقد هم الرموز المتبعون من المجتمع، وهذا الاستخدام لا يتعارض مع تعميم الشورى، وأكثر المحققين من أهل العلم يستخدمون مصطلح أهل الحل والعقد هذا الاستخدام، والظاهر -والله أعلم-أنهم يريدون به التسهيل على الناس في أمر الشورى.
وقد لعبت صعوبة التواصل بين أطراف الدولة الإسلامية دورًا كبيرًا في ترسيخ هذا المفهوم، وممن رأيته صرَّح بذلك الإمام الغزالي -رحمه الله-حيث قال: “وباطل أن يُعتبَر إجماع جميع أهل الحل والعقد في جميع أقطار الأرض؛ لأن ذلك مما يمتنع ويتعذر تعذرًا يفتقر فيه إلى انتظار مدة عساها تزيد على عُمْر الإمام، فتبقى الأمور في مدة الانتظار مهملة”([8]).
وكذلك ابن حجر الهيتمي صرح بأن المراد بأهل الحل والعقد من تيسر اجتماعهم وينوبون عن غيرهم، قال رحمه الله: “الذين يتيسر اجتماعهم حالة البيعة بأن لم يكن فيه كلفة عُرفًا فيما يظهر؛ لأن الأمر ينتظم بهم ويتبعهم سائر الناس”([9]).
وكذا الإمام النووي حيث يقول: “الأصح أن المعتبر بيعة الحَلِّ والعَقْد من العلماء والرؤساء وسائر وجوه الناس الذين يتيَسَّر حضورهم”([10]).
وكذلك شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله حيث قال: “الإمامة مُلك وسُلطان، والملك لا يصير مُلكًا بموافقة واحد ولا اثنين ولا أربعة؛ إلا أن تكون موافقة هؤلاء تقتضي موافقة غيرهم”([11]). فجعل شيخ الإسلام الإمامة لا تنعقد بهم إلا إذا اقتضى ذلك موافقة غيرهم.
واستخدام المصطلح بهذا المفهوم لا إشكال فيه؛ لأنه لا يناقض عموم الشورى بل إنه يؤكدها وييسرها، فأهل الحَلِّ والعَقْد الذي جعلهم أهل حَلٍّ وعَقْدٍ هو المجتمع لا غيره، أما استخدامه بالمعنى الأول الذي مر معنا فهو لا يخلو من اعتراض، بل القول فيه ليس مرضيًّا عند علماء أهل السنة والجماعة.
- الشورى مُلْزِمة أم مُعْلِمة؟
الذي أشكل على كثير من الباحثين في هذه المسألة هو أن شورى التولية كان العلماء يطلقون عليها (البيعة)، ولم يختلفوا في إلزاميتها للمستشير والْمُسْتَشَارِ، فلا يُوَلَّى أحد على المسلمين إلا بإذن منهم، وإذا اختاره أغلب الناس لزم الباقين الدخول تحت طاعته، ويشهد لهذا ما سبق من النصوص التي أوردنا، ونعضد هذا بقول النبي صلى الله عليه وسلم: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ هَذَا الْأَمْرَ لَا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ إِلَّا فِي هَذَا الْحَيِّ مِنْ قُرَيْشٍ، هُمْ أَوْسَطُ الْعَرَبِ فِي الْعَرَبِ، وَأَقْرَبُ فِي الْعَرَبِ مِنَ الْعَرَبِ، أَلَا لَا تَقَدَّمُوا قُرَيْشًا»([12]). “أي: أن عموم الناس لا يرضون أميرًا إلا إذا كان قرشيًّا؛ لأنهم أشرف العرب نسبًا وأوسطهم دارًا، وليس لهم عند أحد من العرب ثارات قديمة، وأما الأنصار فلم يكونوا كذلك، بل إن الأنصار لا يرضى بعضهم إمامة بعض، فالأوسي لا يرضى بإمامة الخزرجي؛ لما كان بينهم من ثارات قديمة، ويعني هذا أن الإمام العام لا بُدَّ وأن يُستشار فيه عموم الناس، ولا بُدَّ أن يرضى عنه جمهورهم وأغلبيتهم”([13]).
النوع الثاني: شورى التدبير
وتكون في الأمور الخاصة، وهذه اتفقوا على أنها لا يشترط فيها أن يُستشار عموم الناس، بل يستشار أهل الخبرة والاختصاص ومن يهمُّهم الأمر، فالنبي صلى الله عليه وسلم استشار من معه من أهل بدر في غزوة بدر([14])، ولم يحتَجْ للرجوع إلى عموم الناس، وكذلك في غزوة الخندق استشار السَّعدَيْن واقتصر عليهما؛ لأن الأمر يعنيهما([15])، واختلفوا هل هي مُلْزِمة أم مُعْلِمة؟ على قولين:
الأول: أنها مُعْلِمة:
ذهب جمهور السلف وبعض المعاصرين إلى أن الشورى مُعْلِمة، وأن الحاكم لا يجب عليه ترك رأيه لرأي أهل الشورى، قال ابن أبى العز الحنفي: “وقد دلت نصوص الكتاب والسنة وإجماع سلف الأمة أن ولي الأمر وإمام الصلاة والحاكم وأمير الحرب وعامل الصدقة يطاع في مواضع الاجتهاد، وليس عليه أن يطيع أتباعه في موارد الاجتهاد، بل عليهم طاعته في ذلك وترك رأيهم لرأيه”([16]).
الثاني: ذهب جمهور المعاصرين إلى أنها مُلْزِمَة، وأن الإمام إذا استشار الناس وأشاروا عليه بشيء لزمه العمل به، وهؤلاء يرون المعيار في الشورى عند الخلاف هو الأكثرية، فمتى ما رأى أهل الشورى رأيًا وقف عليه أكثرهم لزم الإمام أن يتابعهم، وسوف يأتي توثيق هذه الأقوال عن أصحابها، وقبل تقرير أي القولين أرجح لا بد من التنبيه إلى أمور تجب معرفتها، وهي:
- أنه يجب أن يستجمع الإمام الشروط المعتبرة، كالعلم ورجاحة العقل والشجاعة وسلامة الأعضاء.
- لا بد أ ن يكون ناصحًا للمسلمين مقتديًا بالسلف الصالح.
- إذا وُجد نص صريح من الكتاب والسنة والإجماع فلا يجوز لأحد أن يتجاوز ذلك.
- إذا لم يوجد شيء من ذلك فيجب عليه أن يبحث بنفسه، ويسأل أهل الشأن([17]).
فإذا كان الإمام بهذه الدرجة واستشار أهل الحل والعقد ممن تتوفر فيهم شروط الشورى، فإن اتفقوا فلا إشكال، وإن اختلفوا ففي المسألة تفصيل:
- أن يكون الحاكم جاهلًا بها، فهذا يلزمه قولهم ولا يجوز له العدول عنه.
- أن يقع الخلاف والأغلب موافقون له، فحينئذ يلزم الأخذ برأي الأكثرية.
- أن يقع الخلاف وللإمام علم بالمسألة والأغلب على خلافه، ففي المسألة خلاف([18]).
إلا أن الذي يظهر -والله أعلم-أن الإمام إذا كان مخلصًا حريصًا على مصلحة المسلمين عالمًا بما يستشير فيه وتبيَّن له الحق؛ فإنه لا يسَعَه العدول عنه إلى رأي آخر لأيّ سبب.
وبهذا نستطيع فهم أساليب النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة في التعامل مع الشورى، فتارة التزموا برأي الأكثرية كما وقع للنبي في غزوة أحد، وتارة عمل برأيه كما في صلح الحديبية([19])، أما جعل الأكثرية معيارًا مطلقًا لقبول الحق؛ فهذا لا يستقيم مع الشرع، كما أن إطلاق العنان للحاكم يستبدُّ برأيه دون شرط أو قيد يجعله في حكم المعصوم، وذلك يتنافى مع الإسلام.
ولمحمد شاكر الشريف في تصوّر هذه القضية كلام مهم ومحكم نورده في هذا البحث، حيث يقول في معرض نقاشه لهذه القضية: “إن صلاحيات الإمام من حيث علاقتها بالشورى قسمان:
أوَّلهما: ما يتولّاه بمقتضى ولايته وهي داخلة في صلاحياته، فإنه ينفّذها ويقوم بها على الوجه الذي يرى أنه يحقق مقاصد الولاية، ولا يجب عليه أن يستشير في ذلك إلا إذا لم يدرِ وجه الصواب من الأمور المشكلة ولم يترجح له شيء فيها، فأما تسييره لأمور الدولة وإصداره للتعليمات التي تنظم ذلك وعمل اللوائح واختياره لمعاونيه وتوليته للولاة وتحديد صلاحياتهم ومحاسبتهم وعزلهم ونحو ذلك من الأمور التي تدخل في صلاحياته -وهو ما يعرف في الفكر السياسي (بالسلطة التنفيذية)- فإنه يعمل ذلك انطلاقا من صلاحياته، ولا تجب عليه الاستشارة في ذلك، وإن كنا نقول: الاستشارة في هذه الأمور وما جرى مجراها إذا لم يترتب عليها تعطيل للأمور فيها خير كثير، ولن يعدم المستشير أن يستفيد خيرًا إذا أحسن اختيار من يستشيره.
ثانيهما: أمور لا يمتلك التصرف فيها بمقتضى ولايته، فهذه لا يملك أن يمضيها إلا بموافقة أهلها على ذلك، ولذلك أمثلة ففي غزوة بدر الكبرى لما أراد الرسول صلى الله عليه وسلم ملاقاة المشركين بعد نجاة قافلة مكة، استشار من معه في القتال فوافق على ذلك المهاجرون؛ لكن النبي لم يكتف بذلك وقال: «أشيروا علي أيها الناس»، وهو يريد بذلك الأنصار، وذلك أن البيعة التي أخذها عليهم في مكة لم تكن تلزمهم بالقتال خارج المدينة، وإنما كانت قاصرة على أن يمنعوه وهو في ديارهم مما يمنعون منه أنفسهم، فقام سعد فقال قولته الشهيرة، ففي هذا المقام شاور النبي صلى الله عليه وسلم أصحاب الشأن وعمل على رأيهم لأنه أملك لذلك”([20]).
ويمكن القول بأن الشورى تنقسم من حيث مجالها إلى دينية ودنيوية، فالدينية يعمل فيها بمقتضى الدليل الشرعي، ولا يلتفت إلى أكثرية ولا إلى أقلية.
أما الدنيوية فهذه يأخذ فيها الحاكم بالأصلح ولا يفرض عليه فيها شيء، والله أعلم.
- المعتبر في شورى التولية أغلب الناس لا كلهم
بعد التتبع والاستقراء لكلام أهل العلم في هذه القضية وجدت أنهم يعتبرون في انعقاد الولاية أغلب الناس ومن تكون بهم الشوكة، ولا يشترطون الإجماع لذلك، قال الجويني: “مما يقطع به أن الإجماع ليس شرطًا في عقد الإمامة بالإجماع”([21])، وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: “ولا ريب أن الإجماع المعتبر في الإمامة لا يضر فيه تخلف الواحد ولا الاثنين ولا الطائفة القليلة، فإنه لو اعتبر ذلك لم يكد ينعقد إجماع على إمامة”([22]).
ونصوصهم واضحة في هذا الباب، ولما لم يعتبروا الإجماع شرطًا في انعقاد الولاية؛ فإنهم اختلفوا في العدد المطلوب لانعقاد الولاية على أقوال كثيرة، منهم من يرى أنها تنعقد بالواحد والاثنين والأربعة والأربعين، ولا يخفى ضعف هذه الأقوال لمصادمتها الأدلة الشرعية.
أما المحققون من أهل العلم مثل الجويني وابن تيمية -رحمهما الله- فقد قرروا أنه لا يُشترط فيها الإجماع؛ وإنما المعتبر أغلب الناس ومن تكون بهم الشوكة والمنعة، يقول الجويني رحمه الله: “فالوجه عندي في ذلك أن يعتبر في البيعة حصول مبلغ من الأتباع والأنصار والأشياع تحصل بهم شوكة ظاهرة، ومنعة قاهرة، بحيث لو فُرض ثوران خلاف لما غلب على الظن أن يصطلم أتباع الإمام، فإذا تأكدت البيعة وتأطدت بالشوكة والعَدَدِ والْعُدَدِ واستظهرت بأسباب الاستيلاء والاستعلاء؛ فإذ ذاك تثبت الإمامة وتستقر، وتتأكد الولاية وتستمر”([23]).
وكلام الجويني يفيد أمورا مهمة:
- أنه ربط الانعقاد بالشوكة الحاصلة بالأتباع والأنصار والمنعة القاهرة.
- وأكد أن البيعة لا تكون إلا بالشوكة والعَدَدِ والعُدَدِ.
ويقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: “ولو قُدِّر أن عمر وطائفة معه بايعوا أبا بكر وامتنع سائر الصحابة عن البيعة لم يَصِرْ إمامًا بذلك، وإنما صار إمامًا بمبايعة جمهور الصحابة الذين هم أهل القدرة والشوكة”([24]).
محل الشاهد عندي من كلام الشيخ قوله: “إنما صار إمامًا بمبايعة جمهور الصحابة”.
النوع الثاني للطريقة الشرعية في انعقاد الإمامة: الاستخلاف:
وقد أجمع العلماء على جواز انعقاد البيعة الشرعية بالاستخلاف، ومعناه أن يعهد الإمام إلى شخص بعده بالخلافة، ومن الأدلة على جوازه:
- قوله عليه الصلاة والسلام: «عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدى، عضُّوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور»([25]). والاستخلاف من سنتهم.
- قوله عليه الصلاة والسلام: «اقتدوا باللَّذَيْن من بعدي؛ أبي بكر وعمر»([26]) وقد استخلف أبو بكر عمر.
- عمل الصحابة وإجماعهم: فإن أبا بكر رضي الله عنه قد استخلف عمر، وعمر قد عهد بالأمر من بعده إلى الستة، ولم ينكر ذلك أحد من الصحابة رضي الله عنهم، فقد أخرج مسلم في صحيحه عن ابن عمر قال: “حضرت أبي حين أصيب، فأثنوا عليه وقالوا: جزاك الله خيرًا، فقال: راغب وراهب، قالوا: استخلف، فقال: أتحمَّل أمركم حيًّا وميتًا! لوددت أن حظي منها الكفاف لا عليَّ ولا لي، فإن أستخلف فقد استخلف من هو خير مني -يعني أبا بكر-، وإن أترككم فقد ترككم من هو خير مني، رسول الله صلى الله عليه وسلم”([27]).
قال الإمام النووي رحمه الله في تعليقه على الحديث: “حاصله أن المسلمين أجمعوا على أن الخليفة إذا حضرته مقدمات الموت أو قَبْلَ ذلك يجوز له الاستخلاف، ويجوز له تركه، فإن تركه فقد اقتدى بالنبي صلى الله عليه وسلم في هذا، وإلا فقد اقتدي بأبي بكر، وأجمعوا على انعقاد الخلافة بالاستخلاف”([28]). والشاهد من قول النووي رحمه الله: “وأجمعوا على انعقاد الخلافة بالاستخلاف”.
وقد ذكره بدر الدين بن جماعة في كلامه على طرق الإمامة الشرعية فقال: “الطريق الثاني: استخلاف الإمام الذي قبله كما استخلف أبو بكر عمر رضي الله عنهما، وأجمعوا على صحته”([29]).
الطريقة غير الشرعية (القهرية) في انعقاد الإمامة: وهو التغلب:
قد ذكرنا في كلام سابق أن الإمامة لها طرق انعقاد؛ منها ما هو شرعي، ومنها ما هو غير شرعي، وذكرنا الشرعي، والآن نذكر النوع الثاني وهو الطريق القهري الذي يطلق الفقهاء عليه (التغلب)، ويُسمَّى في عصرنا (بالانقلاب)، وقبل الكلام عنه أحب أن أوضح الفرق بين الانعقاد والاستحقاق، حتى لا نظلم أئمة الفقه في السياسة الشرعية.
هناك فرق بين الانعقاد والاستحقاق، أي انعقاد الولاية واستحقاقها، فالانعقاد أقلّ مرتبة من الاستحقاق؛ لأن الاستحقاق هو الصورة الكاملة والشرعية في الولاية.
والاستحقاق اعتبروا فيه شورى جميع أو أغلب المسلمين، ولم يجعلوا الشورى فيه خاصة بطائفة معينة من الأمة، كما لم يجعلوا التغلّب من مصادر الاستحقاق([30]).
وممن نص من الأئمة على التفريق بين الانعقاد والاستحقاق شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، حيث يقول: ” فإن أريد به الإجماع الذي ينعقد به الإمامة، فهذا يعتبر فيه موافقة أهل الشوكة بحيث يكون متمكنا بهم من تنفيذ مقاصد الإمامة حتى إذا كان رءوس الشوكة عددا قليلا، ومن سواهم موافق لهم حصلت الإمامة بمبايعتهم له. هذا هو الصواب الذي عليه أهل السنة وهو مذهب الأئمة كأحمد وغيره. وأما أهل الكلام فقدرها كل منهم بعدد، وهي تقديرات باطلة.
وإن أريد به الإجماع على الاستحقاق والأولوية، فهذا يعتبر فيه إما الجميع وإما الجمهور”([31]).
فالشيخ رحمه الله فرَّق بين الانعقاد الذي قد يكون سببه التغلب والشوكة فهذا قد يحصل ويطاع فيه الحاكم لكنه ليس شرعيًّا، وبين الاستحقاق -وهو الصورة الشرعية للولاية-فهذا لا يكون إلا بموافقة الناس أو جمهورهم.
وأئمة الإسلام جميعهم لا يدخلون الولاية القهرية في الولاية الشرعية، وإنما يفردونها بالذكر من باب أنها من قبيل الطوارئ والحوادث التي قد يُتعامل معها على خلاف الأصل.
وممن صرَّح بذلك أيضا الإمام بدر الدين بن جماعة، فبعد أن ذكر الإمامة الشرعية وذكر معها شروط الإمامة تعرض لما أسماه الإمامة القهرية، ولم يذكر لصاحبها شرطًا، وهذا دليل على فقدان الشرعية من حيث الاستحقاق، فقال رحمه الله: “الذي تنعقد به البيعة القهرية هو قهر صاحب الشوكة، فإذا خلا الوقت عن إمام فتصدى لها من هو من أهلها وقهر الناس بشوكته وجنوده بغير بيعة أو استخلاف انعقدت بيعته، ولزمت طاعته؛ لينتظم شمل المسلمين وتجتمع كلمتهم، ولا يقدح في ذلك كونه جاهلًا، أو فاسقًا على الأصح”([32]).
فقد صرح رحمه الله بسبب الانعقاد بقوله: “لينتظم شمل المسلمين وتجتمع كلمتهم”، فالعلماء رحمهم الله في تجويزهم انعقاد الولاية بالقهر ليس إباحة منهم للتغلب؛ وإنما حفظًا لدماء المسلمين.
فالمتغلب مرتكب لكبيرة من الكبائر بتغلبه على أمر المسلمين من غير إذنهم.
الفرق بين الشورى في الإسلام والشورى الديمقراطية:
كان الحاكم في النظم التي سادت قبل الإسلام مستبدًّا بالحكم كما لو أنه صاحب الحق، فتارة يستبدُّ من قبيل أنه إله كما كان حال فرعون، أو من قبيل أنه صاحب الشوكة والمنعة كما كان في ملوك فارس، فجاء الإسلام وحطَّم هذه النُّظُم، وأقام العدل ورد للأمة حقها في الحكم، فصار الحاكم فردًا من الناس يحتاج إليهم في قراراته وفي جميع شؤونه، فليس مفوَّضًا من طرف الإله، ولا حكاما باسمه كما هو الحال في النُّظُم الأخرى.
وقد تقرر فيما سبق معنى شورى التولية وشورى التدبير والفرق بينهما، وهل شورى التدبير مُعلمة أم مُلزمة، وسوف نتكلم في هذا المبحث عن حكم الشورى، ثم نعرج على أسسها وطرقها وآلياتها وصفات أهل الشورى.
وأوجه التلاقي والافتراق بينها وبين شورى الديمقراطية إن صحت تسميتها بذلك.
حكم الشورى: اختلف العلماء في حكم الشورى في الإسلام:
فذهب جماعة من أهل العلم إلى وجوبها، وهم جمهور الفقهاء من الحنفية والمالكية، والقول الصحيح من المذهب الشافعي، ويُنسب هذا القول للنووي وابن عطية وابن خويز منداد والرازي([33])، وغيرهم كثير، ومن المعاصرين عبد القادر عودة وعبد الوهاب خلّاف وعلى الصلابي. واستدل هؤلاء بأدلة منها:
- قوله تعالى: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ} [آل عمران: 159]([34])، والأصل في الأمر الوجوب، ولا قرينة تصرفه عن الوجوب.
- وقوله صلى الله عليه وسلم: «لو اجتمعتما في مشورة ما خالفتكما»([35]).
القول الثاني: القول بالندب، ويُنسب هذا القول إلى الشافعي([36]).
واستدل هؤلاء:
- بقوله تعالى: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ} [آل عمران: 159] أن الأمر للندب، والصارف له عن الوجوب أنه وُجِّه إلى النبي صلى الله عليه وسلم، والنبي لا يحتاج إلى مشورة.
وأما قوله تعالى: {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ} [الشورى: 38] فلا دلالة فيه على الوجوب؛ لأنه مجرد مدح للصفة، وهذا ليس كافيًا في الوجوب[37].
والذي يظهر والله أعلم هو القول بالوجوب؛ لما في طبيعة الحكم من تمثيل للأمة، وهذا يعني وجوب الرجوع إليها في الأمر، مع أن القائلين بالاستحباب لا يخالفون في أن الأمير يجب عليه الرجوع إلى أهل الحل والعقد فيما جهل حكمه؛ لأنه مطالب بتطبيق شرع الله عز وجل، وذلك لا يتَأتَّى إلا بالرجوع إلى أهل الشأن، ثم إن قياس الحاكم على النبي صلى الله عليه وسلم قياس مع الفارق، فالنبي وإن شاور فالملزم هو رأيه، والواجب هو اتباعه، بخلاف الحاكم، ومما يدل على وجوب الشورى أن الآية خرجت مخرج الخبر، وهذا آكد الأوامر كما قرَّر ذلك جمع من الأصوليين([38]).
أسس الشورى في الجانب السياسي:
تنطلق أحكام الشورى من عدة أسس يمكن حصرها فيما يلي:
- مرجعية الكتاب والسنة.
- مسؤولية الخليفة المباشرة عن حراسة الدين وسياسة الدولة به.
- الاشتراك في المصلحة المبتغاة من الشورى.
- الاشتراك في المسؤولية عن بلوغ الحق ونشره والعمل به.
- عدم وجود حكم شرعي مُلزم في المسألة موضع الشورى.
- عدم انحصار إدراك الحق والصواب في شخص واحد ولو كان أعلم أهل الأرض.
- عدم القدرة على الإحاطة التامة بالأمور كلها من قبل الفرد([39]).
صفات أهل الشورى:
نظرا لأن الشورى في الإسلام تسعى إلى التكامل والوصول إلى الأصوب من الآراء والأفضل من الوسائل؛ لم تُجعل الشورى (أي: شورى التدبير) حقًّا عامًّا يمارسه كل من هبَّ ودبَّ، بل اشترطت فيها شروطا تخرج فاقد الأهلية؛ لأن في وجوده تشويشًا وتطويلًا للطريق في الوصول إلى الحق، وهذه الشروط باختصار هي:
- التكليف: ومعناه أن يكون مسلمًا عاقلًا بالغًا.
- العدالة: ومعناها أن يكون مؤديًا للواجبات، متجنبًا للمحرمات، غير مُصِرٍّ على الصغائر.
- العلم والخبرة اللذان يُتوصل بهما إلى الصواب.
- الرجولة؛ لأن الشورى تقتضي مخالطة الناس والخبرة الواسعة بهم، وهذا لا يمنع من استشارة النساء في الأمور العامة إذا كان لهم بها علم.
- الأمانة والقوة: فغير المؤتمن لا يُستشار ولا يُلتفت إليه([40]).
آليات الشورى في الإسلام
ويمكن أن نعرف آليات الشورى في الإسلام من خلال أنواعها:
شورى التولية (اختيار الحاكم):
وآليتها أن يختار أهل الحِلّ والعقد مرشَّحًا لرئاسة الدولة، يراعون فيه الشروط المعتبرة في الحاكم الإسلامي، فإن اتفقوا على شخص بعينه رشَّحوه للناس، ويبايعه الناس، ولا تنعقد له البيعة إلا بمبايعة أغلب الناس له.
أما إذا اختلفوا فإنهم يرشّحون للأمة الأفاضل من بينهم، وتنعقد البيعة لمن بايعه أغلب الناس([41]).
شورى التدبير:
وهذه الشورى آلياتها أن يعرض الحاكم الأمر على أهل الحل والعقد الذين اختارتهم الأمة للنيابة عنها، أو اختارهم الحاكم المعيَّن من طرف الأمة، فإن اتفقوا فهذا هو المطلوب، وإن لم يتفقوا ففيه حالات:
- أن يظهر للحاكم صواب رأي الأكثرية لوضوح دليله وجلاء الحق فيه، فهذا إن اتبعه لزم الجميع السعي فيه.
- وإن اختلفوا فذهب الأكثرية إلى رأي والأقلية إلى رأي، ففيه وجهان:
أ) أن للحاكم أن يختار أي الرأيَيْن شاء.
ب) أنه يتبع الأكثرية([42]).
تنبيه: اتفق الفقهاء المعاصرون على أن آليات الشورى لا حدَّ لها، ويمكن للأمة أن تستفيد من أيَّة آلية تستجَدّ عليها([43]).
الشورى بين الإسلام والديمقراطية:
تقديمنا لهذه المقارنة بين النظام الإسلامي والنظام الديمقراطي في مجال الشورى معاذ الله أن يكون من قبيل أنهما سواء في الأفضلية، وإنما لبيان الفارق بينهما، ولتبيين أن ما في النظام الديمقراطي من محاسن سببه موافقة الإسلام، وما فيه من مساوئ هو بسبب مخالفة الإسلام، فنبدأ بآليات الانتخاب في اختيار الحاكم، وهذه الآلية تقوم على ما يلي:
- أن يتقدم شخص واحد -أو أكثر-إما بصفة فردية وإما عن طريق الأحزاب (حسب الأنظمة المعمول بها في كل بلد) طالبًا من الناس اختياره.
- أن يقوم الطالب -أو الطالبون-للرئاسة عن طريقهم أو طريق أعوانهم بالدعاية وإظهار محاسنهم وإبراز أخطاء الآخرين.
- بعد فترة من بداية التقدم لطلب الرئاسة والدعاية لذلك يتم الاختيار من قبل الشعب له، ممن له حق الاختيار، وهو كل مواطن بالغ عاقل.
- يفوز برئاسة الدولة حكم الشعب فترة زمنية محددة من يحصل على أكبر عدد من الأصوات (الأغلبية النسبية أو المطلقة حسب النظام الانتخابي في البلد)([44]).
وهذه الطريقة تختلف عن الطريقة الإسلامية في مجموعة من الأمور:
- أن المرشح فيها طالب للسلطة أما في الإسلام فالأصل عدم السعي إلى طلب السلطة، وإنما أهل الحِل والعقد يختارون شخصًا قد توفرت فيه الشروط الشرعية المعتبرة، أما الذي يرشح نفسه فليس بالضرورة أن يُراعي الضوابط الشرعية لاستحقاق الحكم.
- يتفق مع الإسلام في مبدأ أن الأغلبية هي التي ينال بها الحاكم شرعيته؛ إلا أن الأغلبية التي تختار الحاكم هي الأغلبية الإسلامية، ولا دخل في ذلك لأهل الذمة، وقد حكى الجويني الإجماع على ذلك([45]).
- أن هذا النظام غير دقيق ولا يضمن الأصلح؛ لأن أسلوب الحسم فيه يتم عن طريق الدعاية الانتخابية والقوة المادية للمرشح، وكذلك للتوازنات الاقتصادية والاجتماعية دور كبير في تحديد الفائز فيه.
- أما النظام الإسلامي فإنه في آلياته يسعى إلى ضمان وجود الأصلح لحكم الناس؛ ولذلك حرَّم أن يكون للمرشح أي غرض دنيوي من الرئاسة، وإذا علم منه ذلك طُرد من السباق.
ومن الآفات في هذا النظام سيطرة أرباب الأموال فيه الذين لهم القدرة على تأسيس الأحزاب وتمويلها، وكذلك امتلاك وسائل الإعلام الكبير التي تمتلك القدرة الدعائية وتوجيه الجماهير لصالح ما يريد أرباب الأموال.
الشورى النيابية (البرلمانية):
من المعلوم أن مهمة البرلمان هي تشريع القوانين بدون شرط أو قيد، وإنما المعتبر في ذلك هو إرادة الشعب.
وهذا مفرق طريق بين الإسلام والديمقراطية؛ إذ أن مجال الشورى فيه محصور بعدم مخالفة النصوص، فالشورى في الإسلام تجمع بين الأخلاق والتشريع، والعمل السياسي لا يخرج عن إطار العمل الأخلاقي، في حين أن الديمقراطية تخضع في الفكر الغربي لتحصيل المنافع والقيم النسبية حسب رأي الأغلبية، وعليه تقع الحيَل والمخالفات وسياسات مكيافيلي في أن الغاية تبرر الوسيلة؛ مما يوقع الفساد الأخلاقي وممارسة الإصلاح باسم الديمقراطية.
إن الشورى في الإسلام تسعى إلى تحقيق التكامل بين المجتمع، فالمعارضة لها ساحة لكن الإنسان يرجع إلى الأغلبية في جوانب أخرى (وهي الطاعة في المعروف)، أما النظام الديمقراطي فإنه يُكرِّس الانقسام الاجتماعي، وذلك أنه لم يستطع إلى حدِّ اللحظة وضع حدٍّ للاتفاق بين الأغلبية والأقلية المعارضة، وإيجاد معيار ثابت يتحاكمون إليه، فإذا كان النظام الاشتراكي هو الحاكم جرَّم النظام الرأسمالي والعكس، ويصير الإنسان مجرمًا بين عشية وضحاها حسب الطيف المتصارع.
تنبيه: ونحن إذ قررنا هذا المبدأ فإننا نراعي جوانب عدة، منها:
- أن الديمقراطية نظام مفروض على بعض البلدان فيلزم التعامل معه.
- أن الفوارق بين النظام الديمقراطي والنظام الإسلامي في الآليات وخاصة الشورى يمكن التغلب عليها من طرف المستخدمين للآلية وذلك بالإضافة والتنقيح.
- أن النظام الديمقراطي ليس انسيابية الوسائل في الحكم كما يصور المتحمسون له؛ بل هو قاصر في تحقيق المقصد منه عبر آلياته، فيلزم على المسلمين التفكير في إيجاد بدائل تنطلق من الإسلام وتراعي ضوابطه.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(المراجع)
([1]) المصباح المنير (ص 196) لسان العرب (5/225)0
([2]) النظرية العامة لنظام الحكم في الإسلام عطية عدلان (ص 172).
([3]) السياسة الشرعية، لشيخ الإسلام ابن تيمية (ص 435)
([5]) أي قوله تعالى : {لاَ يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا} [الممتحنة : 12]. صحيح البخاري (7214).
([7]) غياث الأمم للجويني (ص62).
([8]) فضائح الباطنية، للغزالي (ص175).
([9]) تحفة المحتاج في شرح المنهاج (9/76).
([10]) روضة الطالبين، للنووي (8 /370).
([11]) منهاج السنة، لابن تيمية (1/527).
([12]) السنة، لابن عاصم (1547).
([13]) الشورى في ظل نظام الحكم الإسلامي، لعبد الخالق (ص41).
([14]) القصة مخرجة في البخاري رقم (3952).
([15]) أخرجه ابن إسحاق في السيرة (2/223).
([16]) شرح الطحاوية لابن أبي العز الحنفي (ص373).
([17]) ينظر: الخلافة الإسلامية بين نظم الحكم المعاصرة (ص192 وما بعدها). وينظر الشورى بين النظرية والتطبيق (ص17 وما بعدها).
([18])ينظر: الخلافة الإسلامية بين نظم الحكم المعاصرة: (ص 198 وما بعدها).
([19]) ينظر: زاد المعاد لابن القيم (3/140_211).
([20]) مقدمة في فقه النظام السياسي الإسلامي (ص47) بتصرف.
([23]) غاث الأمم للجويني (ص71).
([25]) سنن ابن ماجه(42) صححه الألباني صحيح ابن ماجه.
([28]) المنهاج للنووي (12/172).
([29]) تحرير الأحكام في تدبير أهل الإسلام بدر الدين بن جماعة (ص53).
([30]) ينظر: نظام الحكم الإسلامي المعاصر بين الممكن والمطلوب، رسالة التخرج من المعهد العالي للدراسات والبحوث الإسلامية بموريتانيا، قدمه الباحث الحضرمي أحمد الطلبه (ص21).
([32]) تحرير الأحكام في تدبير أهل الاسلام (ص55).
([33]) الموسوعة الفقهية الكويتية (26 /279).
([34]) ينظر: تفسير القرطبي (4/249_250).
([36]) الأم (7 /100). وبهذا القول قال ابن حزم وابن تيمية وابن القيم وابن حجر.
([38]) ينظر: بحث المسألة مستوفى في كتاب الخلافة الإسلامية بين نظم الحكم المعاصرة، لجمال المراكبي (ص196 وما بعدها).
([39]) ينظر: مقدمة في فقه النظام السياسي الإسلامي (ص 18).
([40]) ينظر: الخلافة الإسلامية بين نظم الحكم المعاصرة جمال المراكبي (ص 105)
([41])كما في قصة عبد الرحمن بن عوف في البخاري.
([42]) نظام الحكم الإسلامي المعاصر بين الممكن والمطلوب (ص 93).
([43]) ينظر: الخلافة الإسلامية (313). ومقدمة في فقه النظام السياسي (ص 20)