الثلاثاء - 14 شوّال 1445 هـ - 23 ابريل 2024 م

إرهاصات الانبعاث السَّلفي

A A

وصل العالم الإسلامي في مطلع العصر الحديث وفي ظل غيابٍ كليٍ للمنهج السَّلَفِي إلى أسوأ أحواله من حيث الانفصام بين العلم الشرعي الذي يتوارثه العلماء وبين العمل والقيام بالدِّين، فكانت صورة الدين الموروث في الكتب تختلف كثيرًا عن الدين المعمول به سوى ظواهر من أعمال الجوارح؛ كالصلاة والصوم والحج والزكاة كادت أن تكون هي الباقي الوحيد من معالم دين الأمة الموروث عن نبيها، وحتى تلك كان التفريط فيها هو الأصل والأعم الأغلب، بل إن الصوفية الهندية ومن تأثر بها في البلاد الإسلامية كانت تميل إلى شيءٍ من الاستخفاف بعبادات الجوارح تلك تأثرًا بالفلسفة الهندية التي تنبني على عمل الروح وإذابة الجسد فيها.

وظهرت في الهند محاولةً لإعادة الأمة إلى دينها الحركةُ التجديديةُ لملك الهند العظيم أُورَنْكزِيب المعروف بـ (عَالـمكِير) [1118هـ]، لكنها أيضا لم تنجح كثيرًا بل ربما سيجد المتتبع أن آثارها انتهت فور وفاة هذا الملك، ولعل من أسباب ذلك كونها إحدى آثار الحركة التجديدية للعلامة أحمد السرهندي [1034هـ] الذي سُمِّيَ مجددَ الهند، والحقيقة أنه جدد الطريقة النقشبندية، وقد اعتُبِر عند المؤرخين مجددًا للإسلام من خلال تجديد هذه الطريقة، وهو وإن أزال عنها في الهند بدعة وحدة الوجود الكفرية التي ورثها النقشبنديون عن ابن عربي، فإن الضلال والخرافة والابتداع بقيت في طياتها، ولم يوفق الشيخ السرهندي رحمه الله ولا الملك أورنكزيب لتحقيق التجديد الحق والخروج بالأمة من ضائقتها.

وقد ظهرت في أنحاء العالم الإسلامي محاولات فردية لإعادة عقيدة السلف للظهور في الأمة؛ كدعوة الشيخ محمد بن سليمان الروداني في مكة [1094هـ]، ودعوة الشيخ ولي الله الدهلوي في الهند [1176هـ]، إلا أن هذه الدعوات بقيت محدودة التأثير لعوامل عديدة، ولعل منها: أن دعوة الروداني كانت مبنية على تغيير المنكر اعتمادًا على المنصب والنفوذ حيث تولى الشيخ من قِبَل السلطان العثماني صلاحيات عريضة في الحجاز، ولم تعتمد بشكل كبير على تغيير قناعات العلماء أو الأمراء، بل ولا تغيير قناعات عامة الناس.

أما دعوة الدهلوي فاعتمدت على تأسيس مناهج علمية جديدة وإنشاء طبقة من العلماء مؤمنة بالتجديد العلمي والعودة إلى معارف السلف، لكنها تضمنت أيضا عدم مفاصلة مع التصوف بشكل عام، فأبقى الشيخ ولي الله على علاقاته مع أصحاب الطرق محاولًا تصحيح الطرقية من داخلها عبر منهج يتضمن الإبقاء عليها، وربما كان هذا شيء مما أضعف أثرها إضافة إلى أنها دعوة غير مُدَعَّمةٍ سياسيًا، فقد وُلد ولي الله الدهلوي في آخر عهد آخر ملوك الهند الأقوياء والذي سنتحدث عنه قريبًا، وشهد عهده صراعًا بين الهنود المسلمين وبعضهم، وبين المسلمين والديانات الأخرى والسيخ خاصة، وبين المسلمين والانجليز، فكانت الأجواء السياسية تبني الكثير من العوائق دون إنجاح هذه الحركة في انتشار التأثير العام.

إلا أن المنهج التعليمي الذي رسمه الشيخ ولي الله كان سببًا رئيسًا في إنجاح هذه الحركة في البقاء حيث امتدت في الهند حتى يومنا هذا.

فضَلَّ العالم الإسلامي على ما ابتُلي به من الانكفاء على الخرافة التي وصل تأثيرها من الضرر أن جعل دولة الإسلام في الهند تسقط تحت الاحتلال البريطاني القادم من بعيد جدًا؛ بتأثير شركة تجارية أنشأتها بريطانيا([1])، وبعض المعارك الحربية التي لم يكن لمثلها أن تُسْقط شعبا وأرضًا أعظم عددًا ومساحة من بريطانيا بكثير تحت سلطتها.

واستطاعت فرنسا بسبب انكفاء الشعب على الخرافة والبعد عن الدين الحق احتلال مصر غرة تاج الدولة العثمانية بمجرد وصولها إلى ثغر الاسكندرية بعد مقاومة يسيرة، ثم دخلت إلى القاهرة وأعلنت السيادة على كامل الأراضي المصرية في أيام قلائل [بين يومي 18محرم  و11 صفر 1213هـ]، ومعظم المقاومة التي لقيتها مملوكية، وليس للأهالي أو لعلماء الدين والوعاظ شأن يذكر، فقد كانت عقيدة الجبر والإغراق في الصوفية قد أودت بهم شيئًا كثيرًا.

وحين تتأمل أن غزوًا بالدَّوابِّ والعربات من أمة أجنبية الدين واللسان والصقع قادر على أن يُحكِم القبضة على إقليمٍ بحجم مصر في أقل من شهر، فإنك لابد أن تنظر في الأسباب الباطنة في نفوس أهل تلك الأرض، والناتج أن أظهر تلك الأسباب هو انكفاء الأمة بسبب شيوع الاستعباد للعباد عن طريق بدعة الاستغاثة بغير الله، وإعطاء الصلاحيات للأولياء والمريدين وغيرها من البدع التي انتهجت على قلوب وعقول المسلمين حتى جعلتهم مسلوبي الإرادة عظيمي العجز عن التفكير والتدبير.

والغزو الفرنسي لمصر كان الباقعة التي من المفترض أن تحيي القلوب وتستنفر الأبدان، وإلَّا فإن الطوام قد حلت بالمسلمين قبل حلول الكافرين في ديارهم، ألا ترى أن مصر-مثلًا لا حصرًا- لم يكن إلا المماليك المجلوبون من أواسط آسيا يتوارثون حكمها وعسكريتها وولاياتها ووظائفها وأموالها وملك عقارها، أما بقية الناس فهم أتباع للحضرات والمقامات ومشايخ الطرق والتكايا ورُواقات المشايخ وزواياهم وخلاويهم، ومن ليسوا من هؤلاء فهم الكادحون الكادُّون على أمر لقيماتهم ولقيمات أبنائهم.

وبالرغم من كون الحملة الفرنسية قد انقشعت في ثلاث سنين إلا أن هذا الانقشاع لم يكن بسبب حياةٍ في القلوب ونهضةٍ في العقائد؛ بدليل أن بريطانيا جاءت من جديد واحتلت مصر بعد معركة التل الكبير التي استغرقت نصف ساعة، وقد أحاط بها خيانات كثيرة من الحكومة والقادة والأهالي، وكانت نتيجتها سيطرة الإنجليز على مصر والسودان معًا في شوال 1299هـ، نعم: كانت المقاومة والتفاعل في شأن الغزو الإنجليزي أشد مما كان عليه في زمن الاحتلال الفرنسي، لكن يبقى أن الأمة كانت ضعيفة غارقة في غياهب الخرافة، وكان هذا الغرق سبب رئيس في سهولة شقوق الأمة تحت أعدائها، وضعف الدولة الخديوية وعدم قدرة شعبها أو حكامها على حمايتها.

ومثال ثالث لسرعة انهيار البلاد الإسلامية أمام الغزو الأجنبي احتلال الجزائر التي لم تقف أمام الغزو الفرنسي سوى معارك يسيرة دخلت بعدها مدينة الجزائر سنة 1246هـ.

والعجيب أن القوات التي كانت تحتل تلك المساحات الشاسعة كالهند ومصر والجزائر لم تكن قوات عظيمة العدد، بل كانت فيما بين الثلاثين ألفًا والأربعين ألفًا، ولكن انهيار النفسية المسلمة ببُعدها عن دينها واعتناقها تلك الخرافات جعلها عاجزة عن حماية نفسها.

وهذا الانهيار العجيب كان السبب الرئيس في تقبُّل العالم الإسلامي للدعوة السَّلَفِية التي انتشرت فيما بعد، وكانت هي السبب الرئيس لكل الحركات التحررية من ربقة الاستعمار، والتي لا تخفى صلتها المباشرة بدعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله وقيام الدولة السعودية.

ــــــــــــــــــــ

([1]) تأسست الشركة الاستعمارية في 1009هـ وتم انتقال الهند لحكم بريطانيا مباشرة في 1260هـ.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

جديد سلف

الإباضــــية.. نشأتهم – صفاتهم – أبرز عقائدهم

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة مقدمة: من الأصول المقرَّرة في مذهب السلف التحذيرُ من أهل البدع، وذلك ببيان بدعتهم والرد عليهم بالحجة والبرهان. ومن هذه الفرق الخوارج؛ الذين خرجوا على الأمة بالسيف وكفَّروا عموم المسلمين؛ فالفتنة بهم أشدّ، لما عندهم من الزهد والعبادة، وزعمهم رفع راية الجهاد، وفوق ذلك هم ليسوا مجرد فرقة كلامية، […]

دعوى أن الخلاف بين الأشاعرة وأهل الحديث لفظي وقريب

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة مقدمة: يعتمِد بعض الأشاعرة المعاصرين بشكلٍ رئيس على التصريحات الدعائية التي يجذبون بها طلاب العلم إلى مذهبهم، كأن يقال: مذهب الأشاعرة هو مذهب جمهور العلماء من شراح كتب الحديث وأئمة المذاهب وعلماء اللغة والتفسير، ثم يبدؤون بعدِّ أسماء غير المتكلِّمين -كالنووي وابن حجر والقرطبي وابن دقيق العيد والسيوطي وغيرهم- […]

التداخل العقدي بين الفرق المنحرفة (الأثر النصراني على الصوفية)

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة مقدمة: بدأ التصوُّف الإسلامي حركة زهدية، ولجأ إليه جماعة من المسلمين تاركين ملذات الدنيا؛ سعيًا للفوز بالجنة، واقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم، ثم تطور وأصبح نظامًا له اتجاهاتٌ عقائدية وعقلية ونفسية وسلوكية. ومن مظاهر الزهد الإكثار من الصوم والتقشّف في المأكل والملبس، ونبذ ملذات الحياة، إلا أن الزهد […]

فقه النبوءات والتبشير عند الملِمّات

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة مقدمة: منَ الملاحَظ أنه عند نزول المصائب الكبرى بالمسلمين يفزع كثير من الناس للحديث عن أشراط الساعة، والتنبّؤ بأحداث المستقبَل، ومحاولة تنزيل ما جاء في النصوص عن أحداث نهاية العالم وملاحم آخر الزمان وظهور المسلمين على عدوّهم من اليهود والنصارى على وقائع بعينها معاصرة أو متوقَّعة في القريب، وربما […]

كيف أحبَّ المغاربةُ السلفيةَ؟ وشيء من أثرها في استقلال المغرب

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة   مقدّمة المعلِّق في كتابِ (الحركات الاستقلاليَّة في المغرب) الذي ألَّفه الشيخ علَّال الفاسي رحمه الله كان هذا المقال الذي يُطلِعنا فيه علَّالٌ على شيءٍ من الصراع الذي جرى في العمل على استقلال بلاد المغرب عنِ الاسِتعمارَين الفرنسيِّ والإسبانيِّ، ولا شكَّ أن القصةَ في هذا المقال غيرُ كاملة، ولكنها […]

التوازن بين الأسباب والتوكّل “سرّ تحقيق النجاح وتعزيز الإيمان”

توطئة: إن الحياةَ مليئة بالتحدِّيات والصعوبات التي تتطلَّب منا اتخاذَ القرارات والعمل بجدّ لتحقيق النجاح في مختلِف مجالات الحياة. وفي هذا السياق يأتي دورُ التوازن بين الأخذ بالأسباب والتوكل على الله كمفتاح رئيس لتحقيق النجاح وتعزيز الإيمان. إن الأخذ بالأسباب يعني اتخاذ الخطوات اللازمة والعمل بجدية واجتهاد لتحقيق الأهداف والأمنيات. فالشخص الناجح هو من يعمل […]

الانتقادات الموجَّهة للخطاب السلفي المناهض للقبورية (مناقشة نقدية)

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة مقدمة: ينعمُ كثير من المسلمين في زماننا بفكرٍ دينيٍّ متحرِّر من أغلال القبورية والخرافة، وما ذاك إلا من ثمار دعوة الإصلاح السلفيّ التي تهتمُّ بالدرجة الأولى بالتأكيد على أهمية التوحيد وخطورة الشرك وبيان مداخِله إلى عقائد المسلمين. وبدلًا من تأييد الدعوة الإصلاحية في نضالها ضدّ الشرك والخرافة سلك بعض […]

كما كتب على الذين من قبلكم (الصوم قبل الإسلام)

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة المقدمة: مما هو متَّفق عليه بين المسلمين أن التشريع حقٌّ خالص محض لله سبحانه وتعالى، فهو سبحانه {لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ} [الأعراف: 54]، فالتشريع والتحليل والتحريم بيد الله سبحانه وتعالى الذي إليه الأمر كله؛ فهو الذي شرَّع الصيام في هذا الشهر خاصَّة وفضَّله على غيره من الشهور، وهو الذي حرَّم […]

مفهوم العبادة في النّصوص الشرعيّة.. والردّ على تشغيبات دعاة القبور

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة لا يَخفَى على مسلم أنَّ العبادة مقصَد عظيم من مقاصد الشريعة، ولأجلها أرسل الله الرسل وأنزل الكتب، وكانت فيصلًا بين الشّرك والتوحيد، وكل دلائل الدّين غايتها أن يَعبد الإنسان ربه طوعًا، وما عادت الرسل قومها على شيء مثل ما عادتهم على الإشراك بالله في عبادتِه، بل غالب كفر البشرية […]

تحديد ضابط العبادة والشرك والجواب عن بعض الإشكالات المعاصرة

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة لقد أمر اللهُ تبارك وتعالى عبادَه أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئًا، قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56]، ومدار العبادة في اللغة والشرع على التذلُّل والخضوع والانقياد. يقال: طريق معبَّد، وبعير معبَّد، أي: مذلَّل. يقول الراغب الأصفهاني مقررًا المعنى: “العبودية: إظهار التذلّل، والعبادة أبلغُ منها؛ […]

رؤية النبي صلى الله عليه وسلم يقظة.. بين أهل السنة والصوفية

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة مقدمة: الناظر المدقّق في الفكر الصوفي يجد أن من أخطر ما قامت عليه العقيدة الصوفية إهدار مصادر الاستدلال والتلقي، فقد أخذوا من كل ملة ونحلة، ولم يلتزموا الكتاب والسنة، حتى قال فيهم الشيخ عبد الرحمن الوكيل وهو الخبير بهم: “إن التصوف … قناع المجوسي يتراءى بأنه رباني، بل قناع […]

دعوى أن الحنابلة بعد القاضي أبي يعلى وقبل ابن تيمية كانوا مفوضة

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة إن عهدَ القاضي أبي يعلى رحمه الله -ومن تبِع طريقته كابن الزاغوني وابن عقيل وغيرهما- كان بداية ولوج الحنابلة إلى الطريقة الكلامية، فقد تأثَّر القاضي أبو يعلى بأبي بكر الباقلاني الأشعريّ آخذًا آراءه من أبي محمد الأصبهاني المعروف بابن اللبان، وهو تلميذ الباقلاني، فحاول أبو يعلى التوفيق بين مذهب […]

درء الإشكال عن حديث «لولا حواء لم تخن أنثى»

  تمهيد: معارضة القرآن، معارضة العقل، التنقّص من النبي صلى الله عليه وسلم، التنقص من النساء، عبارات تجدها كثيرا في الكتب التي تهاجم السنة النبوية وتنكر على المسلمين تمسُّكَهم بأقوال نبيهم وأفعاله وتقريراته صلى الله عليه وسلم، فتجدهم عند ردِّ السنة وبيان عدم حجّيَّتها أو حتى إنكار صحّة المرويات التي دوَّنها الصحابة ومن بعدهم يتكئون […]

(وقالوا نحن ابناء الله ) الأصول والعوامل المكوّنة للأخلاق اليهودية

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة المقدمة: لا يكاد يخفى أثر العقيدة على الأخلاق وأثر الفكر على السلوك إلا على من أغمض عينيه دون وهج الشمس منكرًا ضوءه، فهل ثمّة أصول انطلقت منها الأخلاق اليهودية التي يستشنعها البشر أجمع ويستغرب منها ذوو الفطر السليمة؟! كان هذا هو السؤال المتبادر إلى الذهن عند عرض الأخلاق اليهودية […]

تغاريد سلف

جميع الحقوق محفوظة لمركز سلف للبحوث والدراسات © 2017