حكم التكفير بالانتساب للمذاهب الكفرية
الحمد لله وحده ، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده ، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم ، وبعد :
فمن المعلوم لدى أهل العلم خطر قضية تكفيرالأعيان ؛ لما يترتب عليه من لوازم خطيرة يجب الاحتياط جدًا قبل ولوجها ؛ ولذا اعتنى أهل العلم بضوابط تكفير الأعيان؛ فإن الخطأ في نفي الكفر عن معين لوجود الشبهة ؛ أهون من الخطأ في تكفيره .
ومن الخطأ الذي وقع فيه بعض الغلاة ؛ الحكم بالكفر بمجرد الانتساب للفرق التي حكم أهل العلم على مقالاتهم بالكفر ، والأسوء قيام بعضهم بترتيب أحكام الردة العملية ، كاستباحة الدماء والأموال ، والتفجير في تجمعاتهم وأسواقهم .
والكلام في هذه المقالة : حول إبطال الحكم بتكفير الأعيان بمجرد الانتساب لهذه الفرق ، دون التحقق من قيام مناط التكفير في الشخص المحكوم عليه .
وليس الكلام في :
-الكفار الأصليين الذين لا ينتسبون للإسلام ، ولا يقرون بالشهادتين أصلاً ، كاليهود والنصارى والمجوس ونحوهم ؛ فإن هؤلاء لم يدخلوا أصلا في الإسلام حتى نخشى إخراجهم منه ، بخلاف من نطق الشهادتين ، وأقر بالإسلام ، فهؤلاء معهم – على الأقل – إيمان مجمل لا يُنقض إلا بيقين .
قال ابن حزم رحمه الله تعالى : “والمجتهد المخطئ أفضل عند الله تعالى من المقلد المصيب. هذا في أهل الإسلام خاصة، وأما غير أهل الإسلام فلا عذر للمجتهد المستدل ولا للمقلد، وكلاهما هالك ” .[ المحلى 1/88] وهذا من المعلوم بالاضطرار من دين الإسلام ، وليس كل الكفار الذين قاتلهم النبي صلى الله عليه وسلم كانوا عارفين معاندين ، بل الأكثر جهلة مقلدة أطاعوا سادتهم وكبرائهم ، ومع ذلك لم يعذرهم القرآن ، مع كونهم كانوا جهالا لا يعلمون . [ انظر: روضة الناظر ( 2/351]
-وليس الكلام أيضا ، في الفرق أو أهل البدع الذين لا تصل مقالاتهم للكفر ؛ لكونها لا تتضمن تكذيبًا صريحا للوحي المنزل . وذلك مثل أصحاب مقالة التفويض، أو تأويل بعض الصفات ، أو تفضيل علي على الشيخين . أو إرجاء الفقهاء ، أو بدع بعض المتصوفة غير الغالية . قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى : ” وأما السلف والأئمة فلم يتنازعوا في عدم تكفير ” المرجئة ” و ” الشيعة ” المفضلة ونحو ذلك . ولم تختلف نصوص أحمد في أنه لا يكفر هؤلاء وإن كان من أصحابه من حكى في تكفير جميع أهل البدع – من هؤلاء وغيرهم – خلافاً عنه أو في مذهبه ، حتى أطلق بعضهم تخليد هؤلاء وغيرهم ، وهذا غلط على مذهبه وعلى الشريعة “.[ مجموع الفتاوى 3/352]
– ومما ينبغي التنبه له في الكلام على هذه الفرق ، وفي الحكم على الطوائف عموما : أن الحكم عليهم إنما يكون بحسب الأصل الذي اجتمعوا عليه ، وقد يكون في بعض أفرادهم غلوًا يصل بصاحبه للكفر ، ولكن لا يعمم الحكم على الطائفة ، ما لم يَصِر ذلك أصلا يجتمعون عليه . فمثلا الحكم بعدم تكفير الزيدية المفضلة هو بالنظر إلى بدعة تفضيل علي على أبي بكر وعمر ، ومن المعلوم أن الاعتزال قد انتشر بينهم ؛ بسبب تتلمذ رأس الطائفة زيد بن علي على واصل بن عطاء ، كما ذكره الشهرستاني في الملل [1/155] وكذلك انتشر عندهم الرفض ، فمن قال منهم بمقالة المعتزلة أو الرافضة حُوكم بمقتضى قوله ؛ ولذلك حكم الحافظُ ابنُ حجر على زيادِ بنِ المنذر رأسِ الجارودية بأنه رافضي [ التقريب ، ص:221] .
– والكلام في هذا المقام ليس متعلقًا بالحكم بالإيمان عند الله ، وإنما في إجراء أحكام الظاهر ، وقد يكون في بعض هؤلاء من هو منافق عارف للحق معرض عنه لهوى او غير ذلك ، ولكن لاحتمال الشبهة لم نُجْر أحكام التكفير في الدنيا مع كونه كافرًا عند الله ، وهذا هو المنافق الذي يكون في الدرك الأسفل من النار . قال شيخ الإسلام رحمه الله : ” وكذلك سائر الثنتين والسبعين فرقة من كان منهم منافقا فهو كافر في الباطن ومن لم يكن منافقا بل كان مؤمنا بالله ورسوله في الباطن لم يكن كافرا في الباطن وإن أخطأ في التأويل كائنا ما كان خطؤه ” .[ مجموع الفتاوى 7/218]
فانحصر الكلام في مناقشة توصيف ” انتساب المرء لفرقة من الفرق التي أطلق عليها العلماء وصف الكفر، أو حكموا على مقالاتهم بالكفر ” وذلك كالجهمية والمعتزلة والرافضة والخوارج ، وكذا الفرق التي جزم العلماء بتكفير من قال بقولهم بعينه كالنصيرية والعلويين والدروز والإسماعيلية وغيرهم من الفرق الباطنية .
والكلام ينسحب كذلك على الانتساب لبعض المذاهب الفلسفية المعاصرة كالشيوعية والعلمانية ونحوها مما يحكم على بعض مقالاتها بالكفر .
والكلام ليس منصبًا على توصيف أفعال وأقوال هذه الفرق ، فليس هذا مجاله ، بل إننا ننطلق من مسلمة أن السلف أطلقوا عليهم وصف الكفر ، وإنما الكلام على توصيف الانتساب لهم : هل يصير هذا الانتساب بمجرده كفرًا ، سواء اعتُبِر فيه بعد ذلك موانع التكفير كالجهل والتأويل ، أم لم يعتبر؟
نحتاج إلى تأصيل بعض نقاط ، منها نستخلص الجواب :
1-أنه لا يجوز تكفير مسلم ثبت إسلامه بيقين الشهادتين أو الولادة لأبوين مسلمين أو غيرهما مما يثبت به الإسلام ظاهرًا إلا بيقين ، وإذا كانت الحدود تدرأ بالشبهات فالتكفير من باب أولى .
2- بناء على النقطة الأولى ؛ فإن لازم الكفر ليس بكفر، فلو كان الانتساب لهذه الفرق يلزم منه الاقرار بصحة عقائدها ؛ فإنه لا يصح التكفير باللازم حتى يُلْزَم صاحبه به فَيَلْتزِمه . فإن التزم ما هم عليه من الكفر كفر ، وإلا كان متناقضًا ولم يكن كافرًا . قال ابن حزم رحمه الله : “وأما من كفر الناس بما تؤول إليه أقوالهم فخطأ لأنه كذب على الخصم وتقويل له ما لم يقل به وإن لزمه فلم يحصل على غير التناقض فقط والتناقض ليس كفرا بل قد أحسن إذ فر من الكفر” .[ الفصل ، 3/139] وأقوال أهل العلم في نفي التكفير باللازم الذي لم يلتزمه صاحبه كثيرة مشهورة . ومن هذا الباب العبارة المنسوبة للشافعي أو أحمد في مناظرة المعتزلة القدرية : ” ناظروهم بالعلم ، فإن أقروا به خصموا وإلا كفروا ” أي إن لازم قولكم نفي العلم القديم ، وهذا كفر قطعا ، ولكن لا يكفرون إلا إذا التزموه ، وإلا تناقضوا وحوججوا .
3- هذا على فرض اللزوم ، فكيف وهذا المُدَّعَى ليس بلازم أصلاً ؛ فإن الواقع يؤكد أن كثيرًا من المنتسبين لهذه الفرق لا يعرفون حقيقة عقائدهم وما في كتبهم من الكفريات . فيكون التكفير بالانتساب تكفيرًا بلازم لا يصح لزومه .
4- يجب التفريق بين الخلاف السائغ الذي يحكيه العلماء في تكفير أعيان المعتزلة والروافض والخوارج ، وبين مسألتنا . فالبعض قد يحتج على مخالفه بأن الخلاف في المسألة سائغ ومحكي .
والحقيقة أن الخلاف في من تلبس بقولهم ، وقام به المناط المكفر ، كمن عُلِم عنه سب الصحابة ، أو نفي الصفات ، وإنكار الرؤية ، وإنكار خلق الله لأفعال العباد . فبعد ثبوت الوصف المكفر ، ينظر في استيفاء شروط التكفير وانتفاء موانعه ، وهذا مما حكى فيه غير واحد الخلاف ، وإن كان جمهور أهل العلم لا يكفرون أعيان هؤلاء وإن أطلقوا على مقالاتهم أنها كفر . [ انظر :الرد على البكري ، ص: 253، وانظرأيضا: مجموع الفتاوى 23/ 348،349] وأما أن يطلق تكفير شخص بعينه لمجرد انتسابه لطائفة، دون أن يعلم عنه مكفر ، مع استصحابنا لحكم الإسلام الأصلى ؛ فهذا ما لا قائل معتبر به .
5- الفرق الغالية التي لها مقالات تخالف القطعي المعلوم من الدين بالضرورة ، كفرق النصيرية والبهرة وأمثالهم ، ممن حكى العلماء الإجماع على كفرهم بأعيانهم ، ينبغي النظر في أحوالهم بحسب الواقع ، فإن كانوا يجاهرون بالبراءة من الإسلام ، أو إنكار الفرائض ، او استباحة المحرمات المعلومة بالاضطرار ، وتكون هذه الأقوال فيهم ظاهرة بحيث لا يتصور أن ينتسب إليهم من يجهل ذلك ؛ حكم علي منتسبيهم بالكفر؛ لأنهم يكونون كاليهود والنصارى وليسوا من أهل القبلة أساسا . وفي مثل هؤلاء أطلق شيخ الإسلام فتواه الشهيرة في النصيرية [ انظر :مجموع الفتاوى، 35/145]
وأما إن كان الواقع غير ذلك ، وأنهم ينتسبون للقبلة ويقرون بالشهادتين ، ولا يجاهرون بالبراءة من الإسلام ؛ فهنا لا يمكن التكفير بمجرد الانتساب حتى يتبين تحققهم بعقيدة القوم ، فإن أقروا بها ؛ حكم عليهم بأعيانهم بالكفر ، ولا يتصور جهل أو تأويل معتبر .
ومن هنا يتبين الفرق بين الفرق الغالية وغيرها ؛ فإن المنتسب للرافضة أو المعتزلة والقدرية وأمثالهم ، يؤتى به ويعرف حقيقة قوله ، فإن أقر بها ؛ لم يمكن تكفيره إلا بعد إقامة الحجة ، بخلاف الفرق الغالية ، فإنه متى أقر بعقائد القوم الغالية كألوهية علي أو أحد الأئمة ونحو ذلك ؛ كفر بعينه من فوره . وهذا مقصد كلام العلماء بأن أصحاب هذه الفرق كفار بأعيانهم ، أي: القائلين بأقوالهم .
فظهر بهذا أن الانتساب للفرق أو المذاهب ذات المقالات الكفرية التي ينتسب أصحابها لأهل القبلة ؛ ليس مما يصح ان يجعل مناطًا للتكفير . والله أعلم