المعرفة اليقينية من منظور ديني
يُعتبر اليقين قضيةً غائيةً بالنسبة لكل باحث عن الحقيقة، وما من منهج عقليٍّ إلا ويجعل من أسسه الوصول إلى الحقيقة بشكل يقيني ولو في بعض المجالات، وتُعدُّ الفلسفة أحد المناهج العقلية التي تبنت البحث عن الحقيقة بطرقها الخاصة، والتي في أغلبها تتَّسم بالنظر العقلي المجرد، وتستبعد الغيب والبعد الديني، فجعلت كل القضايا الْمُسَلَّمَةَ -سواء كانت دينية أو قيمية- محل بحث وتنقيح، مما جعلها تقف في شكل المعاند للقضايا الدينية، وخصوصًا تلك التي يطلب فيها الجزم؛ مثل أصول العقائد وأمهات المسائل في التشريع. ونظرًا لتعدد معاني المعرفة عند القدماء من الفلاسفة فإننا نضرب صفحًا عن تلك التعريفات؛ لأن موضوع البحث جزئيٌّ بحت وهو المعرفة اليقينية، ونكتفي بالإشارة إلى التطبيقات التي تعكس النظر للمعرفة، فقد انطلق الباحثون في هذا الميدان من أن المعرفة تتعلق بالفعل العقلي الذي يتم به حصول الشيء في الذهن، سواء كان حصولًا مصحوبًا بالانفعال أو غير مصحوب به([1]).
وهذا الفعل العقلي غالبًا ما يرتبط بالحاسة المدرِكة، وحين نرجع إلى القرآن نجد أنّ معرفته جامعة بين الحس المنبثق من الواقع والعقل العامل في محيطه والفطرة المساعدة على اكتساب المعرفة، ومن هنا يبرز موضوع اليقين عند اجتماع العقل السليم مع الفطرة السليمة وتصديق الواقع، فيكون اليقين الذي لا يستطيع العاقل دفعه، ويتكلم القرآن عن تأثير هذه المعرفة في حياة العارف بها فيقول: {وَإِذَا سَمِعُواْ مَا أُنزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُواْ مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِين} [المائدة: 83].
فالقرآن يؤكد المعرفة اليقينية ووجودها، بل يزيد على ذلك بالتأكيد على تأثيرها في حياة الإنسان شقاء وسعادة، ويجعل من مهمات الدين إزالة الحيرة في المسائل النظرية ليحل محلها اليقين.
واليقين المعرفي له جانبان: أحدهما ذاتي متعلق بشعور الإنسان، والآخر موضوعي، وهو مطابقة ذلك الشعور للواقع، وفي الجانب الموضوعي يكون اليقين مفروضًا على جميع العقول؛ وذلك لاجتماع الحقائق البديهية مع الحقائق الحسية([2]).
فاليقين في هذه الحالة يعد أساسًا للمعرفة ووسيلة لتثبيتها، وله طرق يحصل بها، “فيحصل اليقين بثلاثة أشياء: أحدها: تدبر القرآن، والثاني: تدبر الآيات التي يحدثها الله في الأنفس والآفاق التي تبين أنه حقٌّ، والثالث: العمل بموجب العلم، قال تعالى: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيد} [فصلت: 53]”([3]). فاجتماع الحس والعقل والفطرة مع الشرع هو ما يورث العلم اليقيني الذي يمكن الاطمئنان إليه، ودلالة القرآن للعباد على الحقائق لم تكن بمجرد الإخبار كما يظنه كثير من الناس، بل جمعت بين دليل العقل والحس والفطرة، كما أن القرآن ينفرد بخاصية في الوصول للمعرفة اليقينية وهي: تأكيده على العمل، فإن العمل في المنظور القرآني أحد الوسائل الدالة على اليقين، والمقصود بالعمل العمل بموجب العلم، “فإن العمل بموجب العلم يثبته ويقرره، ومخالفته تضعفه؛ بل قد تذهبه، قال الله تعالى: {فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ} [الصف: 5]، وقال تعالى: {وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُواْ بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ} [الأنعام: 110]، وقال تعالى: {وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُواْ مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا} الآيات [النساء: 66]، وقال: {قَدْ جَاءكُم مِّنَ اللّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِين يَهْدِي بِهِ اللّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلاَمِ وَيُخْرِجُهُم مِّنِ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيم} الآية [المائدة: 16]”([4]).
فإذا تبين طلب اليقين شرعًا وكونه أحدَ مراتب الإيمان كما نص عليه القرآن: {وَقَالَ الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ لَوْلاَ يُكَلِّمُنَا اللّهُ أَوْ تَأْتِينَا آيَةٌ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم مِّثْلَ قَوْلِهِمْ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ قَدْ بَيَّنَّا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُون} [البقرة: 118]، {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللّهِ حُكْمًا لِّقَوْمٍ يُوقِنُون} [المائدة: 50]، {وَفِي خَلْقِكُمْ وَمَا يَبُثُّ مِن دَابَّةٍ آيَاتٌ لِّقَوْمٍ يُوقِنُون} [الجاثية: 4]، {هَذَا بَصَائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّقَوْمِ يُوقِنُون} [الجاثية: 20]؛ فقد يرد سؤال وهو: أين محل اليقين من الدين؟ هل كل مسائل الدين يطلب اعتقادها على سبيل اليقين، ويطلب فيها من الأدلة ما يوصل إلى اليقين، أم أن للقين مجالًا محدَّدًا؟
الحقيقة أن الناظر في نصوص الشرع يجد أنها وإن جعلت اليقين مرتبة كمال في الإيمان، إلا أنه يتعذر طلبه كل وقت وفي كل جزئية، فلذلك خصته الشريعة ببعض الأبواب، وطلبت في الأخرى الاعتقاد على سبيل الرجحان، فمن الأبواب التي طلبته فيها جزمًا: الإيمان بوحدانية الله، وصدق الرسل، والإيمان بالعبث، وهذا مبثوث في القرآن لا يحتاج إلى دليل، ولم تعط الشريعة فيه مجالًا للشك، {وَإِذَا قِيلَ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَالسَّاعَةُ لاَ رَيْبَ فِيهَا قُلْتُم مَّا نَدْرِي مَا السَّاعَةُ إِن نَّظُنُّ إِلاَّ ظَنًّا وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِين} [الجاثية: 32].
ومسائل أخرى يطلب فيها الاعتقاد على سبيل الرجحان، وهي تفاصيل الثواب والعقاب ومعاني بعض الأسماء والصفات([5]).
وهنا يظهر الفرق بين التَّشدُّد الكلامي والسفه الفلسفي والجدية العلمية التي ميزت نظرية المعرفة الدينية في القرآن، فإنَّ تشدُّد المتكلمين في طلب اليقين في جميع مسائل أصول الدين أدَّى بهم إلى تكفير كل عاجز عما اعتبروه يقينًا، وإنكار كل خبر شرعي لم يثبت بيقين أو يدل دلالة يقين على ما اعتبروه هم من مجالات اليقين، كما أن إبعاد الفلاسفة لليقين عن جميع المجالات الدينية واعتبارها من قبيل الخيال والتصورات جعلهم يكفُرون بالشرع، ويكابرون العقل، وهذا التخبُّط قد ألقى بظلاله على آلتهم المعرفية، فأخفقت في الوصول إلى أي علم يقيني في الإلهيات، وكان غاية جهدها الوصول إلى كليات مشتركة لا يتميز بها شيء من خصائص الربوبية، ولا يعرف فيها فرق بين نبي وملك([6]).
إن المعرفة الدينية مؤسسة على الفطرة والمعارف القبلية والأوليات العقلية، وتتعزز بالواقع المشاهد والملموس، وهذا ما جعل اليقين فيها ممكنًا، واعتمادها على الوحي وطرقه في الاستدلال وترتيبه للأشياء جعلها واضحةً من حيث التصور السليم للكون والحياة، وترتيب الأشياء حسب الأهمية والأولوية بناء على ما يقدمه القرآن من إرشادات للإنسان في التعامل مع الكون من حوله، وكيفية الاستفادة منه في بناء المعرفة اليقينية المتعلقة بالوجود ومنشئه ومبدئه ومعاده؛ وذلك أن المعرفة ليست هي التصورات، ولكنها الأحكام التصديقية التي تتجلى من خلال التصورات، وتقصير الإنسان في المعرفة دائمًا ما يكون بسبب تغييب قواه العقلية، وليست الحسية كما يزعم الحسيون من الفلاسفة([7])، قال تعالى: {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لاَ تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُور} [الحج: 46].
فإعمال العقل في دليل الشرع والاعتضاض بالحس هو وسيلة المعرفة اليقينية في المنظور الشرعي، أما الاكتفاء بالحس أو بالعقل دون رجوع للشرع؛ فإن الإنسان تطغى عليه شهوته ويغلبه جهله، فتضطرب أحكامه وتشريعاته، ويبقى في حيرة علمية ليس لها من دافع؛ ولذا أنكر القرآن على النصارى اتباعهم للظن وتركهم للعلم في الاعتقاد في عيسى، فقال: {وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَـكِن شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُواْ فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ مَا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلاَّ اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا} [النساء: 157].
كما أنكر على المشركين اتباعهم للظن فيما سبيله القطع وإعراضهم عن الشرع: {وَمَا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لاَ يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا} [النجم: 28]، كما أنكر عليهم تشريعهم بالظن واضطرابهم فيه فقال: {ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ مِّنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الأُنثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الأُنثَيَيْنِ نَبِّؤُونِي بِعِلْمٍ إِن كُنتُمْ صَادِقِين} [الأنعام: 143]. فلا تكون المعرفة يقينية في مجال التشريع إلا إذا استندت إلى كليات الشرع وأحكامه، فجمعت بين المتماثلات وفرقت بين المتفرقات؛ مستندة في ذلك إلى حكمة الباري سبحانه وما تواضعت عليه العقول من محاسن العادات ومكارم الأخلاق.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(المراجع)
([1]) ينظر: أسس اليقين بين الفكر الديني والفلسفي (ص: 74).
([2]) ينظر: المعجم الفلسفي (2/ 588).
([5]) ينظر: بيان تلبيس الجهمية (8/ 454).
([6]) ينظر: مجموع الفتاوى (9/ 261).
([7]) ينظر: مصادر المعرفة في الفكر الديني والفلسفي (ص: 451).