حديث: “أين الله؟” دراسة وتحليل
للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، سيدنا محمد وعلى آله وصحبه ومن اتبع هديه.
أما بعد: فإن من رحمة الله تعالى بعباده أن جعل الحق واحدًا لا يتعدَّد؛ ليكون علامة على صِدقه، مدعاة لاتباعه، وجعل الأهواء متفرقة ومتشعّبة؛ لتكون علامة على بطلانها، مدعاة لاجتنابها؛ يقول الله تعالى: {أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ} [محمد: 14]، يقول مطرف بن الشخير (ت 95هـ): “لو كانت هذه الأهواء كلها هوى واحدًا لقال القائل: الحق فيه، فلما تشعّبت واختلفت عرف كل ذي عقل أن الحق لا يتفرق”([1]).
وفي هذه الورقة العلمية نعرض لحديث لطالما تناوله المعتزلة والجهمية وبعض الأشاعرة بالرد، واتخذوا لذلك طرقًا شتى وتارات متفرقة؛ تارة بادعاء تضعيفه، وتارة بالتأويل وصرفه عن ظاهره، أو بتفويض معناه إلى الله تعالى تارة أخرى([2]).
هذا الحديث يعرف بحديث الجارية، وسؤال النبي صلى الله عليه وسلم لها: «أَيْنَ اللهُ؟»، وهو حديث صحيح سالم من المعارضة، قد دلَّ على إثبات صفة العلو لله تعالى على الوجه اللائق به سبحانه([3])، كما أيده القرآن الكريم في آيات كثيرة، منها قوله تعالى: {أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ (16) أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ} [الملك: 16، 17].
فمَن أقبحُ حالًا وأسوأ مآلًا ممن ذكر له حديث النبي صلى الله عليه وسلم ثم هو يعارضه بشبهات غوية أو يقدم عليه سخافات عقلية؟! يقول ابن قدامة المقدسي (ت 600 هـ): “ومن أجهل جهلًا وأسخف عقلًا وأضل سبيلًا ممن يقول: إنه لا يجوز أن يقال: أين الله؟ بعد تصريح صاحب الشريعة بقوله «أَيْنَ اللهُ؟»؟!”([4]).
وفيما يلي نص الحديث، وبيان درجته، وأقوال العلماء في تصحيحه، ثم التعريج على ما يستفاد منه، مع الرد على ما يصلح أن يكون شبهة ترد على الحديث.
1- نص الحديث:
عن معاوية بن الحَكَم السُّلَمي رضي الله عنه -في حديث طويل- أنه قال: وَكَانَتْ لِي جَارِيَةٌ تَرْعَى غَنَمًا لِي قِبَلَ أُحُدٍ وَالْجَوَّانِيَّةِ([5])، فَاطَّلَعْتُ ذَاتَ يَوْمٍ فَإِذَا الذِّيبُ قَدْ ذَهَبَ بِشَاةٍ مِنْ غَنَمِهَا، وَأَنَا رَجُلٌ مِنْ بَنِي آدَمَ، آسَفُ([6]) كَمَا يَأْسَفُونَ، لَكِنِّي صَكَكْتُهَا([7]) صَكَّةً، فَأَتَيْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَعَظَّمَ ذَلِكَ عَلَيَّ، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ أَفَلَا أُعْتِقُهَا؟ قَالَ: «ائْتِنِي بِهَا»، فَأَتَيْتُهُ بِهَا، فَقَالَ لَهَا: «أَيْنَ اللهُ؟»، قَالَتْ: فِي السَّمَاءِ، قَالَ: «مَنْ أَنَا؟»، قَالَتْ: أَنْتَ رَسُولُ اللهِ، قَالَ: «أَعْتِقْهَا، فَإِنَّهَا مُؤْمِنَةٌ»([8]).
2- درجة الحديث:
هذا الحديث صحيح ثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولا معارض له بحال، وبيان ذلك من وجوه:
الأول: رواية الإمام مسلم له في صحيحه، ولم يتعقّبه أحد من نقاد الحديث بتضعيفه، وهو وإن كان مما انفرد به مسلم دون البخاري في صحيحه، إلا أنه مقطوع بصحته، كما تلقته الأمة بالقبول([9])؛ وفي هذا المعنى يقول الحافظ ابن الصلاح (ت 643هـ): “ما انفرد به البخاري أو مسلم مندرج في قبيل ما يقطع بصحته؛ لتلقي الأمة كل واحد من كتابيهما بالقبول على الوجه الذي فصلناه من حالهما فيما سبق، سوى أحرف يسيرة، تكلم عليها بعض أهل النقد من الحفاظ كالدارقطني وغيره، وهي معروفة عند أهل هذا الشأن”([10]).
الثاني: أنه بالرغم من تفرد الإمام مسلم بتخريجه دون البخاري؛ فإنه مع ذلك على شرط الإمام البخاري؛ يقول أبو عبد الله الحميدي (ت 488هـ): “قد أخرجه البخاري في كتابه في “القراءة خلف الإمام”([11]) عن مسدد بن يحيى عن الحجاج الصواف، وهو من شرطه، ولم يتفق له إخراجه في الجامع الصحيح”([12]).
الثالث: إثبات الأئمة له في كتبهم؛ استدلالًا به على بعض المسائل الفقهية؛ كما فعل الإمام الشافعي (ت 204هـ)([13])، أو استدلالًا به على إثبات صفة العلو لله تعالى وأنه سبحانه في السماء، كما فعل الإمام أبو حنيفة (ت 150هـ)([14])، وأبو عبيد القاسم بن سلام (ت 224هـ)([15])، وأبو سعيد الدَّارمي (ت 280هـ)([16])، وعبد الله ابن الإمام أحمد (ت 290هـ)([17])، وأبو الحسن الأشعري (ت 324هـ)([18])، وابن أبي زَمَنِين المالكي (ت 399هـ)([19])، وأبو نصر السِّجزي (ت 444هـ)([20])، وأبو الحسين العمراني الشافعي (ت 558هـ)([21])، وعبد الغني المقدسي الحنبلي (ت 600هـ)([22])، وابن قدامة المقدسي الحنبلي (ت 620هـ)([23]). ولو ذهبنا نستقصي من استدل به من العلماء لطال بنا المقام.
3- أقوال العلماء في تصحيحه:
هذا الحديث مما اتفق العلماء على تصحيحه([24])، وفيما يلي أقوال بعضهم:
يقول أبو بكر البيهقي الشافعي (ت 458هـ): “هذا صحيح”([25]).
ويقول أبو محمد البغوي الشافعي (ت 516هـ): “هذا حديث صحيح”([26])، كما جعله من قسم الصحاح في “مصابيح السنة”([27]).
ويقول شهاب الدين التُّورِبِشتْي (ت 661هـ): “فإن الحديث حديث صحيح”([28]).
ويقول ابن شيخ الحزامين الشافعي (ت 711 هـ): “ثم قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح للجارية: «أَيْنَ اللهُ؟» فقالت: في السماء. فلم ينكر عليها بحضرة أصحابه؛ كيلا يتوهموا أن الأمر على خلاف ما هو عليه، بل أقرها وقال: «أعتقها؛ فإنها مؤمنة»“([29]).
وصححه شيخ الإسلام ابن تيمية الحنبلي (ت 728هـ) كما في “الفتوى الحموية الكبرى”([30])، و”مجموع الفتاوى”([31])، وغيرهما.
ويقول الذهبي الشافعي (ت 748هـ): “فمن الأحاديث المتواترة([32]) الواردة في العلو حديث معاوية بن الحكم السلمي”([33])، وقال أيضًا: “هذا حديث صحيح”([34]).
ويقول الحافظ ابن حجر الشافعي (ت 852هـ): “وهو حديث صحيح أخرجه مسلم”([35]).
ويقول مرعي الكرمي الحنبلي (ت 1033هـ): “في الحديث الصحيح المشهور، الذي رواه الأئمة في كتبهم بأسانيدهم، وتلقته الأمة بالقبول أن معاوية بن الحكم…”([36]).
ويقول الشيخ الألباني (ت 1420هـ): “هذا الحديث صحيح بلا ريب… الرواية الثابتة المتفق على صحتها بين المحدثين“([37]).
ويبقى السؤال: ألا يكفي هذا في التدليل على صحة الحديث، وبالتالي صحة اعتقاد ما دل عليه؟!
4- ما يستفاد من الحديث:
أوَّل ما يستفاد من هذا الحديث: جواز السؤال عن الله تعالى بأين هو؟ وهذا صريح، ثم جواز الإخبار بأنه سبحانه في السماء، وهو إقرار، وثالثًا: الحكم على من قال ذلك بالإيمان.
يقول أبو يعلى الفراء الحنبلي (ت 458هـ): “اعلم أن الكلام في هذا الخبر في فصلين:
أحدهما: في جواز السؤال عنه سبحانه بأين هو؟ وجواز الإخبار عنه بأنه في السماء.
والثاني: قوله: «أعتقها؛ فإنها مؤمنة».
أما الفصل الأول فظاهر الخبر يقتضي جواز السؤال عنه، وجواز الإخبار عنه بأنه في السماء؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال لها: «أَيْنَ اللهُ؟»، فلولا أن السؤال عنه جائز لم يسأل، وأجابته بأنه في السماء وأقرَّها على ذلك، فلولا أنه يجوز الإخبار عنه سبحانه بذلك لم يقرها عليه، فأجاز السؤال، وأجاب عنه”([38]).
ومع جواز السؤال عن الله تعالى بأين، فإن الجواب يأتي بالفطرة المركوزة في نفس كل أحد، بأنه تعالى في السماء؛ يقول الذهبي: “وهكذا رأينا كل من يُسأل: أين الله؟ يبادر بفطرته ويقول: في السماء، ففي الخبر مسألتان: إحداهما: شرعية قول المسلم: أين الله؟ وثانيهما: قول المسؤول: في السماء، فمن أنكر هاتين المسألتين فإنما ينكر على المصطفى صلى الله عليه وسلم”([39]).
ومما يستفاد من الحديث كذلك: أن من لم يعلم بأن الله تعالى في السماء فليس بمؤمن.
يقول الشافعي: “وفيه بيان أن من كانت عليه رقبة بنذر، أو وجبت بغير نذر؛ لم يجزئه فيها إلا مؤمنة، ألا ترى أنه يقول: علي رقبة، لا يذكر مؤمنة، فسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم الجارية عن صفة الإيمان، ولو كانت تجزئه غير مؤمنة قال: أعتق أيَّ رقبة شئت، والله أعلم”([40]).
ويقول أبو سعيد الدارمي (ت 280هـ): “ففي حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا دليل على أن الرجل إذا لم يعلم أن الله عز وجل في السماء دون الأرض فليس بمؤمن، ولو كان عبدًا فأُعتق لم يجز في رقبة مؤمنة؛ إذ لا يعلم أن الله في السماء؛ ألا ترى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جعل أمارة إيمانها معرفتها أن الله في السماء؟!”([41]).
ومما يستفاد من الحديث أيضًا: إثبات صفة العلو للعلي الغفار، وقد سبق ذكر طائفة ممن استدل بالحديث على هذا؛ يقول أبو سعيد الدارمي: “فالله تبارك وتعالى فوق عرشه، فوق سمواته، بائن من خلقه، فمن لم يعرفه بذلك لم يعرف إلهه الذي يعبد، وعلمه من فوق العرش بأقصى خلقه وأدناهم واحد، لا يبعد عنه شيء، {لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ} [سبأ: 3]، سبحانه وتعالى عمَّا يصفه المعطلون علوًّا كبيرًا”([42]).
ولا يلزم من إثبات صفة العلوِّ لله تعالى لوازم باطلة، يقول ابن تيمية: “ولكن ليس معنى ذلك أن الله في جوف السماء، وأن السموات تحصره وتحويه؛ فإن هذا لم يقله أحد من سلف الأمة وأئمتها؛ بل هم متفقون على أن الله فوق سمواته على عرشه، بائن من خلقه؛ ليس في مخلوقاته شيء من ذاته، ولا في ذاته شيء من مخلوقاته. وقد قال مالك بن أنس: إن الله فوق السماء وعلمه في كل مكان… -إلى أن قال:- فمن اعتقد أن الله في جوف السماء محصور محاط به، وأنه مفتقر إلى العرش أو غير العرش من المخلوقات، أو أن استواءه على عرشه كاستواء المخلوق على كرسيه: فهو ضال مبتدع جاهل، ومن اعتقد أنه ليس فوق السموات إله يعبد، ولا على العرش رب يصلى له ويسجد، وأن محمدًا لم يعرج به إلى ربه، ولا نزل القرآن من عنده: فهو معطل فرعوني ضال مبتدع”([43]).
5- الرد على ما يصلح أن يكون شبهة ترِد على الحديث:
الشبهة الأولى: شبهة ردِّ الحديث بأنه خبر آحاد:
بالرغم من توافر الدلائل على صحة الحديث، وتنصيص العلماء على ذلك، واستدلالهم به، فقد وجد من تحدَّى كل هذا، وخالفه معرضًا عنه، بدعوى أنه خبر آحاد، ولا يصلح أن يستدل به في العقائد.
والجواب عن هذه الشبهة:
أن هذا الكلام باطل؛ فإن القول بأن خبر الآحاد يستدل به في العقائد مما اتفق عليه أهل السنة والجماعة قاطبة، حتى صار شعارًا لهم، ومقابله -وهو عدم الاستدلال به في العقائد- شعار أهل البدع، وقد دلَّ على حجية خبر الآحاد في العقائد: الكتاب والسنة والإجماع والمعقول، ولولا خشية الإطالة لبسطنا ذلك([44]).
الشبهة الثانية: شبهة إعلال الحديث بالاضطراب:
اتخذ بعض المتكلمين مسالك متنوعة لرفض هذا الحديث وترك الاستدلال به، وكلها مسالك واهية، وأشبه ما يقال عنها قوله تعالى: {إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا} [النجم: 28]، ولعل ما يستأهل الرد عليه منها هو الادعاء بأن الحديث مضطرب؛ وقد استند من زعم ذلك على رواية أخرى، يقول الكوثري: “إن حديث الرسول صلى الله عليه وسلم مع الجارية لم يكن إلا بالإشارة، وسبك الراوي ما فهم من الإشارة في لفظ اختاره… وقد فعلت الرواية بالمعنى في الحديث ما نراه من الاضطراب”([45]).
والجواب عن هذه الشبهة:
أن هذه الرواية التي استند عليها الكوثري رواية ضعيفة من طريق عطاء، وقد أوردها الذهبي في “العلو”([46])، قال الشيخ الألباني عنها: “وإذا علمت أن حديث عطاء عن صاحب الجارية نفسه لا يصح من قبل إسناده؛ لأنه من رواية سعيد بن زيد، فهو وإن كان في نفسه صدوقًا، فليس قوي الحفظ، ولذلك ضعفه جمع، بل كان يحيى بن سعيد يضعفه جدًّا، وقد أشار الحافظ في التقريب إلى هذا فقال: صدوق له أوهام([47]). زد على هذا أن ما جاء في روايته من ذكر اليد والاستفهام هو مما تفرد به دون كل من روى هذا الحديث من الرواة الحفاظ ومن دونهم، فتفرده بذلك يعده أهل العلم بالحديث منكرًا بلا ريب”([48]).
مستند آخر في تضعيف الحديث بالاضطراب:
ومما استندوا إليه في ادعائهم تضعيف الحديث بالاضطراب: ما قاله البزار (ت 292هـ): “وهذا قد روي نحوه بألفاظ مختلفة”([49])، وما قاله البيهقي (ت 458هـ): “وهذا صحيح؛ قد أخرجه مسلم مقطعًا من حديث الأوزاعي وحجاج الصواف عن يحيى بن أبي كثير دون قصة الجارية، وأظنه [يعني: مسلمًا] إنما تركها من الحديث لاختلاف الرواة في لفظه…”([50])،
والجواب عن هذا المستند:
أولًا: أن النسخة التي بين أيدينا من صحيح مسلم قد ذكر فيها الحديث مطولًا غير مقطَّع، وهذا مما يرجِّح أن البيهقي اعتمد على نسخة ناقصة، فقال هذا الكلام([51]).
ثانيًا: قول البزار السابق وقول البيهقي: “إنما تركها [يعني: قصة الجارية] من الحديث لاختلاف الرواة في لفظه” كلاهما لا يدل على الاضطراب؛ فإن البيهقي قد نص في أول كلامه على صحة الحديث، والبزار يتكلم عن رواية أخرى للقصة، وهي عن ابن عباس، وليس كلامه عن رواية معاوية بن الحكم التي معنا.
ثالثًا: اختلاف الرواة في اللفظ لا يدل على الاضطراب بمفرده؛ فإن الحديث إنما يحكم عليه بأنه مضطرب إذا اجتمعت فيه عدة أمور: ومن أهمها: وجود الاختلاف مع عدم المرجح بين تلك الروايات المختلفة، وهذه الأمور غير متحققة في حديث الجارية الذي معنا؛ لأن رواية معاوية بن الحكم السلمي رواية راجحة على غيرها، وقد اتفق العلماء على تصحيحها، كما سبق بيانه.
يقول الحافظ ابن حجر في معرض بيان المضطرب: “أو كانت المخالفة بإبداله -أي: الراوي- ولا مرجِّح لإحدى الروايتين على الأخرى، فهذا هو المضطرب، وهو يقع في الإسناد غالبًا، وقد يقع في المتن، لكن قلَّ أن يحكم المحدث على الحديث باضطراب بالنسبة إلى اختلاف في المتن دون الإسناد”([52])، فأين هذا مما ادعوه من الاضطراب؟!
يؤكد ذلك قول ابن الوزير (ت 840هـ): “رواه مسلم واللفظ له، ورواه أبو داود والنسائي ومالك في الموطأ([53])، وألفاظهم مختلفة، والمعنى متقارب”([54]). مع العلم بأنهم جميعًا اتفقوا على محل الشاهد من الحديث، وهو سؤال النبي صلى الله عليه وسلم للجارية: «أَيْنَ اللهُ؟»، وقولها: في السماء.
الشبهة الثالثة: شبهة التأويل وصرف اللفظ عن ظاهره:
قال القاضي عياض (ت 544هـ): “لا خلاف بين المسلمين قاطبة -محدِّثِهم وفقيههم ومتكلمهم ومقلدهم ونُظَّارِهم- أَنَّ الظواهر الواردة بذكر الله في السماء كقوله: {أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ} [الملك: 16]، أنها ليست على ظاهرها، وأنها متأولة عند جميعهم”([55]).
والجواب عن هذه الشبهة:
أن هذا الكلام باطل؛ فقد حكى غير واحد من أهل العلم الإجماع على حمل آيات الصفات لله تعالى على ظاهرها([56])؛ يقول أبو يعلى الفراء: “دليل آخر على إبطال التأويل: أن الصحابة ومن بعدهم من التابعين حملوها [يعني: آيات الصفات لله تعالى] على ظاهرها ولم يتعرضوا لتأويلها، ولا صرفها عن ظاهرها، فلو كان التأويل سائغًا لكانوا أسبق إليه؛ لما فيه من إزالة التشبيه ورفع الشبهة، بل قد روي عنهم ما دل على إبطاله”([57]).
أضف إلى ذلك أن هذا الحديث موافق لما جاء في الكتاب العزيز؛ يقول الحافظ ابن عبد البر المالكي (ت 463هـ): “وأما قوله في هذا الحديث للجارية: «أَيْنَ اللهُ؟» فعلى ذلك جماعة أهل السنة وهم أهل الحديث ورواته المتفقهون فيه وسائر نقلته، كلهم يقول ما قال الله تعالى في كتابه: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه: 5]، وأن الله عز وجل في السماء وعلمه في كل مكان، وهو ظاهر القرآن في قوله عز وجل: {أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُور} [الملك: 16]، وبقوله عز وجل: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} [فاطر: 10]، وقوله: {تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ} [المعارج: 4]، ومثل هذا كثير في القرآن… وليس في هذا الحديث معنى يشكل غير ما وصفنا، ولم يزل المسلمون إذا دهمهم أمر يقلقهم فزعوا إلى ربهم، فرفعوا أيديهم وأوجههم نحو السماء يدعونه، ومخالفونا ينسبونا في ذلك إلى التشبيه والله المستعان، ومن قال بما نطق به القرآن فلا عيب عليه عند ذوي الألباب”([58]).
الشبهة الرابعة: شبهة أن المراد بأين هنا السؤال عن المكانة وليس المكان:
ادعى بعضهم أن المراد بسؤال النبي صلى الله عليه وسلم الجارية: «أَيْنَ اللهُ؟» هو السؤال عن المكانة، وليس السؤال عن المكان([59]).
والجواب عن هذه الشبهة:
أن هذا الكلام غلط؛ لأن الحقيقة في هذه اللفظة أنها استفهام عن المكان دون المنزلة والرتبة([60])، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: “قد وصف الله نفسه في كتابه وعلى لسان رسوله بالعلو والاستواء على العرش والفوقية في كتابه في آيات كثيرة، حتى قال بعض كبار أصحاب الشافعي: في القرآن ألف دليل أو أزيد تدل على أن الله عال على الخلق وأنه فوق عباده”([61])، ويقول ابن القيم (ت 751هـ): “وإذا كان العلو والفوقية صفة كمال لا نقص فيه، ولا يستلزم نقصًا، ولا يوجب محذورًا، ولا يخالف كتابًا ولا سنة ولا إجماعًا، فنفي حقيقتها عين الباطل”([62]).
فويل لمن عارض ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم بعقله وهواه، وأحدث لذلك وتشدق بما وسوس له به شيطانه، وترك الفطرة التي فطره الله عليها؛ يقول ابن تيمية: “والجارية التي قال لها النبي صلى الله عليه وسلم: «أَيْنَ اللهُ؟» قالت: في السماء، قال: «أعتقها؛ فإنها مؤمنة» جارية أعجمية، أرأيت من فقَّهها وأخبَرها بما ذكرته؟! وإنما أخبرت عن الفطرة التي فطرها الله تعالى عليها، وأقرها النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك، وشهد لها بالإيمان. فليتأمل العاقل ذلك يجده هاديًا له على معرفة ربه، والإقرار به كما ينبغي، لا ما أحدثه المتعمقون والمتشَدِّقون ممن سوَّل لهم الشيطان وأملى لهم“([63]).
نسأل الله تعالى لنا ولجميع إخواننا الهداية والتوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا.
_____________
(المراجع)
([1]) ينظر: شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة للالكائي (1/ 169).
([2]) ينظر: شرح النووي على صحيح مسلم (5/ 24).
([3]) في مركز سلف ورقة علمية بعنوان: “إثبات صفة العلو والجواب عن الشبهات الواردة عليها”، وهذا رابطها في الموقع:
https://salafcenter.org/2382/
([4]) الاقتصاد في الاعتقاد (ص: 89).
([5]) الجوانية بقرب أحد، موضع في شمالي المدينة. ينظر: شرح النووي على صحيح مسلم (5/ 23).
([6]) أَسِفَ الرجلُ يَأسَفُ أسفًا فهو آسَف: إذا غضب. ينظر: جامع الأصول (1/ 230).
([7]) الصَّكُّ: الضربُ، أراد أنه لطمها، وقد جاء في بعض الروايات: (فَلَطَمْتُها). ينظر: جامع الأصول (1/ 231).
([9]) صرح بذلك مرعي الكرمي الحنبلي في كتابه: أقاويل الثقات في تأويل الأسماء والصفات والآيات المحكمات والمشتبهات (ص: 88).
([10]) مقدمة ابن الصلاح (ص: 97).
([12]) الجمع بين الصحيحين (3/ 554).
([13]) الأم (5/ 298) استدلالًا على أنه لا يجزئ في الكفارة إلا عتق رقبة مؤمنة.
([16]) نقض المريسي (1/ 226، 445، 489، 491، 508، 510).
([20]) رسالة السجزي إلى أهل زبيد (ص: 194).
([21]) الانتصار في الرد على المعتزلة القدرية الأشرار (2/ 611).
([22]) الاقتصاد في الاعتقاد (ص: 88).
([24]) ينظر: مختصر العلو للعلي الغفار للألباني (ص: 82).
([25]) الأسماء والصفات (2/ 326).
([28]) الميسر في شرح مصابيح السنة (3/ 777).
([29]) النصيحة في صفات الرب جل وعلا (ص: 12)، كما جاء في رسالة في إثبات الاستواء والفوقية ومسألة الحرف والصوت في القرآن المجيد المنسوبة خطأ لأبي محمد الجويني (ت 438هـ) (ص: 33)، وهذه الرسالة بنصها هي كتاب النصيحة لابن شيخ الحزامين، فليعلم.
([32]) قال الشيخ الألباني في مختصر العلو للعلي الغفار (ص: 81) تعقيبًا على أنه من المتواتر: “وفيه نظر”.
([33]) العلو للعلي الغفار (ص: 14).
([34]) العرش (2/ 25)، والعلو (ص: 14).
([36]) أقاويل الثقات في تأويل الأسماء والصفات والآيات المحكمات والمشتبهات (ص: 88).
([37]) مختصر العلو للعلي الغفار (ص: 82).
([38]) إبطال التأويلات (ص: 232-233).
([39]) العلو للعلي الغفار (ص: 28).
([40]) ينظر: معرفة السنن والآثار للبيهقي (11/ 119-118).
([41]) الرد على الجهمية للدارمي (ص: 46-47).
([42]) الرد على الجهمية للدارمي (ص: 46- 47).
([43]) مجموع الفتاوى (5/ 258).
([44]) في مركز سلف ورقة علمية بعنوان: “حجية خبر الآحاد في العقائد”، وهذا رابطها في الموقع:
([45]) تعليق الكوثري على الأسماء والصفات للبيهقي (ص: 441-442). وينظر أيضًا: تعليقه على السيف الصقيل لابن السبكي (ص: 94).
([47]) تقريب التهذيب (ص: 236).
([48]) مختصر العلو للعلي الغفار (ص: 82).
([49]) ينظر: كشف الأستار عن زوائد البزار للهيثمي (1/ 14).
([50]) الأسماء والصفات (2/ 326).
([51]) وهذا المرجح هو أحد احتمالين ذكرهما الكوثري في تعليقه على الأسماء والصفات للبيهقي (ص: 422)، فقال: “وقصة الجارية مذكورة فيما بأيدينا من نسخ مسلم، لعلها زيدت فيما بعد إتمامًا للحديث، أو كانت نسخة المصنف ناقصة”.
([52]) نزهة النظر في توضيح نخبة الفكر (ص: 114).
([53]) سنن أبي داود (930)، سنن النسائي (1218)، موطأ مالك (2/ 776- رواية يحيى بن يحيى).
([54]) العواصم والقواصم في الذب عن سنة أبي القاسم (9/ 275).
([55]) إكمال المعلم بفوائد مسلم (2/ 465).
([56]) في مركز سلف ورقة علمية بعنوان: “دفع توهم التلازم بين اعتقاد ظواهر نصوص الصفات والتشبيه”، وهذا رابطها في الموقع:
([57]) إبطال التأويلات (ص: 71).
([58]) الاستذكار (7/ 337)، وبنحوه في التمهيد (22/ 80-81).
([59]) ينظر: المعلم للمازري (1/ 412)، وعارضة الأحوذي لابن العربي (11/ 273).
([60]) ينظر: إبطال التأويلات (ص: 234).
([61]) مجموع الفتاوى (5/ 226).
([62]) ينظر: مختصر الصواعق المرسلة لابن الموصلي (ص: 439).