منهج الشك عند الغزالي من كتابه المنقذ من الضلال
تقديم
لم نجد الحيرة والشك عند قوم ما وجدناه عند المتكلم الأشعري؛ مع استوائه والفيلسوف والمعتزلي في مصدر التلقي، وهو العقل، سلما منها، ولم يسلم هو؛ ذلك أنه أراد الجمع ــ صدقًا ــ بين الحقائق الشرعية والفلسفية؛ أن يحقق الإيمان بالإملاءات الفلسفية العقلية، ولم يفطن للتعارض الكلي بينهما، فكان أن أراد التوصل لإثبات الإيمان بالله واليوم الآخر والنبوات بطريق العقل المحض، بمنهج الفلاسفة والمعتزلة، بأدوات: التأويل، والمجاز، والدلالة الظنية، والتفويض. فتبين له: أنها طريق غير موصلة إلا إلى التيه والحيرة.
إن عموم الأشعرية فيهم من الصدق في التدين وطلب الحق ما ليس في غيرهم، وهم مع ذلك توهموا صحة طريق الكلام لتأييد العقائد، والرد على الشبه، لكن انكشف لهم لاحقًا: أن الجمع بينهما كالجمع بين الليل والنهار، والموت والحياة.
وآية ذلك: الحيرة التي ورثوها من مباحث الكلام، والشك الذي ازدرعوه من مسائله؛ فإنما هي حيرة تولدت على إثر سلوك طريق الكلام لمعرفة حقائق الإيمان، فلم يتصل بها، بل ترك المتكلم في شك من أمره في مفترق طرق، لا يهتدي لأحسنها!
فحقائق الإيمان طريقها واحد لا غير، هو: التسليم، وإعمال العقل في حدود التسليم. وهو نهج السلف، ولذا كان عند السلف من اليقين والإيمان ما لا يتطرق إليه شك ولاريب -حتى عند العامة منهم، كما شهد به أئمة الكلام- مع إعراض تام وتحذير من طريقة المتكلمين، فمن أين كان لهم اليقين إذن، لو صح قول المتكلمين: إن طريقتهم –العقلية- تفضي إلى اليقين، لا طريق التقليد؛ الذي هو التسليم؟
إن ما لم يتبين وجهه أول النهار، فآخره قمن ببيانه، والمآلات حكايات صدق لما خفي من البدايات، واغترار المتكلم بقضايا البرهان والعقل وأدواته، جمح به في أتون معارك فكرية عقلية تبدأ فلا تنتهي، وتشتعل فلا تنطفئ، فلو صدق نفسه، لأقرّ بورطته في دروب لا مخرج منها، وهذا ما كان من ذوي الصدق منهم، الذين كانت منهم لفتات صدق، وإقرار شجاعة، بما آلت إليه معاركهم العقلية من خسارة إيمانية، كشف عن حقيقة: أن الإيمان لا ينال من طريق العقل وحده، كما كان يدعي المتكلم والفيلسوف، بل هو وسيلة ومرتبة مساندة وخادمة للنص.
ونسوق هنا مثلًا على هذا: أبو حامد الغزالي في رحلة طلب اليقين من الشك، كما رواها في كتابه “المنقذ من الضلال“، فأنقل كلامه بنصه وأعلق عليه تعليقات كاشفة أو شارحة أو موضّحة.
وقد ميزت كلام الغزالي بالخط الأحمر الداكن، وتعليقي بالخط الأسود.
نص أبي حامد الغزالي والتعليق عليه
قال أبو حامد الغزالي في كتابه: “المنقذ من الضلال“، – وهو من آخر ما ألَّف-:
الحمد لله الذي يفتتح بحمده كل رسالة ومقالة، والصلاة على محمد المصطفى صاحب النبوة والرسالة، وعلى آله وأصحابـه الهادين من الضلالة.
أما بعد: فقد سألتني أيها الأخ في الدين: أن أبثّ إليك غاية العلوم وأسرارها، وغائلة المذاهب وأغوارها.
- وأحكي لك ما قاسيته في استخلاص الحق من بين اضطراب الفرق، مع تباين المسالك والطرق.
ذلك أنه ما ترك مذهبًا إلا وسعى في معرفته، بل والانتساب إليه كي يكشف لنفسه عن حقيقته.
- وما استجرأت عليه من الارتفاع عن حضيض التقليد، إلى يفَاع الاستفسار.
فكرة سيطرت عليه زمنًا: أنه لا طريق إلى الحقائق والإيمان بها، إلا الاستدلال العقلي المحض. وأن التقليد غير موصل إلى هذا؛ لذا نفر منه، وعد طلب الاستدلال العقلي ارتفاعًا، والوقوف عند التقليد حضيضًا. لاحقًا تبين له خطأ هذا الطريق، أو حصر الحق فيه، وأعلن: أن الحقيقة تنال بطرق أخرى أيضًا.
- وما استفدته أولًا من علم الكلام، وما اجْتَوْيـُته ثانياً من طرق أهل التعليم القاصرين لَدرك الحق على تقليد الإمام، وما ازدريته ثالثاً من طرق التفلسف، وما ارتضيته آخراً من طريقة التصوف.
تنقّل الغزالي من علم الكلام، إلى المعرفة الباطنية، إلى التفلسف وصولًا إلى التصوف. وقد حكى هذا عن نفسه في هذا الكتاب، وبيَّن سبب إقباله وتركه لكل مذهب من هذه.
- وما انجلى لي في تضاعيف تفتيشي عن أقاويل الخلق، من لباب الحق، وما صرفني عن نشر العلم ببغداد، مع كثرة الطلبة، وما دعاني إلى معاودته بنيْسابورَ بعد طول المدة.
أطوار وأحوال مر بها؛ فقد كان له درس في المدارس النظامية في بغداد، ثم أعرض عنه، وطلب العزلة في الشام عند بيت المقدس في الجبال والكهوف، ثم عاد بعد سنوات، قال الذهبي في السير (19/323): “تفقه ببلده أولًا، ثم تحول إلى نيسابور في مرافقة جماعة من الطلبة، فلازم إمام الحرمين، فبرع في الفقه في مدة قريبة، ومهر في الكلام والجدل، حتى صار عين المناظرين، وأعاد للطلبة، وشرع في التصنيف، فما أعجب ذلك شيخه أبا المعالي، ولكنه مظهر للتبجح به، ثم سار أبو حامد إلى المخيم السلطاني، فأقبل عليه نظام الملك الوزير، وسر بوجوده، وناظر الكبار بحضرته، فانبهر له، وشاع أمره، فولاه النظام تدريس نظامية بغداد، فقدمها بعد الثمانين وأربعمائة، وسنه نحو الثلاثين، وأخذ في تأليف الأصول والفقه والكلام والحكمة، وأدخله سيلان ذهنه في مضايق الكلام، ومزالق الأقدام ، ولله سر في خلقه.
وعظم جاه الرجل، وازدادت حشمته بحيث إنه في دست أمير، وفي رتبة رئيس كبير، فأداه نظره في العلوم وممارسته لأفانين الزهديات إلى رفض الرئاسة، والإنابة إلى دار الخلود، والتأله، والإخلاص، وإصلاح النفس، فحج من وقته، وزار بيت المقدس، وصحب الفقيه نصر بن إبراهيم بدمشق، وأقام مدة، وألف كتاب” الإحياء “، وكتاب ” الأربعين “، وكتاب “القسطاس“، وكتاب “محك النظر“. وراض نفسه وجاهدها، وطرد شيطان الرعونة، ولبس زي الأتقياء، ثم بعد سنوات سار إلى وطنه، لازما لسننه، حافظا لوقته، مكبا على العلم.
ولما وزر فخر الملك، حضر أبا حامد، والتمس منه أن لا يبقى أنفاسه عقيمة، وألح على الشيخ، إلى أن لان إلى القدوم إلى نيسابور، فدرس بنظاميتها”.
- فابتدرت لإجابتك إلى مطلبك، بعد الوقوف على صدق رغبتك، وقلت مستعيناً بالله ومتوكلاً عليه، ومستوثقاً منه، وملتجئاً إليه:
- اعلموا أحسن الله تعالى إرشادكم، وألاَنَ للحق قيادكم: أن اختلاف الخلق في الأديان والملل، ثم اختلاف الأئمة في المذاهب، على كثرة الفرق وتباين الطرق، بحر عميق غرق فيه الأكثرون، وما نجا منه إلا الأقلون، وكل فريق يزعم أنه الناجي، و{كلُ حزبٍ بما لدَيهْم فرحون} (الروم: 32) هو الذي وعدنا بـه سيد المرسلين، صلوات الله عليه، وهو الصادق الصدوق حيث قال: (ستفترق أمتي ثلاثاً وسبعين فرقة، الناجية منـها واحدة). فقد كان ما وعد أن يكون.
ما ذكره من الاختلاف بين الملل والنحل وغرق الأكثرين صحيح واقع، والحق منها واحد، ولم ينسب الحديث إلى مصدره، وهو صحيح مروي في السنن، لكن ليس بلفظ: (الناجية منها واحدة). والغزالي مزجي البضاعة في الحديث، كما قال عن نفسه، واللفظ الوارد: (كلها في النار إلا واحدة).
- ولم أزل في عنفوان شبابي وريعان عمري، منذ راهقت البلوغ قبل بلوغ العشرين إلى الآن، وقد أناف السن على الخمسين، أقتحم لجّة هذا البحر العميق، وأخوض غَمرَتهُ خَوْضَ الجَسُور، لا خَوْضَ الجبان الحذور، وأتوغل في كل مظلمة، وأتـهجّم على كل مشكلة، وأتقحم كل ورطة، وأتفحص عن عقيدة كل فرقة، وأستكشف أسرار مذهب كل طائفة؛ لأميز بين مُحق ومبطل، ومتسنن ومبتدع.
في رغبته معرفة الحقيقة، كان على الحال التي ذكر من: تقحم، وخوض، وتوغل، وتهجم، وتفحص، واستكشاف طلبًا لتمييز الحق. لكن آثار هذه الطريقة عليه، دلته على خطأ وقع فيه؛ إذ ظن أنها موصلة للحقائق، فأوقعته في مشكلتين: الاضطراب بتنقلاته بين المذاهب، والشك والحيرة بفقد الإيمان. وسيأتي.
- لا أغادر باطنيًّا إلا وأحب أن أطلع على باطنيته، ولا ظاهريًّا إلا وأريد أن أعلم حاصل ظاهريته، ولا فلسفيًّا إلا وأقصد الوقوف على كنـه فلسفته، ولا متكلماً إلا وأجتهد في الاطلاع على غاية كلامه ومجادلته، ولا صوفيًّا إلا وأحرص على العثور على سر صوفيته، ولا متعبدًا إلا وأترصد ما يرجع إليه حاصل عبادته، ولا زنديقاً معطلًا إلا وأتجسس وراءه؛ للتنبه لأسباب جرأته في تعطيله وزندقته.
وهكذا تنقل بين هذه المذاهب؛ تعرفًا تارة، وانتسابًا أخرى، وقد أفرغ وقته كله لتتبع المقالات، ومحاولة الكشف عنها، وهذه ينبيك عن الاضطراب الذي عاشه؛ إذ لم يكن يسعى في مجرد معرفة، بل تطلب الحقيقة أين تكون؟ لكن بغير ميزان صحيح، كان ميزانه العقل لا النقل؛ إذ عامة تلك المذاهب التي اطلع عليها وآمن بشيء منها، تقرر العقل ميزانًا، والنقل مؤول له، إلا ما كان من التصوف. وقد صرح بهذا في كتبه.
- وقد كان التعطش إلى درك حقائق الأمور دأبي وديدني، من أول أمري وريعان عمري، غريزة وفطرة من الله وضُعتا في جِبِلَّتي، لا باختياري وحيلتي.
الحركة الدائبة في اتجاه المعارف نعمة من النعم، أكثر الخلق عنها غافلون بالمتع الحسية، وأصلها موجود في جبلة الإنسان وفطرته، لكنها تنمو وتزيد عند ناس، حتى تجعل منهم علماء، فإذا خفت ونقصت خسر التميز وشرف الرتبة، فيعود من العامة، وإنما سمي العامي كذلك من: “العمى”. والغزالي من الصنف الأول، لكن هذا التميز يفتقر إلى ضابط، كيلا يضيع زمن ثمين في تتبع المعارف وفيها الضار كما النافع، ويبدو أن الغزالي لم يأبه لهذا الضابط، فكثيرًا ما وقع على الضار منها، فلذا رأيته يتنكر لمذهب آمن به زمنًا، فيكتب في نقضه وذمه، ولو استقبل من أمره ما استدبر ما أضاع وقتًا، لكن كيف التدبير إلا بوضع ضابط، يميز به بين العلوم والمعارف، فلا يختار منها إلا الحسن الصحيح.
والضابط: دورانه على النقل، الذي هو وحي يوحى. هو الدال على ما صح من المعارف، لكن الغزالي مزجي البضاعة بالحديث، يحسن من المعقولات ما لا يحسن من المنقولات، فانساق وراء عقله كليًّا.
- حتى انحلت عني رابطة التقليد، وانكسرت علي العقائد الموروثة، على قرب عهد سن الصبا.
طبعه وجبلته التي فطر عليها، من شدة الرغبة في فحص المذاهب، أذهبت عنه التقليد والتعلق بالموروث، لكنه مقام سلبي؛ فالبحث والرغبة في معرفة الحقيقة مقام محمود في ذاته، لكنه لا يتأتى في كل حال، فثمة أحوال يتعذر فيها الجواب؛ لخروجه عن حد الطاقة البشرية في القدرة على الإدراك، فالاشتغال بها مزلة مضيعة، والغزالي –والمتكلمون- لم يكن يضع هذا في حسبانه، فراح يضرب بسهم العقل في كل جانب ثقة به، لكن الوقائع دلتهم على أن من اللازم: التقليد والتسليم للموروث في حقائق وعلل شرعية. تبين ذلك في إفادات: الجويني في ندمه، والرازي في وصيته عند موته، والغزالي في كتابه هذا.
- إذ رأيت صبيان النصارى لا يكون لهم نشوءٌ إلا على التنصُّر، وصبيان اليهود لا نشوء لهم إلا على التهوُّد، وصبيان المسلمين لا نشوء لهم إلا على الإسلام.
- وسمعت الحديث المروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث قال: (كل مولودٍ يولدُ على الفطرةِ، فأبواهُ يُهودانه، وينُصرانه، ويُمجِّسَانه).
- فتحرك باطني إلى طلب حقيقة الفطرة الأصلية، وحقيقة العقائد العارضة بتقليد الوالدين والأستاذين، والتمييز بين هذه التقليدات، وأوائلها تلقينات، وفي تمييز الحق منها عن الباطل اختلافات.
الفطرة الأصلية معلومة لكل من نظر في كلام السلف، من صحابة وتابعين ومن تبعهم والأئمة، لكن المتكلمون بضاعتهم فيه مزجاة، وأكثر اشتغالهم بالعقليات وكلام الفلاسفة، ثم النقل كذلك كاشف عن معناها؛ فإنه ذكر صرف الولد عن فطرته إلى ملل: اليهود، والنصارى، والمجوس. فعم الملل الكتابية، وبقي منها الوضعية، فذكرت في رواية: (أو يشركانه). فشمل الملل كافة، فلم يبق منها سوى الإسلام، فدل على أن الصرف كان عنه، وأكد هذه الدلالة قوله تعالى: {فأقم وجهك للدين حنيفا فطرة الله التي فطر الناس عليها}، فالدين الحنيف هو الإسلام، فسواء فهمناه من ألفاظ النصوص، أو كلام السلف؛ فالفطرة هي الإسلام. فكيف غاب ذلك عن الغزالي، فراح يختبر الملل ليعرف التي هي الفطرة؟ ما كان لولا المبالغة في تعظيم العقل، فمعرفة الحقيقة من الأديان والفرق طريقه النصوص، والعقل معين في ذلك.
- فقلت في نفسي أولًا: إنما مطلوبي العلم بحقائق الأمور، فلا بُد من طلب حقيقة العلم ما هي؟
اعتبار هذا مطلوبًا أولًا، يفضي إلى الشك والحيرة؛ إذ يتعذر تحصيله، بالنظر إلى أن الحقائق كثيرة، وأحوال الطالب محدودة، فعقله محدود، وحواسه محدودة، وعمره كذلك، فمن أين له تحصيل كل ما مر به منها، فالمحدود لا يحيط بالمطلق اللامتناهي، إلا أن يجري على قاعدة التسليم في أكثرها، مما لا تدخل في دائرته المحدودة، فما كان منها في الدائرة له طلبها، ويحمد على ذلك. والتسليم سنة بشرية، عليها سائر الخلق في معاشهم، فليس واردًا التحقق باليقين من كل خبر، بل يكتفى بالتصديق ثقة بالمخبر، وكثيرًا ما يتم البناء على أخبار منقولة، آية صدقها القرائن وليس اليقين المحصل بطرقه، ولو طلب الناس اليقين في كل شيء، ما بني بيت، ولا غُزي بلد، ولا حُرس، فكلها مبنية على تصديق ما يأتي من خبرها.
- فظهر لي: أن العلم اليقيني هو الذي ينكشف فيه المعلوم انكشافاً لا يبقى معه ريب، ولا يقارنه إمكان الغلط والوهم، ولا يتسع القلب لتقدير ذلك؛ بل الأمان من الخطأ ينبغي أن يكون مقارناً لليقين مقارنة، لو تحدى بإظهار بطلانه مثلًا من يقلب الحجر ذهباً والعصا ثعباناً، لم يورث ذلك شكًّا وإنكارًا؛ فإني إذا علمت أن العشرة أكثر من الثلاثة، فلو قال لي قائل: لا، بل الثلاثة أكثر من العشرة، بدليل أني أقلب هذه العصا ثعباناً ، وقلبها، وشاهدت ذلك منه، لم أشك بسببه في معرفتي، ولم يحصل لي منه إلا التعجب من كيفية قدرته عليه! فأما الشك فيما علمته، فلا. ثم علمت أن كل ما لا أعلمه على هذا الوجه، ولا أتيقنه هذا النوع من اليقين، فهو علم لا ثقة به ولا أمان معه، وكل علم لا أمان معه، فليس بعلم يقيني.
هنا خطأ منهجي؛ فالغزالي في طلبه تحصيل الحقائق، وضع ميزانًا لثبوت الحق، شرطه: أن يكون يقينًّا لا يتطرق إليه ظن؛ كالضروريات والمحسوسات، وكالعلم بأن العشرة أكبر من الثلاثة. وبمثل هذا الميزان لا يكاد يثبت شيء، حتى الأحكام والأحاديث لا تثبت ويعمل بها بميزان هذا شرطه: اليقين. بل بغلبة الظن؛ فالقاضي إذا حكم بالقصاص، أو الجلد على الزاني، فليس ذلك عن يقين، فاليقين:
– أن يراه أو يباشره بنفسه، فيراه بعينه، وهذا عين اليقين.
– أو يخبره شاهد أمين لا يكذب؛ كالنبي أو صديق، وهذا علم اليقين.
– أو يقع في قلبه بما لا يقدر على دفعه، وهذا حق اليقين.
وأنى له ذلك في كل حال؟ لكن بشهادة شهود عدول مقبولين تحدث غلبة الظن، ومثل ذلك ثبوت الحديث، واتفاق العلماء على العمل بمثل هذا المسلك، ولو اشترط فيها مسلك اليقين حتى يكون بمقام الضروريات والمحسوسات، ما حكم قاض، ولا صحح محدث. إنما يطلب التحقق من طريق: اليقين إذا تحصل، أو غلبة الظن. فيصدّقان ويبنى عليهما، والعادة المستقرة ثبوت غلبة الظن، والاستثناء لا حكم له. وعليه: فقد تكلف الغزالي شططًا، واشترط ميزانًا عسرًا، كان يكفيه ما عليه عمل المسلمين في إدراك الحقائق، ولو فعل، ما جنح إلى تقديم الاستدلال العقلي، مع أنه منزلته من اليقين كمنزلة التقليد والفطرة أو أدنى، فقد ترك دليلًا بعلة أنه فقد شرط اليقين، وأقبل على دليل بظن أنه يقين، ثم تبين له –وللمتكلمين- غير ذلك، كما سيتبين لاحقًا.
- ثم فتشت عن علومي فوجدت نفسي عاطلًا من علم موصوف بـهذه الصفة إلا في الحسيات والضروريات. فقلت: الآن بعد حصول اليأس، لا مطمع في اقتباس المشكلات إلا من الجليَّات، وهي الحسيات والضروريات، فلا بد من إحكامها أولًا؛ لأتيقن أن ثقتي بالمحسوسات، وأماني من الغلط في الضروريات، من جنس أماني الذي كان من قَبلُ في التقليديات، ومن جنس أمان أكثر الخلق في النظريات، أم هو أمان محققٌ لا غدر فيه ولا غائلة له؟
انحصر اليقين عنده في: الضروريات، والمحسوسات. وأخرج التقليدات عنه، وما تطرق إلى الفطريات، مع قوة دلالتها، وليست هي الضروريات قطعا، حتى بعرف الفلاسفة؛ فإنهم قسموا مواد الأقيسة إلى: يقينية، وغير يقينية. فاليقينية: الأوليات، والمحسوسات، والمجربات، والحدسيات، والفطريات، والمتواترات، والنظريات. فالأوليات هي الضروريات، بمرتبتها الفطريات. والفرق بينها:
– أن الأوليات: يحكم فيها العقل بمجرد تصور الطرفين بلا واسطة، مثل: الكل أعظم من الجزء.
– أما الفطريات ففيها واسطة لا تغيب عن الذهن، فيحكم العقل بالتصديق فورا لحضور الواسطة، مثل: الأربعة زوج. فالواسطة: أن كل منقسم بمتساويين فهو زوج.
فكيف غفل عن أنواع من المواد اليقينية، وانحصر في اثنين، وطلبها في:
– النظريات التي هي: مجهول مكتسب بطريق النظر، ينتهي إلى الضروريات، مثل: العالم حادث؟
فقد خالف أقوال أهل النظر في هذا بحصره اليقينيات فيهما، فإن عنى بالحصر خاصة نفسه، فغير صحيح، فاليقينيات تلك ليست ممتنعة من الخاصة، بل هي عند كل إنسان، فقد كان عليه أن يضيف إلى المادتين:
– المجربات: التي يحكم فيها العقل بتكرار المشاهدة، مثل: الماء يطفئ الظمأ.
– والحدسيات: التي يحكم فيها العقل بالعلّية، مثل: أنه عليم خبير بالنظر إلى إتقانه.
– والفطريات، وقد تقدمت.
– والمتواترات: التي يحكم فيها العقل بسماع جمع كثير، يمنع العقل تواطؤهم بالكذب، كـالعلم بمكة.
فهذه كلها تفضي إلى إثبات قضايا الغيب بلا تطرق شك، حتى بعرف الفلاسفة. وحينئذ فلن يكون بحاجة إلى منهج الشك من أصله، فإنها كلها تدل على: الإله، والنبوات، والمعاد، وسائر الغيبيات. والمقام يضيق عن تفصيل ذلك، لكن يرجع لكتب الفلاسفة والمنطق للنظر في معاني تلك المواد اليقينية.
- فأقبلت بجد بليغ أتأمل المحسوسات والضروريات، وأنظر هل يمكنني أن أشكك نفسي فيها؟ فانتهي بي طول التشكك إلى أن لم تسمح نفسي بتسليم الأمان في المحسوسات أيضاً، وأخذت تتسع للشك فيها وتقول: من أين الثقة بالمحسوسات، وأقواها حاسة البصر، وهي:
تنظر إلى الظل فتراه واقفاً غير متحرك، وتحكم بنفي الحركة، ثم بالتجربة والمشاهدة، بعد ساعة، تعرف أنه متحرك وأنه لم يتحرك دفعة واحدة بغتة، بل على التدريج ذرة ذرة، حتى لم يكن له حالة وقوف.
ما انتهى إليه من حكم، جزم به واستيقن، هو في حقيقته وهم وظن؛ لأنه بناه على ما يقدره العامي الجاهل بالعلوم، لا على ما يقدره المختص العالم، الذي يدرك من حقائق علم ما لا يدركه هذا، فأنزل نفسه منزلة الجاهل المبتدئ في العلوم؛ فعجز العين عن ملاحظة وملاحقة حركة الظل البطيئة، ليس فيه تكذيب ولا خداع للبصر؛ فتسقط الثقة به مطلقًا، بل لأنه خارج عن حده وقدرته، وليس كل ما يراه كذلك، لكن لما كان مخلوقًا، كان محدودًا، والمحدود لا يدرك ما فوق حده، وغاية الأمر أن حركة الظل فوق حد البصر، ولذا لما اخترعت الكاميرات البطيئة، تسنى للبصر إدراك حركة الظل، واليوم ثمة أجهزة تبين حد البصر: أنه يرى ما بين الأشعة الحمراء دونما تحتها، والأشعة البنفسجية دونما فوقها. فليس ثمة خداع، والاستنتاج باطل خارج عن حد العلم والعقل، فعدم إدراك العين لحركة الظل، لا يستوجب انحلال الثقة بالبصر، وهل هذا إلا كمثل الذي أراد رفع فيل بيده فعجز، فاستنتج منه أن لا ثقة بقدرة اليد على حمل شيء؟
- وتنظر إلى الكوكب فتراه صغيرًا في مقدار دينار، ثم الأدلة الهندسية تدل على أنه أكبر من الأرض في المقدار. وهذا وأمثاله من المحسوسات يحكم فيها حاكم الحس بأحكامه، ويكذبـه حاكم العقل ويخونـه تكذيباً لا سبيل إلى مدافعته.
هذا مثل آخر على التحكم والاستنتاج الباطل، فإنه لم يجد سوى الحكم بانحلال الثقة بالبصر؛ كونه لم يتوصل إلى حقيقة حجم جرم الكوكب في كل حال قربًا أو بعدًا، مع أنه يستشهد بالهندسة، ولو أنه سأل أهلها، لبينوا له قاعدة في النظر للأشياء: أنه كلما قرب منها زاد حجمها إلى حقيقته، وكلما بعد منها نقص عن حقيقته. وليس في هذا وهم ولا ظنون تفضي إلى بطلان الثقة بالبصر، بل تجري وفق القاعدة الآنفة، ولها سر كوني هندسي، فلو أن الأشياء بقيت بحجمها في البصر، سواء بعدت أو قربت، كيف كان للناس أن يتحركوا دون شعور بالحصار من كل جانب، حتى يصابوا بالهلوسة والوسوسة؟
فبالمجمل يمكن تفسير ما يرى بحسب قاعدة أخرى، غير الخداع والبطلان وعدم الثقة، بخاصة أنها جارية وفق سنة لا اضطراب فيها، فكيف لا يوثق بسنة جارية؟
وبهذا يتبين جليًّا: بطلان دعوى: أن حاكم العقل يكذب ويخون المحسوسات بما لا سبيل لمدافعته. بل على العكس من ذلك: إنه يصدقه تصديقًا لا سبيل لدفعه.
- فقلت: قد بطلت الثقة بالمحسوسات أيضاً، فلعله لا ثقة إلا بالعقليات التي هي من الأوليات، كقولنا: العشرة أكثر من الثلاثة. والنفي والإثبات لا يجتمعان في الشيء الواحد، والشيء الواحد لا يكون حادثاً قديماً، موجودًا معدوماً، واجباً محالًا.
هذا عليه اتفاق العقلاء من كل ملة ونحلة؛ فإن الضروريات – هي الأوليات- من البدهيات التي لايستدل لها، بل يبنى عليها، فهي قاعدة العلم ومنطلقه في الإثبات والنفي، وهي مواده الأولية، والتي إن كذبت، لم يصح بعدها شيء، فتسقط العلوم سائرها، ويعلو مذهب السوفسطائية بأشكاله بين: لا أدرية، أو عندية، أو عنادية، أو غير ذلك، وتنتشر الفوضى الفكرية على أشدها كما حدث في اليونان، وما جاء سقراط وأفلاطون وأرسطو بعلم المنطق إلا للقضاء على هذه الفوضى؛ التي أحدثها السوفسطائيون بنظريتهم هذه، فكانت مهمته: إثبات الحد. الذي به إثبات الحقائق، ولا ندري كيف قبل الغزالي أن يشك فيما شك فيه، أو يسلم بالشك ولو بفرض، معرِّضًا فكره وإيمانه لجناية لا خلاص منها بطريق النظر؟!
- فقالت المحسوسات: بم تأمن أن تكون ثقتك بالعقليات كثقتك بالمحسوسات، وقد كنت واثقاً بي، فجاء حاكم العقل فكذبني، ولولا حاكم العقل لكنت تستمر على تصديقي، فلعل وراء إدراك العقل حاكماً آخر، إذا تجلى، كذب العقل في حكمه، كما تجلى حاكم العقل فكذب الحس في حكمه، وعدم تجلي ذلك الإدراك، لا يدل على استحالته.
طلب الشك واعتباره بأدنى سبب، يلغي اليقين كليًّا، والشك في الضروريات، قياسًا على وقوعه في المحسوسات، قياس فاسد من جهة: أن الشك في المحسوسات لم يثبت ابتداء، لكنه الوهم. ولأنه ليس بمعجز توليد الشكوك، فليس الشك علمًا فيحد بحد، بل هباء وظن، فهو لا ينتهي ولا يقف عند حد، بل يتمادى، ومن طلبه فضربه ميزانًا لليقين، فلن يقف على يقين البتة، فإنه ما من فكرة وعقيدة إلا وتعرض لها شكوك كثيرة، وليس في تعرضها للشكوك نقص وسلب، إنما في ثبوت تلك الشكوك وصدقها، فالإيمان بوجود الله تعالى، وهو أعظم الحقائق، عرض له الشك من جهة أنه غير مشاهد، وهو شك فاسد؛ لأن الإيمان ليس للمشاهد فحسب، بل للغيب أيضًا وهو أصله، فكيف يصح أن يتخذ جنس الشك معيارًا لمعرفة اليقين، مع أن مبناه الوهم والظن: {إن يتبعون إلا الظن وما تهوى الأنفس}، وكيف خفي على الغزالي الفيلسوف المتكلم، الذي أحاط بالعقليات علمًا، بطلان مسلك الشك في معرفة اليقين؟
حاصل الشك: أنه ليس بعلم، بل عرض مرضي طارئ على النفس، فالاعتماد عليه لمعرفة اليقين، لا يصح من عاقل، فضلًا عمن ادعى أنه من أرباب النظر!
- فتوقفت النفس في جواب ذلك قليلاً، وأيدت إشكالها بالمنام، وقالت: أما تراك تعتقد في النوم أموراً، وتتخيل أحوالاً، وتعتقد لها ثباتاً واستقراراً، ولا تشك في تلك الحالة فيها، ثم تستيقظ فتعلم أنه لم يكن لجميع متخيلاتك ومعتقداتك أصل وطائل. فبم تأمن أن يكون جميع ما تعتقده في يقظتك بحس أو عقل، هو حق بالإضافة إلى حالتك التي أنت فيها؟
- لكن يمكن أن تطرأ عليك حالة تكون نسبتها إلى يقظتك، كنسبة يقظتك إلى منامك، وتكون يقظتك نوماً بالإضافة إليها! فإذا وردت تلك الحالة، تيقنت أن جميع ما توهمت بعقلك خيالات لا حاصل لها.
هكذا تم التشكيك في الضروريات التي هي من اليقينيات؛ قياسًا على المنامات التي هي ظنية: أنها لا حقائق فيها، إنما خيالات. ولا يمتنع أن تكون الدنيا -حال اليقظة-كذلك خيال كالمنامات، وبهذا رجعنا إلى مجرد الشك والظن، ليكون دليلًا لنقض اليقين، وأنى هذا؟!
ثم إن القياس ههنا فاسد، فأركانه غير مكتملة، فـ”إلحاق أصل بفرع لعلة جامعة” غير متحقق هنا، فلو عد المنام أصلًا، واليقظة فرعًا، فأين العلة الجامعة؟
بل العلة مختلفة: هذا منام، وهذا يقظة، هذه حياة فيها الروح مفارقة للبدن، والأعضاء هامدة، وهذه حياة فيها الروح ملازمة، والأعضاء متحركة، فلا يستويان، فلذا رفع القلم عن النائم حتى يستيقظ، وسمي بالموتة الصغرى، تشبيهًا بحياة البرزخ، الذي قانونه مخالف لقانون الحياة.
ومن الاختلاف: أنه معلوم الفرق بينهما، فيقال: هذا حلم، وهذا يقظة، ففي اليقظة حكم على المنام بما فيه، فاليَقِظْ مدرك للحالين بما فيهما، لكن ليس للنائم حكم على اليقظة، فلم يحدث أن نائمًا فرق بين حاله نائمًا ويقظًا، بل هو في حال نومه لا يدرك سواه، فافترقا جليًّا.
فأما توهم أن اليقظة خيال كالمنام، فيكفي فيه أنه وهم وظنون: {وإن الظن لا يغني من الحق شيئًا}. فقوله: “فبم تأمن.. لكن يمكن أن تطرأ“. تساءلٌ وإمكان، وهما من جنس الشك، وليس بعلم، ولا يبنى عليه علم، ولو كان معتبرًا، لما بقيت حقيقة في الأرض، إلا ونقضت بأدنى شك.
- ولعل تلك الحالة ما تدعيه الصوفية أنـها حالتهم؛ إذ يزعمون أنـهم يشاهدون في أحوالهم التي لهم، إذا غاصوا في أنفسهم، وغابوا عن حواسهم، أحوالًا لا توافق هذه المعقولات.
هذا دليل آخر على بطلان قياسهم، وبطلان الشك في الضروريات؛ إذ عاد الدليل، فكان من جنس أدلة الصوفية، وهم يقرون أنها ليست من المعقولات، ويفاخرون بذلك، وإنما المطلب عند المتكلم، دليل عقلي، ولأجله شكك في اليقينيات، فكيف يلجأ بعد ذلك إلى ما هو: الخرافة، والظن، والوهم، وما لا يستطيع أن يقيم عليه دليلًا إلا القول: بأن هذا ذوق، ولا يعرف إلا من ذاق؟ وقد سموه كشفًا، ليصلوا به إلى اليقين، لقد كان بقاؤهم على ما هم عليه من تقليد وضروريات ومحسوسات، خيرًا من أدلة صوفية إذن.
وهكذا يتقلب الغزالي في طريقه لتحصيل اليقين بأدلة العقل القطعية، مضطربًا، متناقضًا راكبًا كل طريدة، حتى لو ذهبت بأمه إلى الهاوية!
- ولعل تلك الحالة هي الموت، إذ قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: (الناسُ نيامٌ، فإذا ماتوا انتبـهوا). فلعل الحياة الدنيا نوم بالإضافة إلى الآخرة؛ فإذا مات ظهرت له الأشياء على خلاف ما يشاهده الآن، ويقال له عند ذلك: {فكشفنا عنكَ غطاءكَ فبصرُكَ اليومَ حديدٌ}.
حديث: (الناس نيام..). ليس من كلام النبي صلى الله عليه وسلم، بل قول لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه، وقيل: من كلام سهل التستري، وينظر في هذا “كشف الخفاء” للعجلوني.
أما تشبيه الحياة بالنوم، والموت يقظة به ينكشف الغطاء، فذلك من وجه مذكور في القرآن هو الغفلة العلة الجامعة، فالنائم غافل، والعاصي غافل، فتذهب الغفلة عن هذا بالموت: {لقد كنت في غفلة من هذا فكشفنا عنك غطاءك فبصرك اليوم حديد}، وعن ذاك باليقظة، لكنها غفلة لا حساب عليها، بخلاف الأول.
هذا هو وجه الشبه، وليس هذا ما أراده الغزالي، إنما أراد القدح في العقل؛ إذ يري الإنسان في الدنيا ما هو خلاف الآخرة، كما اليقظة خلاف النوم، وبالقطع ليس هذا تشبيهًا صادقًا، فالدنيا حقيقة، والآخرة حقيقة، والمنام خيال ورمز، وكشف لغيب، لكن لا يبطل حقيقة الدنيا، وهنا أيضا: يصر الغزالي على إبطال اليقين بالظن، فإنه يقر بأن ما يورده ليس معتمدًا، ولذا صدّر كلامه قال: “ولعل تلك الحالة..”. واللّعللة ظن.
- فلما خطرت لي هذه الخواطر، وانقدحت في النفس، حاولت لذلك علاجاً فلم يتيسر، إذ لم يكن دفعه إلا بالدليل، ولم يمكن نصب دليل إلا من تركيب العلوم الأولية، فإذا لم تكن مسلمة، لم يمكن تركيب الدليل.
أفصح هنا عن نتيجة منهج الشك الذي سلكه لليقين، بغير مقدمات ولا مؤاربة، بل بصدق مطلق، فأبان عن ورطة وقع فيها، هي عجزه عن توليد اليقين بعد كل هذا العناء، والعلة: أن بناء اليقين لا بد فيه من مواد أولية من العلوم. وقد شكك نفسه في الضروريات والمحسوسات، فلم تبق لديه خامات العلم وهيولاه ومادته، فكيف سيبني؟ أشبه ما يكون بالذي هدم بيته ليبنيه من جديد، دون تأمين مواد البناء، فما فرغ من الهدم، حتى تبين له أنه أفسد المواد كلها، فلم يبق شيئًا يبني به!
ذلك الأمر الذي لم يحسب له حسابه، ظنًّا منه أن مهمته الهدم بمنهج الشك هذا، ثم يتولد اليقين بطريقة ما، صحيح أنهم يقولون: بطريق النظر العقلي. لكن ما كانوا يتصورون طبيعة العملية حين يفرغون من التشكيك في الأوليات والمحسوسات، وما كانوا يظنون أن في الطريق عائقًا كبيرًا، يحول بينهم وبين ما يشتهون، هو ما يحدثه منهجهم من خلو العقل والنفس من العلوم الأولية؛ ليستحيل عندها استعادة إيمان التقليد والموروث، دع عنك توليد إيمان العقل والنظر، وهذا ما لقيه وعاناه الغزالي في تجربته هذه، فسرعان ما آب وأفاق، وغير الخطة، وأعلن براءته من منهج الشك، وتوليد اليقين عن طريق النظر.
- فأعضل هذا الداء، ودام قريباً من شهرين، أنا فيهما على مذهب السفسطة بحكم الحال، لا بحكم النطق والمقال، حتى شفى الله تعالى من ذلك المرض، وعادت النفس إلى الصحة والاعتدال، ورجعت الضروريات العقلية مقبولة موثوقاً بـها على أمن ويقين.
مرض الغزالي مدة شهرين بسبب خلوه من العلم والإيمان، بفعل منهج الشك الذي اتبعه، وهناك اعتزل الناس وآوى إلى كهف من الكهوف في حيرة من أمره، وقد أسقط في يده ما صنع، فما عاد يدري كيف يستعيد إيمانه من جديد، وهو مدرك للخطأ الكبير الذي وقع منه، وعنده شعور بما تقدم لديه من علم وعمل، أنه أخطأ التقدير بعدما آل إلى السفسطة بإبطال حقائق الأشياء، فجلس كالمستلم لأمر الله، ينتظر ما يأتيه من حكم، فأبان عن استرجاعه لليقين الذي كان عنده قبل ذلك، فكيف حدث ذلك؟
- ولم يكن ذلك بنظم دليل وترتيب كلام، بل بنور قذفه الله تعالى في الصدر وذلك النور هو مفتاح أكثر المعارف، فمن ظن أن الكشف موقوف على الأدلة المحررة، فقد ضيق رحمة الله تعالى الواسعة.
هذا انقلاب كلي على منهج الشك، وإعلان بطلان: معرفة اليقين من خلاله، وادعاء أن الدليل العقلي هو اليقين. فها هو الغزالي الإمام المتكلم يكشف بصدق خالص: أنه لم ينل إيمانه من هذا الطريق، بل ضيعه، وأنه لولا ضراعته إلى الله تعالى، حتى قذف في قلبه نورًا، لما وجد الإيمان في قلبه من جديد، واستعاد العلوم الأولية معه، بل يشنع وينعى على من زعم: “أن الكشف موقوف على الأدلة المحررة”، ويعني بالكشف: اليقين. وبالمحررة: الدليل العقلي المحض، ومنهج الشك.
فهذا البراء والإعلان جاء إثر أزمة إيمانية مر بها، ردت عليه العقل الصحيح، ونفت عنه السقيم، فعرف أين كان الخطأ في المنهج الذي سلكه، في تنكره للتقليد والموروث. وهو ما حدث للجويني والرازي، وشكى به الشهرستاني، لكن الأشعرية من لم يرفعوا بذلك رأسًا، بل حرفوا الكلم عن مواضعه، وذكروا تجربته في الشك، لكنهم تغافلوا عن النتيجة والنصيحة، وانظر في هذا مثلًا: تعليق من سمى نفسه: أحمد شمس الدين. يبين لك مقدار جنايتهم، فكيف كان لهم ألا يقفوا عن حقيقة ناصعة بينة في هذا التجربة؟
- ولما سئل رسول الله صلى الله عليه وسلّم عن الشرح ومعناه في قوله تعالى: {فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام}. قال:(هو نور يقذفه الله تعالى في القلب. فقيل: وما علامته؟ قال: (التجافي عن دار الغُرُورِ، والإنابة إلى دارِ الخُلُود).
- وهو الذي قال صلى الله عليه وسلم فيه: (إن الله تعالى خلق الخلقَ في ظُلْمةٍ، ثم رشَّ عليهمْ من نُورهِ).
فمن ذلك النور ينبغي أن يطلب الكشف، وذلك النور ينبجس من الجود الإلهي في بعض الأحايين، ويجب الترصد له كما قال صلى الله عليه وسلّم:(إن لربكم في أيامِ دهركم نفحاتٌ، ألا فتعرضُوا لها).
حديث: (التجافي عن دار الغرور) إسناده ضعيف. انظر: تخريج المشكاة 5156، ذكره ابن الجوزي في العلل المتناهية، وقال الدارقطني: “روي من طرق كلها وهم، وهو الصواب عن عمرو بن مرة عن أبي جعفر عبد الله بن المسور مرسلًا عن النبي صلى الله عليه وسلم، كذلك قاله الثوري، وابن المسور متروك”.
– حديث: (رش عليهم من نوره). رواه أحمد وغيره من أهل السنن من حديث ابن عمرو بلفظ: (ألقى عليهم من نوره، فمن أصابه من نوره يومئذ اهتدى، ومن أخطأه ضل). في السلسلة الصحيحة 1076: “إسناده صحيح، رجاله ثقات”.
– حديث: (إن لربكم..) رواه الطبراني في الأوسط 6/221، ضعفه الألباني في ضعيف الجامع 1917.
لا ينكر النور الإلهي الذي يقذف في قلب المؤمن، إنما المنكر مسلك الصوفية في ذلك؛ حيث إنهم توهموا النور الإلهي في أشياء، فيأتيهم وارد الشيطان، فيحسبون أنه وارد رحماني، ومن شدة تعلقهم به، صاروا إلى استحداث أنواع من البدع لجلبه ، ولديهم اعتقادات في هذا ليس هذا موضع ذكره، لكن فيما ذكره الغزالي من الاستمداد من النور الإلهي حق وباطل، فالحق هو التعرض للنور الإلهي، وهو عبارة عن الرحمة والنعمة المنزلة على المؤمن، فيحدث سرورا وثباتا ويقينا، ويكون التعرض له بالعمل الصالح مع الدعاء، أما الباطل، فطلبه من طريق الرياضات والأوراد والأعمال البدعية، أو الاشتغال به عن فعل العبادات.
- والمقصود من هذه الحكايات أن يعمل كمال الجد في الطلب، حتى ينتهي إلى طلب ما لا يطلب. فإن الأوليات ليست مطلوبة، فإنـها حاضرة، والحاضر إذا طلب فقد واختفى، ومن طلب ما لا يطلب، فلا يتهم بالتقصير في طلب ما يطلب.
هنا يخلص إلى نتيجة، هي مفاد تجربة: أن الأوليات لا تطلب. أي: ما كان ضروريًّا وفطريًّا؛ لأنها أظهر من أن يستدل لها، أو يطلب لها إثبات، فهي قضايا فطرية ضرورية، وجدت مع الإنسان طبعًا وجبلة، كما ولد يطعم ويشرب وينكح ويلهو، فلا يحتاج لمعلم فيها، فكذلك ولد معه قضاياه الأولية والفطرية، فطلبها إضاعة وقت فيما لا طائل وراءه إلا الشك والحيرة، فإن المرء لا يطلب ما عنده، وإلا ضيعه وغيبه، فقضايا الإيمان بالله تعالى، واليوم الآخر، والمعاد ثابتة فطرة وضرورة، فهذه يبنى عليه عليها، وهي الدليل على ما سواها، وليست هي محل الاستدلال وطلب الدليل لها، فهذا آخر ما توصل له الغزالي، مخالفًا بذلك وصايا المتكلمين في إيجاب النظر، فإنه يؤكد جدًّا: أن هذا المسلك لا يثبت عقيدة، ولا يرسخ إيمانًا، بل يزرع شكًّا وحيرة، وقد حمله هذا للطعن في علم الكلام، والنهي عن تعاطيه، والتشكيك في فائدته، كما قاله في “الإحياء”، وننقل ههنا طرفًا من كلامه، قال محذرًا مبينًا حقيقة ما يحدثه الكلام في الاعتقاد، عكس ما يروج له: “وينبغي أن يحرس سمعه من الجدل والكلام غاية الحراسة؛ فإن ما يشوشه الجدل أكثر مما يمهده، وما يفسده أكثر مما يصلحه، بل تقويته بالجدل تضاهي ضرب الشجرة بالمدقة من الحديد رجاء تقويتها؛ بأن تكثر أجزاؤها، وربما يفتتها ذلك ويفسدها وهو الأغلب، والمشاهدة تكفيك في هذا بيانًا فناهيك بالعيان برهانًا، فقس عقيدة أهل الصلاح والتقى من عوام الناس بعقيدة المتكلمين والمجادلين، فترى اعتقاد العامي في الثبات كالطود الشامخ، لا تحركه الدواهي والصواعق، وعقيدة المتكلم الحارس اعتقاده بتقسيمات الجدل، كخيط مرسل في الهواء تفيئه الرياح مرة هكذا، ومرة هكذا، إلا من سمع منهم دليل الاعتقاد، فتلقفه تقليدًا، كما تلقف نفس الاعتقاد تقليدًا؛ إذ لا فرق في التقليد بين تعليم الدليل أو تعلم المدلول، فتلقين الدليل شيء، والاستدلال بالنظر شيء آخر بعيد عنه.
ثم الصبي إذا وقع نشوه على هذه العقيدة، إن اشتغل بكسب الدنيا لم ينفتح له غيرها، ولكنه يسلم في الآخرة باعتقاد أهل الحق؛ إذ لم يكلف الشرع أجلاف العرب أكثر من التصديق الجازم بظاهر هذه العقائد، فأما البحث والتفتيش وتكلف نظم الأدلة، فلم يكلفوه أصلا. وإن أراد أن يكون من سالكي طريق الآخرة، وساعده التوفيق حتى اشتغل بالعمل، ولازم التقوى، ونهى النفس عن الهوى، واشتغل بالرياضة والمجاهدة، انفتحت له أبواب من الهداية تكشف عن حقائق هذه العقيدة، بنور إلهي يقذف في قلبه بسبب المجاهدة، تحقيقا لوعده عز وجل؛ إذ قال: {والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا وإن الله لمع المحسنين}”.
ثم قال عن مضرته، وحقيقة ما يزعم من منفعته:
“أما مضرته: فإثارة الشبهات، وتحريك العقائد وإزالتها عن الجزم والتصميم، فذلك مما يحصل في الابتداء، ورجوعها بالدليل مشكوك فيه، ويختلف فيه الأشخاص، فهذا ضرره في الاعتقاد الحق.
وله ضرر آخر في: تأكيد اعتقاد المبتدعة للبدعة، وتثبيته في صدورهم، بحيث تنبعث دواعيهم، ويشتد حرصهم على الإصرار عليه، ولكن هذا الضرر بواسطة التعب الذي يثور من الجدل. ولذلك ترى المبتدع العامي يمكن أن يزول اعتقاده باللطف في أسرع زمان، إلا إذا كان نشؤه في بلد يظهر فيها الجدل والتعصب، فإنه لو اجتمع عليه الأولون والآخرون لم يقدروا على نزع البدعة من صدره، بل الهوى والتعصب، وبغض خصوم المجادلين وفرقة المخالفين يستولي على قلبه، ويمنعه من إدراك الحق حتى لو قيل له: هل تريد أن يكشف الله تعالى لك الغطاء، ويعرفك بالعيان أن الحق مع خصمك؟
لكره ذلك، خيفة من أن يفرح به خصمه، وهذا هو الداء العضال الذي استطار في البلاد والعباد، وهو نوع فساد أثاره المجادلون بالتعصب، فهذا ضرره.
وأما منفعته، فقد يظن: أن فائدته كشف الحقائق، ومعرفتها على ما هي عليه، وهيهات فليس في الكلام وفاء بهذا المطلب الشريف، ولعل التخبيط والتضليل فيه أكثر من الكشف والتعريف”.
وتأكيدًا للمعنى المناقض لما يقرر أهل الكلام، يختم ببراءة ناصحة صادقة، فيقول:
“وهذا إذا سمعته من محدث أو حشوي، ربما خطر ببالك أن الناس أعداء ما جهلوا، فاسمع هذا ممن خبر الكلام، ثم قلاه بعد حقيقة الخبرة، وبعد التغلغل فيه إلى منتهى درجة المتكلمين، وجاوز ذلك إلى التعمق في علوم أخر تناسب نوع الكلام، وتحققك أن الطريق إلى حقائق المعرفة من هذا الوجه مسدود.
ولعمري لا ينفك الكلام عن كشف وتعريف وإيضاح لبعض الأمور، ولكن على الندور في أمور جلية تكاد تفهم قبل التعمق في صنعة الكلام، بل منفعته شيء واحد وهو حراسة العقيدة التي ترجمناها على العوام، وحفظها عن تشويشات المبتدعة بأنواع الجدل، فإن العامي ضعيف يستفزه جدل المبتدع، وإن كان فاسدا ومعارضة الفاسد بالفاسد تدفع”.
في آخر كلامه شيء من المناقضة لما سبق؛ إذ يعود ليثبت شيئًا من الفضل للكلام في حراسة العقيدة، وكيف يكون ذلك، وقد قدم أن مضرته: تحريك الشبهات، وإزالتها عن الجزم، وأنه ليس له منفعة تذكر. فكيف يلتئم هذا مع كونه حارسًا للعقيدة؟
تلك هي نفس المتكلم، وما أحدثه الكلام والفلسفة فيها، يقول الشيء ونقيضه وهو لا يشعر، وكأنه يعز عليه ألا يثبت للكلام فضلًا، بعد وقوف تام على سيئاته، فهو متردد محتار بين عقيدة رسخ فيه فضلها على عمى، ونتيجة توصل لها بعد فحص أنها عقيدة فارغة باطلة، فتعبيره بين الحالين إلا أن ينوي التخلص من الباطل تمامًا، ولن يستطيع ذلك حقًّا إلا أن يسلك مسلك السلف في الاعتقاد، فإن وجد قوة في العلم والإيمان والاعتقاد ما يعلو به على الكلام والفلسفة، فلا تضره ولو نشأ عليها يومًا، ولن ينساق مع مفاهيمها دون وعي، إذ تولد لديه وعي كامل طاهر مطهر لكل ما تكدر وتعكر صفوه.