الاثنين - 07 ذو القعدة 1446 هـ - 05 مايو 2025 م

رسالة إلى السلطان.. الملك المؤيد

A A

 للتحميل كملف pdf  اضغط هنا

من أحمد بن تيمية إلى المولى السيِّد السلطانِ الملكِ المؤيَّد، أيَّده اللهُ بتكميل القوتينِ النظريةِ والعلميةِ، حتى يُبلِّغَه أعلى مراتبِ السعادةِ الدنيويةِ والأخرويةِ، ويجعلَه ممن أتمَّ عليه نِعَمَه الباطنةَ والظاهرةَ، وأعطاه غايةَ المطالبِ الحميدةِ في الدنيا والآخرة، وجعلَه مع الذين أنعمَ عليهم من النبيين والصدِّيقين والشهداءِ والصالحين، وحَسُنَ أولئك رفيقًا.

ففي الهُدَى كمالُ القوةِ العلمية، وفي الرَّشادِ كمالُ القوة العملية، وبهما أخبرَ أنه أرسلَ رسولَه حيثُ قال: ﴿هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللهِ شَهِيدًا﴾ [الفتح: 28]. فالهدى يتضمنُ كمالَ القوة العلمية، ودينُ الحق يتضمنُ كمالَ القوةِ العملية.

وقد نَزَّهه عن ضدِّ ذلك في مثلِ قوله: ﴿وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى (1) مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى﴾ ثم قال: ﴿وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى﴾ [النجم: 1- 4]. فنزَّهَه عن «الضلالِ» المناقضِ للهدى، وهو النقص في القوة العلمية، وعن «الغَيّ» المناقضِ للرشاد، وهو النقص في القوة العملية. ثمَّ أخبرَ بكمالِه فيهما بقوله: ﴿وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى﴾ وهو هَوى النفس المُفسِدُ للقوة العملية، ﴿إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُّوحَى﴾ وهو أعلى مراتبِ إعلامِ اللهِ لعبادِه، وإن كان أهلُه متفاضلين فيه.

فكمالُ التنزُّهِ عن الخطأ للأنبياء صلواتُ اللهِ عليهم وسلامُه، وهم فيه متفاضلون، كما قال تعالى: ﴿وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ﴾ [الإسراء: 55]، وقال تعالى: ﴿تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ﴾ [البقرة: 253].

وقد استوعبَ سبحانَه أنواعَ جنسِ تكليمه لعباده في قوله تعالى: ﴿وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ﴾ [الشورى: 51]، فجعل ذلك ثلاثة أنواع:

الوحي الذي منه ما هو إلهامٌ للأنبياء يَقَظَةً ومنامًا، فإنَّ رؤيا الأنبياءِ وحيٌ.

والتكليم من وراءِ حجابٍ، كما كلَّمَ موسَى بن عمرانَ حيثُ ناداهُ وقَرَّبَه نَجِيًّا.

والتكليم بإرسالِ رسولٍ يُوحي بإذنِه ما يشاءُ هو تكليمُه بواسطةِ إرسال الملكِ، كما قال تعالى: ﴿إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ (17) فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ﴾ [القيامة: 17- 18]، أي علينا أن نجمعَه في قلبك، ثمَّ علينا أن نقرأه بلسانك. وهذا على أظهر القولين، وهو أنَّ «قَرَأ» بالهمزة من الظهور والبيان، وقولهم: ما قَرَأَتِ النَّاقةُ بِسَلَا جَزُوْرٍ قَطُّ، أي ما أَظهرتْه، بخلاف «قَرَى يَقْرِي» فإنه من الجمع، ومنه سُمِّيَتِ القريةُ قريةً، والمِقْرَاةُ مُجتمَع الماء.

فقوله تعالى: ﴿إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ (17) فَإِذَا قَرَأْنَاهُ﴾ أي قرأناه بواسطةِ جبريل ﴿فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ﴾. وهذا كقوله تعالى: ﴿نَتْلُو عَلَيْكَ مِنْ نَبَإِ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ﴾ [القصص: 3]، وإنما ذلك بتوسُّط قراءةِ جبريلَ وتلاوتِه، كقوله: ﴿أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ﴾ [الشورى: 51]. فإنَّ هذا قد جعله سبحانَه أحدَ أنواع الجنس العامّ المقسوم، وهو تكليمُ اللهِ لعبادِه، ولهذا قال عُبادةُ بن الصامت: رؤيا المؤمنِ كلامٌ يُكلِّم به الربُّ عبدَه في منامِه.

وأدنى مراتبِ ذلك الوحي المشترك: الذي يكون لغير الأنبياء، كقوله: ﴿وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي﴾ [المائدة: 111]، وقوله: ﴿وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ﴾ [القصص: 7].

وهذا الوحي المشترك هو الذي أدرجَه في النبوة من الفلاسفةِ مَن أدرجَه، كابن سينا وأمثالِه، فإنَّ أرسطو وأتباعَه القدماءَ ليس لهم في النبوة كلامٌ، إذْ كان أرسطو هو وزير الإسكندر بن فيلبس المقدوني الذي يُؤَرَّخ له التاريخ الرومي، وبه يُؤَرِّخ كثيرٌ من اليهود والنصارى، وكان قبل المسيح عليه السلام بنحوِ ثلاثمائةِ سنةٍ. وبعدَ المسيح بنحوِ ثلاثمائة سنةٍ كان قُسْطَنْطِينُ الذي أقامَ دينَ النصارى بالسيف، وفي عهدِه أحدثوا الأمانةَ وتعظيمَ الصليبِ واستحلالَ الخنزير والقولَ بالتثليثِ والأقانيمِ بمَجْمَعِهم الأوّل المسمَّى بمجمعِ نِيْقِيَة.

وهذا الإسكندر المقدوني هو الذي ذهبَ إلى أرضِ الفُرْسِ وغَيَّر ممالِكَهم، وليس هو ذا القَرنين المذكور في القرآن، الذي بَنَى سدَّ يأجوجَ ومأجوجَ، فإنَّ هذا كان متقدمًا على ذلك، وكان موحِّدًا مسلمًا. والمقدوني لم يَصِل إلى تلك الأرض، وكان هو وقومُه مشركين يعبدون الهياكلَ العُلْوِيَّةَ والأصنامَ الأرضيةَ، ولم يزالوا على ذلك حتى وصلتْ إليهم دعوةُ المسيح عليه الصلاة والسلام، فأسلمَ منهم مَن أسلمَ، وكانوا متبعينَ لدينِ المسيحِ الحقِّ، إلى أن بُدِّلَ منه ما بُدِّلَ.

وهؤلاء كانوا بأرض الروم وجزائرِ البحر، لم يَصِل إليهم من أخبار إبراهيم وآل إبراهيم – كموسى بن عمران وغيرِه – ما عَرَفوا به حقيقةَ النبوة، ولهذا كان أرسطو أوَّلَ من قال بقِدَمِ الأفلاكِ من هؤلاء، بخلاف مَن قبلَه كأفلاطونَ وشيخِه سُقراطَ، وشيخِ سقراط فيثاغورسَ، وشيخِ فيثاغورسَ انبدقلس، فإنّ هؤلاء كانوا يقولون بحدوث صورة الفلك، ولهم في المبادئ كلامٌ طويلٌ قد بَسطناهُ في الكتاب الكبير الذي ذكرنا فيه مقالاتِ العالَم في مسألة حدوثِ العالم وقِدَمِه، فإنها منشأُ نزاعِ الأولين والآخرين في أقوالِ الربّ وأفعالِه، وعنها تنازعَ أهلُ المللِ من المسلمين وأهلِ الكتاب في كلامِ الربّ: هل هو قديمُ النوعِ أو العينِ؟ وهل هو قائمٌ به أو مباينٌ له؟ وهل يتكلمُ بقدرتِه ومشيئتِه أو هو لازمٌ له لزومَ الحياة؟

وكذلك تنازعوا في دوامِ الحدوثِ ووجودِ ما لا يتناهَى منها في الماضي والمستقبل: هل هو ممتنعٌ في الماضي والمستقبل؟ كما يقوله الجهمُ وأبو الهُذيل، أو هو جائز في المستقبل ممتنعٌ في الماضي؟ كما يقوله كثيرٌ من المتكلمين، أم هو جائزٌ فيهما؟ كما يقوله أئمةُ أهلِ الملل وأئمة الفلاسفة، لكنَّ أئمةَ أهلِ المللِ لا يُجوِّزون ذلك إلا في قديم واحدٍ، لا يُجوِّزون أن يكون شيئانِ كلٌّ منهما قديمٌ أزليٌّ يقومُ به حوادثُ لا بدايةَ لها ولا نهايةَ، فيكون ما لا يتناهى لا في الماضي ولا في المستقبل قابلًا لأن يُزادَ عليه.

وهذا المحالُ إنما يَلْزَمُ مَن قال بقِدَمِ الأفلاك، وأما أئمة أهل السنة – كالصحابة والتابعين لهم بإحسانٍ ومَن سَلَك سبيلَهم من أئمة المسلمين – فهؤلاء أَتَوا بخلاصةِ المعقول والمنقول، إذْ كانوا عالمين بأنَّ كلًّا من الأدلة السمعية والعقلية حقٌّ، وأنها متلازمةٌ، فمن أعطَى الأدلةَ العقليةَ اليقينية حَقَّها من النظرِ التامِّ عَلِمَ أنها موافِقةٌ لِمَا أخبرتْ به الرسُلُ، ودلَّتْه على وجوبِ تصديقِ الرسُلِ فيما أخبروا به. ومَن أعطَى الأدلة السمعيةَ حقَّها من الفهم عَلِمَ أنَّ اللهَ أرشَدَ عِبادَه في كتابِه إلى الأدلة العقلية اليقينية، التي بها يُعلَم وجودُ الخالقِ وثبوتُ صفاتِ الكمالِ له، وتنزُّهُه عن النقائص وعن أن يكون له مِثْلٌ في شيء من صفات الكمال، و[التي تدلُّ] على وحدانيتِه ووحدانيةِ ربوبيتِه ووحدانيةِ إلهيَّتِه، وعلى قدرتِه وعلمِه وحكمتِه ورحمتِه، وصِدْقِ رُسُلِه ووجوبِ طاعتِهم فيما أوجَبوا وأَمَروا، وتصديقِهم فيما أعلَموا به وأخبروا، وأنَّهم كَمَّلُوا بما أُوتُوا من الهُدَى ودينِ الحق للعِبادِ ما كانتْ تَعْجِزُ مجردُ عقولِهم عن بلوغِه.

إذْ كانت طُرُقُ العلمِ ثلاثةً: الحسّ، والنظر، والخبر. فأتباعُهم جمعَ اللهُ لهم غايةَ الفضائلِ العلمية والعملية، ولهذا كانت أمة محمد ﷺ خير أمةٍ أخرجت للناس، فإنّ الله جمعَ لهم من الفضائل ما فَرَّقَه في غيرِهم من الأمم، فجمعوا إلى ما خصَّهم الله به ما كان عند غيرِهم من أهل الكتاب ومن فلاسفةِ اليونانِ والفُرسِ والهند وغيرِهم.

ولما كان سلفُ هذه الأمة عالمين بغاياتِ العلوم العقلية والسمعية وعَلِمُوا تَلازُمَهما، لم يكن بينهم تنازعٌ ولا تعارضٌ. وقد أخبرَ اللهُ في كتابه بما دلَّ به على أنَّ كلًّا من العقل والسمع يُوجِبُ النجاةَ، فقال تعالى عن أهل النار: ﴿وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ﴾ [الملك: 10]، وقال تعالى: ﴿أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ﴾ [الحج: 46]، وقال تعالى: ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ﴾ [ق: 37].

فدلَّ على أنَّ مجردَ العقل يُوجِبُ النجاةَ وكذلك مجردُ السمع، [و] معلومٌ أن السمع لا يُفيد دون العقل، فإنَّ مجردَ إخبارِ المخبرِ لا يدُلُّ إن لم يُعلَم صِدقُه، وإنما يُعلَم صِدقُ الأنبياء بالعقل، لكنَّ طائفةً من أهل الكلام ظنُّوا أنَّ دلالةَ السمع إنما هي من جهةِ المخبرِ فقط، وقد عَلِمُوا أن الخبرَ لا يُفيد إن لم يُعلَم بالعقلِ صدقُ المخبِر، فجعلوا دلالةَ العقلِ خارجةً عمَّا جاءت به الأنبياء.

وأمَّا حُذَّاقُ المتكلمين فعَلِموا أن الرسولَ بيَّن للناسِ الأدلةَ العقليةَ التي بها يُعرَف إثباتُ الصانع وتوحيدُه وصفاتُه وصدقُ رسولِه، وعَلِمُوا أنه لا يكون عالمًا بالكتاب والسنة إلا مَن عَلِمَ ما فيهما من الأدلة العقلية التي تدُلُّ على المطلوب، مثلَ العلم بصِدقِ المخبِر، وأنَّ اللهَ إنما بعثَ رسولًا إلى الخلقِ ليَهديَهم ويُخرِجَهم من الظلماتِ إلى النور، ويَهدِيَهم إلى الصراط المستقيم، ويدعوهم بالحكمة والموعظة الحسنة، ويجادلهم بالتي هي أحسنُ. إذْ بعثَه بالهدى ودينِ الحق، وقد أكملَ له ولأمتِه الدِّينَ، وأتمَّ عليهم النعمةَ.

وقد تضمَّنَتْ رسالتُه ما به يُعلَم ذلك من الأدلة العقلية، وإلا فمجردُ إخبارِ المخبِر قبلَ العلمِ بصدقِه لا يُفيد علمًا. وكذلك الأدلة العقلية لا يكونُ الناظرُ فيها قد أعطاها حقَّها حتَّى تَدُلَّه على صِدق الرسول، فإنّ الأدلة العقلية اليقينية مستلزمةٌ لذلك، وثبوتُ الملزومِ بدون ثبوتِ اللازم محالٌ. ولهذا قال أهل النار لما قيل لهم ﴿أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ (8) قَالُوا بَلَى﴾ الآية إلى ﴿السَّعِيرِ﴾ [الملك: 8- 10]. فدلَّ ذلك على أنهم كذَّبوا الرسلَ فاستحقُّوا العذاب، ودلَّ على أنهم لم يكونوا يعقلون، وأنهم لو عَقَلُوا لصَدَّقُوا الرسلَ.

فلمَّا كان السلفُ عالمينَ بحقائق الأدلة العقلية والسمعية وأنها متلازمةٌ، عَلِمُوا أنه يمتنعُ أن تكون متعارضة، فإن الأدلةَ القطعية اليقينية يمتنِعُ تعارضُها، لوجوبِ ثبوتِ مدلولِها، فلو تعارضتْ لَزِمَ إما الجمعُ بين النفي والإثبات، وإماّ رَفعُهما. والنقيضانِ لا يجتمعانِ ولا يرتفعانِ. لكن جاءَ بعدَهم من أهل الكلام مَن قَصَّرَ في معرفةِ ما جاء به الرسولُ وما يُوجِبُه النظَرُ المعقولُ، فظنُّوا في أقوال الربِّ وأفعالِه في مسألة حدوث العالَم وغيرِها ظُنُونًا مُخطِئةً، ليست مطابقةً لخبرِ الرسلِ ولا لموجب العقلِ، وصارَ يَظُنُّ من لا يَعرِف دينَ الرسل أنَّ هذا هو دينُهم، ورأوا في ذلك يُناقِضُ صريحَ العقلِ. فكان هذا من أسبابِ اضطرابِ الناسِ في أمر الرسُلِ:

فطائفةٌ تقول: إنما جاءوا في العلوم الإلهية بطريق التخييل وخطابِ الجمهور.

وطائفةٌ تقول: بل جاءوا بطريق لا يدلُّ على المقصود، بل يُشعِرُ بنقيضه، ليَعرِفَ الناسُ الحقَّ بأنفسِهم لا من جهة الأنبياء. ثمّ يتأوَّلون ما قالتْه الأنبياءُ على ما عندهم.

وطائفةٌ تقول: فيما جاءت به الأنبياءُ متشابهٌ لا يَعلَم معناه لا الأنبياءُ ولا غيرُهم، ظَنُّوا أنَّ الوقفَ على قوله: ﴿وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ﴾ [آل عمران: 7]، وأنه إذا كان الوقفُ على هذا فالمرادُ بالتأويلِ صَرْفُ اللفظِ عن الاحتمالِ الراجح إلى الاحتمالِ المرجوح. وصارَ مِن هؤلاء مَن يقول: هذه الألفاظ تُجرَى على ظاهرِها، ولا يَعلَم تأويلَه إلا اللهُ، فيجمعُ بين النقيضَينِ.

ولم يَعلَموا أنَّ لفظ «التأويل» بحسبِ تعدُّدِ الاصطلاحات صارَ مشتركًا في ثلاثة معانٍ:

معناه في القرآن هو ما يَؤُوْلُ إليه الكلامُ وإنْ وافقَ ظاهرَه، كقوله تعالى: ﴿هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ﴾ [الأعراف: 53]. وهذا التأويل لا يعلمه إلا اللهُ، كوقتِ الساعة.

ويُرادُ بالتأويل نفسُ الكلام وما قُصِدَ إفهامُ الناسِ إيَّاهُ، وهذا التأويل يعلمه الراسخون في العلم. ولا يجوز أن يُنزِل اللهُ كتابًا يأمر بتدبُّرِه وعَقْلِه، وقد فسَّره النبيُّ ﷺ وأصحابُه كُلَّه للمسلمين، ويكون فيه ما لا يَعلَمُ تفسيرَه لا النبيُّ ولا أحدٌ من أمته.

ويُرادُ بالتأويل تحريفُ الكَلِم عن مواضعِه، وتفسيرُ الكلامِ بغير مرادِ المتكلِّم، كتحريف أهل الكتاب لِمَا حرَّفوه من الكتاب، وتحريفِ الملاحدةِ وأهلِ الأهواء لِمَا حرَّفوه من معاني هذا الكتاب. وهذا تأويلٌ باطلٌ يعلم اللهُ أنه باطلٌ، لا أنه يَعلَم أنه حقٌّ، كما قال تعالى: ﴿قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ﴾ [يونس: 18]. فإنه سبحانَه يَعلم الأشياءَ على ما هي عليه، يعلمُ الموجودَ موجودًا والمعدومَ معدومًا، فما كان معدومًا لا يعلمه موجودًا. وهذا بابٌ واسعٌ.

والسلطانُ – أيَّدَه الله وسدَّدَه – هو مِن أحقِّ مَن تَجِبُ معاونتُه على مصالح الدنيا والآخرةِ، لِمَا جَمَعَ اللهُ فيه من الفضائل والمناقِب. وكان من أسبابِ هذه التحية أنَّ فلانًا قَدِمَ، ولكثرةِ شكرِه للسلطانِ وثنائِه عليه ودُعائِه له حتى في الأسحارِ وغيرِها يُكثِرُ المفاوضةَ في محاسنِ السلطان، ويُجَدِّدُ بحضورِه للسلطانِ من الثناءِ والدعاءِ ما هو مِن بُشْرَى المؤمن، كما قالوا: يا رسول الله، الرجلُ يعملُ العملَ لنفسِه فيَحْمَدُه الناسُ عليه، فقال: «تلك عاجِلُ بُشْرَى المومنِ»([2]).

فالسلطانُ جَعلَ اللهُ فيه مِن الاشتمالِ على أهلِ الاستحقاقِ ما يَأجُرُه اللهُ عليه. وفلانٌ هذا من خِيارِ الناسِ وأصدقِهم وأنفعِهم، ومن بيتٍ معروف، وقد جعلَ الله فيه من المحبَّةِ والثناء على السلطان ما هو من نِعَم الله عليه، وهو من أهل الخير والدين معروف، فجَمعَ اللهُ بسببِه للسلطان قلوبًا تُحِبُّ السلطانَ وتدعو له. واللهُ تعالى يَجمع له خيرَ الدنيا والآخرة، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وعلى سائرِ من يُحيط به العناية الكريمة. والحمد لله ربِّ العالمين.

فهرس الموضوعات

* رسالة إلى السلطان الملك المؤيَّد
– الهدى كمال القوة العلمية، والرشاد كمال القوة العملية 2
– نقيضهما «الضلال» و«الغيّ» 3
– أنواع تكليم الله للعباد ثلاثة 3
– الإسكندر المقدوني ليس ذا القرنين 5
– ذكر أرسطو وبعض آرائه 6
– الصحابة والتابعون أتوا بخلاصة المعقول والمنقول 7
– توافق الأدلة السمعية والعقلية وتلازمها 7
– طرق العلم ثلاثة: الحسّ والنظر والخبر 8
– كلٌّ من العقل والسمع يُوجِب النجاة 8
– الرسول بيَّن للناس الأدلة العقلية 9
– السلف كانوا عالمين بحقائق الأدلة العقلية والسمعية وأنه يمتنع أن تكون معارضة 10
– من أهل الكلام مَن قصَّر في معرفة ما جاء به الرسول وما يوجبه النظر المعقول 10
– اختلاف الناس فيما جاء به الرسل 10
– لفظ «التأويل» يأتي لثلاثة معانٍ 11
– السلطان مِن أحقّ مَن تجب معاونته على مصالح الدنيا والآخرة 13

ـــــــــــــــــــــــــــــــ
(المراجع)

([1]) من «جامع المسائل» (5/283- 292) لشيخ الإسلام ط عالم الفوائد

([2])   أخرجه مسلم (2642) من حديث أبي ذر ﭬ.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

جديد سلف

(الاستواء معلوم والكيف مجهول) نصٌ في المسألة، وعبث العابثين لا يلغي النصوص

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة مقدمة: الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. فقد طُبِع مؤخرًا كتاب كُتِبَ على غلافه: (الاستواء معلوم والكيف مجهول: تقرير لتفويض المعنى لا لإثباته عند أكثر من تسعين إمامًا مخالفين لابن تيمية: فكيف تم تحريف دلالتها؟). وعند مطالعة هذا الكتاب تعجب من مؤلفه […]

التصوف بين منهجين الولاية نموذجًا

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة مقدمة: منذ أن نفخ الله في جسد آدم الروح، ومسح على ظهره، وأخذ العهد على ذريته أن يعبدوه، ظلّ حادي الروح يحدوها إلى ربها، وصوت العقل ينادي عليها بالانحياز للحق والتعرف على الباري، والضمير الإنساني يؤنّب الإنسان، ويوبّخه حين يشذّ عن الفطرة؛ فالخِلْقَة البشرية والهيئة الإنسانية قائلة بلسان الحال: […]

ابن تيميَّـة والأزهر.. بين التنافر و الوِفاق

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة مقدمة: يُعد شيخ الإسلام ابن تيمية أحد كبار علماء الإسلام الذين تركوا أثرًا عظيمًا في الفقه والعقيدة والتفسير، وكان لعلمه واجتهاده تأثير واسع امتدّ عبر الأجيال. وقد استفاد من تراثه كثير من العلماء في مختلف العصور، ومن بينهم علماء الأزهر الشريف الذين نقلوا عنه، واستشهدوا بأقواله، واعتمدوا على كتبه […]

القول بالصرفة في إعجاز القرآن بين المؤيدين والمعارضين

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة مقدمة: إنَّ الآياتِ الدالةَ على نبوّة محمدٍ صلى الله عليه وسلم كثيرة كثرةَ حاجة الناس لمعرفة ذلك المطلَب الجليل، ثم إن القرآن الكريم هو أجلّ تلك الآيات، فهو معجزة النبي صلى الله عليه وسلم المستمرّة على تعاقُب الأزمان، وقد تعدَّدت أوجه إعجازه في ألفاظه ومعانيه، ومع ما بذله المسلمون […]

الطاقة الكونية مفهومها – أصولها الفلسفية

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة تمهيد: إن الله عز وجل خلق الإنسان، وفطره على التوحيد، وجعل في قلبه حبًّا وميلًا لعبادته سبحانه وتعالى، قال الله تعالى: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} [الروم: 30]، قال السعدي رحمه الله: […]

موقف الليبرالية من أصول الأخلاق

مقدمة: تتميَّز الرؤية الإسلامية للأخلاق بارتكازها على قاعدة مهمة تتمثل في ثبات المبادئ الأخلاقية وتغير المظاهر السلوكية، فالأخلاق محكومة بمعيار رباني ثابت يحدد مسارها، ويمنع تغيرها وتبدلها تبعًا لتغير المزاج البشري، فحسنها ثابت الحسن أبدًا، وقبيحها ثابت القبح أبدًا، إذ هي تحمل صفات ثابتة في ذاتها تتميز من خلالها مدحًا أو ذمًّا خيرًا أو شرًّا([1]). […]

حجاب الله تعالى -دراسة عقدية-

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة   مقدمة: معرفة الله سبحانه وتعالى هي قوت القلوب، ومحفِّزها نحو الترقِّي في مقامات العبودية، وكلما عرف الإنسان ربَّه اقترب إليه وأحبَّه، والقلبُ إذا لم تحرِّكه معرفةُ الله حقَّ المعرفة فإنه يعطب في الطريق، ويستحوذ عليه الكسل والانحراف ولو بعد حين، وكلما كان الإنسان بربه أعرف كان له أخشى […]

ترجمة الشَّيخ د. عبد الله بن محمد الطريقي “‏‏أستاذ الفقه الطبي والتاريخ الحنبلي” (1366-1446هـ/ 1947-2024م)

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة   اسمه ونسبه([1]): هو الشيخ الأستاذ الدكتور عبد الله بن محمد بن أحمد بن عبد المحسن بن عبد الله بن حمود بن محمد الطريقي، الودعاني الدوسري نسبًا. مولده: كان مسقط رأسه في الديار النجدية بالمملكة العربية السعودية، وتحديدا في ناحية الروضة الواقعة جنوبي البلدة (العَقْدَة) -ويمكن القول بأنه حي من […]

ضبط السنة التشريعية

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة  مقدمة: السنة النبوية لها مكانة رفيعة في التشريع الإسلامي، فهي المصدر الثاني بعد القرآن الكريم، وهي التطبيق العملي لما جاء فيه، كما أنها تبيّن معانيه وتوضّح مقاصده. وقد وردت آيات وأحاديث كثيرة تأمر بطاعة النبي صلى الله عليه وسلم والعمل بسنته، وتحذّر من مخالفته أو تغيير سنته، وتؤكد أن […]

القواعد الأصولية لفهم إطلاقات السلف والتوفيق بينها وبين تطبيقاتهم العملية

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة  مقدمة: تُعدّ مسألة التعامل مع أقوال السلَف الصالح من أهمّ القضايا التي أُثيرت في سياق دراسة الفكر الإسلامي، خاصةً في موضوع التكفير والتبديع والأحكام الشرعية المتعلقة بهما؛ وذلك لارتباطها الوثيق بالحكم على الأفراد والمجتمعات بالانحراف عن الدين، مما يترتب عليه آثار جسيمة على المستوى الفردي والجماعي. وقد تعامل العلماء […]

التدرج في تطبيق الشريعة.. ضوابط وتطبيقات

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة  مقدمة: إن الله تعالى أرسل الرسل وأنزل الكتب ليقوم الناس الناس بالقسط، قال تعالى: ﴿‌لَقَدۡ ‌أَرۡسَلۡنَا ‌رُسُلَنَا بِٱلۡبَيِّنَٰتِ وَأَنزَلۡنَا مَعَهُمُ ٱلۡكِتَٰبَ وَٱلۡمِيزَانَ لِيَقُومَ ٱلنَّاسُ بِٱلۡقِسۡطِ﴾ [الحديد: 25] أي: “ليعمل الناس بينهم بالعدل”[1]. والكتاب هو النقل المُصَدَّق، والميزان هو: “العدل. قاله مجاهد وقتادة وغيرهما”[2]، أو “ما يعرف به العدل”[3]. وهذا […]

تأطير المسائل العقدية وبيان مراتبها وتعدّد أحكامها

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة  مقدمة: إنَّ علمَ العقيدة يُعدُّ من أهم العلوم الإسلامية التي ينبغي أن تُعنى بالبحث والتحرير، وقد شهدت الساحة العلمية في العقود الأخيرة تزايدًا في الاهتمام بمسائل العقيدة، إلا أن هذا الاهتمام لم يكن دائمًا مصحوبًا بالتحقيق العلمي المنهجي، مما أدى إلى تداخل المفاهيم وغموض الأحكام؛ فاختلطت القضايا الجوهرية مع […]

توظيف التاريخ في تعزيز مسائل العقيدة والحاضر العقدي

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة  مقدمة: إنَّ دراسةَ التاريخ الإسلاميِّ ليست مجرَّدَ استعراضٍ للأحداث ومراحل التطور؛ بل هي رحلة فكرية وروحية تستكشف أعماقَ العقيدة وتجلّياتها في حياة الأمة، فإنَّ التاريخ الإسلاميَّ يحمل بين طياته دروسًا وعبرًا نادرة، تمثل نورًا يُضيء الدروب ويعزز الإيمان في قلوب المؤمنين. وقد اهتم القرآن الكريم بمسألة التاريخ اهتمامًا بالغًا […]

تصفيد الشياطين في رمضان (كشف المعنى، وبحثٌ في المعارضات)

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة  تمهيد يشكِّل النصُّ الشرعي في المنظومة الفكرية الإسلامية مرتكزًا أساسيًّا للتشريع وبناء التصورات العقدية، إلا أن بعض الاتجاهات الفكرية الحديثة -ولا سيما تلك المتبنِّية للنزعة العقلانية- سعت إلى إخضاع النصوص الشرعية لمنطق النقد العقلي المجرد، محاولةً بذلك التوفيق بين النصوص الدينية وما تصفه بالواقع المادي أو مقتضيات المنطق الحديث، […]

رمضان مدرسة الأخلاق والسلوك

المقدمة: من أهم ما يختصّ به الدين الإسلامي عن غيره من الأديان والملل والنحل أنه دين كامل بعقيدته وشريعته وما فرضه من أخلاق وأحكام، وإلى جانب هذا الكمال نجد أنه يمتاز أيضا بالشمول والتكامل والتضافر بين كلياته وجزئياته؛ فهو يشمل العقائد والشرائع والأخلاق؛ ويشمل حاجات الروح والنفس وحاجات الجسد والجوارح، وينظم علاقات الإنسان كلها، وهو […]

تغاريد سلف

جميع الحقوق محفوظة لمركز سلف للبحوث والدراسات © 2017