تعظيم شعائر الله: قضايا المعتقد نموذجًا
أحكام الله الحلال والحرام والمكروه والمندوب والواجب، وكلها محلّ تعظيم من المؤمن إيمانًا صحيحًا، وكلما ضعف تعظيم الأوامر والنواهي في قلب المؤمن ظهر ذلك في سلوكه وحياته؛ ولذا قال نوح لقومه: {مَّا لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا} [نوح: 13]، “أي: لا تعاملونه معاملة من توقّرونه، والتوقير: العظمة، ومنه قوله تعالى: {وَتُوَقِّرُوهُ} [الفتح: 9]، قال الحسن: ما لكم لا تعرفون لله حقًّا ولا تشكرونه، وقال مجاهد: لا تبالون عظمة ربكم، وقال ابن زيد: لا ترون لله طاعة، وقال ابن عباس: لا تعرفون حقَّ عظمته. وهذه الأقوال ترجع إلى معنى واحد، وهو أنهم لو عظموا الله وعرفوا حق عظمته وحَّدوه وأطاعوه وشكروه، فطاعته سبحانه اجتناب معاصيه، والحياء منه بحسب وقاره”([1]).
ويتجلى التعظيم في التعامل مع الشعائر وتعظيمها بقدر مُشَرِّعِهَا سبحانه، وهذا التعظيم من أَجَلِّ أعمال القلوب، قال تعالى: {وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ} أَيْ: أَوَامِرَهُ، {فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ}([2]).
ومن أعظم المسائل التي ينبغي تعظيمها مسائل المعتقد، فهي على رأس الأوامر والنواهي؛ ولذلك يمدح الله من يعظمها كما يتوعد من ينتهكها أو يقع في مخالفتها، ألا ترى إلى قوله سبحانه: {الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُوْلَـئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُون} [الأنعام: 82]؟!
فقد نكَّر الظلم الذي هو الشرك([3]) ليعم جميع أنواع الشرك الأصغر والأكبر؛ حتى لا يستهين المسلم بشيء من ذلك، فعن عائشة أم المؤمنين رضى الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الدواوين عند الله عز وجل ثلاثة: ديوان لا يعبأ الله به شيئا، وديوان لا يترك الله منه شيئا، وديوان لا يغفره الله، فأما الديوان الذي لا يغفره الله فالشرك بالله، قال الله عز وجل {إِنَّهُ مَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ} [المائدة: 72]، وأما الديوان الذي لا يعبأ الله به شيئا فظلم العبد نفسه فيما بينه وبين ربه من صوم يوم تركه أو صلاة تركها، فإن الله عز وجل يغفر ذلك ويتجاوز إن شاء، وأما الديوان الذي لا يترك الله منه شيئا فظلم العباد بعضهم بعضا القصاص لا محالة»([4]).
ومثله في جانب الترغيب تعظيم الشهادة، والتأكيد على فضلها، وأنها تنجي من النار كل من التزم بمعناها وقالها من قلبه، فعن أبي هريرة أنه قال: قيل: يا رسول الله، من أسعد الناس بشفاعتك يوم القيامة؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لقد ظننت -يا أبا هريرة- أن لا يسألني عن هذا الحديث أحد أول منك؛ لما رأيت من حرصك على الحديث، أسعد الناس بشفاعتي يوم القيامة من قال: لا إله إلا الله خالصًا من قلبه» أو: «نفسه»([5]).
فالتحذير من الشرك أيًّا كان هو لتبيين خطره وعظمه عند الله عز وجل، ولما يترتب عليه من مفاسد في الدنيا والآخرة، ولتعظيمه في قلب المؤمن ضرب الله أمثلة حسية له فقال: {حُنَفَاء لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ وَمَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاء فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ} [الحج: 31]. {فَكَأَنَّمَا خَرَّ} أي: سقط، {مِنَ السَّمَاء} إلى الأرض، {فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ} أي: تستلبه الطير وتذهب به، والخطف والاختطاف: تناول الشيء بسرعة، وقر أهل المدينة: {فَتَخَطَّفُهُ} بفتح الخاء وتشديد الطاء، أي: يتخطّفه، {أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ} أي: تميل وتذهب به، {فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ} أي: بعيد، معناه أن بعد من أشرك عن الحق كبعد من سقط من السماء فذهبت به الطير أو هوت به الريح، فلا يصل إليه بحال. وقيل: شبه حال المشرك بحال الهاوي من السماء في أنه لا يملك لنفسه حيلة حتى يقع بحيث تسقطه الريح، فهو هالك لا محالة، إما باستلاب الطير لحمه، وإما بسقوطه إلى المكان السحيق، وقال الحسن: شبه أعمال الكفار بهذه الحال في أنها تذهب وتبطل، فلا يقدرون على شيء منها([6]).
كما ضرب أمثلة حسية للإيمان والاعتقاد الصحيح وتأثيرهما في حياة المؤمن الذي يعتقدهما، فقال تعالى: {اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِن شَجَرَةٍ مُّبَارَكَةٍ زَيْتُونِةٍ لاَّ شَرْقِيَّةٍ وَلاَ غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُّورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَن يَشَاء وَيَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [النور: 35].
وعن أبي موسى قال: قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم بأربع: «إن الله لا ينام ولا ينبغي له أن ينام؛ يرفع القسط ويخفضه، ويرفع إليه عمل النهار بالليل، وعمل الليل بالنهار»([7]).
وكل هذه النصوص تبعث على تعظيم هذا المعتقد في قلب الإنسان وتقريره بطريقة تؤثر في حياة المؤمن، وتجعل العقيدة حاضرة في حياته، وليست أمرًا ثانويًّا أو سرًّا يكتمه ويعتبره بمثابة المأزق الشخصي له، وحين نركّز عدسة البحث نجد النصوص أشد في التأكيد على تعظيم قضايا المعتقد وجعلها مصونة من التلاعب والنسبية التي يريد البعض أن يجعلها أمرًا مستساغًا، فقد علّق القرآن على تصرفات ظنها أصحابها من فاكهة المجالس ومحاسن المؤانسة، لكن القرآن عظمها لعلاقتها بالمعتقد، قال سبحانه في شأن المستهزئين بأهل القرآن: {وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ} [التوبة: 65]. فعن محمد بن كعب القرظي وغيره قالوا: قال رجل من المنافقين: ما أرى قراءنا هؤلاء إلا أرغبنا بطونا، وأكذبنا ألسنة، وأجبننا عند اللقاء، فرفع ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجاء إلى رسول الله وقد ارتحل وركب ناقته، فقال: يا رسول الله، إنما كنا نخوض ونلعب، فَقَالَ: {أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ} إِلَى قَوْلِهِ: {مُجْرِمِينَ} [التوبة: 65، 66]، وإن رجليه لتنسفان الحجارة وما يلتفت إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو متعلق بنسعة رسول الله صلى الله عليه وسلم([8]).
ومثل هذا الوعيد تجده في مقابل الالتزام بقضايا المعتقد؛ فإنها تنفع صاحبها وترفعه وتنجيه من المهالك المحققة، ففي حديث الشفاعة الطويل: «فيقال: يا محمد، ارفع رأسك، وقل يسمع، وسل تعطه، واشفع تشفع، فأقول: يا رب، ائذن لي فيمن قال: لا إله إلا الله، فيقول: وعزتي وجلالي وكبريائي وعظمتي، لأخرجن منها من قال: لا إله إلا الله»([9]).
ثم ليقس ما لم يقل، فمبنى الشريعة على تعظيم الأوامر والنواهي، وتوقير الله ورسوله، ولا يقبل من المؤمن صرف ولا عدل ما لم يمتلئ قلبه تعظيمًا للشرع، وآكد ما يكون هذا التعظيم حين تتعلق الأمور بالعقائد، فليس كون الأمر ثانويًّا أو ليس ثابتًا ثبوتَ غيره من المسائل أنه يتجاوز أو يترك، بل لا بد أن يعتقد، وإذا أُنْكِر فإنه يؤكد عليه، وينبه الجاهل، ويؤدّب المنكر؛ ولذا تجد علماء أهل السنة يذكرون بعض الرخص الفقهية في عقائدهم مع أنها في الأغلب مباحة، وليست مندوبة ولا واجبة؛ مثل القصر في السفر، والمسح على الخفين، وسبب ذلك هو أنه وجد من ينكرها وهي من شرع الله، بغض النظر عن درجة حكمها، فكيف بما هو من صلب الدين وأصوله؟!
ــــــــــــــــــــــــــــــــ
(المراجع)
([2]) ينظر: تفسير ابن كثير (5/ 421).
([3]) ينظر: تفسير الطبري (9/ 369).
([4]) أخرجه الإمام أحمد (26073).
([6]) ينظر: تفسير البغوي (3/ 339).