الانغلاق المعرفي لدى التيار الحداثي
يغلِب على الخطابِ الحداثيِّ الخفةُ والكِبر العلميّ، وتغيبُ عنه التُّؤدة والأناة والتثبُّت والموضوعيَّة؛ وذلك أنه غلب على كثير من منتسبي الفكر الحداثي النَّفَسُ الشبابيّ الثائر؛ مما أدى بهم إلى ممارسة نوعٍ من المرح في البحث والتلقائية في النقاش والبساطة في النقد ومخرجاته، وكلُّ هذا يرجِع إلى تحكُّم عقلية المصادرة للآراء في مكوِّن الفكر الحداثي؛ لأن نشأته الأولى كانت وليدَةَ ثورةٍ على الدين والقيَم، ومحاولة صنعٍ لحياة جديدةٍ تحكمها المادّة والعلم التجريبي، وتبتَعِد عن كلّ ما هو غيبيّ وأسطوريّ وتستبعدُه، وتجعل من فكرتها نقيضًا للماضي وعداءً للواقع المزري، وتستشرف لمستقبل أكثر نُضجًا.
القلق من المستقبل وازدراء التراث عرضان من أعراض الانغلاق:
ساد القلقُ من المستقبل في الخطاب الحداثيِّ، كما حكَّم الإحباط هواه في تقييم التاريخ والتراث، وقد تكرَّرت دعوةُ الحداثيين للحوار والتعقُّل في وزن الأمور وترتيبها، ومحاولة التعامل معها تعاملًا حذرًا ومسؤولًا؛ لكن ومع كل اختبارٍ علميّ للفكرة ومدَى انسجامها مع طموحات أصحابها نُفاجَأ دومًا بتناقضٍ بين الأحداث والأهداف، بل نجد الفكرةَ تحمل في مضمونها ما يناقض ما تسعى إليه، وعند تسليط الضوءِ على جانبٍ مهمٍّ من الفكرة الحداثيّة -ألا وهو المصادرة للآراء وتتفيهِهَا- نجد هذه العبارة -وإن كانت لا تروق للحداثيين- تمثِّل حقيقةً واقعيَّة لموقفهم من كلّ ما يرونه مخالفًا لقيمهم ودعوتهم، ويعكس ذلك موقفُهم من التراث بجميع مكونّاته، سواء كانت دينية أو اجتماعية أو سياسية، يقول إسماعيل مظهر: “نخطئ إذا اعتقَدنا أن تراثَ الماضي يجب أن يكونَ نبراسَنا الذي ينير لنا مفاوزَ الحاضر، فإنَّ الحاضرَ هو في الواقع قائدنا وهادينا، وما الماضي إلا صفحة بائدة… على هذا يجب أن نقتلَ في عقولنا فكرةَ التأثُّر بالماضي”([1]).
وهذه الفكرة الرافضة للماضي لا تنتهي عندَ هذا الحدِّ، بل تجعل قِيَمها الغربية هي التي تمثِّل عوامل البقاء، وعليه يجب فرضها، أمَّا قيم المجتمعات الأخرى فهي سِرُّ الفناء، فيجب نبذها، يقول العروي: “إن أوروبا الغربية انتهجت منذ أربعة قرون منطقًا في الفكر والسلوك، ثم فرضته منذ القرن الماضي على العالم كلِّه، ولم يبقَ للشعوب الأخرى إلا أن تنهجَه فتحيا، أو ترفضه فتفنى”([2]).
الإعراض عن علوم المخالف:
هذا الانغلاقُ المعرفيّ القائم على المصادَرة واعتقاد أن الفناء هو حظُّ المخالف لم يقف عند هذا الحدِّ، بل صاحبه تعمُّد الإعراضِ عن كلِّ ما عند المخالف من علمٍ، وجعله مجرَّدَ كذبٍ واختلاق، وليس هذا التكذيب ناتجًا عن بحثٍ علميٍّ، بل هو مجرَّد ادِّعاء ألجأت إليه الأدلجة والعداء للقيم، فهذا كاتبٌ عربيٌّ يجعل من القرآن مجرَّدَ حديثٍ مهيّج للجماع وفاتح للشهية([3])، ومع كون هذه الفكرةِ تعدُّ جهلا بالدين والوحي، بل وخروجًا عن النسق الطبيعي للنقد الأخلاقيّ، فإن أصحابها لم يقِفوا عند هذا الجهل، ففي كلّ نقد يبينون عن خفَّة عقلٍ زائدة، وعن تصوّر سطحيٍّ للمواضيع الدينية، ففي إطارِ نقدِهم للحِجاب يَربطون فكرةَ كون المرأة محجَّبة وكونها ناقِصة، ويرون أن حاجتَها إلى رحمة الله دليلُ ضعفِها ومرضِها، وأن فكرةَ الحجاب فظيعة لهذا الحدّ([4])، وهذا التسطيحُ لقضيَّةٍ شعائرية يُغَيِّبُ الدَّوافع الحقيقيَّة لها، وهذا التغييبُ ليس لَه من تفسير إلا الجهل بطبيعة الدين، ثم بالحجاب الذي يدفع إلى كبح جماح الشَّهوة عند الناظرين، ويحجب عنهم ما تحته حتى لا يقعوا في المحظور، وهو صيانةٌ للمرأة وتكريم، فيأتي الحداثيُّ ليلغي هذه المقاصدَ بكلِّ جرأةٍ، ويصادرها، ويأتي من كيسِه بتَفسيرٍ هو أقربُ في نظر المتديِّنين إلى تفسير الأحلام والرُّؤى منه إلى التفاسير العلمية تحت أيِّ اعتبار، وهذا الرفضُ المطلَق للتراث الإسلاميِّ بنصوصِه الدينيَّة والتهكّم عليها والمطالبة بإلغائها يدعو إليه أناسٌ يَدَّعون الانفتاحَ على قيَم مجتمعاتٍ أخرى؛ بحجَّة المشترك الإنسانيِّ. ولنا أن نتساءل: هل الجنسُ غائبٌ في القيَم الغربيَّة أو ليس له قيمة؟ أين فلسفة اللذة عند الفلاسفة الأوربيين؟ وأين الجنس وما قاله ماركيوز – هربرت (1898-1970م) الذي دعا إلى التركيز وتأكيد انعتاق الغرائز الجنسية، وإطلاق الحرية الجنسية بلا حدود، سواء من ناحية الكم أم الكيف، أي: حتى الشذوذ؟! بل وتمجيد الشذوذ باعتباره ثورة وتمردًا ضدَّ القمع الجنسيّ، وضد مؤسسات القمع الجنسيّ؛ معتبرًا التحرُّر الجنسيَّ عنصرًا مكمِّلا ومتمِّما لعمليَّة التحرُّر الاجتماعيّ، ورافضًا ربط الجنس بالتناسل والإنجاب.
تضليل الأمة:
ومن مظاهر المصادرة الخطيرة التعبير عن ضلال المسلمين في جميع أزمنتهم؛ لأنهم فهموا القرآن كما فسَّره المفسِّرون، وهذا ازدراء لجهودِ عشرات القرون من العلم والتفسير، وتتفيهٌ لجهد أمَّة بكاملها، وحكم عليها بالجهل، ومع ذلك لا يستنكف الحداثيون أن يقولوا وبأصوات عالية: “إن المسلمين فهموا القرآن عبر التفاسير فضلُّوا؛ لأنهم لم يفهموا القرآن كما أُنزل، إذن المسلمون لم يستفيدوا ولم يهدِهم القرآن في هذه الأجيال، كما هدى جيل الرسول أو على الأقل الأجيال الأُولى؛ لأنهم فهموا القرآن عبر التفاسير فضلُّوا”([5]).
ونفس القول في تدوين السنة حيث يرون أن الأمَّة قد تواضعت على أحاديث ما أنزل الله بها من سلطان، بل هي من وضع الفرس والروم والثقافات الأخرى، وأكَّدوا على توفيد العلوم الإسلامية، وأن الوحي بشقيه مجرد تجربة بشرية قابلة للأخذ والرد، والنبوءة ليست ذات طابع ديني مقدَّس، فلكلِّ فنٍّ نبوءَته، فللشعر نبوءته، فمحمد نبيّ كما أدونيس نبي على حدِّ قول حسن حنفي([6]).
ميزة التيار الحداثي الحقيقية:
لقد امتاز التيار الحداثيُّ منذ نشأته في عالمنا العربي بمحاولة فرض قيَم الغرب وما يدعو إليه، والإعلاء من شأن هذه القيَم، ورفض التراث الإسلامي واعتباره تراثا لا يُرفع به الرأس، والتعامل مع النصوص الشرعية على أنها مجرَّد نصوص أدبية خاضعة للفحص، وتأويلات المختصين من العلماء لا عبرة بها، بل يُتَعَامَل معها كأفكارٍ أجنبية على الشرع، وتزاح وتطبق مكانها الأنماط الأدبية التي تنزع القداسة عن النصِّ، وإذا انْتُقِدَ أحدهم بأن ميوله النفسيّ الذي يريد أن يجعله تفسيرا للوحي لا يساعد عليه السياق اللغوي، ولا كلام المختصين من أهل الفن؛ لم يجد لقوله من مخرج إلا أن هذه الفهوم التي تصوِّبها الأمة هي فهوم لبشر مثل الطبري والقرطبي وابن كثير، وهو يريد أن يمارسَ حقَّه في التفسير، وينسى الحداثيّ أن القرطبيَّ فسَّر القرآن، لا لأنه بشر أو لأنه تَسمَّى بالقرطبي، بل لكونه حَصَّل علومًا كثيرة خوَّلته أن يفسِّر القرآن ويتلكم فيه، ثم التزم بمنهجية علمية تواضَع عليها أهل الفنِّ قبله وبعده، وأما أنت -أيها الحداثي- فلست مختصًّا في أي علم مكتوب بالعربية، فضلا عن اللغة العربية، فضلا عن السنة، فضلا عن القرآن، ولا تؤمن بهذه العلوم ولا تدرسها، بل ترى في تجاوزك لها قبل دراستها نوعًا من التجديد والانفتاح، في حين لا تسمح لغيرك -بل تتهكَّم عليه- حين يتكلَّم في علومك المادية والتجريبية والأدبية، مع أنه في الغالب يكون حاله أحسنَ من حالك في الشرع، لقد طغت فكرة رفض الدّين وجعله أسطورة وخرافة على الطرح الحداثي، ومن ثم كانت الضرورة عندهم تدعو إلى استبعاده من الحياة، وتجاوزه لصالح العلم والمادة([7]).
فتطويع الواقع للنصوص التي سبقته بأربعة عشر قرنًا يعدُّ -في نظرهم- مصادرة للعلم وإهانة للحياة، والفقهاء ما هم إلا مجرد أدواة صنع الاستبداد القيمي وتكريسه عبر السلطة، هكذا يتعامل الحداثيون مع التراث وينظرون إليه بازدراء، ولا ينبغي أن تُحكَم الحياة بقوانينه، وهذا الحد من المصادرة يتفق عليه الحداثيون على اختلاف ألسنتهم وألوانهم؛ لأن الحداثة باختصار تيار ذو استبداد سلطوي سياسي، يحاول المزج بين اللبرالية التحديثية الأوروبية، ويرفض القيم الدينية، ويرفض التعايش معها أو تفهمها، كما أنه يستنكف الاعتراف بأي إنجاز قيميٍّ لغير أفكاره، فلا مجال للتعامل بعدالة مع المخالف، فلا يستحق من الأوصاف والألقاب إلا ما يسمح به القلم من الاستهتار اللفظي من نحو: التراثي، والرجعي، والخرافي، والأسطوري.
وقد صرفوا العبارة في كتبهم لتأكيد هذا المعنى، وتبيين أن الحياة إذا لم تحكم بقوانين الحداثة الغربية وأحكامها فإنها تظلّ حياة ضعيفة متخلِّفة، محكومًا عليها بالفشل والتخلَّف؛ لأن الحداثة لم تجد إليها سبيلًا.
والله غالب على أمره، ومظهر دينه، ولو كره المشركون.
([1]) العصور، العدد (11)، يوليو (1928م)، (ص: 1172).
([2]) الأيدولوجيا العربية المعاصرة (ص: 16).
([3]) ينظر: مجلة الناقد، مقال لعبود سليمان بعنوان: التراث الجنسي، العدد الثامن، شباط فبراير 1979م، (ص: 69).
([4]) المرجع السابق، العدد (13)، تموز 1979م، (ص: 6-7).
([5]) نحو قراءة جديدة للقرآن في ظل التحديات المعاصرة، حوار مع جمال البنا، أجرته معه صباح البغدادي عدد (23)، (ص: 108).
([6]) التراث والتجديد.. موقف من التراث القديم (ص: 96)، وينظر: نقد النص، لعلي حرب (ص: 208).