حديث شقّ الصدر ودعوَى مخالفة العقل!
ما بال أهل الأهواء يردُّون بعضَ الأحاديث الصحيحةِ الصريحة بحجَّة مخالفتها لعقولهم القاصرة، حتى ولو شهِد الواقع بموافقتها؟! أليس هذا تناقضًا يبرهن على ضلال مسلكهم وبطلان شبهاتهم؟!
ولعل من أبرز الأمثلة على مسلكهم الفاسد هذا: ما فعله كبراؤهم مع حادثة شقِّ صدر النبي صلى الله عليه وسلم؛ فنجد أحدَهم يشكِّك في أحاديث شقِّ الصدر، ويستعمل في ذلك أسلوبًا ساخرًا، مقارنًا بين عملية شقِّ صدر النبي صلى الله عليه وسلم وبين عملية الصلب للمسيح عند النصارى([1])، وشتان بين الأمرين.
ولا غرو؛ إذ إن هذا الفساد من حصائد تأثُّرهم بأفكار أساتذتهم من المستشرقين الحاقدين على الإسلام ورسوله صلى الله عليه وسلم؛ ولو تأمَّلنا بعض أقوال المستشرقين لوجدنا التشابه بينهما لائحًا؛ فهذا نيكلسون -أحد المستشرقين- يزعم “أن حديث شق الصدر أسطورة نشأت عن تفسير {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ} [الشرح: 1]، ولو صح لدلَّ على الصرع”([2]).
ونقدِّم الجواب عن شبهات القوم بذكر نص الحديث، وبيان معناه المقرَّر عند أهل العلم، ثم دحض شبهاتهم في ردّه.
نص حديث شق الصدر:
عن أنس بن مالك رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتاه جبريل صلى الله عليه وسلم وهو يلعب مع الغلمانِ، فأخذَه فصرَعه، فشَقَّ عن قلبه، فاستخرج القلبَ، فاستخرج منه عَلَقَةً([3])، فقال: هذا حظُّ الشيطان منك، ثم غسله في طَسْت([4]) من ذهب بماء زمزم، ثم لأَمَه([5])، ثم أعاده في مكانه، وجاء الغلمان يسعَون إلى أمه -يعني: ظِئرَه([6])– فقالوا: إن محمدًا قد قُتل، فاستقبلوه وهو مُنتَقع([7]) اللون. قال أنس: وقد كنت أرى أثر ذلك المخيط([8]) في صدره([9]).
معنى الحديث وتوجيهه عند العلماء:
هذا الحديث صحيح ثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم، وهو أحد الأحاديث الصحيحة المتواردة المثبتة لقصة شقّ صدره صلى الله عليه وسلم، والذي تكرر له أكثر من مرة، وقد عدَّه العلماء من علامات النبوة([10]).
حيث وقع له ذلك في صغره وهو مسترضع في بني سعد عند حليمةَ السعديةِ، ففي أثناء لعبه مع الغلمان جاءه جبريل عليه السلام، فأخذه ووضعه على الأرض، فشقَّ صدره، واستخرج قلبه، ليستخرج منه علقةً -قطعة دم-، وهذه العلقة المنتزعة عنه هي القابلة للوسواس والمحركة للشهوات، فأزيل ذلك عنه صلى الله عليه وسلم، وبذلك أعين على شيطانه حتى سلم منه([11])، ثم قام جبريل -عليه السلام- بغسل قلبه بماء زمزم في طست مصنوع من ذهب، ثم ضمه وجمعه، ثم أعاده إلى مكانه، وبقي أثر شق الصدر والتِئامِه ظاهرًا في صدره صلى الله عليه وسلم، كما أخبر أنس بذلك.
ثم شُقّ صدره صلى الله عليه وسلم مرةً أخرى عند الإسراء والمعراج؛ فعن أنس بن مالك، عن مالك بن صعصعة رضي الله عنهما: أن نبي الله صلى الله عليه وسلم حدَّثهم عن ليلة أسري به: «بينما أنا في الحَطِيم([12]) -وربما قال: في الحِجر– مضطجعًا، إذ أتاني آتٍ فشقَّ ما بين هذه إلى هذه -…من ثُغْرَة نحره([13]) إلى شِعْرَته([14])…- فاستخرج قلبي، ثم أُتِيت بطَسْت من ذهب مملوءةٍ إيمانًا، فغسل قلبي، ثم حُشي ثم أُعيد» الحديث([15])، ولا يستنكر كون الطست مملوءةً إيمانًا؛ ويكون من باب تجسيد المعاني؛ يقول الحافظ ابن رجب: “ومن تأمَّل ألفاظ الأحاديث الواردة في شرح صدره، وملئه إيمانًا وحكمة أو سكينة، أو رأفة ورحمة؛ ظهر له من ذلك أنه وضع في قلبه جسم محسوس مشاهَد، نشأ عنه ما كان في قلبه من هذه المعاني، والله سبحانه قادِر على أن يخلقَ من المعاني أجسامًا محسوسَة مشاهدة، كما يجعل الموت في صورة كبش أملح يذبح”([16]).
وقد تكلَّم العلماء عن بعض الحِكم في تكرار شقِّ صدر النبي صلى الله عليه وسلم؛ ومنها: أن شقَّ صدره صلى الله عليه وسلم في زمن الطفولَة كان لإخراج حظِّ الشيطان، فنشأ على أكمل الأحوال من العِصمة من الشيطان، ثم وقع له صلى الله عليه وسلم شقِّ الصدر مرة أخرى عند البعث زيادةً في إكرامه؛ ليتلقى ما يوحَى إليه بقلبٍ قويٍّ في أكمل الأحوال من التطهير، ثم وقع شقُّ الصدر بعد ذلك عند إرادة العروج إلى السماء؛ ليتأهب لمناجاة الله تعالى([17]).
الجواب عن شبهات القوم في رد الحديث:
يُجاب عن تلك الشبهاتِ من وجوهٍ صحيحة، كلُّ واحد منها كافٍ في دحضِها وبيان بطلانها:
الوجه الأول: لا ينقضي عجَب المؤمن من عقد هذه المقارنة الباطلة بين شق الصدر والصلب؛ فإن الشقَّ أمر حقٌّ ثابت بالأحاديث الصحيحة، كما أنه ممكن غير مستحيل، أما الصلب فهو أمر باطلٌ مخالف للنقل الصحيح والعقل الصريح، فقد نفاه القرآن الكريم نفيًا قاطعًا؛ حيث قال تعالى: {وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا (157) بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا} [النساء: 157، 158].
ثم يقال لهؤلاء: إن شق الصدر لم يؤلمه صلى الله عليه وسلم البتة، وليس هو تكفيرًا لذنبه ولا ذنب غيره، فأين هو من خرافة الصلب؟!([18])، وبهذا يعلم أنه لا تشابهَ بين الشقِّ والصلب؛ إذ لا تشابه بين الحقِّ والباطل؛ قال تعالى: {فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ} [يونس: 32].
الوجه الثاني: أنَّ أحاديثَ شقِّ الصدر محمولةٌ على ظاهرها وحقيقتها؛ إذ لا إحالة لذلك عقلًا، ولا يستبعَد من حيث إنَّ شقَّ الصدر وإخراج القلب موجِب للموت، فإن ذلك أمر عاديٌّ، وكانت جلُّ أحواله صلى الله عليه وسلم خارقةً للعادة، إما معجزة، وإما كرامة([19])، والواجب على المؤمن في مثل هذه الأحاديث أن يؤمنَ بظاهرها، ولا يتعرض لها بالتأويل المتكلَّف أو الرد المتعسّف، بل يفهم في إطار قوله تعالى: {فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ} [البروج: 16]؛ فشق صدر النبي صلى الله عليه وسلم معجزة ظاهرة له صلى الله عليه وسلم؛ يقول ابن حبان: “فكان ذلك له فضيلة فضل بها على غيره، وأنه من معجزات النبوة؛ إذِ البشر إذا شقّ عن موضع القلب منهم، ثم استخرج قلوبهم ماتوا”([20]).
ومعلوم أن المعجزةَ أمر خارقٌ للعادة؛ فلا يعترض عليها بمخالفتها للأمور العادية؛ ولهذا يقول المظهري: “فاعرف أنَّ هذا الحديثَ وأمثالَه ينبغي أن تؤمنَ بظاهرها، ولا تتعرَّض لها بتأويل متكلَّف، بل تحيل إلى قدرة الله القادر الحكيم، فإنه تعالى على كلِّ شيءٍ قدير”([21]).
الوجه الثالث: ممّا يؤكِّد أنَّ أمرَ الشقِّ كان حِسِّيًّا لا معنويًّا([22]): ما قاله أنس بن مالك رضي الله عنه في آخر الحديث: “وقد كنتُ أرى أثرَ ذلك المخيط في صدره”؛ ولعلَّ من حِكمة بقاء أثر الإبرة التي خيط بها تذكيرَ رسول الله صلى الله عليه وسلم بهذا الحدَث العظيم، ونفي الريبة عما يُلقى إليه من الحق؛ وكذا تذكير من يرى هذا الأثر من الصحابة؛ يقول الوزير ابن هبيرة: “وإنما بقي أثر ذلك ليذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك، ويذكره من يراه، ويعلم أن حظ الشيطان قد نزع من قلبه، فلا يكون عنده صلى الله عليه وسلم ريبٌ فيما يقذفه الله تعالى من حقٍّ في قلبه”([23]).
الوجه الرابع: مما يقرِّب فهمَ حديث شقِّ صدره صلى الله عليه وسلم -والذي يعدّ معجزة نبوية جرت له بغير جراحة وبغير مبضع- أن يقال لهؤلاء الذين دأبت نفوسهم على جحود كل ما يخالف عقولهم: لئن جاز استبعاد شقِّ الصدر في العصور السابقة، فإنه لا يجوز أن يُستبعَد في عصورنا هذه التي تقدَّم فيها الطب تقدُّمًا عجيبًا، حتى أصبحت العمليات تجرى في القلب([24])، ووصلت إلى حدِّ استخراج القلب التالِف واستبدال قلب آخر سليم من إنسان مات حديثًا به، أو استبدال قلب صناعيٍّ به يوضع مكانه، ثم تخاط طبقات الجسم، ولا يموت المريض، وهذا أصبح في مقدور الإنسان وإمكانه.
فيقال لهؤلاء: أفيصدق ذلك ويستطاع للإنسان، ولا تصدِّقون فعلَ الله تعالى له، وهو سبحانه يقول للشيء: كن فيكون؟! {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [يس: 82]، سبحانك ربَّنا آمنا بك وبقدرتك على كلِّ شيء.
اللهم احفظ قلوبنا، واعصمها من الشبهات الغوية والشهوات المضِلَّة، واملأها بحبِّك وحبِّ نبيك صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، وسلم تسليمًا كثيرًا.
ــــــــــــــــــــــــــ
(المراجع)
([1]) هكذا فعل أبو رية في كتابه: أضواء على السنة المحمدية (ص: 160). وعدّها د. محمد الغزالي في كتابه فقه السيرة (ص: 139) رمزًا وليس حقيقةً.
([2]) موقف الاستشراق من السنة والسيرة النبوية لأكرم ضياء العمري (ص: 75).
([3]) العلقة: القطعة من الدم. جامع الأصول لابن الأثير (11/ 263).
([4]) الطست: إناء معروف. شرح النووي على صحيح مسلم (2/ 216).
([5]) أي: جمعه وضمَّ بعضه إلى بعض. شرح النووي على صحيح مسلم (2/ 216).
([6]) أي: مرضعته حليمة السعدية. ينظر: شرح النووي على صحيح مسلم (2/ 217).
([7]) أي: متغيّر. جامع الأصول (11/ 262).
([8]) المخيط: الخيط والإبرة التي يخاط بها. المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم لأبي العباس القرطبي (1/ 382).
([10]) ينظر: مصابيح السنة للبغوي (4/ 70)، وشرحاه: تحفة الأبرار للبيضاوي (3/ 483)، والمفاتيح في شرح المصابيح للمظهري (6/ 172).
([11]) ينظر: المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم (1/ 382).
([12]) الحِجر من الكعبة. غريب الحديث لإبراهيم الحربي (2/ 389).
([13]) هي النقرة التي بين الترقوتين. جامع الأصول (11/ 296).
([14]) الشعرة بالكسر: العانة، وقيل: منبت شعرها. النهاية في غريب الحديث والأثر (2/ 480).
([15]) أخرجه البخاري (3887)، ومسلم (164).
([17]) ينظر: المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم (1/ 383)، وفتح الباري لابن حجر (7/ 205)، وعمدة القاري شرح صحيح البخاري للعيني (17/ 23).
([18]) ينظر: الأنوار الكاشفة للمعلمي (ص: 137).
([19]) ينظر: المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم (1/ 382).
([20]) صحيح ابن حبان (1/ 244- إحسان).
([21]) المفاتيح في شرح المصابيح (6/ 173).
([22]) ينظر: مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح لملا علي القاري (9/ 3743).
([23]) الإفصاح عن معاني الصحاح (5/ 352).
([24]) ينظر: دفاع عن السنة ورد شبه المستشرقين لمحمد أبو شهبة (ص: 90).