الدلائِل القُرآنيَّة على أنَّ (لا إله إلا الله) تعنِي لا معبُودَ بحقٍّ إلَّا الله
للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة
تمهيد:
معرفةُ المصطلحات وضبطُها لها أهميَّة بالغةٌ في حياتنا، سواء تعلَّق المصطلح بأمرٍ دينيٍّ أو دنيويٍّ، وقد تجِد الشخصَين يتجادلان ويتخاصمَان وهما في الحقيقة متَّفقان على المراد، فالوعيُ بالمفاهيم والمُصطلحات يعدُّ لبنةً أساسيَّةً في الاتفاق ونبذ الاختلاف، ويوضِّح ذلك ابن تيمية رحمه الله إذ يقول: “فإنَّ كثيرًا من نزاع النَّاس سببه ألفاظٌ مجملة مبتدعة، ومعان مشتبهة، حتى تجد الرَّجلين يتخاصمانِ ويتعاديانِ على إطلاقِ ألفاظٍ ونفيِها، ولو سُئِل كلٌّ منهما عن معنى ما قاله لم يتصوَّره فضلًا عن أن يعرف دليلَه، ولو عرف دليلَه لم يلزم أنَّ من خالفه يكون مخطئًا، بل يكون في قوله نوعٌ من الصَّواب، وقد يكون هذا مصيبًا من وجه وهذا مصيبًا من وجه، وقد يكونُ الصَّواب في قولٍ ثالث”([1]).
وتُعدّ المصطلحات من أخطر الأسلحة على أيِّ فكر، ولذلك حذَّر السلف من الخطأ في الاصطلاحات، والتزموا بما ورد في الكتاب والسُّنة، وأرجعوا الألفاظَ المجملة إلى الكتاب والسنة، فما وافقها أخذوا به مع التفصيل في معانيها، يقول ابن تيمية رحمه الله وهو يتحدَّث عن المصطلحات الكلاميَّة كالجوهر والعرض: “فإذا عُرفت المعاني التي يقصدونها بأمثال هذه العبارات، ووُزنت بالكتاب والسنة -بحيث يثبت الحقّ الذي أثبته الكتاب والسنة، وينفى الباطل الذي نفاه الكتاب والسنة- كان ذلك هو الحقّ، بخلاف ما سلكه أهلُ الأهواء من التَّكلُّم بهذه الألفاظ نفيًا وإثباتًا في الوسائل والمسائل من غير بيان التَّفصيل والتَّقسيم الذي هو من الصراط المستقيم”([2]).
وإنَّ من أعظم الكلمات قدرًا وأعلاها شأنًا كلمة التوحيد: لا إله إلا الله.
وهذه الكلمة هي التي من أجلِها بعَثَ الله الرسل وأنزَل الكُتب، وهي التي كانَ إليها دعوة الأنبياء كلهم من آدم عليه السلام إلى محمَّد صلى الله عليه وسلم، وهي كلمة التَّقوى والعروة الوثقى وأساسُ الإسلام، ولأجلهَا انقسم النَّاس إلى مؤمنين وكفار وأبرار وفجَّار، فالخلاف في معنى هذه الكلمة وتحديد مفهومها له آثار كبيرة في مسائل اعتقادية عديدة من أمثال الاستغاثة بالصالحين، والتعلُّق بالأضرحة والقبور وغير ذلك؛ ولذلك يقول المعلمي: “فإنِّي تدبَّرت الخلاف المستطير بين الأمَّة في القرون المتأخرة في شأن الاستعانة بالصالحين الموتى وتعظيم قبورهم ومشاهدهم، وتعظيمِ بعض المشايخ الأحياء، وزعم بعض الأمَّة في كثيرٍ من ذلك أنَّه شرك، وبعضها أنَّه بدعة، وبعضها أنَّه من الحق، ورأيت كثيرًا من الناس قد وقعوا في تعظيم الكواكب والروحانيين والجن بما يطول شرحه، وبعضُه موجودٌ في كتب التَّنجيم والتعزيم كـ(شمس المعارف) وغيره، وعلمت أنَّ مسلمًا من المسلمين لا يقدم على ما يعلم أنَّه شرك ولا على تكفير من يعلم أنَّه غير كافر؛ ولكنَّه وقع الاختلاف في حقيقة الشرك، فنظرت في حقيقة الشِّرك فإذا هو بالاتفاق اتخاذ غير الله عز وجل إلهًا من دونه، أو عبادة غير الله عز وجل، فاتجه النَّظر إلى معنى الإله والعبادة، فإذا فيه اشتباهٌ شديد… فعلمت أنَّ ذلك الاشتباه هو سببُ الخلاف، وإذا الخطر أشدُّ مما يُظن؛ لأنَّ الجهل بمعنى (إله) يلزمه الجهل بمعنى كلمة التوحيد (لا إله إلا الله)، وهي أساس الإسلام وأساس جميع الشرائع الحقة”([3]).
وبقدر أهميَّة هذه الكلمة ينبغي علينا أن نهتمَّ بضبط تصوُّراتنا عنها، وضبط مفهومها، وأدلة ذلك المفهوم، ورد المفاهيم الخاطئة حولها؛ لتكون هذه الكلمة كما أراد الله سبحانه وتعالى مِنها.
وأعظم لفظةٍ في كلمة التوحيد وقع في بيان معناها خلافٌ بين أهل الإسلام هي لفظة: (الإله)، وفي هذه الورقة العلمية بيانٌ لهذا الخلاف، وبيان الحق في ذلك؛ مشفوعًا بالأدلة من القرآن الكريم:
أولا: معنى الإله عند المتكلمين:
فسَّر المتكلِّمون الإلهَ بأنَّه: القادر على الاختراع.
قال عبد القاهر البغدادي وهو يحكي عقيدة الأشعري: “واختلفَ أصحابُنا في معنى الإله: فمنهم من قال: إنَّه مشتقّ من الإلهيَّة، وهي: قدرتُه على اختراع الأعيان، وهو اختيار أبي الحسن الأشعريّ”([4])، وقال الشهرستاني: “قال أبو الحسن علي بن إسماعيل الأشعري: إذا كانَ الخالقُ على الحقيقة هو الباري تعالى لا يشاركه في الخلق غيرُه، فأخصّ وصفه تعالى هو: القدرة على الاختراع. قال: وهذا هو تفسير اسمه تعالى الله”([5])، ويقول الرازي: “خاصية الإلهية هي القدرة على الاختراع، ومما يؤكِّد ذلك أنَّ فرعون لما طلب حقيقة الإله، فقال: {وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ} [الشعراء: 23] قال موسى: {ربُّكُم وربُّ آبائِكم الأوَّلين} [الشعراء: 26]، والرُّبوبية إشارة إلى الخالقيَّة التي ذكرها هاهنا، وكلّ ذلك يدلُّ على قولنا”([6]).
ولهذا التفسير آثارٌ عديدة، من أجلِّها وأهمِّها عدم الاهتمام بتوحيد الألوهية اهتمامًا يليقُ به، ولا نقول: إنَّهم لم يهتمُّوا بالألوهية مطلقًا، وإنما كان جلُّ اهتمامهم مصروفًا إلى إثبات توحيد الربوبية وتقريره، بل حتَّى تقريرهم لتوحيد الألوهيَّة في كثير من الأحيان يرجع إلى الربوبية، يقول الدكتور عبد الرحيم السلمي: “ونُلاحظ أنَّهم يسمون الربوبية: الألوهية، ولهذا ينبغي أن لا يغترَّ الباحث باسم الألوهية؛ لأنَّهم يردّونه إلى الربوبية في المعنى، وعليه: فلا يكتفى بما ينقلونه من إثبات الألوهيَّة على أنَّهم يريدون به توحيد العبادة”([7]). إلى غير ذلك من الآثار([8]).
وهذا القول مُنافٍ للحقيقة اللغوية والشرعية، وفي معرض الردِّ عليه يقول ابن تيمية رحمه الله: “وقد غلط طائفةٌ من أهل الكلام فظنُّوا أنَّ (الإله) بمعنى الفاعل، وجعلوا الإلهية هي القدرة والربوبية، فالإله هو القادر وهو الربّ، وجعلوا العباد مألوهين كما أنهم مربوبون”([9])، وقال رحمه الله: “وليس المراد بـ(الإله) هو القادر على الاختراع كما ظنَّه من ظنَّه من أئمَّة المتكلمين، حيثُ ظنُّوا أنَّ الإلهية هي القدرة على الاختراع دون غيره، وأنَّ من أقرَّ بأنَّ الله هو القادر على الاختراع دون غيره فقد شهد أن لا إله إلا هو، فإنَّ المشركين كانوا يقرون بهذا وهم مشركون… بل الإله الحقّ هو الذي يستحقّ بأن يُعبد، فهو إله بمعنى مألوه؛ لا إله بمعنى آلِه”([10]).
ثانيًا: معنى الإله عند أهل السُّنة والجماعة:
أما أهل السُّنة والجماعة فإنَّهم فسَّروا الإله بالمعبود، وهو ما تقتضيه اللغة والشرع، فالإله في اللغة هو المعبود كما قال الزجاج: “ومعنى قولنا: إلَه إنما هو الذي يستحقُّ العبادة، وهو تعالى المستحق لها دون من سواه”([11])، وقال ابن فارس: “(أله) الهمزة واللام والهاء أصلٌ واحد، وهو التعبُّد، فالإله: الله تعالى، وسمِّي بذلك لأنَّه معبود، ويقال: تألَّه الرَّجل: إذا تعبَّد”([12]).
وهو شرعًا يطلق على المعبود كما توارد على ذلك علماء السلف رحمهم الله، يقول الطبري رحمه الله: “لا معبودَ يستحقُّ عليك إخلاص العبادة له إلا الله الذي هو”([13])، وقال النحاس: “{أَمْ لَهُمْ إِلَٰهٌ غَيْرُ اللَّهِ} [الطور: 43] أي: معبودٌ يستحق العبادة”([14]).
وهذا التفسير هو ما دلّت عليه الآيات القرآنية، وفي هذه الورقة لا نريدُ أن نستفيضَ في بيان معنى (الإله) عند السلف، وإنَّما نريد أن نعرِّج على الآيات التي بيَّنت أنَّ معنى الإله هو المعبود، وأن المقصد الأعظم من كلمة التوحيد هو إفرادُ الله بالعبادة، ولن نورد الآيات الكثيرة التي ذكرت توحيد الألوهية وبيَّنت مركزيَّتها في الإسلام، فموضوعنا أخصُّ من موضوع الألوهية، وإنَّما سنورد الآيات التي فسَّرت الإله بالمعبود، وكفى بالقرآن بيانًا وإيضاحًا وإقامةً للحجة على من يقول: إنَّ معناه القدرة على الاختراع.
ثالثا: الآيات القرآنية الدالة على أن معنى (الإله) هو المعبود:
الآية الأولى: قوله تعالى: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [الأعراف: 59]، وقوله تعالى: {وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [الأعراف: 65]، ونحوهما.
ففي هاتين الآيتين الكريمتين ذكر الله سُبحانه وتعالى دعوةَ نوح وهود عليهما السلام لأقوامها؛ إذ بيَّنا لهم أنَّه لا إله لهم غير الله يستحقُّ العبادة، فدلَّ على أن المطلوب من العباد تحقيقه بكلمة التوحيد هو إفرادُ الله بالعبادة، وأنَّ معنى لا إله إلا الله: لا معبود بحقٍّ إلا الله، فهو المستحقّ للعبادة، وقوله: {مَا لَكُمْ مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} هو كلمة التوحيد المشتملة على النفي والإثبات، فـ (مَا لَكُمْ مِّنْ إِلَهٍ) بمثابة (لَا إله)، و (غَيْرُهُ) بمثابة (إلا الله)، وقد قدَّما تلك الكلمة بالأمر بالعبادة، فهما يقولان: (اعبدوا الله؛ ما لكم من معبودٍ غيره).
يقول الطَّبري رحمه الله في قصَّة نوح عليه السلام: “فقال لمن كفرَ منهم: يا قوم، اعبدوا الله الذي لهُ العبادة، وذلّوا له بالطَّاعة، واخضعوا له بالاستكانة، ودعوا عبادة ما سواه من الأنداد والآلهة، فإنَّه ليس لكم معبود يستوجب عليكم العبادة غيره“([15]). وقال في قصة هود عليه السلام: “قال هود: يا قوم، اعبُدوا الله فأفردوا له العبادة، ولا تجعلوا معه إلهًا غيره، فإنَّه ليس لكم إله غيره”([16]).
وممَّا يدلُّ على ذلك أنَّ قوم نوحٍ وقوم هود كانت لهم أصنام عديدة، فأمروا بإفراد العبادة لله سبحانه، يقول ابن أبي حاتم: “وكانوا أصحابَ أوثانٍ يعبدونها من دون الله، صنمٌ يقال له: صداء، وآخر يقال له: صمود، وصنم يقال له: الهباء، فبعث الله عز وجل لهم هودا، فأمرهم أن يوحِّدوا الله، ولا يجعلوا معه إلهًا غيره”([17]).
وممَّا يدل على ذلك أيضًا أنَّهم أجابوه فقالوا: {أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا} [الأعراف: 70].
الآية الثانية: قوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء: 25].
يخبِرُ الله سبحانه وتعالى أنَّه لم يرسل رسولًا إلا بكلمة التَّوحيد: (لا إله إلا الله). ثمَّ ربط ذلك بالعبادة فقال: {فَاعْبُدُونِ}، والمعنى: لا معبود إلَّا الله فاعبدُوه ولا تعبدوا غيرَه، ولو كان معناهُ: لا قادر على الاختراع إلا الله لكان المطلوب المباشر هو: لا خالق إلا الله فاعتقدُوا ذلك، ومعلومٌ أنَّ غالب الأمم لم ينكروا أنَّ الله خالقٌ، يقول القرطبي رحمه الله: “قال قتادة: لم يرسَل نبيٌّ إلا بالتَّوحيد، والشرائع مختلفة في التوراة والإنجيل والقرآن، وكل ذلك دليلٌ على الإخلاص والتَّوحيد”([18]).
فإن كانَ الله لم يبعث رسله إلا بالتوحيد فما هذا التوحيد؟
يبيِّنه الله في الآية الأخرى إذ يقول: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [النحل: 36]، فالله سبحانه يخبرُ في آية سورة الأنبياء أنَّه لم يرسل رسولًا إلا بكلمةِ التَّوحيد، ويخبر في آية النَّحل أنَّه ما أرسل رسولًا إلا لإخبار النَّاس بعبادة الله وحده، فدلَّ أنَّ المراد من كلمة التوحيد: عبادة الله وحده، يقول الطبري رحمه الله: “{وَمَا أَرْسَلْنَا} -يا محمَّد- {مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ} إلى أمَّة من الأمَم، {إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ} لا معبود في السماوات والأرض تصلح العبادة له سواي، {فَاعْبُدُونِ} يقول: فأخلصوا ليَ العبادة، وأفردوا لي الألوهية”([19]).
فكلمة التوحيد تعني إفراد الله بالعبادة، لا مجرَّد الإقرار بالقُدرة على الاختراع، يقول السَّعدي رحمه الله: “فكلُّ الرسل الذين من قبلك مع كتُبِهم، زبدة رسالتهم وأصلها: الأمر بعبادة الله وحدهُ لا شريك له، وبيان أنَّه الإله الحقّ المعبود، وأن عبادة ما سواه باطلة”([20]).
الآية الثالثة: قوله تعالى: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} [آل عمران: 64].
هذه الآية من أوضحِ الآيات وأبيَنِها في الدلالة على أنَّ (لا إله إلا الله) تعني: (لا معبود بحقّ إلا الله)، ففي هذه الآية نداءٌ لأهلِ الكتاب إلى الاجتماع على كلمةٍ سواء، وهي كلمة التَّوحيد، قال أبو العالية: “كلمة السَّواء: لا إله إلا الله”([21])، وقال أبو الليث السمرقندي: “ويقال في قراءة عبد الله بن مسعود: إلى كلمة عدل بينَنا وبينكم، يعني: لا إله إلا الله، وهي كلمة الإخلاص”([22])، وقال ابن أبي زمنين: “يعني: لا إله إلا الله”([23])، وقال الراغب الأصفهاني: “وقول الربيع وأبي العالية {كَلِمَةٍ سَوَاءٍ} هي: لا إله إلا الله، فصحيح”([24]).
ثمَّ فَسَّر الله هذه الكلمة التي دعاهم إليها، فقال الله تبارك وتعالى: {أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا} [آل عمران: 64]، وتأمَّل في (لا إله إلا الله) كيف اشتملت على النفي والإثبات، وماذا يقوم مقام هذه الكلمة في قوله تعالى: {أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ} يتضح لك جليًّا ما نروم التَّأصيل له في هذا المقال، فـ (لا إله) يقابله {لَا نَعْبُدَ} و(إِلَّا اللَّهَ) متفق في الاثنين، فالإله إذن هو المعبود.
الآية الرابعة: قوله تعالى: {إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي} [طه: 14].
وهُنا في هذه الآية أيضًا يتحدَّث الله سبحانه وتعالى عن كلمة التوحيد، ثم يوجب العبادة، فلا معبود بحقّ إلا الله، يقول الطبري رحمه الله في بيان هذا المعنى: “{إنَّنِي أَنَا اللهُ} يقول تعالى ذكره: إنَّني أنا المعبود الذي لا تصلح العبادة إلا لَه، {لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا} فلا تعبد غيري، فإنَّه لا معبود تجوز أو تصلح له العبادة سواي”([25]).
فقوله سبحانه: {لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا} أي: لا معبود إلا أنا؛ ولذا ربطَ ذلك بقوله: {فَاعْبُدْنِي}، فدلَّ على أنَّ الإله هو المعبود.
الآية الخامسة: قوله تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} [التوبة: 31].
في هذه الآية يتحدَّثُ الله عن اليهود والنَّصارى، وأنَّهم اتَّخذوا أحبارَهم ورهبانَهم أربابًا من دون الله، وأنَّهم ما أمِروا بذلك، وإنَّما أُمروا بعبادَةِ الله وحدَه، ثمَّ أتَى بعد ذلك بكلمَة التَّوحيد، فكَأنَّه يقول: وما أُمِروا إلَّا ليَعبُدوا الله؛ إذ لا معبود بحقٍّ إلَّا الله، ثمَّ تأمَّل في قوله: {لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا} ماذا يُمكن أن يكون معنى الإله هنا إلَّا المعبود؟! يقول الطبري رحمه الله: “وما أُمر هؤلاء اليهود والنَّصارى الذين اتَّخذوا الأحبار والرُّهبان والمسيح أربابًا إلا أن يعبدوا معبودًا واحدا”([26])، ففسر قوله (إلها) بقوله: “معبودًا”.
الآية السادسة: قوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ (26) إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ (27) وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [الزخرف: 26-28].
إبراهيم عليه السلام يُخبر الله عنه أنَّه تبرَّأ من معبودات قومِه، وبيَّن أنَّه لا يُعبد إلا الله، فالمعبود بحقّ في نظر إبراهيم عليه السلام هو الله سبحانه وتعالى، يقولُ الطَّبري رحمه الله: “{وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ} الذين كانوا يعبدون ما يعبده مشركو قومك -يا محمد-: {إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ} من دون الله… {إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي} يقول: إني بريء مما تعبدون من شيء إلا من الذي فطرني”([27])، ويقول السمرقندي: “{وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ} يعني: بريء من معبودكم”([28]).
وهذا المعبود هو الإله في كلمة التوحيد: (لا إله إلا الله) يدلّ عليه قوله تعالى: {وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ}، وقد توارد على هذا أئمَّة السلف والمفسرون، فعن مجاهد أنَّهُ قال: “{وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ} قال: لا إله إلا الله”([29]). يقول الطبري رحمه الله: “يقول تعالى ذكره: وجعل قوله: {إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي} -وهو قول: لا إله إلا الله- {كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ} وهم ذريته، فلم يزل في ذريته من يقول ذلك من بعده”([30])، وقال قتادة: “{وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً} قال: شهادة أن لا إله إلا الله، والتوحيد لم يزل في ذريته من يقولها من بعده”([31])، ويقول السمرقندي: “{وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ} يعني: جعل تلك الكلمة ثابتة في نسله وذريته، وهي كلمة التوحيد: لا إله إلا الله”([32])، وقال ابن أبي زمنين: “{وَجَعَلَهَا كَلِمَةً} يعني: لا إله إلا الله”([33])، وبهذا قال الواحدي([34])، والسمعاني([35])، والبغوي([36])، والزمخشري([37]).
وكذلك عند المقارَنَة بين قوله: {إنَّنِي بَرَاءٌ ممَّا تَعْبُدُونَ إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي} وبين كلمة (لا إله إلا الله) نجد أنَّ معناهما متطابق، فكلمة إبراهيم عليه السلام مشتملة على النَّفي وهو قوله: (إِنَّني بَرَاءٌ ممَّا تَعبُدُونَ)، وهو بمثابة قوله: (لا إله)، وقوله: (إِلَّا الَّذِي فَطَرَني) بمثابة (إلا الله).
فالإله إذن معناه: المعبود، وهكذا فهمه الخليل إبراهيم عليه السلام فعبَّر به، وفي بيان ذلك يقول الماتريدي رحمه الله: “الكلِمة الباقية هي كلمة الهداية والتوحيد، فإنه سأل أن يجعل ما وجد منه من التبري من غير الله تعالى وتحقيق عبادة الله تعالى بقوله: (إِنَّنِي بَرَاءٌ ممَّا تَعبُدُونَ إِلَّا الَّذِي فَطَرَني) كلمة باقية، وأنه كلمة التوحيد، فإن قوله: (لا إله) نفي غير الله، وقوله: (إلا الله) إثبات ألوهية الله تعالى، وذلك معنى قوله: (إنَّني براءٌ مما تعبُدُون إلَّا الَّذي فَطَرَني)”([38])، ويقول ابن كثير رحمه الله: “{وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ} أي: هذه الكلمة، وهي عبادة الله تعالى وحده لا شريك له، وخلع ما سواه من الأوثان، وهي: لا إله إلا الله”([39]).
وقد رأيتَ كيف أنَّ السلف والمفسِّرين قد توارَدوا على تفسير الكلمة بكلمة التوحيد، وقد فسَّرها إبراهيم عليه السلام بأنَّ معناها: لا يستحق العبادة إلا الله؛ ولذا تبرأ من معبوداتهم، وتوجه إلى المعبود الحقِّ جل جلاله.
الآية السابعة: قوله تعالى: {وَمَا لِيَ لَا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (22) أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً} [يس: 22، 23].
هذا الرَّجل الذي جاء من أقصى المدينَة يسعى -ينذرُ قومَه، ويأمرُهم باتِّباع الرُّسل- بيَّن أن معبوده الله، ثم قال: أأتخذ من دونه آلهة؟! أي: معبودات، فدلَّ على أن الإله هو المعبود، وفي بيان هذا يقول الطبري رحمه الله: “وقوله: {أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً} يقول: أأعبد من دون الله آلهة؟! يعني: معبودًا سواه”([40]).
الآية الثامنة: قوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ (116) مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ} [المائدة: 116، 117].
والشاهد من هذه الآية أن الله سبحانه وتعالى يسأل عيسى عليه السلام: أأنت قلت للناس: اتخذوني وأمي إلهين؟ فكان جواب عيسى عليه السَّلام: (مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ)، فالإله إذن هو المعبود، فعيسى عليه السلام أراد أن ينفي ادِّعاء الألوهية، فنفى أن يكون قد دعا إلى عبادته، فهما إذن بمعنى واحد، فالإله هو المعبود، يقول الزجاج: “المعنى: ما قلت لهم شيئا إلا أن اعبدوا الله، أي: ما ذكرت لهم إلا عبادة الله”([41])، ويقول السمرقندي مبينًا أنه لم يأمر إلا بالعبادة: “ما قلت لهم إلا ما أمرتني به، يعني: في الدنيا بالتوحيد، {أَنِ اعْبُدُوا اللهَ} يعني: وحِّدوا الله وأطيعوه {رَبِّي وَرَبَّكُمْ}”([42])، ويقول البيضاوي مبينًا أنَّ اتخاذ إله يعني اتخاذَ معبود -فالنصارى قد اتَّخذوا عيسى عليه السلام معبودًا- يقول: “{وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ} يريد به توبيخ الكفرة وتبكيتهم، و{مِنْ دُونِ اللَّهِ} صفة لـ{إِلَهَيْنِ أو صلة {اتَخِذُونِي}، ومعنى {دُون} إمَّا المغايرة، فيكون فيه تنبيه على أنَّ عبادة الله سبحانه وتعالى مع عبادة غيره كَلَا عبادة، فمن عبده مع عبادتهما كأنَّه عبدهما ولم يعبده، أو القصور، فإنَّهم لم يعتقدوا أنَّهما مستقلان باستحقاق العبادة، وإنَّما زعموا أن عبادتهما توصل إلى عبادة الله سبحانه وتعالى”([43]).
بل قول عيسى عليه السلام: (مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ) فيه دلالة على ما نريد، فقوله يعني: أنا مجرد عابد لا معبود، والعبادة من اختصاص الله جل جلاله، يقول القرطبي: “ثم قال: {مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ}، أي: أن أدَّعي لنفسي ما ليس من حقها، يعني: أنني مربوب ولست بربّ، وعابدٌ ولست بمعبود”([44]).
الآية التاسعة: قوله تعالى: {وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ} [الزخرف: 45].
في هذه الآية الكريمة يقول الله: لم نجعل من دونِ الرحمن آلهة تُعبد، ولو كان المراد بالإله الخالق أو القادر على الاختراع لكان المعنى: أجعلنا من دون الرحمن خالقينَ تعبدونهم، ومعلوم أن الكفار لم يدَّعوا أنَّ هناك خالقين غير الله، بل كانوا يقرُّون بأن الله تعالى هو الخالق، فالمراد إذن بالإله هو: المعبود، فليس هناك معبودٌ يستحق العبادة غيره، يقول الطبري رحمه الله: “وقوله: {أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ} يقول: أأمرناهم بعبادة الآلهة من دون الله فيما جاؤوهم به، أو أتوهم بالأمر بذلك من عندنا؟!”([45])، وقال قتادة: “سل أهل الكتاب: أأمر الله جل وعز إلا بالتوحيد والإخلاص؟!”([46]).
والشاهد أنَّ الإله هنا هو المعبود؛ إذ إن جميع الرسل دعوا أقوامهم إلى عبادة الله وحده، يقول ابن كثير: “أي: جميع الرسل دعوا إلى ما دعوت الناس إليه من عبادة الله وحده لا شريك له، ونهوا عن عبادة الأصنام والأنداد”([47]).
وأخيرًا: تعريف الألوهية بتوحيد الربوبية مصادَرة للُبِّ التوحيد، فما بعثَ الله الرُّسل وأنزل الكتب إلا لإفراد الله بالعبادة، والأدلة متضافرة على تأكيدِ ذلك، ومن أهمِّها بيان أن الإله في القرآن هو المعبود؛ ولذلك ربَط الله الدعوةَ إلى ألوهيته بالدعوة إلى عبادته، فكونه إلهًا يعني أنه هو المعبود بحقّ، أما تفسير الإله بأنَّه القادر على الاختراع فإنه يؤدِّي إلى عدم الاهتمام بتوحيد الألوهية الذي هو الأصل، وينبني عليه عند كثيرٍ ممَّن يتبنى هذا التعريف التساهلُ بمسائل العبادة كالاستغاثة بغير الله، والتوسُّلات الشركية والبدعية، والذبح للقبور والأضرحة والقباب، ونحو ذلك. وينبغي أن ينبَّه إلى أنه ليس كلّ المتكلمين -وبالخصوص الأشاعرة- ليسوا كلهم ممَّن قالوا بأنَّ الإله هو القادر على الاختراع، بل قد ورد عن بعضهم أنَّ لا إله إلا الله معناه: لا معبود بحقّ إلا الله، ولسنا بصدَد تأصيل هذه المسألة عند الأشاعرة، ولكن وجب التنبيه إنصافًا وعدلا.
وخلاصة الأمر أن كلمة التوحيد معناها: لا معبودَ بحقٍّ إلا الله، وقد مرَّ بنا عدد من الشواهد المختصَّة بتعريف الإله بالمعبود، وربط العبادة بالألوهية.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
ـــــــــــــــــــــــــــ
(المراجع)
([1]) مجموع الفتاوى (12/ 114).
([2]) درء تعارض العقل والنقل (1/ 44-45).
([3]) رفع الاشتباه عن معنى العبادة والإله وتحقيق معنى التوحيد والشرك بالله (ص: 3-4).
([7]) حقيقة التوحيد بين أهل السنة والمتكلمين (ص: 474).
([8]) تحدث عنها الدكتور عبد الرحيم السلمي في كتابه: حقيقة التوحيد بين أهل السنة والمتكلمين (ص: 449-503).
([9]) مجموع الفتاوى (13/ 203).
([10]) مجموع الفتاوى (3/ 101).
([11]) تفسير أسماء الله الحسنى (ص: 26).
([15]) تفسير الطبري (12/ 498).
([16]) تفسير الطبري (12/ 503).
([17]) تفسير ابن أبي حاتم (5/ 1508).
([18]) تفسير القرطبي (11/ 280).
([19]) تفسير الطبري (18/ 427).
([21]) ينظر: تفسير ابن أبي حاتم (2/ 669).
([22]) تفسير السمرقندي (1/ 221).
([23]) تفسير القرآن العزيز (1/ 293).
([24]) تفسير الراغب الأصفهاني (2/ 612).
([25]) تفسير الطبري (18/ 283).
([26]) تفسير الطبري (14/ 213).
([27]) تفسير الطبري (21/ 588).
([28]) تفسير السمرقندي (3/ 255).
([29]) ينظر: تفسير الطبري (21/ 589).
([30]) تفسير الطبري (21/ 589).
([31]) ينظر: تفسير الطبري (21/ 589).
([32]) تفسير السمرقندي (3/ 255).
([33]) تفسير القرآن العزيز (4/ 182).
([35]) تفسير السمعاني (5/ 98).
([37]) تفسير الزمخشري (4/ 246).
([38]) تفسير الماتريدي (9/ 161).
([39]) تفسير ابن كثير (7/ 225).
([40]) تفسير الطبري (20/ 507).
([41]) معاني القرآن وإعرابه (2/ 223).
([42]) تفسير السمرقندي (1/ 432).
([43]) تفسير البيضاوي (2/ 151).
([44]) تفسير القرطبي (6/ 375-376).
([45]) تفسير الطبري (21/ 613).