المنهج السلفي والتراث الأصولي .. مقاربة لموقف المنهج السلفي من قضايا علم أصول الفقه ومدوناته القديمة والمعاصرة
للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة
تمهيد
الحديثُ عن موقفِ المنهج السلفيِّ مِن علم أصول الفقه حديثٌ شائك؛ لأنه يتناول العديدَ من القضايا المتداخِلة والمتشابكة، والتي لا يمكن تناولها بحديثٍ مجمل، لأنَّه سيكون مخلًّا بالحقيقة أو سطحيًّا لا يعبّر عنها، خاصَّة أن المعاصرين اليومَ من متعصِّبي الأشاعرة يحاولون استغلال هذا العِلم للانتصار للمنهج الأشعريِّ الكلاميِّ على المنهج السلفيِّ الأثريِّ، بيد أنَّ الحديثَ عن منهج متكامِل أمرٌ لا يمكن لهذه الدراسة الصغيرة أن توفِّيه حقَّه اللائقَ به؛ لذا اقتصر الغرضُ من هذه الورقة العِلميَّة على الإشارة إلى أهمِّ ملامح المنهج السلفي ومعالمه في التعامل مع قضايا علم أصول الفقه.
لقد كثرت في الآونةِ الأخيرة الاتِّهامات الأشعريَّةُ للمنهج السلفيِّ بأنه منقطع الصِّلَة عن علم أصول الفقه، والزعم بأنَّ أتباعَ المنهج السلفيِّ يجهلون هذا العلم، وكان ذلكَ سببًا في الانحرافاتِ الموجودة في المنهج السَّلفي بزعمهم([1]). وهذه الفريةُ المركَّبة تُبرِز أهميةَ الحديث عن موقف المنهج السَّلفيِّ من علم أصول الفقه للردِّ عليها، ممَّا يقتضي إثارةَ العديد من النقاط التي تمثِّل نقاطَ ارتكاز مهمَّة أثناء التعامل مع هذه القضية.
والحديثُ عن موقف المنهج السلفيِّ يكون بالحديث عن موقفه من قضايا علم الأصول، وموقفه من تلك الكتب التي دُوِّنت بها تلك القضايا.
وهذا يتطلَّب الحديثَ عن موقف المنهج السلفي من علم الكلام، فهذه نقطة محورية في موقفه من القضايا الأصوليَّة؛ وذلك لارتباط العديد من المسائل الأصولية بعلم الكلام، فعلى الرغم من أن نشأةَ علم أصول الفقه هي نشأة سلفيَّة بامتياز، وأنَّ دخولَ المنهج الكلاميّ في علم أصول الفقه كان طارئًا عليه، لكن القضايا الكلامية كانت مؤثِّرة بشدَّة في العديد من الاختيارات الأصولية بعد ذلك.
وتتبُّع هذه القضايا تفصيلًا لا يمكن في مثل هذه الورقة العلميَّة، فهذا الأمر مما تحتمله دراسات علميَّة جامعية مستقلَّة([2])، وما نريده هنا هو أن نشيرَ إلى القضايا الرئيسيّة التي شكَّلت نقاطَ التمايز والاختلاف بين المنهج السلفيِّ ومنهج المتكلِّمين في التعامل مع المسائل الأصولية، وذلك من خلال العناصر التالية:
أولًا: نشأةُ علم الأصول وبداية التأليف فيه:
لا يخفى على طالبِ علمٍ أن الإمام الشافعيَّ رحمه الله هو أوَّل من ترك لنا مؤلَّفًا في علم الأصول، وهو كتابُه (الرسالة) الذي فتح به بابًا جديدًا من التأليف، تناول فيه العديد من القضايا الكلِّيَّة التي يرى أنها مؤثِّرة في استتباط الأحكام من الكتاب والسنة، فتناول الكلام على أوجه بيان الكتاب والسنة للأحكام، وتناول العامَّ والخاصَّ، والناسخ والمنسوخَ، ووجوب طاعة الرسول، ثم تناول العلَل في الأحاديث، وبعض مسائل الأمر والنهي، وقبول خبر الواحد والدلالة عليه، وبعض مسائل الإجماع والقياس والاجتهاد، ومسألة حجية الاستحسان.
– السمات الرئيسية لكتاب الرسالة:
وقد جاء كتاب الرسالة خاليًا من التعقيدات الكلامية والبراهين المنطقية الجدَلية، مع الإكثار من الاستشهاد بالكتاب والسنة وأشعار العرب، مستعملًا أسلوبَ الحوار، كلُّ هذا في لغة فصيحة وبيانٍ عال رائقٍ، فحاله كما قال الجاحظ عنه: “كأنَّ لسانَه ينظم الدُّرَّ”([3]).
– المؤلفات بعد كتاب الرسالة:
فتح الإمامُ الشافعي بتأليفه (الرسالة) بابًا جديدًا من التأليف، فتتابع العلماء في التأليف على هذا النسق الذي بدأه الشافعيّ، وهو التنظير والتقعيد للمسائل الكلية المؤثرة في استنباط الأحكام الشرعية، فألَّف عيسى بن أبان كتابًا في إثبات القياس وكتابًا في خبر الواحد([4])، وألف داود الظاهري كتبًا في نفي القياس وفي حجية خبر الواحد وفي الخصوص والعموم وفي المفسر والمجمل([5])، وكلُّها تآليف يظهر منها أنها ألِّفت في مسائل خاصَّة من الأصول، لكنها كلّها في عداد المفقود؛ إذ لم تصل إلينا هذه الكتب المذكورة.
ثانيًا: دخول علم الكلام في القضايا الأصولية:
تتابع التأليفُ في هذه المسائل المثارة في ذلك الحين، فألف ابن سريج والقاشاني وابن المنذر في الردِّ على داود في نفيه للقياس، وكذلك فعل أبو الحسن الأشعريُّ، فله كتابٌ في العموم والخصوص، وبدأ باب جديدٌ من التأليف غايتُه التأصيل والتنظير بعيدًا عن الفروع الفقهية، وقد وجد المتكلِّمون في هذه الطريقة من البحث والنظر طريقةً مثالية للحديث عن النزاعات الكلامية، وأشهرها التي بين الأشاعرة والمعتزلة، الأمر الذي خلط كثيرًا من المسائل الكلامية بالمسائل الأصولية، إلى أن تحوَّل علم أصول الفقه لساحة خلفيَّة لتصفية النزاعات العقدية بين الأشاعرة والمعتزلة.
ويبدو أنَّ هذا التحوُّل التدريجيَّ قد تبلوَر على يد اثنين بارزين هما: القاضي أبو بكر الباقلاني المالكي، والقاضي عبد الجبار المعتزلي؛ إذ هذَّبا كثيرًا من المسائل التي كانت مثارةً في عصرهما، وكانت محلًّا للنقاش والجدل، فوسعا العبارات وفكَّا الإشارات([6])، فألَّف الباقلاني كتابه: (التقريب والإرشاد)، وكتب القاضي عبد الجبار كتابه (العُمَد)، وله كتاب (المغني في أبواب التوحيد والعدل) في العقائد، أفرد فيه مجلَّدًا كاملًا لمسائل علم أصول الفقه.
ومن ينظر في هذه الكتب([7]) يدرك أنَّ علمَ الكلام قد اختَلط في هذه الفترة الزمنيَّة بعلم أصول الفقه، ويظهر له أن أصولَ الفقه قد تبلور انتقالُه إلى مرحلة أخرى على يد هذين الرجلين، وأنهما هما المؤسِّسان الفِعليَّان لمدرسة المتكلِّمين الأصولية([8]).
– مثال على أثر الخلاف الكلامي في المسائل الأصولية:
هناك العديد من المسائل الأصولية التي يتبيَّن بقليلٍ من البحث أنها نتاجُ الخلاف الكلاميِّ، فمسألة تعلُّق الأمر بالمعدوم، ومسألة الأمر بالشيء هل هو نهي عن ضده أم لا، وهل للأمر صيغة أم لا، هذه المسائل الثلاث مبنيَّة على مسألة الكلام النفسيِّ، والخلاف فيها مبنيٌّ على الخلاف بين الأشاعرة والمعتزلة في صفة الكلام للباري عز وجل.
كذلك مسألة: هل عدم نقل الدليل يستلزم نقل العدم، والأعيان المنتفَع بها قبل ورود الشرع ما حكمها، كان الخلاف الأصولي فيهما ناتجًا عن أثر مذهب كل فريق منهما في مسألة استقلال العقل بمعرفة حكم الشرع.
ولنضرب على ذلك مثالًا يبيِّن إلى أيِّ مدى كانت الخلافاتُ الكلامية مؤثِّرة في الأقوال والاختيارات الأصولية، وليكن ذلك من خلال مسألة أصوليَّة مشهورة وهي: هل الأمر بالشيء نهي عن ضدِّه أم لا.
المشهور أن للأصولين في هذه المسألة ثلاثةَ أقوال:
القول الأول: الأمر بالشيء نهيٌ عن ضدِّه، وهو لجمهور المتكلمين.
القول الثاني: الأمر بالشيء ليس نهيًا عن ضده لكن يستلزمه، وهو للباقلاني
القول الثالث: الأمر بالشيء ليس نهيًا عن ضده ولا يستلزمه، وهو للجويني والغزالي.
ولغرابة القول الثالث فكثير من الكتب تقتصر على حكاية القولين الأوَّلين فقط.
هذا هو خلاصة المذكور في كتب الأصول خاصَّة كتب الذين جاؤوا بعد الغزالي([9])، وبعض الأصوليِّين يرتِّب على هذا الخلاف الأصوليِّ خلَافا في الفروع الفقهية([10]).
إذا كان الحال كذلك، فما أثرُ علم الكلام في هذه الاختيارات؟
الجواب: إن سبب إيراد المسألة يبيِّن هذا الأثرَ ويوضِّح الغرابة التي في قول الغزالي والجويني، فالسؤال: هل الأمر بالشيء نهي عن ضده؟ هو سؤال للأشاعرة من المعتزلة، وذلك بسبب أن الأشاعرةَ يقولون بالكلام النفسيِّ والمعتزلة لا يقولون به، فالمعتزلة بهذا السؤال يريدون إلزام الأشاعرةِ بخطَأ مذهبهم في الكلام النفسيِّ من خلال بيان تناقُض هذا المذهب مع القول بأن الأمر بالشيء يقتضي النهيَ عن الضدِّ.
بيان ذلك هو أن المعتزلةَ لا يقولون بالكلام النفسي، بل الكلام عندهم حادثٌ فقط، وهو عند الأشاعرة نفسيٌّ فقط، فالمعتزلة يوردون عليهم هذا السؤال: هل الأمر بالشيء نهي عن ضده؟ فإن قالوا: نعم هو نهي عن ضده فقد صرَّحوا بموافقة الكعبيِّ في مذهبه بنفي المباح من حيث لا يشعرون، وهذا كافٍ في بيان تناقضهم، وإن قالوا: لا، ليس نهيًا عن ضده، فقد خالفوا العقلاء جميعًا! وممن صرَّح بهذا الجويني([11]) والغزالي([12])، بل إنَّ الجوينيَّ يصرح بأن هذه المسألةَ لا تُتَصور إلا عند من يقول بالكلام النفسي، فمن يسمِّيهم باللفظية -وهم المعتزلة- لا يتصوَّر حصول هذه المسألة عندهم؛ لأن لفظ الأمر بخلاف لفظ النهي عن الضد، أي: أنَّ حروفَ (قِف) ليست هي حروف (لا تجلِس).
إذن يُستفاد من ذلك أنَّ المراد بالأمر بالشيء هل هو نهي عن الضد أم لا: أن ذلك في حقِّ الآمر، أي: أن معناه: هل المعنى القائم بالنفس عند إرادةِ الأمر هو المعنى القائم بالنفس عند إرادة النهي عن الضد أم لا؟
فجمهور الأشاعرة قالوا: نعم، فقال لهم المعتزلة: وافقتم الكعبيَّ في إنكاره المباح؛ فإنه قال المباح ما هو إلا ترك للمحرم، وقد أنكرتم عَليه، وأنتم الآن توافقونه، فجاء الباقلاني فقال: لا، ليس هو عين النهي عن الضدّ، لكنه يستَلزمه، وقد قطع الجوينيُّ بأن هذا أيضًا لا يحلُّ الإشكالَ على مذهب الأشاعرة، وإنما الذي يحلُّ الإشكال هو أنَّ المعنى القائم بالنفس عند إرادة الأمر غير المعنى القائم بالنفس عند إرادة النهيِ عنِ الضدِّ، وعدم جواز اجتماع المعنى وضدِّه ليس مردُّه إلى أن الأمرَ بالشيء نهي عن ضده أو أنه يستلزمه، بل مردُّه إلى أن اجتماعَ الأضداد في الواقع مستحيل، ولو أمكن حصولها في الواقع لما كان هناك مانعٌ من اجتماعهما في نفس الآمر.
ثم زاد الغزاليُّ هذا الأمرَ توضيحًا، فبيَّن أنه قد يُعترض عليهم في قولهم بأن الأمر بالشيء ليس نهيًا عن ضده ولا يستلزمه بأن المأمور بالفعل لا يمكنه الإتيان به إلا بالامتناع عن الضد، فكيف يكون ليس نهيًا عنه ولا يستلزمه؟ ثم أجاب: بأن هذا الامتناعَ في حقِّ المأمور إنما هو لأنَّ ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، ولا يتمكَّن المأمور من الفعل إلا بالامتناع عن الضدِّ، ثم بيَّن أنَّ هذا محلُّ اتفاق، وليس في هذا خلاف([13]).
وقد بين الجويني أنه لا جواب على سؤال المعتزلة إلا بهذا القول.
إذن يمكننا أن نخلُص إلى أن الخلافَ المذكور في هذه المسألة والأقوالَ الثلاثة إنما هي في حقِّ الآمر، وهذه الأقوال الثلاثة عند من يقول بالكلام النفسيِّ، أما في حقِّ المأمور وهو ما يهمُّنا في الدراسة الأصولية فالاتفاق قائم على أن الأمرَ بالشيء يستلزم النهيَ عن الضد.
أما من لم يتنبَّه إلى هذا التفصيل فقد أجرى الأقوال الثلاثة في حقِّ المأمور، ثم بنى عليها خلافًا في الفروع، والحقيقة أن الخلافَ في الفروع لا علاقةَ له بهذه الأقوال الثلاثة.
ولو نظرت في كتب أهل الفنِّ في تلك الفترة في تناولهم لباقي المسائل المشار إليها لوجدت أن الخلافَ الكلاميَّ مؤثِّر بشدَّة في الاختيارات الأصولية، لكن شرح ذلك يطول.
ثالثًا: تطوُّر عِلم الأصول على يدِ المتكلِّمين:
إذَا كان تدوينُ علم الأصول قد نشَأ على يدِ الشافعي، فإنَّ تدوينه قد اتَّخذ مسارين: مسارًا خاصًّا بالحنفية، ومسارًا خاصًّا بالجمهور، والذي يعنينا هو المسار الخاصُّ بالجمهور، فقد نُسج هذا المسار على منوال الشافعيِّ في التأصيل والتنظير للقواعد بعيدًا عن فروع المذهب.
وباستعراض بسيطٍ للكتب التي ألِّفت في تلك الفترة والقضايا التي تناولتها يتَّضح بجلاءٍ أنَّ أغلبَ من ألَّف في علم الأصول في هذه الفترة من المتكلمين([14]).
وقد غلَب علمُ الكلام على علم أصول الفقه إلى القدر الذي جعل رأسَ المعتزلة في زمانه أبا الحسين البصريَّ صاحب كتاب (المعتمد في أصول الفقه) -وهو من كتب أصول الفقه الرئيسية- يؤلِّف كتابه هذا لأجل أن يبعد بعلم أصولِ الفقه عن بعضِ الأبواب التي هي من أبواب علم الكلام، والتي لا يجوز خلطها بعلم أصول الفقه([15]).
بل إنَّ الغزاليَّ نفسَه يرى أنَّ ذكرَ بعض مباحث علم الكلام في علم الأصولِ مجاوزةٌ لحد هذا العلم، لكن الفطام عن المألوف شديدٌ([16]).
رابعًا: استقرار هيكَلة العلم ومسائله على يد الغزالي:
إذا كان الإمام الشافعيُّ قد فتح بابًا جديدًا من التأليف فإنَّ هذا البابَ ضاق جدًّا -إن لم يكن قد أغلِق- بتأليف الغزالي لكتاب (المستصفى)، فقد استقرَّ علم الأصول على يد الغزالي استقرارًا كبيرًا، وكلُّ من جاء بعد الغزالي صرف همَّته إلى ما كتبه الغزالي وتناوله؛ ولذا كثرت كتب الشروح والمختصرات بعد الغزاليِّ، وكثرت الكتب المتعلِّقة بكتب أخرى، وبات وجود مسائل أو قضايا جديدة للنقاش أمرًا قليلًا نادرًا.
فالكتب الرئيسيَّة في علم الأصول عند الجمهور ككتاب (المحصول) للرازي ما هو إلا تلخيص لأربعةٍ من الكتب: (المستصفى) أحدها، والثلاثة الأخرى هي: (العمد) للقاضي عبد الجبار، و(المعتمد) لأبي الحسين البصري، و(البرهان) للجويني. وكذلك فعل الآمدي في كتابه: (الإحكام في أصول الأحكام).
أما المحصول فقد لخَّصه البيضاوي مع (الحاصل من المحصول) و(التحصيل من المحصول) في (منهاج الوصول) الذي كان عمدةً لأكثر من أربعين عمَل بين شرح له وتخريج لأحاديثه واستخراج لمتن منه([17]).
على أيَّة حال فقد شكَّلت القضايا التي تناولها الغزالي في كتابه (المستصفى) لبَّ عِلم الأصول؛ لما تميز به كتاب الغزالي من ترتيبه البديع للمسائل الأصولية، فضلًا عمَّا قام به من وضع تصوُّر وهيكلة لعلم الأصول؛ ليتحوَّل من مجرد قضايا يتمُّ تناولها إلى هيكل منتظم مترابط.
ولا يمكن أن ندَّعي أنَّ هيكلةَ علم الأصول لم تكن موجودةً إلى أن جاء الغزالي، لكن الغزالي هو من أبرزها ورتَّبها وأفصح عن طريقة ترتيبها وتبويبها، وبيَّن علاقة المسائل ببعضها.
ولعلَّ هذه الميزةَ مع غيرها التي امتاز به الكتابُ هو ما جعله عمدةً لكتب الأصول في الأزمنة التالية له.
خامسًا: سبَب امتزاج علم الأصول بعلم الكلام:
الشائع هو أنَّ التمازجَ الذي حصل بين علم الكلام وعلم الأصول كان بسبب أنَّ جلَّ من ألَّفوا في أصول الفقه من المتكلِّمين([18])، لكن هذا السبب وحده لا يكفي، فهؤلاء المتكلمون لهم تآليف فقهيَّة خالية تمامًا من علم الكلام، مما يدعونا للتوقُّف عن اعتبار هذا السبب هو السبب الرئيس لهذه القضية.
وإنَّ مَن يطالع كتبَ تلك الفترة يُدرك بوضوح أنَّ علم الأصول قد استُعمل في النقاش الدائر بين المعتزلة والأشاعرة في المسائل العقدية، فالمنهجية التي يقوم عليها علم الأصول من التنظير والتقعيدِ ونظمِ الفروع كلِّها في إطارٍ من القواعد المستنبطة كانت سببًا لأن يتمَّ استخدام جزءٍ من هذا العلم في محاولةِ حسم الصراع بين المعتزلة والأشاعرة، وهو الأمر الذي أدى إلى خلطِ بعض المسائل الكلاميَّة بالمسائل الأصولية، فبعضها كان ثمرةً حقيقيةً للنزاع في المسائل الكلامية، والبعض الآخر استُعمل من أجل الانتصار للمذهب الكلاميِّ في المسائل المرتبطة به.
سادسًا: موقفُ المنهج السَّلفيِّ من علم الكلام:
إذا كان الحالُ كذلك فإنَّ موقف المنهج السلفيِّ من علم الكلام كان واضحًا منذ بداية نشأةِ هذا العلم، فالسَّلف يُجمعون على ذمِّ علم الكلام وأهلِه، وذمِّ الانشغال به، وننقل هنا ما قاله الغزالي في (الإحياء)؛ فإنه كافٍ في بيان المقصود، فقد قال: “وإلى التحريم ذهب الشافعي ومالك وأحمد ابن حنبل وسفيان وجميع أهل الحديث من السلف، قال ابن عبد الأعلى رحمه الله تعالى: سمعت الشافعي -رضي الله تعالى عنه- يوم ناظر حفصًا الفرد يقول: لأن يَلقى اللهَ العبدُ بكل ذنبٍ ما خلا الشركَ بالله خيرٌ له من أن يلقاه بشيءٍ من علم الكلام، ولقد سمعتُ من حفصٍ الفرد كلامًا لا أقدر أن أحكيَه، وقال أيضًا: قد اطلعت من أهل الكلام على شيء ما ظننتُه قطّ، وأن يبتلي الله العبد بكلِّ ما نهى الله تعالى عنه ما عدا الشرك خيرٌ له من أن ينظر في الكلام… وقال: لو علم الناس ما في الكلام من الأهواء لفرُّوا منه فرارهم من الأسَد… وقال: حُكمي في أصحابِ الكلام أن يُضربوا بالجريد ويطاف بهم في القبائل، ويقال: هذا جزاء من ترك الكتاب والسنة، وأخذ في الكلام. وقال أحمد بن حنبل: لا يُفلح صاحب الكلام أبدًا، ولا تكاد ترى أحدًا نظر في الكلام إلا وفي قلبه دَغَل… وقد اتفق أهلُ الحديث من السلَف على هذا، ولا ينحصر ما نقل عنهم من التشديدات فيه”([19]). بل لو نظرنا إلى الأقوال المخالفة لما كان عليه السلف لوجدنا أن أكثرها -إن لم يكن كلها- ناتج عن التسليم بمقدِّمات علم الكلام واستعمال طرائقِه في النظر والاستدلالِ؛ ولذا فهم بين تحريم النظَر فيه مطلقًا، وبين تحريمه على المبتدِئ وجوازه للعالم([20]).
إذا كان هذا هو الموقف السلفيّ من علم الكلام فلا شكَّ أن هذا له أثرٌ على التأليف السلفي في علم الأصول، تمثَّل هذا الأثر في موقفهم الحذِر من قضاياه، وكذلك في تأخُّر التأليف السلفيّ المتناول لقضايا علم الأصول، فأول كتاب أصولي للحنابلة -الممثلين للاتجاه السلفي في ذلك الوقت- كان هو كتاب (العدّة) لأبي يعلى الفراء، أي: في النصف الثاني من القرن الخامس، ولا شكَّ أننا في غنى عن التدليل على أن التأليف في العِلم غيرُ مرتبط بوجوده، فعدَم التدوين لا يعني عدم الوجود كما هو معلوم.
سابعًا: مصادر علم الأصولِ:
ذكر الزركشيُّ أنَّ مصادر علم الأصول ثلاثة، هي: علم الكلام، وعلم اللغة، وعلم الفقه([21])، ورغم أنَّ هذا هو الواقع الفعليّ للأصوليين القدامى، وذلك بسبب ما ذكرناه من انشغال المتكلِّمين بعلم الأصول، إلَّا أنَّه يَنبغِي التنبُّه إلى أنَّ بحثَ مصادر علم الأصول إذا كان من باب توصيف الواقع الذي تمَّ فهذا أمرٌ لا بأس به، أما إذا كان من باب بيان طريقةِ التأصيل الصحيح والسبيل الذي ينبغي على الأصوليِّ أن يسلكه في التنظير فهاهنا يظهر الخلاف الحقيقيُّ بين المنتسب للسلف والمنتسب للمتكلمين.
والخلاصةُ التي يمكنُ ذكرُها هنا هي أنَّ هذه القضيةَ لها صلةٌ وثيقة بنَظر المتكلِّمين وموقفهم من الأدلة النقليَّة، فالمتكلمون يريدون أن يضعوا القواعدَ الحاكمة على الأدلة حتى يمكن فهمُها بطريقة صحيحةٍ، وهم يرون أنه لا ينبغِي استعمال الأدلة في وضعِ هذا التصوُّر، بل لا بدَّ من استعمال القضايا العقليَّة التي هي محلُّ اتفاقٍ بين العقلاء، أو القضايا اللغوية التي هي محلُّ اتفاق بين أهل اللغة؛ ولذا لن نجد للحديث النبويِّ وآثار الصحابة وأقضيتهم وفتاواهم أثرًا في مصادر علم الأصول عند المتكلمين، بينما الأمر بخلاف ذلك عند أهل السنة.
بل إنَّ كلام الزركشيِّ لا يمكن التسليمُ به من جهة النظر للواقع، فكثير من القواعد الأصولية إنما كان مصدرها استقراء الأدلةِ الشرعيةِ كما في مسألة اقتضاء الأمر للوجوب والنهي للتحريم، بل إن الكثير من القواعد الأصوليَّة هي قواعد عقليَّة أو لغويَّة دلَّ على اعتبارها استقراء أدلة الشرع النقلية، ومعلوم أنَّ قولنا: استقراء أدلة الشرع يختلف تمامًا عن مجرد الاستدلال بدليل جزئيٍّ واحد، ولنضرب مثالًا يوضح المقصود.
فالأصوليون عندما يدلِّلون على أنَّ الأمر يقتضي الوجوبَ يذكرون أنَّ العاقل يفهَم من أمر السيِّد لعبده أنه ملوم لو لم يفعل، وهم هنا ينطلقون من أنَّ هذه قضية عقلية لغويَّة، وهم كذلك عندما يذكرون أمثلة لأوامر النبي صلى الله عليه وسلم التي اتفق الجميع على حملها على الوجوب، أو التي أنكر فيها النبي صلى الله عليه وسلم على من لم يستجِب لأمره، فإنما ينطلقون من خلال أنَّ هذه القضية العقلية اللغوية قد دلَّ على اعتبارها النظر فيما ورد في الشرع من آيات وأحاديثَ وآثار، فالمستقرئُ لها يجد أنَّ عادَة الشرع في الأمر هي الإيجاب؛ لأن هذا فهم الصحابة في العديد من المواقف، ولإنكار النبي صلى الله عليه وسلم على من لم يتابع الأمر، وغير ذلك من الأدلة التي تفيد بمجموعها صحَّة هذه القاعدة.
وإنَّ من يتتبع التراثَ الأصولي في مسألة كهذه يكاد يجزمُ أن ما ذكرناه من طريقة الاستدلال على هذه القاعدة وغيرها هو الواقع العمليُّ؛ مما يدل على أن ما ذكره الزركشي أمر فيه نظَر ويحتاج للدراسة المفصَّلة.
أما تعامُل المنهج السلفي مع القرآن والسنة فمختلِف تمامًا عن منهج المتكلمين، وإن التقيا في تقرير القواعد التي يُفهم من خلالها الكتاب والسنة، لكنهما في منهجية التعامل مع الوحي مختلفان تمامًا، فالقضية العقلية هي جُلُّ اهتمام الكلاميِّ، أما العناية بنصوص الكتاب والسنة فأقلُّ من أن يظهر له أثرٌ؛ ولذا ظهر بينهم تأويل الأدلة، وسهُل لديهم الاعتراض على دلالات النصوص النبوية، بخلاف المنهج السلفي الذي يصبُّ جلّ اهتمامه على الكتاب والسنة أولًا لأنهما أصل الأدلة، وما من قاعدة من قواعد الفهم والاستنباط إلا وهي مفتقرة للدلالة عليها من الكتاب والسنة، مع الحذر من المزالق التي تهاوى فيها المتكلِّمون.
إذن فلا يمكن أبدًا أن يكون التباين بين منهج المتكلمين والمنهج السلفي بهذه الصورة، ويكون هذا العلم هو محلّ الاستدلال لوجهات النظر في هذه القضايا، ثم يُطلب من السلفيين أن يأخذوا هذا التراث الأصوليَّ المختلِط بالمسائل الكلامية دون تمحيص ولا تدقيق.
ثامنًا: القضايا الرئيسية التي شكَّلت الموقف السلفيّ من علم أصول الفقه بصورته الغزالية:
دعونا نبرز القضايا التي شكَّلت نقاطَ اختلافٍ بين المنهج السَّلفي ومنهج المتكلمين بشكل أكثر وضوحًا، والتي كان لها أثر في التأليف الأصولي على طريقة الجمهور.
ولسنا بصدَد تفصيلِ الكلام في هذه القضايا، بل يكفينا الإشارةُ إلى علاقة هذه القضايا الأصولية بمنهج المتكلِّمين، وموقف المنهج السلفي منها، وهذه القضايا هي:
– قضية العلاقة بين العقل والنقل:
من القضايا التي احتلَّت مساحة كبيرةً من التأليف الأصولي: قضية التحسين والتقبيح العقليَّين وما يتعلَّق بها من مباحث ومسائل، فالمعتزلة يصرِّحون بتقديم العَقل على النقل، والأشاعرة يصرِّحون بتقديم النقل على العقل ردًّا على المعتزلة، لكن مِن خلال طرائق علم الكلام ومناهجه، واستُحدثت العديد من الإلزامات بين الفريقين التي شكَّلت فيما بعد قضايا ومسائل مستقلَّة لها مكانها في التأليف الأصولي([22]).
ومذهبُ أهل السنة في هذه المسألة أن العقلَ والشرع لا يتعارضان، وإنما يتعارض القطعي مع الظني أو الظنيان، لكن لا يتعارض قطعيان أبدًا، كما أنَّ صريح العقل لا يتعارض أبدًا مع النص الصحيح([23])، ومن أجل بيان هذه القضيَّة البيانَ التامَّ الواضحَ ألف ابن تيمية كتابه الفذّ (درء تعارض العَقل مع النقل).
ولا يمكن لسلفيٍّ يدرس علم الأصول أن يكونَ موقفُه من هذه المسألة في صفِّ الأشاعرة أو المعتزلة؛ ولذا فإن هذا الموقفَ سيلقي بظلاله على العديد من المسائل التي حصَل الخلاف فيها وكثر فيها الكلام بين الأصوليين.
– قضية اليقين والظن:
من القضايا الأصوليَّة المهمَّة معرفة القطعيِّ من الظنيِّ، سواء في الأخبار أو الأدلة أو الأحكام العقلية أو غير ذلك، وقد كان من أثر علم الكلام أن تمَّ تعريف القطعيِّ والظني بمعانٍ غير صحيحة، واعتُبرت هذه المعاني أصلًا لبناء الأحكام الشرعية عليها؛ ممَّا أثَّر في تعريف العلم الذي يستتبع الخلَلُ فيه خللًا في التصوّر العقدي والأصوليّ، فمسائل مثل عدم إفادة خبر الآحاد العلم، وعدم قبول خبر الواحد في العقيدة، واشتراط القطع فيما يحصل به العلم، هي أثر هذا التعريف الخاطئ للقطع والظنّ، ثم بناء الأحكام الشرعية على هذا التقسيم([24]).
– قضية التواتر والآحاد:
على الرغم من عدم اختلاف المنهج السلفيِّ مع غيره في تعريف التواتر والآحاد، إلا أن هناك اختلافًا في طريقة تناول السلف لها عن طريقة تناول المتكلمين.
فالأدلة قد يحصل بينها تعارض في الظاهر، ودفع هذا التعارض يحتاج إلى معرفة رتب الأدلة، فلا مشاحَّة في معرفة رتب الأدلة وأيها أقوى من الآخر، لكن مناهج المتكلمين رتبت على هذا التقسيم مسائلَ لنصرة مذاهبهم العقديّة، فخرجوا بهذا التقسيم عن الغرض الموضوع له.
– الموقف من الأدلة النقلية:
الأشاعرة وإن كانوا يصرّحون بتقديم الأدلة النقلية على العقل، لكنهم في الواقع العملي لا يفعلون ذلك، بل يفعلون خلافَ ذلك من خلال بعض الاشتراطات الأخرى؛ كالزعم بأن مسائل الاعتقاد لا بد فيها من القطع، وأن الأدلة النقلية لا تفيد القطع إلا بعد تيقّن دفع الاحتمالات العشَرة التي ذكرها الرازي، والتي منها دفع المعارض العقلي([25])، فآل مذهبهم في حقيقته إلى مذهب المعتزلة من بعد الجويني والغزالي([26]).
– حجية القواعد الأصولية:
المتكلِّمون يستمدُّون حجيةَ القاعدة الأصولية من كونها مسلَّمة عقليَّة أو منطقيَّة أو لغويَّة أولًا، ولا يرون أن للدليل النقليِّ مدخلًا في تقرير حجية القاعدة؛ لأنَّ القاعدة الأصولية ستكون حاكمةً على الدليل النقليِّ، فلا يمكن أن يكونَ هو دليلًا عليها؛ لئلا يلزم من ذلك الدور والتسَلسل، وإن استدلّوا به على صحَّة القاعدة فهذا يأتي في المرتبة الثانية.
أما السلفيون فلا يرون هذا مسلكًا صحيحًا، ولا يلزم من الاستدلال على صحَّة القاعدة بالدليل النقليّ أن ذلك مؤدٍّ إلى الدور والتَّسلسل؛ وذلك لأن الاستدلال لحجِّيَّة القاعدة الأصولية إنما يكون من خلال استقراء مجموع الأدلة التي تفيد أن الشرع في تعاملاته قد اعتبر هذه القاعدة أصلًا كلِّيًّا، وأنَّ فهم الصحابة لهذه الآيات والأحاديث لا يكون بالصورة المنقولة إلينا إلا من خلال صحَّة هذه القاعدة.
– قضية التأويل:
مذهب المتكلِّمين مبنيٌّ على التوسُّع في التأويل، وهناك من القضايا الأصولية ما هو وثيق الصلة بهذا الباب؛ ولذا كثر النزاع فيها بين المنهجَين، ومن أمثلة ذلك مسألة وجود المجاز في القرآن واللغة، وشروط التأويل الصحيح([27]).
– عدم الاعتناء بعلم الحديث:
مما هو واضح لكلِّ مَن يدرس منهج المتكلمين ضَعفُ عنايتهم بالسنَّة النبويَّة والحديث النبويّ، وهذا أمر له أثر في عدم التفريق بين الثابت وغيره من الحديث النبوي، والانشغال بالعلوم العقلية وتحقير الاهتمام بعلوم السنّة، وأمر كهذا له أثر في التحرير الأصولي للمسائل، فنجدهم أحيانًا يستشهدون بما ضعُف من الأحاديث ويتركون الصحيح الثابت([28]).
– إهمال التطبيق العملي للقواعد:
منهج المتكلمين في دراسةِ الأصول لا يعتني بذكر الفروع الفقهية إلا على سبيل التمثيل؛ وذلك لأنَّ الأصل عند تدوين هذه القواعد هو إثباتها لتكونَ حاكمةً على الفروع؛ ولذا كان الواجب أن تتلو هذه الخطوةَ خطوةٌ أخرى تتمثَّل في تخريج الفروع الفقهية في كلّ مذهب على هذه القواعد، فهذه هي ثمرة هذا العلم الحقيقيَّة، لكن هذا للأسف لم يحدُث بالصورة التي ينبغي أن تكون، بل جاء المتأخِّرون فصرفوا همَّتهم إلى العناية بذكر هذه القواعد والاستدلال لها، أو الاستدراك عليها، أو نظمها أو التحشية عليها أو شرحها، أو تخريج أحاديثها، وهذا كله دوران في فلك إثبات هذه القواعد دون تجاوزٍ لهذه المرحلة إلى المرحلة التي تليها، إلا ما ندر.
– الموقف من علم المنطق:
الغزاليُّ أوَّل من خلَط المنطقَ بعلم الأصول على جهة التنظير، وذلك من خلال المقدمة المنطقيَّة التي كتبها لكتاب (المستصفى)، وقد أدَّى انشغال الأصوليِّين بعلم المنطق إلى استخدام العديد من مصطلحاته وطرائقه في علم الأصول، بل يرى الغزالي أن هذه المقدّمة المنطقية ضروريةٌ لكلّ علم من العلوم، ومن لا اطِّلاع له عليها لا ثقةَ بعلومه، في حين إن كثيرًا من العلماء يحرِّمون النظر في علم المنطق أو الانشغال به، قال ابن تيمية: “ما زال علماء المسلمين وأئمةُ الدين يذمُّونه ويذمّون أهله، وينهون عنه وعن أهله، حتى رأيت للمتأخِّرين فتيا فيها خطوطُ جماعةٍ من أعيان زمانهم من أئمة الشافعية والحنفية، فيها كلام عظيم في تحريمه وعقوبة أهله”([29]).
– الموقف من القضايا التي لا فروع لها:
يحتوى علم الأصول على العديد من المسائل التي كثرت الأقوال فيها والاستدلال عليها دون وجود فروع فقهية تتعلَّق بهذه المسائل، وأمرٌ كهذا يمكن تفهُّمه من خلال منهج المتكلمين، فهذه المسائل أثر لخلافاتٍ كلامية، لكن مع كثرتها وكثرةِ تشقيق الكلام فيها كانت هذه المسائل سببًا لصعوبة هذا العلم ولانحرافه عن هدفه الذي أُنشئ من أجله، وأمرٌ كهذا دفع الشاطبيَّ لأن يجزم بأن كلَّ مسألة لا ينبني على الخلاف فيها خلافٌ فقهيّ فوضعها في أصول الفقه عارية([30]). ومع شيوع هذه العبارة اليوم من قبل الدارسين لأصول الفقه -خاصة أتباع المدرسة المقاصدية- إلا أنها كثيرًا ما تُستعمل في غير محلِّها، فقد صارت تِكئة لكل من يريد أن يحذف من علم الأصول المسائلَ التي لا تروقُ له، ويمكننا الزعمُ بأنه لا توجد منهجيَّة واضحَة متكامِلة تمَّ تطبيقها فعليًّا لتطبيق هذه المقولة في محلِّها الصحيح، وهو ما يدعونا للحديث عن إجابة السؤال المشهور: هل يمكن تصفية علم الأصول من علم الكلام؟
تاسعًا: هل يمكن تصفية الأصول من علم الكلام؟
إنَّ أية إجابة عن هذا السؤال لا تنطلق من تحديدِ القضايا الكلامية والقضايا الأصولية تحديدًا دقيقًا وتحديدِ نوع العلاقة بين هذه القضايا بالضبط لهو ضربٌ في عماية؛ إذ كيف لكاتبٍ أو دارسٍ أن يحدِّثنا عن أن قضيَّة بعينها هي قضية لا بدَّ من حذفها دون أن يبين لنا أولًا نوع هذه القضية، وما أثرها في غيرها من القضايا.
إذن فالحديث عن تصفية علم الأصول من علم الكلام حديثٌ عن أمرٍ شديد التعقيد والطول، فلا بدَّ من تتبعٍ لقضايا هذا العلم تتبعًا تاريخيًا لمعرفة سبب إيرادها، ثم تتبعًا موضوعيًّا لمعرفة علاقتها بغيرها تأثرًا وتأثيرًا، ثم تتبّعًا تطبيقيًّا من خلال الاستقراء للأثر الفقهي لهذه المسائل؛ ليقرر من خلال منهج واضح ما المسائل التي لها أثر فقهيّ من تلك التي لا أثر فقهيَّ فعليّ لها.
هذا إذا نظرنا للأمر نظرةً كلية، وهي لا تمنع النظرة الجزئية إلى بعض مواطن الاشتباك سالفة الذكر، ولعل هذا الأمر هو السبب الحقيقيُّ في إعراض كثير من أبناء هذا المنهج -قديمًا وحديثًا من باب أولى- عن التفرغ لهذه المهمة بهذه الصورة الكلية، رغم أنه قد وجدت محاولات تطبيقية لهذا الأمر تمثَّلت في بعض الكتب الأصولية التي ألفها بعض الحنابلة، لكنها تناولت هذه القضية بصورة جزئية لعُسرها بصورتها الكلية؛ ولذا كان الأكثر واقعية هو الاعتماد على ما ألفه المتكلِّمون في هذا الباب، مع التنبيه إلى مواطن الاختلاف المنهجيّ عند الحديث عن نقاط الاشتباك سابقة الذكر.
وهذا ما يفسِّر لك -أيها القارئ الكريم- سببَ اعتماد الأصوليين الحنابلة الذين كانوا يمثلون المنهج السلفي قديمًا على هيكلَة الغزالي لهذا العلم بصورته التي ظهَرت في كتاب (المستصفى).
عاشرًا: الاتِّجاه السَّلفي في التأليف الأصوليّ:
إذن يمكننا القول بأن الاتجاه السلفي في علم الأصول تمثَّل في مسارين:
المسار الأول: الكتب الأصولية التي اعتمَدت على هيكلة الغزالي، لكن مع وجود الفارق بين المنهجين، وذلك مثل كتاب (روضة الناظر) لابن قدامة، وكتاب (التحبير شرح التحرير) للمرداوي، وكتاب (شرح الكوكب المنير) لابن النجار الفتوحي وغيرهم.
أما التآليف الأصوليَّة على المنهج السلفي قبل الغزالي فمنها كتاب (الإحكام في أصول الأحكام) لابن حزم الأندلسي، وكتاب (جامع بيان العلم وفضله) لابن عبد البرّ المالكي، وكتاب (قواطع الأدلّة في أصول الفقه) الذي ألَّفه أبو المظفر السمعاني للرد على كتاب: (تقويم الأدلة) لأبي زيد الدبوسي الحنفي([31]).
المسار الثاني: الكتب الأصولية التي خرجت عن النسق الأصولي المشهور في التأليف، سواء تلك الكتب التي حاول مؤلِّفوها اقتفاءَ أثر الشافعيِّ في طريقته في تأليف كتابه (الرسالة) كما فعل الخطيب البغدادي في كتابه (الفقيه والمتفقه)، أو تلك الكتب التي تناولت مسائل مفردة من مسائل الاختلاف المنهجي كما فعل ابن القيم في كتابه (إعلام الموقّعين).
ولا شكَّ أن بعض هذه الكتب يمثِّل منهجية مستقِلَّة من حيث التأليف، لكن الاستطراد للحديث عن هذا الأمر يخرج بنا إلى حدٍّ من الطول لا تحتمله هذه الورقة العلمية.
حادي عشر: سمات الاتجاه السلفي في التأليف الأصولي:
من خلال ما سبق ذكره يظهَر لنا أنَّ الموقف السلفيَّ من التأليف الأصولي هو التوسط في شأنه، فهو قبول حذِر للهيكلة العامة لهذا العلم، مع الاختلاف في بعض الترجيحات الأصولية وتصفية بعض المواضع من القضايا الكلامية، مع التنبيه على القضايا محل النزاع والاختلاف بين المنهجين، وتوقف أو رفض لقبول بعض المسائل التي يظهر ارتباطها بعلم الكلام بوضوح، وهذه هي السمة الرئيسية التي تغلب على هذه الكتب على وجه الإجمال.
وإذا كنا قد ذكرنا أن الاتجاه السلفي في التأليف الأصولي تمثَّل في مدرسة الحنابلة وفي التآليف التي خرجت عن النمط الأصولي المشهور فيمكننا الإشارة إلى خصائص كل اتجاه باختصار:
السمات الرئيسية للتأليف الأصولي عند الحنابلة:
– تأخر بداية التأليف الأصولي عند الحنابلة، فلا نجد لهم في القرن الثالث والرابع مؤلَّفات، ويبدأ أول مؤلّف لهم في الظهور في النصف الثاني من القرن الخامس، وهو كتاب (العدَّة) للقاضي أبي يعلى (ت 458هـ)؛ ما يدلِّل على أن هناك إحجامًا متعمَّدًا عن الولوج في حلبة الصراع الدائر بين الأشاعرة والمعتزلة.
– الاعتماد على الهيكلة التي استقرَّ عليها العلم بصورته الغزالية في المؤلفات التي ظهرت بعد الغزالي، مع بعض الاختلاف اليسير في الترتيب والتبويب يختلف من مؤلِّف لآخر.
فمثلًا عندما قام ابن قدامة بتأليف كتابه (روضة الناظر وجُنَّة الناظر) عمد إلى (المستصفى) فأخذ مباحثه ومسائله، ولخَّصها وأضاف إليها ترجيحات القاضي أبي يعلى وأبي الخطاب الكلوذاني، وألف كتابه المذكور.
– الإعراض عن كثير من مسائل علم الكلام، والتنبيه على بعضها المشهور في مظانّ ذكره.
– الإعراض عن مسائل علم المنطق.
بل إن ابن قدامة لما ألف الروضة مختصرًا لكتاب (المستصفى) كان مما اختصره المقدّمة المنطقية التي قدَّم بها الغزالي كتابه، فأنكرها عليه أحد كبار أصحابه، فحذفها من النسخ التي ظهرت بعد ذلك([32]).
– الاهتمام بالمنقول عن الإمام أحمد بصورة واضحة.
وعلى الرغم من منطقية هذا الأمر إلا إنه غير موجود عند المالكية والشافعية على الرغم من كثرة تآليفهم الأصولية، ووجد عند الحنفية لكن بصورة مغايرة([33]).
– العناية بترجيحات أئمة الحنابلة في المسائل المذكورة.
ظهر هذا بوضوح وجلاءٍ في كتاب (التحبير شرح التحرير) للمرداوي ومختصره (الكوكب المنير) لابن النجار الفتوحي.
– لم تتدخَّل هذه المؤلفات في بنية المسألة الأصولية، ولم تصرف عنايتها للتنظير خارج الإطار المشهور، بل كانت عنايتها الكبرى هي بذكر قول المذهب في المسائل الأصولية، والاهتمام باختلافات الحنابلة عن غيرهم فيها.
أما السمات الرئيسية للكتب التي كانت خلافَ النمط المألوف في التأليف الأصولي فتميَّزت بعدة أمور، منها:
– الاهتمام بذكر الأمثلة على القواعد المذكورة.
– الاهتمام بمسائل الرواية المبحوثة في علم الحديث.
– العناية بالإسناد وبألفاظ الروايات، على خلاف المعهود من الأصوليين.
– البعد عن الاختصارات اللفظية والمسائل الكلامية والمنطقية.
– عدم الإطالة في التعريفات والاعتراضات والردود.
– الإطناب في المسائل محل الخلاف الفقهي.
وإذا كان ذلك في المؤلفات التراثية فإنَّ الحال نفسه كان حاضرًا في الواقع المعاصر؛ إذ لم يكن هذا الخلاف المنهجيّ مانعًا من العناية بالكتب العمدة في هذا الفن والاهتمام بطباعتها وخروجها للنور، وسوف نذكر أمثلة من ذلك.
ثاني عشر: نماذج من كتُب الأصول التي حقِّقت في جامعات سلفية أو على أيدي سلفيين:
من عجيبِ الأمر أنَّ العديدَ مِن الكتبِ الأصوليّة -التي يُتَّهم أبناء المنهج السلفيّ بالجهل بها- لم تخرج للنور ولم تعرف طريقَ الطباعة إلا في جامعات سلفية أو على يد محققين سلفيين! هذا فضلًا عن الكتب الأصولية التي تخصّ الحنابلة، وفي ذكر بعض هذه الكتب ردٌّ على هذه الاتِّهامات للمنهج السلفيّ.
فمن تلك الكتب:
1- (الفصول في الأصول) لأحمد بن علي بن بَرهان البغدادي، وهو أصولي متكلم معروف، وكان حنبليًا ثم تحول للمذهب الشافعي، حقَّقه الأستاذ الدكتور عبد الحميد أبو زنيد، أستاذ أصول الفقه بجامعة محمد بن سعود بالقصيم، وأخرجه للنور عام 1403ه-1983م.
2- (التقريب والإرشاد) -الصغير- للقاضي أبي بكر الباقلاني، وهو رأس الأشاعرة في زمانه، وكتابه هذا عمدة عند الأصوليين، حقَّقه أيضًا الدكتور عبد الحميد أبو زنيد، وأخرجه للنور عام 1413هـ-1993م.
3- (بيان المختصر) وهو شرح مختصر ابن الحاجب لشمس الدين أبي الثناء محمود بن عبد الرحمن الأصفهاني، حققه د. محمد مظهر بقا، وطبع ضمن سلسلة من التراث الإسلامي مركز البحث العلمي بكلية الشريعة بجامعة أم القرى بالمملكة العربية السعودية، وذلك عام 1406هـ-1986م.
4- (البرهان في أصول الفقه) للجويني، أخرجه للنور الأستاذ الدكتور عبد العظيم الديب، وذلك عام 1399هـ-1979م.
5- (التنقيحات في أصول الفقه) لشهاب الدين السهروردي، الصوفي المنشغل بالفلسفة الإشراقية، كان خروجه للنور على يد د. عياض بن نامي السلمي، وهو الأستاذ بكلية الشريعة بالرياض.
6- (التلخيص في أصول الفقه) للجويني، نشر عام 1428هـ-2007م، بعدما قام اثنان من الباحثين بتحقيقه لينالا به الدرجة العلمية في الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة.
7- (الدرر اللوامع في شرح جمع الجوامع) لشهاب الدين الكوراني، حققه د. سعيد بن غالب كامل المجيدي، ونشرته عمادة البحث العلمي بالجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة عام 1429هـ-2008م.
8- (شرح المختصر في أصول الفقه) لأبي الثناء قطب الدين الشيرازي الشافعي، نشرته عمادة البحث العلمي بجامعة الإمام محمد بن سعود بتحقيق أ. د. عبد اللطيف بن سعود بن عبد الله الصرامي، وذلك عام 1433هـ-2012م.
9- هذا بخلاف عشرات الكتب التي حققت في الجامعات السعودية ولم تطبع.
هذه الكتب ليس بينها مؤلف حنبليّ واحد، وكلها عمدة عند الأصوليين الأشاعرة، أفلا يكفي هذا للدلالة على عظم الفرية التي يُرمَى بها أبناء المنهج السلفي؟!
والخلاصةُ التي نَودُّ أن نُنهيَ حديثَنا بها هي أن المنهج السلفي لم يتَّخذ موقفًا معاديًا لعلم الأصول ببنيتِه التي استقرَّ عليها بعد الغزالي، بل استفادوا منها، وتعاملوا مع هذا العلم كعلم من علوم الآلات، لكنهم فقط لا يسلِّمون بكل ما قضاياه بسبب التأثر الحاصل بعلم الكلام وبتأصيلات المتكلِّمين وطرائق المنطقيين. و الحمد لله رب العالمين.
ــــــــــــــــــــــــــــــ
(المراجع)
([1]) انظر: الرد على خوارج العصر (3/ 10).
([2]) من تلك الدراسات: (علاقة علم أصول الفقه بعلم الكلام)، وهي رسالة الدكتوراه لمحمد بن علي الجيلاني الشتيوي، وكذلك (مسائل أصول الدين المبحوثة في علم أصول الفقه) وهي رسالة الدكتوراه لخالد عبد اللطيف محمد نور.
([3]) انظر: مقدمة الشيخ أحمد شاكر لتحقيق كتاب الرسالة (ص: 14).
([4]) انظر: الفتح المبين (1/ 147).
([5]) انظر: الفتح المبين (1/ 168).
([6]) انظر: البحر المحيط (1/ 6).
([7]) طبع التقريب والإرشاد الصغير وسيأتي ذكر ذلك، وطبع المغني في أبواب التوحيد والعدل بعناية أمين الخولي، أما العُمَد فلم يطبع.
([8]) انظر في إثبات ذلك وبيان علاقة منهج المتكلِّمين بطريقة الشافعي: مدرسة المتكلمين ومنهجها في دراسة أصول الفقه (ص: 101-107).
([9]) انظر: الإبهاج في شرح المنهاج (2/ 330-337).
([10]) انظر: أصول الفقه الذي لا يسع الفقيه جهله (ص: 257)، مذكرة في أصول الفقه للشيخ الشنقيطي (ص: 34).
([11]) انظر: البرهان (ا/ فقرة163-166).
([12]) انظر: المستصفى (1/ 273).
([13]) وانظر أيضا: الإبهاج (2/ 330).
([14]) انظر: الفكر الأصولي (ص: 446).
([15]) انظر: المعتمد في أصول الفقه (1/ 7).
([16]) انظر: المستصفى (1/ 27-28).
([17]) انظر: التحقيق المأمول لمنهاج الأصول (ص: 40-48)، فقد عدَّ هذه الأعمال المطبوع منها والمخطوط.
([18]) انظر: المستصفى (1/ 27).
([19]) إحياء علوم الدين (1/ 95)، بل إنه قال بعد ذلك: “فإن قلت: فما المختار عندك فيه؟ فاعلم أن إطلاق القول بذمه في كل حال، أو بحمده في كل حال خطأ، بل لا بد فيه من تفصيل. فنقول: إن فيه منفعة، وفيه مضرةً، فهو باعتبار منفعته في وقت الانتفاع حلال أو مندوب إليه أو واجب كما يقتضيه الحال، وهو باعتبار مضرَّته في وقت الاستضرار ومحله حرام. أما مضرتُه فإثارة الشبهات، وتحريك العقائد وإزالتها عن الجزم والتصميم، فذلك مما يحصل في الابتداء، ورجوعها بالدليل مشكوك فيه، ويختلف فيه الأشخاص، فهذا ضرره في الاعتقاد الحق. وأما منفعته فقد يظنّ أن فائدته كشف الحقائق ومعرفتها على ما هي عليه وعمارة القلب بنور اليقين، وهيهات! فليس في الكلام وفاء بهذا المطلب الشريف، ولعل التخبيط والتضليل فيه أكثر من الكشف والتعريف. وهذا إذا سمعته من محدث أو حشويّ ربما خطر ببالك أن الناس أعداء لما جهلوا، فاسمع هذا الكلام ممن خبر هذا الكلام، ثم قلاه بعد حقيقة الخبرة، وبعد التغلغل فيه إلى منتهى درجة المتكلمين، وجاوز ذلك إلى التعمق في علوم أخرى تناسب نوع الكلام، وتحقّق أن الطريق إلى معرفة الحقائق من هذا الوجه مسدود. ولعمري لا ينفك الكلام عن كشف وتعريف، وإيضاح لبعض الأمور، ولكن على الندور، وفي أمور جلية تكاد تفهم قبل التعمق في صنعة الكلام”.
([20]) انظر المقال الذي أصدره مركز سلف عن “موقف السلف من علم الكلام: على هذا الرابط:
([21]) انظر: البحر المحيط (1/ 28-29).
([22]) انظر: درء القول القبيح بالتحسين والتقبيح للطوفي (ص: 115-122)، فقد عدَّد المسائل الأصولية المبنيّة على مسألة التحسين والتقبيح، والكتاب في الردّ على المعتزلة لكن على مذهب الأشاعرة.
([23]) انظر: مجموع الفتاوى (17/ 444).
([24]) تناول الدكتور سعد الشثري هذه القضية في رسالته للدكتوراه وهي بعنوان: القطع والظن عند الأصوليين.
([25]) انظر: المحصول للرازي (1/ 390-408).
([26]) انظر: موقف شيخ الإسلام ابن تيمية من الأشاعرة (1/ 537).
([27]) انظر: قضية التأويل عند الإمام ابن تيمية، وهي دراسة لمنهج ابن تيمية في الإلهيات، وموقفه من المتكلمين والفلاسفة والصوفية. تأليف أ. د. محمد السيد الجليند.
([28]) انظر: موقف المتكلمين من الاستدلال بنصوص الكتاب والسنة (ص: 230-258).
([30]) انظر: الموافقات للشاطبي (1/ 37).
([31]) هناك كتب أصولية في تلك الفترة خلت من علم الكلام بصورة واضحة رغم أشعرية مؤلفيها مثل اللمع والتبصرة، وهما لأبي إسحق الشيرازي.
([32]) انظر: شرح مختصر الروضة للطوفي (1/ 100).
([33]) يمكننا أن نشير هنا إلى أن كتاب (الرسالة) للشافعي لم ينل حظَّه من الاهتمام اللائق به بين أتباع المذهب الشافعي، فلم يقم أحد بشرح الكتاب ولا التعليق عليه ولا اختصاره ولا شيء من ذلك، سوى أربعة من الأئمة كلهم في القرن الرابع الهجري، وهم: أبو بكر الصيرفي، وأبو الوليد النيسابوري، والقفال الشاشي، وأبو بكر الجوزقي النيسابوري، وفي القرن الخامس لم ينقل لنا سوى أبي محمد الجويني والد إمام الحرمين -وكل هذه الكتب مفقودة حتى الآن-، فلو قارنت هذا بما فعله الشافعية مع كتاب (المستصفى) للغزالي أو كتاب (منهاج الوصول) للبيضاوي لتبين لك مقدار الفرق، هذا وغيره ممَّا يدلِّل على أن المدرسة الأصولية المنتسبة للشافعي قدِ انحرفت عن اقتفاء أثر الشافعي في طريقته في التأليف، وأن الأليق بها نسبتها إلى أبي بكر الباقلاني وأبي الحسن القاضي عبد الجبار المعتزلي، وقد سبق الإشارة إلى ذلك.