بضاعَتُكم ردَّت إليكُم (موقف نصر حامد أبو زيد من محمَّد شحرور)
للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة
يأتي متطبِّب يدَّعي أنَّه حاذق في الطبّ، فيتلاعب بأبجديّات الطب، ويتعالى على أدواته، ويقدح في مسلَّماته، فلِمَ تكون درجة الحرارة الطبيعية للجسم 37 تقريبا؟! ولم يكون السكَّر الطَّبيعي في الدم هو ما بين 120 إلى 126؟! ولم يكون معدَّل نبضات القلب ما بين 60 إلى 90؟! بل لِم نصدق “Alexander Fleming” في اكتشافه للبنسلين؟! ولِم نصدق Frederick Grant Banting”” في اكتشافه للأنسولين؟!
أليس من الأولى أن نضرب بعلومهم عرض الحائط ونقدم قراءة جديدة للطب؟! بل ونفتح بابَ الاجتهاد فيه لكلّ أحد ليفتي في الطب بما شاء!
هكذا يفعل هذا المتطبّب دائمًا، فيأتي إنسان ناصح فيحذّر الناس من خطره، ويبين تهوّراته في الطب، ويشنع على ممارساته، ويزيف الاجتهاد الذي أتى به، ويذكِّر الناس أنه يؤدي بهم إلى المهالك، ومع ذلك يرمي بعضُ الناسِ الناصحَ بالغلّ والحسد والتحامل!
فيأتي متطبّب آخر كلاهما قد تبوَّءَا في السوء منزلةً عالية! فيحذر الناس من المتطبّب الأول ويكشف زيف ادِّعاءاته وخطر طريقته! وهنا يخسأ المتحاملون على الناصح الأول، وتسكت الأفواه التي لطالما رمت هذا الناصحَ بشناعات نطقوا بها.
تمهيد:
حينمَا فتح الشَّرع باب الاجتهاد ودعا إليه كان قد وضَع قبل ذلك محكمات لا تُمس، وجعل الاجتهاد في غير تلك المحكمات حتى تكون الشَّريعة متّفقة ومناسبةً لكلِّ عصر، وفي الوقت ذاتِه تكونُ لها هويتها وشعائرها الخاصة، والتي لا تذوب في ثقافات وهويَّات الآخرين مهما تقدَّم الزمن، فهذا الدِّين صالحٌ لكل زمان ومكان، حتى ظهرت فِئةٌ تدَّعي قراءة التُّراث قراءةً جديدةً معاصرة تأويلية خارجة حتى عن المعهود اللغوي، فضلًا عن أن تكون خارجة عن العُرف الشَّرعي، وقد استمدّوا آليات هذه القراءة من تجاربِ الغرب، غير مكترثين بالاختِلاف الديني، ولا بالعِصمة والحفظ، ولا بالتَّحريف والتغيير، فاستخدموا نفس ما استخدموه من بنيويَّةٍ وتفكيكية وسيميائية كما هي في الفكر الغربي، والتي كانت وليدةَ الصِّراع الحداثي الغربي مع الدِّين.
ومن هؤلاء الذي يزعمون أنهم يقدّمون قراءة معاصرة وفكرا جديدًا للدين: المهندس محمَّد شحرور.
محمد شحرور مهندس متخصّص في فحص التربة، منذ سنوات وهو يزعم أنه يقدِّم فكرًا جديدًا، يقسّم كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم حسبما يريد ويشتهي، يأتي إلى القرآن فيقسمه إلى آيات محكمات ومتشابهات وبين بين، ويأتي إلى السنة فيقسمها إلى سنة النبوة وسنة الرسالة، ويأتي إلى العبادات فيقرؤها هي الأخرى قراءةً جديدة، فيقرِّر تارةً بأنَّ الحج يمكن أن يكون طيلة أربعة أشهر، وأنَّه ينبغي تقسيم الناس على هذه الأشهر، ويقرر أخرى أنَّ الصيام المفروض ليس في شهر رمضان الذي نصومه، وإنما في الشَّهر الميلادي التاسع وهو شهر سبتمبر، ويأتي إلى التشريعات الدينية -كالصلاة والزكاة والوضوء والعفة والحجاب- فيضع لها حدا أدنى وحدا أعلى.
يعبث بالثوابت، وينكر أركان الدين، ويبيح الزنا! ويشرع شرعًا جديدًا في الميراث، ويأتي في تفسير ألفاظ القرآن بتعبيرات تنعى اللغة العربية نفسها من أجلها! ويقسم القرآن كما يشتهي، ويفسره كما يرد في خاطره من وحي الشيطان، وهو مع هذا كله متعتعٌ في قراءته للقرآن لا يكاد ينطق آية صحيحة!
إلى آخر تلك الضلالات التي رصدها الراصدون في كتبهم ومقالاتهم([1])، وبينوا تحامله على الدين، وتزييفه للحقائق، وتمويهه الحق بالباطل، وآراءه الغريبة في فهم القرآن الكريم.
بيد أن جماعة من أتباعه ومناصريه أودعوا عقولهم في سراديب مصمتة، ودفنوها في تربة شحرور! فباتوا يشنّعون على كل من ردّ على شحرور، وادَّعوا أنه ليس إلا متحاملًا عليه، أو حاسدًا له، أو متشدّدًا يرى أن غيره على ضلالة، أو ظالِمًا له ولفكره.
لذا سنبتعد اليوم في هذا المقال عن نقد شحرور نقدًا صادرًا عن السَّلفية أو الوهابية أو المتشددين كما يحلو لهم أن يسموا، وسنتركُ الورقة بيضاء لرفيقه في ذات الطريق نصر حامد أبو زيد.
نصر أبو زيد علماني حداثي، التقيا في ذات الطريق فلم يتحمَّل نصرٌ شحرورًا، وهذا موقفه منه، موقفٌ ليس بصادر من مصادم لفكر محمد شحرور، ولا من سلفي منغلق عن فكر شحرور -كما يزعمون-، ولا حتى من إنسان يقيم دين الله كما نزل، ويحفظ القرآن والسنة كما وصلت، لكنه موقف لحداثي عن حداثي، فماذا رأى نصر أبو زيد في محمد شحرور؟
تعميق الأزمة بقراءة تلوينية:
يرى نصر أبو زيد أن الفكر الإسلامي بالفعل في أزمة فكرية يجب التخلّص منها، وأراد شحرور أن يقدِّم حلًّا لها فعمَّقها، وأراد أن يكحّل عينًا يداويها فأعماها! يقول نصر أبو زيد: “وكتاب الدكتور شحرور -الكتاب والقرآن- تعبير عن أزمة، لكنه تعبير سلبي عاكس للأزمة، ولا يقدم حلا لها”([2]).
فمشروعه الذي نذر له حياته -وهو القراءة المعاصرة للدين- يرى نصر أبو زيد أنه مشروع تلويني، ورغم أنهما يلتقيان في نفس الطريق -أعني: زعم تجديد الدين وتقديم قراءات معاصرة- إلا أن نصر أبو زيد يقول لشحرور: هونًا عليك فما هكذا تورد الإبل! يقول نصر أبو زيد: “ورغم أنَّنا لا ننكر إنكارًا تامًّا مشروعية مثل هذه القراءة المعاصرة، فإننا لن نكف عن التنبيه لشروط مثل تلك القراءة؛ لكي تكون قراءة تأويلية منتجة، وحتى لا نقع في الوهدة التي نسميها قراءة تلوينية مغرضة”([3]).
فالقراءة التلوينية إحدى خصائص مشروع شحرور، يقول نصر أبو زيد: “والتلوين هو الذي يمثل الخصيصة الثالثة من خصائص تلك القراءة المعاصرة”([4]).
فشحرور حسب نصر أبو زيد مجدّدٌ فشل في تجديده، وطبيبٌ أمات مرضاه بدل أن يعالجهم!
شحرور وتجاهل السياقات:
يشرِّق النص القرآني في قضية ما فيغرِّب شحرور، يكون النصُّ في وادٍ ويكون معنى شحرور في أرض جدباء أخرى، وليس هذا حكمًا متشدّدا منا، بل هذا ما يقوله نصر أبو زيد، يقول: “لذلك فرقنا بين القراءة التلوينية المغرضة وبين القراءة التأويلية المنتجة، وهي التفرقة التي وقف الدكتور شحرور متسائلًا في تهكم خفي عن معناها. وللإجابة عن هذا السؤال نقول: القراءة التلوينية المغرضة هي القراءة التي تتجاهل السياق المنتج للدلالة”([5]).
وأعظم مشروعات شحرور الذي هو “الكتاب والقرآن” والذي يقول: إنه نتاج تأمل لربع قرن من الزمان، وأنه سيصدم الناس ببيان أنهم كانوا متمسكين بمسلمات معكوسة!([6]) يقول عنه نصر أبو زيد: “هذه القراءة نموذج فذ للقراءة الأيديولوجية المغرضة التي لا تتجاهل السياق الثقافي فقط، بل تتجاهل الطبيعة الأساسية للنص، ناهيك عن مستويات السياق الأخرى التي يتم الوثب فوقها وتجاهلها”([7]).
معياره نفسه:
قسَّم شحرور القرآن إلى آيات محكمات، وآيات متشابهات، وتفصيل الكتاب، ثم بدأ يضع آيات هنا وآيات هناك، ومثل هذه القضية الكبيرة التي ينبني عليها قبول آيات قليلة ورد أخرى كثيرة وإفراغ ثالثة عن مضامينها ليس لشحرور معيار فيها إلا هوى نفسه، ورأي خاطره!
ويتحدث شحرور مليًّا عن المجاز والحقيقة، وأنَّ التائهين في ألفاظ القرآن الضائعين طيلة حياتهم في تفسيرات ورثوها من النبي صلى الله عليه وسلم أو السلف ما هي إلا معانٍ خاطئة؛ لكن من يحدد المجاز من الحقيقة؟
إنه شحرور نفسه، فلو قام سيبويه من قبره وقال له: “هذا مجاز وهذا حقيقة” لم يصدقه، يقول نصر أبو زيد: “وقد كرر الكاتب في ردّه علينا نفس الآلية حين دافع عن فهمه للترتيل بالمعنى الحرفي المعجمي، ورفض المعنى المجازي الذي ورد به الاستخدام القرآني، دافع عن ذلك بقوله: فعند استعمال المعنى المجازي للترتيل لمدة مئات السنين لم يستفد المسلمون من هذا الاستعمال شيئا، أمَّا في الاستعمال الحقيقي فقد ساعدنا فعلا على فهم مواضيع القرآن، وفي هذه الحالة لا نكترث بمن قال عن الترتيل: إنه استعمال مجازي حتى ولو كان القائل سيبويه وكل الفقهاء”([8]).
فبرهان شحرور فيما قدمه من تقسيمات للقرآن والسنة، ومن شرح لمفردات القرآن شرحًا أعجميا هو: نفسه فحسب!
وإن كنت تتساءل عن الدَّليل فلا دليل؛ فشحرور هو الدليل، وفكره هو النور الذي سيخرج الناس من وحل الجمود والتخلف كما تنطق بذلك كلماته، مع أنه هو من أغرق الأمة في مستنقعات التفكير البائس غير المنهجي، يقول نصر أبو زيد: “تقسيم النصوص الدينية إلى القرآن الرسالة والكتاب النبوة هو تقسيم ينتمي إلى القراءة التأويلية المغرضة؛ ذلك لأنه تقسيمٌ يهدف إلى جعل التاريخية جزءًا في بنية النص، ويجعل من باقي بنيته ميتافيزيقا، يستند المؤلف في ذلك إلى قراءة تلوينية مغرضة لآية سورة آل عمران عن المحكم والمتشابه، فيتجاهل السياق تجاهلًا تامًّا؛ ليحدد من عنده معاني الإحكام والتشابه، ويتحدث عن شفرتين وتنزيل وإنزال… إلخ، ويخوض المؤلف في مسائل ميتافيزيقية لا برهان عليها إلا الارتباطات الذهنية التي تعتمد على موقفه الإيديولوجي“([9]).
بل شحرور الذي يعبث بالمسلَّمات والثوابت عند المسلمين يضع اجتهاده غير المقبول والبعيد عن كل المسوغات اللغوية هو الحقّ الذي لا مرية فيه، فليس الأمر أن شحرورًا يضع نفسه معيارا على الحق فحسب! يقول نصر أبو زيد: “يبدأ مؤلفنا قراءته التلوينية بوضع فوارق يتصور أنها دلالية حاسمة بين الأسماء العديدة التي تشير إلى النصوص الدينية الأصلية”([10]).
أغراض نفعية وأحكام مسبقة:
يدَّعي شحرور أنَّه يريد تخليص الناس من أغلال التقليد، فيقدم لهم قراءة معاصرة منفتحة متغيرة؛ لكن ما يفعله شحرور هو أن يقول للناس: لا تتبعوا الصحابة ولا السلف، بل ولا رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأن المشكلة تأتي من زعم الفقهاء أنَّ حلالَ محمَّد صلى الله عليه وسلم حلالٌ إلى يوم القيامة، وحرام محمَّد صلى الله عليه وسلم حرام إلى يوم القيامة([11])، ولكن اتبعوا شحروًا وقلدوه وخذوا بما يقول!
فنقلهم من الأخذ بكلام خير الناس إلى الأخذ بكلام رجل لا يحسن نطق آية، وكان في قراءاته التي يقدمها للناس على أنها قراءة معاصرة ينطلق من أحكام مسبقة يريد تقريرها، وأغراض نفعية يريد الوصول إليها!
والعجيب أنه حين عدَّد مشاكل الفكر الإسلامي ذكر منها: “إصدار حكم مسبق على مشكلة ما قبل البحث”([12])، إلا أنه كان ممَّن (رمتني بدائها وانسلت)!
وليس هذا ما ندَّعيه نحن أيضًا، بل هكذا يراه نصر أبو زيد، يقول: “وأهم آليات التلوين التي وقفنا عندها خضوع التأويل عنده لأغراض نفعية مباشرة خاصة”([13]).
بل ليت أن المفاهيم التي يريد أن يقررها شحرور أتى بها من نفسه؛ لكنه يريد تمرير وعي آخر على الوعي الإسلامي بثوب التجديد والتنوير، يقول نصر أبو زيد: “الهدف إذن من القراءة محدَّد سلفًا، وهو الهدف النفعي كما يتصوره المؤلف، وهو استنطاق النصوص بما هو معروف وجاهز سلفا من إنتاج وعي الآخر الأوروبي”([14]).
فشحرور لا يريد الوصول إلى الحقيقة، وإنما يريد خدمة أحكام جاهزة، يريد بثها بين الناس، فيلبسها لبوس نبذ التقليد، والدعوة إلى تجديد الدين، والقراءة المعاصرة، فيصل بالناس إلى ما يريد! يقول نصر أبو زيد: “والطرف المتحرك الرخو هو النص الديني الذي عليه أن يستجيب لهدف المؤلف، أليس ذلك تلوينًا مغرضًا يتم فيه تجاهل السياق تجاهلا تامًّ، ويتم الاختيار بين الدلالة الأصلية والدلالة المجازية بناء على هدف معلن مسبقا؟! هذه قراءة لا تهدف إلى الوصول إلى الحقيقة”([15]).
وكل ما سبق من تجاهل السياق وفقدان المعيارية وضياع البوصلة هو من أجل عرض المفاهيم التي يريدها؛ ولذلك يتجاهل شحرور كل اجتهادات العلماء السابقين، وما ورد في تفسير الآية من سبب لنزول، أو شرح للآية، أو بيان لمجمل، أو ردٍّ إلى محكم، فالاجتهاد الصَّحيح هو اجتهاد شحرور وحده، يقول نصر أبو زيد: “ينقسم الكتاب إلى أمِّ الكتاب وهو الجزء الدال على الرسالة، وإلى الآيات المتشابهات وهو الجزء الدال على النُّبوة، وهذا هُو التَّقسيم الوارد في الآية السَّابعة من سورة آل عمران، وهي الآية التي أثار فهمها خلافًا بين المفكرين المسلمين حول تحديد معنى المحكم أم الكتاب وتحديد معنى المتشابه من جهة، وحول إمكانية علم المتشابه من جانب الراسخين في العلم من جهة أخرى، يتجاهل المؤلف تجاهلًا شبه تام دلالة السياق وسبب النُّزول وجهد العلماء السَّابقين، ليقدم قراءته الخاصة جدًّا، لا لشيء إلا ليثبت افتراضاتِه المسبقة ويحلّ إشكالياتها المعقدة حلّا سحريًّا”([16]).
ولذلك حين يأتي شحرور إلى ما دعاه هو من الاهتمام بتغاير المعاني في الألفاظ، وما مارسه هو في مواطن كثيرة حين عدل عن المعنى الحقيقي للمفردة القرآنية إلى معانٍ أخرى بعيدة عن شمِّ رائحة اللغة العربية، فإنه يمارس أيضًا تمويهه ومعياره الشخصي، فحين يذكر المعاني للمفردة الواحدة ينتقي ما يريد ويغض الطرف عن المعاني الأخرى! يقول نصر أبو زيد: “ويكاد المؤلف يتجاهل الفروق الدلالية الواسعة لاستخدامات الصيغة أو مشتقاتها داخل القرآن ذاته، ويجذب كل الدلالات لتفصح عن دلالته المفترضة”([17]).
فالمعنى الذي يجب أن تختاره الأمة كلها في مفردة ما هو المعنى الذي اختاره شحرور، وبأي معيار اختاره؟!
شحرور نفسه لا يملك الإجابة:
ومن العبثية التي مارسها في باب المعايير أنَّه قدم مصطلحات قسمت الدين، وحللت الحرام، وشرَّعت للفجور الفكري والخلقي والسلوكي، مثل: “الحد الأعلى والأدنى”، ففي الدين حد أدنى يكفي أن يأتي به المسلم، ومن ذلك مثلا: أن الحد الأدنى للوضوء هو التيمم، سواء كنت صحيحا أو مريضا، واجدًا للماء أو عادما!([18])، وأن المطلوب من المرأة في اللباس ويرضي الله عز وجل إذا فعلته أن تستر العورتين المغلظتين فقط! وأما المحارم والأطباء وعمال الأشعة فلها أن تظهر أمامهم عارية بالكلية!([19]).
ثم إن سألته عن النص الذي قسم الدين إلى حد أعلى وحد أدنى، أو على الأقل عن معيار عقلي سليم يبرر هذا التقسيم وإن كان العقل لا دخل له في تشريع الدين؛ لوصمك بعدم الفهم، ورماك بالجمود والتخلف!
وفي هذا يقول نصر أبو زيد: “وعلى النَّمط التأويلي نفسه يتعرض المؤلف لقضايا الأحكام الشرعية كلها دون أن يشرح للقارئ على أي أساس نصي دلالي حدد الحدين الأعلى والأدنى في قضية ميراث الذكر والأنثى، ولا أن يبرر لنا الأساس المعرفي أو اللغوي الذي استند إليه في إخضاع دلالة النصوص التشريعية لمنطق التحليل الرياضي“([20]).
منتج مغشوش:
كثيرًا ما يحاول شحرور أن يأتي بتفسيرات غريبة، فيفسر النساء بالجديد، والفجر بالانفجار الكوني! بل تنبه لذلك حتى نصر أبو زيد ولم يستسغ تفسيره فقال: “لاحظ أن المؤلف يعتمد على قراءة خاصة للآية (49) من سورة العنكبوت، وهي قوله تعالى: {بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ} تجعل معنى كلمة صدور الصدارة، وهذا مجرد مثال للقراءة التلوينية المغرضة على مستوى فهم النصوص الدينية”([21]).
وكثيرًا ما يحاول أن يتشبث بنظرية المترادفات؛ ليهدم بها ثوابت الدين، إلا أن نصر أبو زيد يكشف لنا بعدًا آخر خلف هذه الرتوش، فليس شحرور إلا كرجل يتزيَّا بزيّ يبدو فخمًا حسنًا، لكن سرعان ما تكتشف أنَّ الزي مسروق فليس له!
ثم تكتشف مرة أخرى أن الزيّ الذي بدا جميلًا للوهلة الأولى ليس مسروقًا فحسب، بل هو رديء الصنع!
هذا ما فعله شحرور حين راح يجمع من هنا وهناك بضع كلمات أراد أن يزيّن بها جِيد كلامه، فكان العقد أقبح من الجيد! يقول نصر أبو زيد وهو يتحدث عن خطاب شحرور ومفارقته لخطاب الإسلاميين بشكل عام: “فمن حيث شكل الخطاب لا نجد وجودًا للطابع الوعظي الإملائي الإنشائي الذي يميِّز شكل الخطاب الديني، بل يتوسَّل الكاتب بلغةٍ تزدحم بمفردات قليلة الورود في الخطاب الديني التقليدي، وتلك المفردات مستقاة من مجالات معرفية علمية وفلسفية مختلفة، وأما من حيث أدوات التحليل المستخدمة فيعتمد الكاتب على بعض المفاهيم اللغوية، لعل من أهمها انتفاء وجود الترادف في اللغة، واعتماد دلالة اللفظ على السياق الذي يرد فيه، وهي أدوات تعلمها الكاتب من دراسة أوردها ملحقا لكتابه، والحقيقة أن الدراسة -ناهيك عما تعلمه الكاتب منها- دراسة متواضعة، تظن أنها اكتشفت منهجا للتحليل اللغوي، وهي لا تكاد تتجاوز طرح بعض المفاهيم التقليدية التي تجاوزها التراث اللغوي والبلاغي العربي ذاته، فإذا أضفنا إلى ذلك عجز المؤلف شبه التام عن التفرقة بين الحقيقة والمجاز في الاستخدام اللغوي للنصوص الدينية لأدركنا تهافت الأدوات التي ظن المؤلف أنه فتح بها فتحا جديدا“([22]).
ومن غشِّه أنه استفاد بعض التقسيمات التي ذكرها من الصوفية -حسب زعم نصر أبو زيد-، ومع ذلك لم يشر إليهم أيّ إشارة، يقول نصر أبو زيد: “يبدأ مؤلف مشروع القراءة المعاصرة من التَّفرقة الصوفية التي صاغها محيي الدين ابن عربي صياغة دقيقة بين النبوة والرسالة، دون أن يشير أدنى إشارة لإفادته الواضحة من التراث الصوفي”([23]).
ماذا يقدم شحرور؟
حسب نصر أبو زيد فإنَّ شحرورًا لا يقدم شيئًا، وإنما يقدم نصوصًا مفرغة من معانيها، تعبث بها أهواء الباحثين عن بريق شهرة، وأمنيات الطامعين في إطفاء نور هذا الدين، يقول نصر أبو زيد: “أمَّا الوثب إلى المغزى دون المرور بالدلالة واكتشافها بقوانين علم تحليل النصوص فهو التلوين المغرض، أو القراءة النفعية التي تحول النصوص إلى نصوص معلقة في الفراغ”([24]).
فمشروعه الذي يقدّمه للأمة على أنه مشروع تنويريّ لقراءة جديدة لا تتعلّق بأهداب الماضي ما هو إلا انسلاخ من أصول الدين وثوابته، وإن كان ثمة أزمة يعيشها الفكر الإسلامي المعاصر فإن فكر شحرور يزيد من هذه الأزمة حسب نصر أبو زيد، يقول: “فإنَّ النتائج المترتبة على محاولات القراءة العصرية التي أعطينا نموذجا لها تساهم مساهمة مباشرة في تعميق الأزمة”([25]).
ومع هذا فلم يترك المجال لغيره أن يجدّد كما يفعل، بل وضع عليهم أغلال تقليده، وحصر العبور إلى الحقّ على طريقته، يقول نصر أبو زيد: “وعلينا إذا أردنا أن نتقبل مشروعه الفكري لتجديد الإسلام… أن نتقبل كل تلك الافتراضات الذهنية القائمة على القراءة التلوينية المغرضة”([26]).
ولا يعني هذا أن نصر أبو زيد بيَّن الحق، وصدق في المعيار، وأنار طريق الناس إلى التمسك بالقرآن والسنة، وإنما هو الآخر قرأ النصوص قراءة تاريخية أفرغها من شموليتها، وليس غرضنا البحث عن حقيقة قول نصر فلذلك مقامات أخرى؛ ولكن غرضنا بيان موقف حداثي كنصر أبو زيد من حداثي كمحمد شحرور، ليكون الجميع على بيّنة من أن من يقدح فكر شحرور ليسوا السلفيين وحدهم، ومن ينتقد منهجية شحرور ليسوا المسلمين بحقّ فقط، ومن يفضح أكذوبات شحرور ورتوشاته التي يضعها عل أفكاره ليمرّرها ليسوا أساتذة العقيدة وباحثي العلم الشرعي، وإنما حداثيّ مثله التقاه في ذات الطريق فألقاه على قارعته.
وأخيرًا: مات محمد شحرور، وبقي حلال محمد بن عبد الله حلالًا، وبقي حرامه صلى الله عليه وسلم حرامًا.
مات شحرور وانزوى فكره في زاوية التاريخ يندب نفسه، فلا مكان له في سوق الأفكار.
مات شحرور وبقيت الأمة الإسلامية عزيزة بعقيدتها واستقامتها، والهدي الذي جاءها من الكتاب والسنة.
مات شحرور وتلك الأفكار التي تهدم أصول الدين وتعبث بثوابته كانت غبارًا ذرته الرياح في الفلوات، وبقي الإسلام عزيزًا بعقائده وشرائعه ودفاع شبابه عنه.
وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه، وسلم تسليما كثيرا.
ـــــــــــــــــــــــ
(المراجع)
([1]) في مركز سلف كتاب بعنوان: (بيت العنكوت.. الظاهرة الشحرورية وأخواتها).
([2]) انظر مقالا له بعنوان: “المنهج النفعي”، مجلة الهلال، العدد الثالث – مارس من عام 1992م، (ص: 59).
([3]) انظر مقالا له بعنوان: “لماذا طغت التلفيقية على مشروعات تجديد الإسلام؟”، مجلة الهلال، العدد العاشر – أكتوبر من عام 1991م، (ص: 18).
([4]) انظر: المرجع السابق (ص: 20).
([5]) انظر مقالا له بعنوان: “المنهج النفعي” في مجلة الهلال، العدد الثالث – مارس من عام 1992م، (ص: 57).
([6]) انظر: مقدمة كتاب الكتاب والقرآن (ص: 29).
([7]) النص والسلطة والحقيقة (ص: 116).
([8]) انظر مقالا له بعنوان: “المنهج النفعي”، مجلة الهلال، العدد الثالث – مارس من عام 1992م، (57- 58).
([10]) النص السلطة الحقيقة (ص: 116).
([11]) نحو أصول جديدة في الفقه الإسلامي (ص: 160).
([12]) الكتاب والقرآن (ص: 30).
([13]) انظر مقالا له بعنوان: “المنهج النفعي”، مجلة الهلال، العدد الثالث – مارس من عام 1992م، (ص: 57).
([16]) انظر مقالا له بعنوان: “لماذا طغت التلفيقية على مشروعات تجديد الإسلام؟”، مجلة الهلال، العدد العاشر-اكتوبر من عام 1991م (22- 23).
([17]) النص السلطة الحقيقة (ص: 116).
([18]) الكتاب والقرآن (ص: 491).
([19]) المرجع السابق (ص: 607-608).
([20]) النص السلطة الحقيقة (ص: 138).
([21]) انظر مقالا له بعنوان: “لماذا طغت التلفيقية على مشروعات تجديد الإسلام؟”، مجلة الهلال، العدد العاشر – أكتوبر من عام 1991م (ص: 26).
([22]) انظر: المرجع السابق (ص: 21-22).
([23]) النص والسلطة والحقيقة (ص: 115).
([24]) انظر مقالا له بعنوان: “المنهج النفعي”، مجلة الهلال، العدد الثالث – مارس من عام 1992م، (ص: 58).
([25]) النص السلطة الحقيقة (ص: 141).
([26]) انظر مقالا له بعنوان: “لماذا طغت التلفيقية على مشروعات تجديد الإسلام؟”، مجلة الهلال، العدد العاشر – أكتوبر من عام 1991م، (ص: 27).