إرادة الله عز وجل (عقيدةُ المسلم فيها، وأهميتها في زمن الأوبئة)
للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة
مقدمة:
إنَّ القدَرَ سِرُّ الله في خَلقه، ولا ينتَهي إلى عِلمه ذو نفس، والناس تحت القدر سائرون، لا يخرجون عن المكتوب، ولا يفعلون غير المراد لله سبحانه؛ لأنهم في ملكه وتحت قدرته، واعتقاد المسلم في القدر اعتقادًا صحيحًا يجعله ذا نفس مطمئنَّة؛ لأنه يرضى بقضاء الله وقدره، وهو على عِلم بأن المقدور لا يرَدُّ والمدفوع لا يَأتي، وقد استقرَّ هذا الاعتقاد عند الصحابة رضوان الله عليهم، فتواتروا على هذا المعنى، فعن ابن الديلميِّ قال: وقع في نفسِي شيءٌ من هذا القدر خشيت أن يُفسد عليَّ ديني وأمري، فأتيتُ أبيَّ بنَ كعب فقلت: أبا المنذر، إنه قد وقَع في نفسي شيء من هذا القدر، فخشيت على ديني وأمري، فحدِّثني من ذلك بشيء؛ لعلَّ اللهَ أن ينفعني به، فقال: لو أنَّ الله عذَّب أهل سماواته وأهل أرضه لعذَّبهم وهو غير ظالم لهم، ولو رحمهم لكانت رحمتُه خيرًا لهم من أعمالهم، ولو كان لك مثل جبل أحد ذهبًا -أو: مثل جبل أحد تنفقه في سبيل الله- ما قبل منك حتى تؤمن بالقدر، فتعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك، وأن ما أخطأك لم يكن ليصيبك، وأنك إن متَّ على غير هذا دخلت النار، ولا عليك أن تأتي أخي عبد الله بن مسعود فتسأله، فأتيت عبد الله فسألته، فذكر مثل ما قال أبي، وقال لي: ولا عليك أن تأتي حذيفةَ، فأتيتُ حذيفةَ فسألته، فقال: مثل ما قالا، وقال: ائت زيدَ بن ثابت فاسأله، فأتيت زيدَ بن ثابت فسألته، فقال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «لو أنَّ الله عذَّب أهل سماواته وأهل أرضه لعذبهم وهو غير ظالم لهم، ولو رحمهم لكانت رحمته خيرًا لهم من أعمالهم، ولو كان لك مثل أحد ذهبا -أو: مثل جبل أحد ذهبا تنفقه في سبيل الله- ما قبله منك حتى تؤمن بالقدر كله، فتعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك، وما أخطأك لم يكن ليصيبك، وأنك إن متَّ على غير هذا دخلت النار»([1]).
والناس في القدر أصناف، فشرُّ الخلق من يحتج بالقدر لنفسه ولا يراه حجة لغيره؛ يستند إليه في الذنوب والمعائب، ولا يطمئن إليه في المصائب، كما قال بعض العلماء: “أنت عند الطاعة قدريٌّ، وعند المعصية جبريّ، أيّ مذهب وافق هواك تمذهبت به”. وبإزاء هؤلاء خير الخلق الذين يصبرون على المصائب ويستغفرون من المعائب، وأما الصنف الثالث فهم الذين لا ينظرون إلى القدر لا في المعائب ولا في المصائب التي هي من أفعال العباد، بل يضيفون ذلك كله إلى العبد، وإذا أساءوا استغفروا وهذا حسن؛ لكن إذا أصابتهم مصيبة بفعل العبد لم ينظروا إلى القدر الذي مضى به عليهم، ولا يقولون لمن قصر في حقهم: دعوه؛ فلو قضي شيء لكان، لا سيما وقد تكون تلك المصيبة بسبب ذنوبهم، فلا ينظرون إليها([2]).
وهذا الاعتقاد وهذا السلوك هو الذي نحن بصدد دراسته والآن، فنشرح معنى الإرادة والمعاني المتداخلة معها، وعلاقة كل ذلك بما يجري على الإنسان في حياته اليومية.
الفرق بين المشيئة والإرادة والمحبة:
الإرادة طلب الشيء والرغبة في حصوله، فإذا ساندها الفعل فهي مشيئة؛ لأن فِعلَ أَرادَ في أصله اللغوي يطلق على عموم الأسباب([3])، والقصد إلى الفعل يسمَّى إرادة، وبعض أهل اللغة سوى بينهما كما فعل صاحب “مختار الصحاح”، فجعل الإرادة هي المشيئة والمشيئة هي الإرادة([4]). والإرادة في اللغة ليست مرادفة للمحبة، لكنها قد توافقها، قال ثعلب: الإرادة تكون محبة وغير محبة؛ فأما قوله:
إذا ما المرء كان أبوه عبس فحسبك ما تريد إلى الكلام
فإنما عداه بـ(إلى)؛ لأن فيه معنى الذي يحوجك أو يجيئك إلى الكلام؛ ومثله قول كثير:
أريد لأنسى ذكرها فكأنما تمثل لي ليلى بكل سبيل
أي: أريد أن أنسى. قال ابن سيده: وأرى سيبويه قد حكى: (إرادتي بهذا لك) أي: قصدي بهذا لك. وقوله عز وجل: {فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا يُرِيدُ أَن يَنقَضَّ فَأَقَامَهُ} [الكهف: 77]، أي: أقامه الخضر، وقال: {يُرِيدُ} والإرادة إنما تكون من الحيوان، والجدار لا يريد إرادة حقيقية؛ لأن تهيُؤَه للسقوط قد ظهر كما تظهر أفعال المريدين([5]).
وقال العسكري: “الفرق بين الإرادة والمشيئة: أن الإرادة تكون لما يتراخى وقته ولما لا يتراخى، والمشيئة لما لم يتراخ وقته، والشاهد أنك تقول: فعلت كذا شاء زيد أو أبى، فيقابل بها إباءه، وذلك إنما يكون عند محاولة الفعل، وكذلك مشيئته إنما تكون بدلا من ذلك في حاله”([6]).
منزلة المشيئة:
المشيئة مرتبةٌ من مراتب القضاء والقدر وقد يعبر عنها العلماء بالقضاء والقدر، وهي مرتبة تسبق الخلق، فالله قبل أن يخلق المقدور فإنه يقدِّره ويريده سبحانه وتعالى، يقول ابن القيم رحمه الله: “فما شاء كان، وما لم يشأ لم يكن، هذا عموم التوحيد الذي لا يقوم إلا به، والمسلمون من أولهم إلى آخرهم مجمعون على أنه ما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن، وخالفهم في ذلك من ليس منهم في هذا الموضع، وإن كان منهم في موضع آخر، فجوَّزوا أن يكون في الوجود ما لا يشاء الله، وأن يشاء ما لا يكون، وخالف الرسل كلهم وأتباعهم من نفى مشيئة الله بالكلية، ولم يثبت له سبحانه مشيئةً واختيارًا أوجد بها الخلق، كما يقوله طوائف من أعداء الرسل من الفلاسفة وأتباعهم، والقرآن والسنة مملوآن بتكذيب الطائفتين”([7]).
بين الإرادة والمحبة:
وهذا باب ضل فيه خلق كثير، فادعوا أن الإرادة هي عين المحبة، وإنَّ كلَّ ما أراده الله فهو يحبُّه، وتأوَّلوا قول الله عز وجل: {إِن تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنكُمْ وَلاَ يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ} [الزمر: 7]، وقوله سبحانه: {وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيِهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الفَسَاد} [البقرة: 205]، فأوَّلوا ذلك بأن الله لا يحبُّه ولا يرضاه لعباده المؤمنين، أو أنه لم يشرعه، وقال أبو الحسن: المحبة هي الإرادة نفسها، وكذلك الرضا والاصطفاء، وهو سبحانه يريد الكفر، ويرضاه كفرًا قبيحًا معاقبًا عليه([8]).
والذي عليه أهل السنة جميعا أن الله لا يرضى الكفر ولا يريده شرعًا، وهذه المسألة لا تصحُّ إلا بالتفريق بين أمرين هما: الإرادة الكونية والإرادة الشرعية.
فالإرادة الكونية: هي الإرادة الشاملة لجميع الموجودات، خيرًا كانت أو شرًّا، كفرًا كانت أو معصيةً، فلا يخرج عنها شيء البتَّة، فالله سبحانه وتعالى له الخلق والأمر، فالخلق قضاؤه وقدرُه، والأمر دينه وشرعُه، ولا خروجَ لأحدٍ عن حكمِه الكونيِّ القدريِّ، فقد قال سبحانه: {وَلَوْ شَاء اللّهُ مَا اقْتَتَلُواْ وَلَـكِنَّ اللّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيد} [البقرة: 253]. قال ابن أبي العز الحنفي: “وأما الإرادة الكونية فهي: الإرادة المذكورة في قول المسلمين: ما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن. والفرق ثابت بين إرادة المريد أن يفعل، وبين إرادته من غيره أن يفعل، فإذا أراد الفاعل أن يفعل فعلًا فهذه الإرادة معلَّقة بفعلِه، وإذا أراد من غيره أن يفعل فعلًا فهذه الإرادة لفعل الغير، وكلا النوعين معقول للناس، والأمر يستلزم الإرادة الثانية دون الأولى، فالله تعالى إذا أمر العباد بأمر فقد يريد إعانة المأمور على ما أمر به، وقد لا يريد ذلك، وإن كان مريدًا منه فعله.
وتحقيق هذا مما يبيِّن فصلَ النزاع في: أمر الله تعالى هل هو مستلزم لإرادته أم لا؟ فهو سبحانه أمَر الخلق على ألسُن رسله عليهم السلام بما ينفعهم، ونهاهم عما يضرُّهم، ولكن منهم من أراد أن يخلقَ فعلَه، فأراد سبحانه أن يخلقَ ذلك الفعل ويجعلَه فاعلًا له, ومنهم من لم يرد أن يخلقَ فعلَه، فجهَة خلقه سبحانه لأفعال العباد وغيرها من المخلوقات غيرُ جهةِ أمره للعبد على وجه البيان لما هو مصلحة للعبد أو مفسدة، وهو سبحانه إذ أمر فرعون وأبا لهب وغيرهما بالإيمان كان قد بيَّن لهم ما ينفعهم ويصلِحهم إذا فعلوه، ولا يلزم إذا أمَرهم أن يعينَهم، بل قد يكون في خلقِه لهم ذلك الفعلَ وإعانتهم عليه وجهُ مفسدة من حيث هو فعلٌ له، فإنه يخلق ما يخلق لحكمة، ولا يلزم إذا كان الفعل المأمور به مصلحة للمأمور إذا فعله أن يكون مصلحة للآمر إذا فعله هو أو جعل المأمور فاعلًا له, فأين جهة الخلق من جهة الأمر؟! فالواحد من الناس يأمر غيره وينهاه مريدًا النصيحة ومبيِّنا لما ينفعه، وإن كان مع ذلك لا يريد أن يعينَه على ذلك الفعل؛ إذ ليس كل ما كان مصلحتي في أن آمر به غيري وأنصحه يكون مصلحتي في أن أعاونه أنا عليه، بل قد تكون مصلحتي إرادة ما يضادُّه، فجهة أمره لغيره نصحًا غيرُ جهة فعله لنفسِه، وإذا أمكن الفرق في حقِّ المخلوقين فهو في حق الله أولى بالإمكان”([9]).
وهذه الإرادة مستلزمةٌ للوقوع، لا ينفع معها سبب، ولا يردُّها رادٌّ، قال الله سبحانه: {وَلاَ يَنفَعُكُم نُصحي إن أَرَدت أَن أَنصَحَ لَكُم إن كَانَ اللهُ يُريدُ أَن يُغويَكُم هُوَ رَبكُم وَإلَيه تُرجَعُون} [هود: 34].
وأما الإرادة الشرعية فهي: ما طلبه الله من عباده شرعًا، فإنه يحبُّه ويرضاه، وهذه ليست مستلزمةً للوقوع، قال شيخ الإسلام رحمه الله: “الإرادةُ الدينيَّة الشرعيَّة، وهي محبَّة المراد ورضاه، ومحبة أهله والرضا عنهم وجزاؤهم بالحسنى، كما قال تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة: 185]، وقوله تعالى: {مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مِّنْ حَرَجٍ وَلَٰكِن يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ} [المائدة: 6]، وقوله: {يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ * وَاللَّهُ يُرِيدُ أَن يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَن تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا * يُرِيدُ اللَّهُ أَن يُخَفِّفَ عَنكُمْ وَخُلِقَ الْإِنسَانُ ضَعِيفًا} [النساء: 26-28]. فهذه الإرادة لا تستلزم وقوعَ المراد، إلا أن يتعلَّق به النوع الأول من الإرادة”([10]).
وقد فصل في هذا التعلّق وذكَر أنه على أربعة أقسام:
أحدها: ما تعلَّقت به الإرادتان، وهو ما وقع في الوجود من الأعمال الصالحة، فإنَّ الله أراده إرادةَ دين وشرع فأمر به وأحبه ورضيَه، وأراده إرادةَ كونٍ فوقع، ولولا ذلك لما كان.
والثاني: ما تعلَّقت به الإرادة الدينيَّة فقط، وهو ما أمر الله به من الأعمال الصالحة، فعصى ذلك الأمر الكفارُ والفجّارُ، فتلك كلُّها إرادة دِينٍ، وهو يحبُّها ويرضاها لو وقعت ولو لم تقع.
والثالث: ما تعلَّقت به الإرادة الكونيَّة فقط، وهو ما قدَّره وشاءه من الحوادث التي لم يأمر بها؛ كالمباحات والمعاصي، فإنه لم يأمُر بها ولم يرضها ولم يحبَّها؛ إذ هو لا يأمر بالفحشاء، ولا يرضى لعباده الكفر، ولولا مشيئته وقدرتُه وخلقُه لها لما كانت، ولما وجدت؛ فإنه ما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن.
والرابع: ما لم تتعلَّق به هذه الإرادة، ولا هذه، فهذا ما لم يكن من أنواع المباحات والمعاصي.
وإذا كان كذلك فمقتضى اللام في قوله: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56] هذه الإرادة الدينية الشرعية، وهذه قد يقع مرادُها، وقد لا يقع. والمعنى: أن الغاية التي يحبُّ لهم ويرضى لهم والتي أُمِروا بفعلها هي العبادة، فهو العمل الذي خلقَ العباد له، أي: هو الذي يحصل كمالهم وصلاحُهم الذي به يكونون مرضيِّين محبوبين، فمن لم تحصل منه هذه الغاية كان عادِمًا لما يحبّ ويرضى، ويراد له الإرادة الدينية التي فيها سعادته ونجاته، وعادمًا لكماله وصلاحه العدمَ المستلزم فسادَه وعذابَه([11]).
وهذا التفصيل هو الذي يندفع به الإشكال الوارد على كثير من الناس في وقوع ما لا يرضاه الله عز وجل في هذا الكون، فيقع الإشكال: هل الله يحبّه مع قُبحه أو يبغضه فيقع في كونه ما لا يريد؟!
اعتقاد المسلم حكمة الله عز وجل فيما يريد:
لا يستقيم قَدَم الإسلام للمسلِم إلا إذا استقرَّ في قلبه أن الله لا يريد الشيءَ إلا لحكمة، ولا يفعله إلا لحكمة، فأفعاله سبحانه تتَّسق مع حكمته وعلمه، وهذا المعنى هو منطوق القرآن وصحيح السنة، وبه تكلَّم السلف، قال ابن الوزير رحمه الله: “وَبعد: فإن إثبات حكمَة الله تَعَالَى مَعلُوم في كتاب الله وَسنة رَسُول الله صلى الله عَلَيه وَسلم، بَيِّنٌ لَا يُدفع، مَكشُوفٌ لَا يتقنَّع، مدحًا وثناء، كَمَا اشتَمَلت عَلَيه النصُوص القرآنية والأسماء الحسنى، وأسئلة وجوابات كَمَا تبين في قصة مُوسَى وَالخضر وآدَم وملائكة السمَوَات، أَلا ترى أَنك إذا تَأَملتَ سُؤال المَلَائكَة وَمَا أُجيب عَلَيهم به عرفتَ فيه مَا اتَّفق عَلَيه العُقَلَاء من تقبيح الشر المَحض الذي لَا خيرَ فيه، وَلَا في عواقبه وغاياته، دون الشر المُرَاد لأجل الخَير؟! وَذَلكَ بَينٌ في إظهار الله تَعَالَى لَهُم صَلَاح آدم عَلَيه السلَام وَعِلمه وتقدُّمَه في القُرب من الله تَعَالَى، أَلا ترَاهُ سُبحَانَهُ وَتَعَالَى يَقُول لَهُم بعد بَيَان ذَلك لَهُم: {أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ} [البقرة: 33]؟! فَبيَّن لَهُم أَنَّ خلقًا فيهم مثل هَذَا العَبد الصالح وَالنبي المكلَّم المقرَّب المُستَخلف المعلّم لَا يحكم عَلَيه بأَنهُ شَر مَحض وَلَا حكمَة فيه وَلَا خير يقصد به، وَأنهُ لَا نَكَارَة في شَر يكون للخير كالصف للدر والترب للبر والفصاد للعافية وَالقصاص للحياة، وأمثال ذَلك مما هُوَ صَحيحٌ شهير في حكمَة الحُكَمَاء وعقول الفطناء”([12]).
وحكمة الله عامَّةٌ في كلِّ ما يصدر عنه من فعلٍ، لا تتخلف فيه، فلا يفعل شيئًا عبثًا، ولا يقضي به، ولا يأمر به، ولا ينهى عنه، وتتبُّعها في جميع المخلوقات أمرٌ تعجز عنه عقول البشر، فالكلام على الأشياء والحكم عليها حُسنًا وقُبحًا لا يتأتَى إلا بإثبات حكمة الله عز وجل في خلقه، يقول شيخ الإسلام رحمه الله: “والكلام في النبوَّة فرعٌ على إثبات الحكمة التي توجب فعل ما تقتضيه الحكمة، ويمتنع فعل ما تنفيه، فتقول: هو سبحانه وتعالى حكيمٌ، يضع كلَّ شيء في موضعه المناسب له، فلا يجوز عليه أن يُسوِّيَ بين جنس الصادق والكاذب، والعادل والظالم، والعالم والجاهل، والمصلح والمفسد، بل يُفرق بين هذه الأنواع بما يناسب الصادق العادل العالم المصلح من الكرامة، وما يناسب الكاذب الظالم الجاهل المفسد من الهوان؛ كما قال تعالى: {أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ} [ص: 28]، وقال: {أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ} [القلم: 35]، وهذا استفهام إنكار على من ظنَّ ذلك، وهو يتضمَّن تقرير المخاطبين، واعترافهم بأن هذا لا يجوز عليه، وأن ذلك بينٌ معروف، يجب اعترافهم به، وإقرارهم به، كما يقال لمن ادَّعى أمرًا ممتنعًا مثل نعمٍ كثيرة في موضع صغير، فيُقال له: أهاهنا كانت هذه النعم؟! أي: هذا ممتنع فاعترف بالحقّ. وإذا ادَّعى على من هو معروف بالصدق والأمانة أنه نقب داره وأخذ ماله، قيل له: أهذا فعل هذا؟!”([13]).
والحكمة مرتبطة بالإرادة والعلم ارتباطَ اللوازم بملزومها، فهي لا تنفكُّ عنها، يقول شيخ الإسلام رحمه الله: “حكمةُ الله من لوازم ذاته، وإذا ثبَت أنه حكيم، وأن حكمته لازمة لعلمِه، ولازمةٌ لإرادته، وهما لازمان لذاته، كانت حكمته من لوازم ذاته؛ فيمتنع أن يفعل إلا لحكمة وبحكمةٍ، ويمتنع أن يَفعل على خلاف الحكمة”([14]).
وحكمة الله عز وجل كما هي في خَلقه موجودةٌ ملحوظَة، فكذلك هي في شرعه وأمره، لا يتخلف عنها شيء من ذلك، فكلُّ ما أمر بِه من الاعتقاد والعمل فإنه مندرجٌ تحت هذا الأصل العظيم، وهي حكمته في التشريع وفي مقاصده، وهي “حكمة الله التي اختصَّ بها دون خلقه، وطوى بساط الإحاطة بها عنهم، ولم يُطلعهم منها إلا على ما نسبته إلى ما خفي عنهم كقطرة من بحار الدنيا، فكم لله سبحانه من حكمةٍ في ذلك الذي أخرمه صغيرًا! وحكمةٍ في الذي مدَّ له في العمر حتى بلغ وأسلم! وحكمةٍ في الذي أبقاه حتى بلغ وكفَر! ولو كان كلّ من علم أنه إذا بلغ يكفر يخترمه صغيرًا لتعطَّل الجهاد والعبودية التي يحبها الله ويرضاها، ولم يكن هناك معارض، وكان الناس أمة واحدة، ولم تظهر آياته وعجائبه في الأمم، ووقائعه وأيامه في أعدائه، وإقامة الحجج وجدال أهل الباطل بما يدحض شبهتهم وينصر الحق ويظهره على الباطل، إلى أضعاف أضعاف ذلك من الحكم التي لا يحصيها إلا الله، والله سبحانه يحبّ ظهور أسمائه وصفاته في الخليقة، فلو اخترم كلَّ من علم أنه يكفر إذا بلغ لفات ذلك، وفواته مناف لكمال تلك الأسماء والصفات واقتضائها لآثارها”([15]).
ومشاهدة الحكمة مَرتَبة من مراتب العبودية، قَلَّ من يصل إليها إلا بجهد عظيمٍ وتوفيق من الله سبحانه وتعالى، يقول ابن القيم رحمه الله واصفًا مشهدَ الحكمة: “وهو أن يشهد حكمةَ الله في تخليته بينه وبين الذنب وإقداره عليه وتهيئتة أسبابَه له، وأنه لو شاء لعصمه وحال بينه وبينه، ولكنه خلَّى بينه وبينه لحِكَم عظيمة لا يعلم مجموعَها إلا الله”([16]).
وهذه الحكمة التي قلنا: إنها تجري في جميع الكائنات، وكذلك في الأوامر والنواهي، وأنها من لوازم الذات والإرادة، فإنَّ أمرها قد يَعمَى على كثير من العباد، وهذه التعمية قد توقِعُه في العناد، وقد توقعه في غرائب من الاعتقاد لا يستطيع معها حيلةً، ولا يهتدي معها سبيلا، وآكد ذلك ما يكون وقت البلاء، فلزم على المؤمن أن تنسجمَ عقيدته مع حكمةِ الباري سبحانه وتعالى، فلا يقع في المحذور الذي هو التشكِّي من البلاء، وعدم الرضا بالقضاء والقدر.
علاقة البلاء بالإرادة:
يلزم المسلمَ أن يعتقدَ من قلبه أن البلاءَ -ومنه الفيروسات- مخلوقات مسخرة من الله سبحانه وتعالى لا تخرج عن أمره، ولها أسبابٌ بها تكون، وأخرى بها تُدفَع، وهي لا تقع إلا بذنب من الناس ومخالفة لأمر الله سبحانه وتعالى، قال الله سبحانه: {ظَهَرَ الفَسَادُ فِي البَرِّ وَالبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [الروم: 41].
وهو مع هذا كله لن يصيب الشخصَ إلا بتقديرٍ سابق عليه، قال سبحانه: {قُل لَّن يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلَانَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ } [التوبة: 51].
وهو إذا أصابَ المؤمنَ فإنه إما يكفِّر عنه ذنبًا، أو ترفع به درجته، فعن صهيب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «عَجَبًا لأَمْرِ المُؤْمِنِ، إنَّ أمْرَهُ كُلَّهُ خَيْرٌ، وليسَ ذاكَ لأَحَدٍ إلَّا لِلْمُؤْمِنِ، إنْ أصابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ فَكانَ خَيْرًا له، وإنْ أصابَتْهُ ضَرَّاءُ صَبَرَ فَكانَ خَيْرًا له»([17])، وقال عليه الصلاة والسلام: «إنَّ العبدَ إذا سبقَت له من الله منزلة لم يبلغها بعَمَله ابتلاه الله في جسدِهِ أو في مالِه أو في ولده، ثم صبره على ذلك، حتى يبلغه المنزلة التي سبقت له من الله تعالى»([18])، وقال عليه الصلاة والسلام: «إن عظم الجزاء مع عظم البلاء، وإن الله تعالى إذا أحبَّ قوما ابتلاهم، فمن رضي فله الرضا، ومن سخط فله السخط»([19]).
فأنت ترى ما في البلاء بالنسبة للمؤمن من تكفير الذنوب ورفع الدرجات، كل ذلك بعد الصبر والرضا بقضاء الله وقدره، فقد قال عليه الصلاة والسلام: «لا يزال البلاء بالمؤمن أو المؤمنة في جسده وفي ماله وفي ولده حتى يلقى الله وما عليه من خطيئة»([20]).
والمؤمنُ حين يتبنَّى الإيمانَ عقيدةً لا بدَّ أن يوطِّن نفسَه على البلاء، وعلى الصبر؛ فإنَّ الدنيا لن تستقرَّ له على حال واحدة يرضاها، فالله عز وجل يبتليه ليختبرَ إيمانه ويزهر حقيقته، وهذا البلاء لا ينضبطُ إلا بالحكمة الخفيَّة، والتي لا سبيل إلى الاطلاع عليها إلا بتعريفٍ من الباري بذلك، لكنْ حسْبُ المسلِم أن يعتقدَ إجمالًا أن البلاءَ واقعٌ به لحكمةٍ، قال الله سبحانه: {وَلَنَبْلُوَنَّكُم بِشَيْءٍ مِّنَ الخَوْفِ وَالجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الأَمَوَالِ وَالأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ} [البقرة: 155]. قوله: {وَالأَنفُسِ} قَالَ الشافعي: “يَعني بالأَمرَاض”([21]).
فالمؤمن لا يعبد الله سبحانه وتعالى على جهة واحدةٍ وهي جهة السرّاء، فيتقلب عند وجود الضّراء، بل لا بدَّ له من الإيمان بالله والرضا عنه في جمع الأحوال، قال سبحانه: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَّعْبُدُ اللهَ عَلَى حَرفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الخُسْرَانُ الْمُبِينُ} [الحج: 11].
قال البغوي رحمه الله: “قَولُهُ تَعَالَى: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَّعْبُدُ اللهَ عَلَى حَرفٍ} الآية نزلت في قوم من الأعراب كانوا يقدمون المدينة مهاجرينَ من بادِيَتهم، فكان أحدُهم إذا قدِم المدينةَ فصحَّ بها جسمُه ونتجَت فرسُه مهرًا حسنًا وولدت امرأته غُلامًا وكثُر ماله قال: هذا دينٌ حسَن، وقد أصبتُ فيه خيرًا، واطمأنَّ إليه، وإن أصابه مرض وولدت امرأته جارية وأجهضت فرسه وقلَّ ماله قال: ما أصبتُ منذُ دخلت في هذا الدين إلا شرًّا، فينقلب عن دينه، وذلك الفتنةُ، فأنزل الله عز وجل: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَّعْبُدُ اللهَ عَلَى حَرفٍ}، أكثر المفسرين قالوا: على شكٍّ، وأصله من حرف الشيء وهو طرفه، نحو حرف الجبل والحائط الذي القائم عليه غيرُ مستقِرٍّ، فقيل للشاكِّ في الدين: إنه يعبُد الله على حرف؛ لأنه على طرفٍ وجانب منَ الدين، لم يدخل فيه على الثبات والتمكُّن، كالقائم على حرف الجبل مضطرب غير مستقرّ، يَعرضُ أن يقَعَ في أحد جانبَيِ الطرف لضَعف قيامه، ولو عبدوا الله في الشكر على السراءِ والصبر على الضراءِ لم يكونوا على حرف”([22]).
فإذا علِم المؤمنُ هذا لم يبقَ له إلا التسليمُ بقضاء الله وقدره، واليقين أنه جارٍ عليه، فلا يدفعه بالضجر ولا الجزع، وإنما يدفعه ويغالبه بِقضاء وقدر مثله، مع الرضا في كلتا الحالتين عن الله سبحانه وتعالى، قال الله عز وجل: {مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا إِنَّ ذَٰلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ * لِّكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَىٰ مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ } [الحديد: 22، 23]. فالرضا بالقضاء من أسباب السعادة، والسخط على القضاء من أسباب الشقاوة؛ لأن الراضي بالقضاء يوجب له أن لا يأسى على ما فاته، ولا يفرح بما آتاه، وذلك من أفضل الإيمان.
أما عدم أساه على الفائت فظاهر، وأما عدم فرحه بما آتاه فلأنَّه يعلم أن المصيبةَ فيه مكتوبةٌ من قبل حصوله، فكيف يفرح بشيء يعلم أن له فيه مصيبةً منتظرة ولا بد؟!
ومَن ملأ قلبه من الرضا بالقدر مَلأ الله صدرَه غِنى وأمنًا وقناعة، وفرَّغ قلبه لمحبته، والإنابة إليه، والتوكل عليه. ومن فاته حظه من الرضا امتلأ قلبه بضدِّ ذلك، واشتغل عمَّا فيه سعادته وفلاحة.
فالرضا يفرغ القلب لله، والسخط يفرغ القلب من الله.
والرضا يثمر الشكر الذي هو من أعلى مقامات الإيمان، بل هو حقيقة الإيمان، والسخط يثمر ضده، وهو كفر النعم، وربما أثمر له كفر المنعم. فإذا رضي العبد عن ربه في جميع الحالات أوجب له ذلك شكره، فيكون من الراضين الشاكرين. وإذا فاته الرضا كان من الساخطين، وسلك سبيل الكافرين.
وإن الرضا ينفي عن العبد آفات الحرص والكَلَب على الدنيا، وذلك رأس كلِّ خطيئة، وأصل كل بليَّة، وأساس كل رزية، فرضاه عن ربه في جميع الحالات ينفي عنه مادَّةَ هذه الآفات، والشيطان إنما يظفَر بالإنسان غالبًا عند السخط والشهوة، فهناك يصطاده، ولا سيما إذا استحكم سخطه؛ فإنه يقول ما لا يرضي الرب، ويفعل ما لا يرضيه، وينوي ما لا يرضيه([23]).
فلا بدَّ من اعتقاد كمال القدرة لله سبحانه وتعالى معَ كمال المشيئة ونفاذِهما في الخلق، وأن الجزع لا يردُّهما، والخوف لا يدفعُهما، وليس للمؤمن من سبيلٍ يأخُذ به إلا الاعتماد على الأسباب المشروعة اعتمادًا لا ينافي التوكلَ على الله سبحانه وتعالى، مع كمال الرضا عن الله وحُسن الظن به، واتِّباع وصيَّة النبي صلى الله عليه وسلم في الصبر على مُرِّ القضاء ونفي الشرِّ عن الله عز وجل، قال تعالى: {مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَن يُؤْمِن بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [التغابن: 11]. قال ابن مسعود: “هو الرجل تصيبه المصيبة، فيعلم أنها من عند الله، فيرضي ويسلم، وقوله تعالى: {يَهْدِ قَلْبَهُ} هُدَاه لقلبه هو زيادة في إيمانه”([24]).
قال الإمام أبو الحسن الأشعري رحمه الله: “أجمعوا على أنَّ على جميع الخلق الرّضَا بأحكام الله التي أمرهم أن يرضَوا بها، والتسليم في جميع ذلك لأمره، والصبر على قضائه، والانتهاء إلى طاعته فيما دعاهم إلى فعله أو تركه”([25]).
وهذا الرضا أمرُه ليس بالهيِّن على الناس؛ لأن البلاءَ وقتُ فَزَع وشدَّةٍ، لا يثبُت فيه إلا صحيحُ الإسلام قويُّ الإيمان صافِي القلبِ، وقد أحسن الطحاوي رحمه الله حين قال: “وَلَا تَثبُتُ قَدَمُ الإسلَام إلا عَلَى ظَهر التسليم والاستسلام، فَمَن رَامَ علمَ مَا حُظرَ عَنهُ علمُهُ وَلَم يَقنَع بالتسليم فَهمُهُ حَجَبَهُ مَرَامُهُ عَن خالص التوحيد وصافي المعرفة وصحيح الإيمان، فَيَتَذَبذَبُ بَينَ الكُفر وَالإيمَان وَالتصديق وَالتكذيب وَالإقرَار والإنكار، موسوسًا تائهًا شاكًّا، لا مؤمنًا مصدقًا، ولا جاحدًا مكذِّبًا”([26]).
وهذا الرضا هو من تحكيم الله عز وجل وتحكيم رسوله صلى الله عليه وسلم فيما يشكل على الناس.
العدوى والوباء والإرادة:
لا شكَّ أنَّ هذه المعاني قد يقَع بينها تعارُضٌ وهو ما أوقع أهلَ الجاهلية في الشرك، وذلك باعتقادهم أنَّ العدوَى تأتي من تلقاء نفسِها، وأنَّ الوباء متعلِّق ببلدٍ معيَّن أو بشخص دون توقُّف على مشيئة الله سبحانه وتعالى، ومن هنا جاء نفي الشارع للعدوى، وهو نفيُ أنها تقع بنفسِها، لا نفي وجودها في الواقع المشاهَد، قال ابن قتيبة: “وَالعَدوَى جنسَان:
أحدهما: عدوى الجذام، فإنَّ المجذومَ تشتدُّ رائحته حتى يسقم مَن أطال مجالسته ومحادثته، وكذلك المرأة تكون تحت المجذوم، فتضاجِعه في شعار واحِد، فيوصل إليها الأذى، وربما جذمت، وكذلك ولده ينزعون في الكبر إِليه، وكذلك من كان به سُلّ ودقّ ونقب، والأطباء تأمر أن لا يجالَس المسلول، ولا المجذوم، ولا يريدون بذلك معنى العدوى، وإنما يريدون به معنى تغيُّر الرائحة، وأنها قد تسقم من أطال اشتمامَها، والأطباء أبعد الناس عن الإيمان بيُمنٍ وشُؤم، وكذلك النقبة تكون بالبعير -وهو جرب رطب- فإذا خالط الإبل، أو حاكها وأوى في مباركها، وصل إليها بالماء الذي يسيل منه، وبالنطف نحو ما به، فهذا هو المعنى الذي قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم: «لا يورد ذو عاهةٍ على مصح»([27]) كره أن يخالط المعيوه الصحيح؛ لئلا ينالَه من نطفه وحكَّته نحوٌ ممَّا به.
قال: وأما الجنس الآخرُ من العدوى فهو الطاعون، ينزل ببلد، فيخرج منه خوفَ العدوى، وقد قال صلى الله عليه وسلم: «إذا وقع ببلدٍ وأنتم به فلا تخرجوا منه، وإذا كان ببلد فلا تدخلوه»([28]). يريد بقوله: لا تخرجوا من البلد إذا كان فيه كأنكم تظنون أن الفرارَ مِن قدر الله ينجيكم من الله، ويريد: إذا كان ببلد فلا تدخلوه، أي: مقامكم في الموضع الذي لا طاعونَ فيه أسكنُ لقلوبكم وأطيبُ لعيشكم، ومن ذلك المرأةُ تُعرَف بالشُّؤم أو الدار، فينال الرجل مكروه أو جائحة، فيقول: أعدَتْني بشؤمها، فهذا هو العدوى الذي قال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا عدوى»([29]).
وقالت فرقة أخرى: بل الأمر باجتناب المجذوم والفرار منه على الاستحباب والاختيار والإرشاد، وأما الأكل معه ففعله لبيان الجواز، وأن هذا ليس بحرام.
وقالت فرقة أخرى: بل الخطاب بهذين الخطابين جزئي لا كلي، فكل واحد خاطبه النبي صلى الله عليه وسلم بما يليق بحاله، فبعض الناس يكون قويَّ الإيمان، قويَّ التوكل، تدفع قوةُ توكُّله قوةَ العدوى، كما تدفع قوةُ الطبيعة قوةَ العلة فتبطلها، وبعض الناس لا يقوَى على ذلك، فخاطبه بالاحتياط والأخذ بالتحفُّظ، وكذلك هو صلى الله عليه وسلم فعل الحالتين معا؛ لتقتدي به الأمة فيهما، فيأخذ من قوي من أمته بطريقة التوكُّل والقوة والثقة بالله، ويأخذ من ضعف منهم بطريقة التحفُّظ والاحتياط، وهما طريقان صحيحان، أحدهما للمؤمن القويِّ، والآخر للمؤمن الضعيف، فتكون لكل واحد من الطائفتين حجة، وقدوة بحسب حالهم وما يناسبهم، وهذا كما أنه صلى الله عليه وسلم كوى، وأثنى على تارك الكي، وقرن تركه بالتوكل وترك الطيرة، ولهذا نظائر كثيرة، وهذه طريقة لطيفة حسنة جدًّا، من أعطاها حقَّها، ورزق فقه نفسه فيها، أزالت عنه تعارضًا كثيرًا يظنُّه بالسنة الصحيحة.
وذهبت فرقة أخرى إلى أن الأمر بالفرار منه ومجانبته لأمر طبيعي، وهو انتقال الداء منه بواسطة الملامسة والمخالطة والرائحة إلى الصحيح، وهذا يكون مع تكرير المخالطة والملامسة له، وأما أكله معه مقدارًا يسيرًا من الزمان لمصلحةٍ راجحة فلا بأسَ به، ولا تحصل العدوى من مرة واحدةٍ ولحظة واحدة، فنهى سدًّا للذريعة وحماية للصحة، وخالطه مخالطةً ما للحاجة والمصلحة، فلا تعارض بين الأمرين”([30]).
وحاصل الأمر أن ما يقع من العدوى بسبب الأوبئة هو بإذن من الله وتقديره، وقوة الوباء لا تعني أنه لا يرتفع، بل هو باب أمل وسرعة استجابة عند التعلُّق بالله سبحانه وتعالى. والحمد لله رب العالمين.
ـــــــــــــــــــــــ
(المراجع)
([1]) أخرجه أبو داود (4699)، وابن ماجه (77) واللفظ له، وصححه الذهبي في المهذب (8/ 4212).
([2]) ينظر: مجموع الفتاوى (8/ 113-114).
([3]) ينظر: لسان العرب (2/ 582).
([8]) ينظر: مجموع فتاوى شيخ الإسلام (17/ 108).
([9]) شرح العقيدة الطحاوية (ص: 115).
([10]) مجموع الفتاوى (8/ 188).
([11]) ينظر: مجموع الفتاوى (8/ 189).
([12]) إيثار الحق على الخلق (ص: 200).
([14]) المرجع السابق (2/ 922).
([16]) طريق الهجرتين (ص: 169).
([19]) أخرجه الترمذي (2396) وقال: “هذا حديث حسن غريب من هذا الوجه”.
([20]) أخرجه الترمذي (2399)، وأحمد (7859)، وقال الترمذي: “حديث حسن صحيح”، وصححه ابن حبان (2913)، والحاكم (1/ 346)، والبغوي في شرح السنة (1436).
([21]) ينظر: تفسير القرطبي (2/ 174).
([23]) ينظر: مدارج السالكين (2/ 202) بتصرّف.
([24]) ينظر: الإيمان لابن تيمية (ص: 172).
([25]) رسالة إلى أهل الثغر (ص: 138).
([26]) العقيدة الطحاوية (ص: 43).
([27]) أخرجه البخاري (5771)، ومسلم (2221)، بلفظ: «لا يُورِدُ مُمْرِضٌ علَى مُصِحٍّ».
([28]) أخرجه البخاري (5728)، ومسلم (2218)، بلفظ: «إذا سَمِعْتُمْ بالطَّاعُونِ بأَرْضٍ فلا تَدْخُلُوها، وإذا وقَعَ بأَرْضٍ وأَنْتُمْ بها فلا تَخْرُجُوا مِنْها».