الوهَّابيونَ والحِجاز – لأبي إسحاق إبراهيم بن محمَّد أَطفيَّش-
للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة
تقديم
الحمد لله ربِّ العالمين، والصلاةُ والسلام على أشرفِ المرسلين، نبيِّنا محمَّد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: فإنَّ أيَّ دعوةٍ أو فكرٍ إنما المعتمَد في الحكم عليها ومعرفةِ مدى قربها من الحقِّ أو بُعدها عنه هو النظرُ فيما تدعو إليه من أصول وقواعد، وفيما ترنو إليه من أهدافٍ ومقاصد، وليس المعتمد في ذلك مدح المحالفين ولا قدح المخالفين، فكما قال الأوَّل:
وَعَينُ الرِضا عَن كُلِّ عَيبٍ كَليلَةٌ وَلَكِنَّ عَينَ السُخطِ تُبدي الْمَساوِيا
إلا أن المدح والثناء إذا صدر من مخالفٍ في المنهج والانتماء، فإنه يكون قرينةً قويَّة على سلوك سواء السبيل، ويرقى من مرتبة القرائن إلى مرتبة البيِّنات إذا كان مدعَّمًا بالبرهان والدليل.
وقد كان لدعوة التوحيد التي قادها وقام بها الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله حظ ٌّكبير ونصيب وافرٌ من ثناءات من لا ينتَمي إليها من العلماء، ممن لم يحرِّكهم لتدوين شهاداتهم طمعٌ ولا رغبة، ولم يحمِلهم على تخليد تزكياتهم فرَق ولا رهبة، وإنَّما الشهادة بالحقِّ والقيام بالقسط.
ومِن ذلك هذا المقال الذي نُقدِّمه للقرَّاء الكرام، للشيخ إبراهيم أطفيَّش رحمه الله، وهو من علماء الأباضية، ومن دعاة الإصلاح، كتبه بعد بسط الملك عبد العزيز رحمه الله نفوذَه على الحجاز، إذ أشاع المناوئون لدعوة التوحيد أن الملك الجديد سيمنع الحجَّ عن كلِّ مخالفٍ لدعوته، وأنه سيُكرِه الناسَ على مذهبه، فكتب الشيخ إبراهيم أطفيَّش مقالًا بعنوان: (الوهَّابيونَ والحِجاز)، ونشره في مجلَّة المنهاج([1]) في شهر شعبان سنة 1344هـ، فنَّد فيه تلك المزاعم، وأبطل تلك الشائعات، بموضوعيَّة علميَّة؛ بعيدًا عن التفريق والتّحزيب، ومجتنبًا الحجبَ والتَّعصيب.
وقبل سرد مقالِه يحسن ذكرُ شيء من سيرته وحاله، فهو إبراهيم بن محمد إبراهيم بن يوسف أطفيَّش أبو إسحاق، أديب من علماء الإباضية، ومن كبار العاملين في سبيل وحدة المسلمين. ولد في قرية بني يزقن بوادي ميزاب سنة 1305هـ/ 1888م، وقرأ الفقه والنحو والتفسير بعد حفظ القرآن الكريم على عمّ والده الشيخ محمد بن يوسف أطفيَّش، ولازمه حتى وفاته سنة 1332هـ/ 1914م، فانتقل إلى تونس وحضر دروسًا في جامع الزيتونة، وشارك في حركتها الوطنية بزعامة الشيخ عبد العزيز الثعالبي، ولا سيما مقاومة الاستعمار الفرنسي، فأبعده الفرنسيون، فلجأ إلى القاهرة سنة 1341هـ/ 1923م، وأنشأ فيها مجلة “المنهاج”، ونشر كتبا علميَّة لبعض أعلام الإباضية، وصنف كتاب (الدعاية إلى سبيل المؤمنين)، وشرع في كتابه (تاريخ الإباضية) وعاجلته المنية قبل إتمامه، وعمل في دار الكتب المصرية، فشارك في تحقيق بعض كتب التراث الكبيرة كتفسير القرطبي وأجزاء من (نهاية الأرب)، ورجع إلى السياسة فكان ممثلا لدولة إمامة عمان في جامعة الدول العربية، ورئيسا لوفدها الرسمي في هيئة الأمم المتحدة (دورة 1960م)، وكان قبل ذلك سنة 1375هـ/ 1956م أسَّس أول مكتب سياسي لدولة عمان في القاهرة، وشهد بعض المؤتمرات الإسلامية في القدس وبغداد، وكان مرجعًا للفتوى في المذهب الإباضي عند المشارقة والمغاربة، له مقالات سياسية واجتماعية كثيرة نشرت في المجلات والصحف المصرية، وتوفي بالقاهرة سنة 1385هـ/ 1965م([2]).
وهذا أوان عرض مقال الشيخ إبراهيم أطفيَّش رحمه الله تعالى.
الوهَّابيونَ والحِجاز
لأبي إسحاق إبراهيم بن محمَّد أَطفيَّش
استَخلَص الوهَّابيُّون الحجازَ من سلطة الشريف الملك حسين، وهذا الاستخلاصُ لا شكَّ أنه حصَل في ظروفٍ حرِجَة جدًّا بالنسبة إلى الملك حُسين، وغيرُ خَفيٍّ أنَّ حسينَ بن عليٍّ امتنع عن إمضاء المعاهدَة الحجازيَّة الإنكليزية، وعن إمضاء معاهدة فرساي([3])، وهذا الأمر لا يكابر منصفٌ في حقيقته، ولا نبحثُ اليومَ في الأسباب الداعية إلى امتناع الملك حسين من ذلك؛ إذ لمْ يكن الغرضَ، وإنما نقول: إنَّ إنكلترا ذات المطامع الواسعةِ في الجزيرة العربية تخلَّت -على أقلِّ تعبير- عن مساعدة حليفِها عند المحنةِ، وتركت حبلَ الذي شدَّ عضدها وكان الأسَّ الأكبر في ثورةِ الشرق على غارِبه، فعقب هذا هَجمَ ابن سعود على عدوِّه، وساعدته الأحوال الكثيرةُ، فاستحوذ أخيرًا على الحجاز، وهنا لا بدَّ أن لا نجهلَ أنَّ كلَّ شعبٍ يريد تكوينَ مملكة أو الاستيلاء على قطرٍ لا بد أنْ يعتوِرَه في سبيله أمور، ولا سيَّما إذا كانت هناك محرِّكات خارجةٌ عن الحال الطبعيَّة كيَدٍ خفيَّة.
ولقد اضطربتِ الأفكار والظنون وذهبت مذاهبَ شتى في تكوين هذه المملكة الفتيَّة بجزيرة العرب، وتحوَّلت الأنظارُ إلى ذلك القطر المقدَّس الذي جعله اللهُ بلدًا آمنًا تُجبى إليه ثمراتُ كلِّ شيء رزقًا من لدنه، وحرمًا قيامًا للناس، ولا نغرق في البحث عن مذاهب الأفكار والظنون ومبلغها من الصحَّة الآن، غير أننا نريد أنْ نلمَّ بحالٍ خاصَّة، وهي تضاربُ الأفكار في مضايقةِ الوهَّابيِّين لأصحاب المذاهب الأخرى، الأمر الذي أصبح ذائعًا في كلِّ الأندية، وليس ببعيدٍ أنْ تكونَ هنالك دعايةٌ ضدَّ هؤلاء، كما أنَّه ليس ببعيدٍ أنْ يصِحَّ ما يُذاع، ولا سيَّما وقد عُرف أولئك القوم بالتطرُّف والتعصُّب الجافِّ([4])، غير أننا لم نزل نستسفِر([5]) عن المسائل التي هي محطُّ النقد والشنآن؛ لعلّنا نقف على حقيقةٍ محدودةٍ يظهر فيها حكمُ الله، ولئنِ انحصر الخلافُ في منع الناس عن الاستغاثة بغير الله، وهدم مباني بُنيت على القبور، والمنع من زيارتها مع ارتكاب محرمات، فهذا موافقٌ لحكم الشريعة الغراءِ التي جاءت لتطهير النفوس من كل شائبة من شوائب الشرك واعتقاد التأثير في شيء من الخلق، ومخاطبته والتقرب إليه، كل ذلك وما يقرب منه منافٍ كلَّ المنافاة للشريعة، ولنَدَع أهواءَ الناس، ولنقرَّ الحقَّ بدون خوفِ لومة لائم.
ولكن إذا منعوا من مجرد الزيارة التي هي تَذكرةٌ للناس بسلَفِهم ومؤسِّس مجدِهم من كبار الصحابة، وآثار النبي r كمسجد الجنِّ -﴿وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن مَّنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَن يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَىٰ فِي خَرَابِهَا﴾ الآيةَ [البقرة: 114]-، وزيارة غار حراء وأشباهها، فلا ريبَ أنَّ هذا منافٍ كذلك لحكم الشرعِ الشريف، فإنَّ مرتكبَ ما يحرم أثناء زيارته يجب منعه من كبيرته، ولا يحلُّ منعُه([6]) من سوى ذلك، ولا سيَّما أن زيارة بعضِ الأماكن تُعدُّ من نوافل المناسك، ولا نظنّ أن المنعَ مِن متمِّمات الحجّ -كما يذكُر بعضٌ- واقعٌ؛ لأنَّ المناسك بين سائر المذاهب الإسلامية واحدةٌ للحج إلا جزئياتٍ يسيرة إذا طرحنا الحشوَ الذي يتَّخذه الرعاع من عامة الأمة، وما أدخله في أفكارهم أولئك المطوِّفون ليستدرُّوا به أموالهم.
وإذا صحَّ أنَّ الوهابيين يمنعون الناس عن أداء مناسكهم مضايقَةً لهم لحملهم على مذهبهم -وهذا مُستَبعَدٌ صحَّتُه- فإنهم قد ارتكبوا شيئًا إدًّا، وصرفوا الأمةَ الإسلامية عن حجّ بيت ربِّها، وعطَّلوا بذلك ركنًا من أركان الدين، وبلَّغوا غلاةَ الاستعمار أمنيةً طالما حلموا بها، وهي قطع ذلك الاجتماع الإسلاميِّ الأعظم، أو المؤتمر الدينيّ الذي تتجلَّى فيه السكينة والابتهال إلى الله والانقطاع إليه سبحانه في بكاءٍ وخشوع.
ولقد كثر التساؤل عن أشياء يُذاع وقوعُها هنالك، ولا نتصدَّى لها ما لمْ نتبيَّن الحقيقةَ الثابتة التي يتأتَّى لنا معها الحكم. أما منعُهم الطوافَ بالقبور ولمسَها والنداء فيها ولثمَها، ومنعُ تعاطي الدخان والمكيّفات، فهذا حقٌّ لا مريةَ فيه، ومن كمال النفوس أن تكون منصفةً لكلّ أحد مهما كانت نزعَته.
إنَّ من البدع المحرَّمة التي ليست من الدين في شيء الطوافَ بالقبور، ليت شعري مِن أين جاء الجوازُ لمستبيحِيه ولم يجز إلا بالكَعبة، وبسواها خروج عن الحقِّ إلى الهيئة الجاهلية؟! ورُوي أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال عند طوافه بالكعبة مخاطبًا الحجر الأسود: «إنكَ حجرٌ لا تضرُّ ولا تنفع، لولا أني رأيتُ رسول الله r يُقبّلكَ ما قبّلتكَ»([7]).
إنَّ الحرمين الشريفين ملكٌ لله تعالى وحقٌّ مشاعٌ([8]) بين سائر الأمة الإسلامية، لا محَلَّ لأي ذي سلطان أنْ يمنعَ الناسَ عن إقامة شعائرهم على ما تلقَّوه على قاعدة مذهبهم ما لمْ يخالفوا نصَّ الكتاب وصحيح السُّنة، كما يجب منع مرتكب كلِّ مخالفة لهما، والحقُّ أحقُّ أنْ يُتَّبَع، والحيلولة بين الناس والحج للمخالفة المذهبية إلحادٌ في الحرم بظلمٍ، وإنَّا لنرجو أن لا يقفَ في هذا الموقف البعيدِ عن الحق الملكُ ابن سعود؛ لِما نتوسَّم فيه من العقل والرغبة في تأسيس الملك على سنَن جمع الكلمة العربيَّة، وتكوين وحدةٍ لها، وعمارة الحجاز حتى يكون ملجأً للمسلمين ومأرِزًا يأمنون إليه من غوائل الدهر، أما الغلوُّ والتطرُّف فلا يولدان غير ما لا يرجوه كلُّ مسلمٍ غيور.
ــــــــــــــــــــــــــــــ
(المراجع)
([1]) مجلَّة المنهاج (1/ 417-419). وهي مجلة علمية سياسية اجتماعية نصف شهريّة، لصاحبها أبي إسحاق إبراهيم أطفيَّش الجزائري، تصدر بالقاهرة غرَّةَ كلّ شهر عربي، بالمطبعة السلفية.
([2]) ينظر لترجمته: الأعلام للزركلي (1/ 73)، ومعجم أعلام الجزائر لعادل نويهض (ص: 19).
([4]) وهذا أيضًا من الدعاية التي تأثَّر بها الشيخ صاحبُ المقال، أو هو من تعميم الأحكام.
([5]) كذا، ولعلَّه يقصد طلبَ الكشف.