علاقةُ الجن بالبشر في حدود النصوص الشرعية
للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة
مقدَّمة:
عالم الغيب عالم محجوبٌ عن الإنسان، لا يطَّلع عليه إلا بقدرِ ما تسمح به السنَن الكونيَّة، وما يقدِّمه الوحيُ مِن معلومات يقينيَّة عنه، ومع ندرةِ المعلومات عن العوالم الغيبية وقلة الوسائل لمعرفتها فإنَّ الإنسان يأبى إلا أن يحاول الاطِّلاع عليها، ويظلُّ طلبُ الحقيقة عنها سؤالًا يشغل بالَ الإنسان، وعادةً ما تكون الإجابةُ عليه ضعيفةً ومتعثِّرة، وأحيانا تكون كاذبةً ومضَلِّلةً.
ومن المخلوقات المؤثِّرة في هذا الكون والتي تشغل بال جميعِ الأمَم الجنُّ، فهم عالَم مِن عالم الغيب، محجوبون عنَّا، لا نراهم، ومع ذلك لهم وجودٌ في حياتنا بشكل قويٍّ ومؤثِّر، لا يخفى على دارس للمجتمعات وتصوُّراتها العقدية أيًّا كانت.
وقد خفَض الناس في شأنهم ورفعوا، بَين من عبدهم وبين من جعَل بينهم وبين خالق الكون نسبًا، قال تعالى: {وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَبًا وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُون} [الصافات: 158].
ومنهم من جعلهم شركاءَ لله خلقوا كخلقِه، وقد سرد القرآن بعضًا من معتقدات البشر في الجنِّ وبيَّن بطلانَها؛ ولكن كلُّ ذلك يدلُّ على وجودهم، وعلى أن لهم دورًا بدرجةٍ ما في حياةِ الناس، سواء بإغوائهم أو بالإضرار بهم أو بأذيتهم ونحو ذلك، ونحن في هذه الورقة العلمية -بعون الله تعالى- سندرسُ علاقتَهم بالبشر في حدود ما بيَّنتهُ النصوص الشرعية وأوضحته.
تعريف الجن ونشأتهم:
الجنُّ كأيِّ مخلوقٍ لهم ماهيَّة تحدِّدهم وبدايةُ وجودٍ، ومعرفةُ الماهية ومعرفةُ البداية كلتاهما تحدِّدان بعضًا من الحقيقة، وتعكسان أحيانًا نوعَ العلاقة ببقيَّة الأشياءِ؛ لأنَّ الماهية تحدِّد الشيء وحدود طاقته، وما يجوز عليه وما يستحيل، وقد تحدَّث القرآن عن خلقة الجن وطبيعتها، كما تحدَّثت السنة عن أصنافهم، ولا بأس قبل ذلك أن نعرف بهم.
تعريف الجن في اللغة:
الجِنُّ بالكسر: اسم جِنس جمعيّ، واحده: جِنِّيٌّ، وهو مأخوذ من الاجتِنان، وهو التسترُّ والاختفاء. وقد سُمّوا بذلك لاجتنانهم من الناسِ فلا يُرون، والجمع جِنَّان وهم الجِنَّة([1]).
وهم عند الإطلاق يقابلون الإنس؛ لارتباطهم بهم منذ الخلق الأول، وكونهم مخاطبينَ بشرائعهم، وقد اهتمَّ العرب قديمًا بهذا العالم، ونسجوا حوله عقائدَ وخرافات، وسمَّوه بأسماء بناءً على طبيعةِ علاقته بالبشر، قال الجوهري: “الجِنُّ خِلَافُ الإِنسِ، وَالْوَاحِدُ جنِّيٌّ، سُمِّيَتْ بِذَلِكَ لأَنها تَخْفَى وَلَا تُرَى”([2]).
قَالَ أبو عمر الزَّاهِد: الحن كلاب الْجِنّ وسفلتهم، وَقَالَ الْجَوْهَرِي: الجان أبو الْجِنّ، وَالْجمع جينان، مثل حَائِط وحيطان، والجان أيضًا حيَّة بَيْضَاء([3]). قال ابن عبد البر: الجن عند أهل الكلام والعلم باللسان على مراتب:
١- فإذا ذكروا الجن خالصًا قالوا: جني.
٢- فإذا أرادوا أنه مما يسكن مع الناس، قالوا: عامر، والجمع عُمَّار.
٣- فإن كان مما يعرض للصبيان قالوا: أرواح.
٤- فإن خبث وتعرَّض قالوا: شيطان.
٥- فإن زاد أمره على ذلك وقوِيَ أمرُه قالوا: عِفريت”([4]).
نشأة الجن:
لا علم للبشر بتاريخ نشأة الجنّ ووجودهم على وجه التحقيق، والمؤكد أن وجودهم كان سابقا لوجود البشر يدل عليه أمور:
منها: قول الله سبحانه وتعالى: {وَالْجَانَّ خَلَقْنَاهُ مِن قَبْلُ مِن نَّارِ السَّمُوم} [الحجر: 27]، قال قتادة: “وهو إبليس خُلق قبل آدم، وإنما خلق آدم آخر الخلق، فحسده عدوّ الله إبليس على ما أعطاه الله من الكرامة، فقال: أنا ناريٌّ، وهذا طينيٌّ، فكانت السجدة لآدم، والطاعة لله تعالى ذكره”([5]).
وقال سبحانه: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِّنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لاَّ يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَـئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَـئِكَ هُمُ الْغَافِلُون} [الأعراف: 179]. قال الألوسي رحمه الله: “وتقديم الجن لأنهم أعرف من الإنس في الاتصاف بما ذكر من الصفات، وأكثر عددًا، وأقدم خلقًا”([6]).
ومنها: قوله سبحانه: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاء وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُون} [البقرة: 30]. فقد قال الملائكة ذلك بمقتضى التجربة السابقة مع الجن، ومعرفتهم بما فعلوا في الأرض، عن ابن عباس قال: “أول من سكن الأرضَ الجنُّ، فأفسدوا فيها، وسفكوا فيها الدماء، وقتل بعضهم بعضًا، فبعث الله إليهم إبليس في جند من الملائكة، فقتلهم إبليس ومن معه حتى ألحقهم بجزائر البحور وأطراف الجبال، ثم خلق آدم فأسكنه إياها، فلذلك قال: {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً}”. قال الطبري: “فعلى هذا القول: {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً} من الجن، يخلفونهم فيها، فيسكنونها ويعمرونها”([7]).
وعن الربيع بن أنس في قوله تعالى: {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً} [البقرة: 30] قال: “إِنَّ اللَّهَ خَلَقَ الْمَلَائِكَةَ يَوْمَ الْأَرْبِعَاءِ، وَخَلَقَ الْجِنَّ يَوْمَ الْخَمِيسِ، وَخَلَقَ آدَمَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ”. قَالَ: “فَكَفَرَ قَوْمٌ مِنَ الْجِنِّ، فَكَانَتِ الْمَلَائِكَةُ تَهْبِطُ إِلَيْهِمْ فِي الْأَرْضِ فَتُقَاتِلُهُمْ، فَكَانَتِ الدِّمَاءُ، وَكَانَ الْفَسَادُ فِي الْأَرْضِ”([8]).
أصل خلقة الجن:
تحدث القرآن عن أصل خلقتهم، وعن طبيعة ما خُلقوا منه، فبين أنهم خُلقوا من النار عموما، ومن لهبها خصوصا، قال سبحانه: {وَالْجَانَّ خَلَقْنَاهُ مِن قَبْلُ مِن نَّارِ السَّمُوم} [الحجر: 27]. قد فسّر السموم بلهب النّار([9])، وقال سبحانه: {وَخَلَقَ الْجَانَّ مِن مَّارِجٍ مِّن نَّار} [الرحمن: 15]. عن الحسن قَالَ: “مِنْ لَهَبِ النَّارِ”([10])، وفي الحديث عن عائشة أم المؤمنين رضى الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «خُلِقت الملائكةُ مِن نور، وخُلق الجانّ من مارجٍ من نارٍ، وخُلق آدم مما وصف لكم»([11]).
أصناف الجن:
لا شكَّ أنَّ الجنَّ أنواع وأصناف، وهذه الأصناف نقصد بها أصنافَ الخلق، وليس أصناف الدّين، فهم حين خُلقوا خُلقوا على هيئات متعدِّدة ومختلفة، فعَنْ أَبِي ثَعْلَبَةَ الْخُشَنِيِّ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «الجن على ثلاثة أصناف: صنف كلاب وحيات، وصنف يطيرون في الهواء، وصنف يحلّون ويظعنون»([12]).
هذه أصناف منهم، أو يظهرون في هيئاتها، كل ذلك محتمِل ووارد، قال ابن تيمية: “والجنّ يتصوَّرون في صور الإنس والبهائم، فيتصورون في صور الحيات والعقارب وغيرها، وفي صور الإبل والبقر والغنم والخيل والبغال والحمير، وفي صور الطير، وفي صور بني آدم، كما أتى الشيطانُ قريشًا في صورة سراقة بن مالك بن جعشم لما أرادوا الخروج إلى بدر”([13]).
وقد جعل الله عز وجل للجن القدرة على التشكل في أشكال مختلفة، والقيام بأعمال لا يقدر عليها الإنس عادة، ولا شك أن الحديث عن خلقتهم وهيئتهم التي خلقوا عليها يطوي لنا بساط النقاش في وجودهم، فذلك كله فرع الوجود. وفي هذا المبحث نناقش علاقتهم بالبشر، ونقصد بالعلاقة مطلقَها بغضِّ النظر هل هي شرعيَّة أم لا؛ لأن مرادَنا الحديثُ عما أثبتته النصوص وتحدَّثت عنه من علاقة بين الجن والإنس، وكيفية التواصل معهم، والحكم في إثبات الأشياء غير الحكم عليها شرعًا، فوجود الشيء وثبوتُه وإقرار الشرع بذلك لا يعني جوازَه شرعًا، لكن هذا الإثبات يلزمُ المكلَّف أن لا ينكر ما تحدَّثت عنه النصوص وشهدت به؛ لأن في إنكاره له تجنٍّيا على الشرع وتكذيبًا لله ورسوله صلى الله عليه وسلم.
نماذج من علاقة الجن بالإنس في ضوء النصوص الشرع:
علاقة الجنِّ بالإنس تعود إلى اللحظة الأولى لوجود الإنس، فمنذ ذلك الوقت والجنُّ لهم علاقةٌ بالبشر، ولهم تأثير في حياتهم، وقد أثبتَ القرآن علاقة تفاعليَّة بينهم، يفسِّرها إغواء الجنّ لبعض البشر واتّباعهم لهم في بعض ما يقولون، وهذا يدل على أن أصلَ العلاقة هو الشرّ، والخير طارئ واستثناء فيها، ويمكن من خلال حديث القرآن عن الجنّ ملاحظةُ عِدَّة مظاهر لهذه العلاقة:
المظهر الأول: الإغواء والتزيين:
فقد تحدث القرآن عن صنف من الجن يعمل على إضلال البشر عن طريق تزيين بعض المنهيات لهم، وذكر القرآن لذلك أمثلة مجملةً ومفصلة، فمن الأمثلة المجملة قوله: {فَلَوْلا إِذْ جَاءهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُواْ وَلَـكِن قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُواْ يَعْمَلُون} [الأنعام: 43]، وقال تعالى: {وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لاَ غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَّكُمْ فَلَمَّا تَرَاءتِ الْفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ وَقَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِّنكُمْ إِنِّي أَرَى مَا لاَ تَرَوْنَ إِنِّيَ أَخَافُ اللّهَ وَاللّهُ شَدِيدُ الْعِقَاب} [الأنفال: 48]، وقال تعالى: {تَاللّهِ لَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِّن قَبْلِكَ فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيم} [النحل: 63]، وقال تعالى: {وَجَدتُّهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِن دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لاَ يَهْتَدُون} [النمل: 24]، وقال تعالى: {وَعَادًا وَثَمُودَ وَقَد تَّبَيَّنَ لَكُم مِّن مَّسَاكِنِهِمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَكَانُوا مُسْتَبْصِرِين} [العنكبوت: 38].
المظهر الثاني: تشكيل عقائد فاسدة لدى البشر وإضلالهم بها:
كالتشريع من دون الله والوحي بالباطل، وقد ذكر القرآن لذلك أمثلة، وهذه أمثلتها مفصَّلة، قال تعالى: {وَلاَ تَأْكُلُواْ مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُون} [الأنعام: 121]. قال السمعاني: “ومجادلتهم كانت في أكل الميتة؛ فإنهم كانوا يقولون: إنكم تأكلون مما قتلتموه، ولا تأكلون مما قتله الله تعالى فنزلت الآية. {وَإِن أطعتموهم إِنَّكُم لمشركون} يَعْنِي: باستحلال الْميتَة”([14]).
وقال تعالى: {كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلإِنسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِّنكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِين} [الحشر: 16]. فعن طاوس قال: “كان رجل من بني إسرائيل، وكان عابدًا، وكان ربما داوى المجانين، وكانت امرأة جميلة أخذها الجنون، فجيء بها إليه، فتركت عنده، فأعجبته فوقع عليها، فحملت، فجاءه الشيطان فقال: إن عُلِم بهذا افتضحتَ، فاقتلها وأرقِدها في بيتك، فقتلها ودَفنها، فجاء أهلُها بعد ذلك بزمانٍ يسألونه عنها، فقال: ماتَت، فلم يتَّهموه لصلاحه فيهم ورضاه، فجاءهم الشيطان فقال: إنها لم تمت، ولكنه وقع عليها فحملت فقتلها ودفنها، وهي في بيته في مكان كذا وكذا، فجاء أهلها فقالوا: ما نتَّهمك، ولكن أخبِرنا أين دفَنتَها؟ ومن كان معك؟ ففتَّشوا بيته فوجدوها حيث دفنها، فأُخِذ فسُجِن، فجاءه الشيطان، فقال: إن كنتَ تريد أن أخلِّصك مما أنت فيه، وتخرج منه، فاكفر بالله، فأطاع الشيطان وكفر، فأُخِذ فقُتِل، فتبرَأ منه الشيطان حينئذ”، قال طاوس: “فما أعلم إلا بهذه الآية أنزلت فيهِ: {كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلْإِنْسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ}”([15]).
ومن أمثلة تشكيل العقائد الفاسدة وإملائها ما ذكره الله عز وجل في سورة الجن عنهم، قال تعالى: {وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِّنَ الإِنسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِّنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا} [الجن: 6]. عن ابن عمر أن رجلا من بني تميم كان أجرأ شيء على الليل، وأنه نزل بأرض مجنة فاستوحش، فأناخ راحلته وعقلها وتوسَّدها وقال: أعوذ بعزيز هذا الوادي من شرِّ أهله، فأجاره رجل منهم يقال له: معيكر، فتى منهم كان أبوه سيِّدَهم، فأخذ حربة مسمومة ومشى بها إلى الناقة لينحرها، فلقيه معيكر دونَه فقال:
يا مالك بن مهلهل لا تبتئس … مهلا فدى لك محجري وإزاري
عن ناقة الإنسي لا تعرض لها … واختر إذا ورد المها أثواري
ماذا أردت إلى امرئ قد أجرته … وجعلته في ذمتي وقراري
تسعى إليه بحربة مسمومة … أف لقربك يا أبا العقار
فأجابه الفتى:
أأردت أن تعلو وتخفض ذكرنا … في غير مرزأة أبا العيزار
متنحلا شرفا لغيرك ذكره … فارحل فإن المجد للمرار
من كان منكم سيدا فيما مضى … إن الخيار هم بنو الأخيار
فاقصد لقصدك يا معيكر إنما … كان المجير مهلهل بن أثار
لولا الحياء وأن أهلك جيرة … لتمزقنك بقوة أظفاري
فقال: دعه، لا أنازع بواحد بعده، ففعل، وقدم الرجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فحدثه الحديث فقال: «إذا أصابت أحدكم وحشة بليل فليقل: أعوذ بكلمات الله التامات اللاتي لا يجاوزهن بر ولا فاجر من شر ما ذرأ في الأرض، وما يخرج منها، وما ينزل من السماء، وما يعرج فيها، ومن شر كل طارق، إلا طارقا يطرق بخير يا رحمن»، فأنزل الله عز وجل: {وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا} [الجن: ٦]([16]) أَيْ: إِثْمًا.
وعن كردم بن أبي سائب الأنصاري قال: خرجت مع أبي إلى المدينة في حاجة، وذلك أول ما ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة، فآوانا المبيت إلى راعي غنم، فلما انتصف النهار جاء ذئب، فأخذ حملا من الغنم، فوثب الراعي فقال: يا عامر الوادي جارك، فنادى مناد لا نراه، يقول: يا سرحان أرسله، فأتى الحمل يشتد حتى دخل الغنم ولم تصبه كدمة، فأنزل الله عز وجل على رسوله صلى الله عليه وسلم بمكة: {وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِّنَ الإِنسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِّنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا} [الجن: 6] يعني: زاد الإنس الجن باستعاذتهم بقادتهم رهقا. قال ابن عباس: إثما. قال مجاهد: طغيانا. قال مقاتل: غيًّا. قال الحسن: شرًّا. قال إبراهيم: عظمة. وذلك أنهم كانوا يزدادون بهذا التعوذ طغيانا يقولون: سُدنا الجنَّ والإنس، والرهق في كلام العرب: الإثم وغشيان المحارم([17]).
المظهر الثالث: تعليم السحر والكهانة والعرافة وسائر علوم الشر:
فهذه العلوم الضارة مصدرها الجنّ، ويعلمونها للبشر، فيحقِّق البشر من خلالها بعضَ الأغراض السيئة، ولا يفعلُونها إلا بمعصية لله ورسوله، وقد تحدَّث القرآن عن هذا المظهر وبيَّنه وأوضحه، فقال سبحانه: {وَاتَّبَعُواْ مَا تَتْلُواْ الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَـكِنَّ الشَّيْاطِينَ كَفَرُواْ يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولاَ إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلاَ تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُم بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُواْ لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاَقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْاْ بِهِ أَنفُسَهُمْ لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُون} [البقرة: 102].
قال ابن قتيبة رحمه الله: “وَجُمْلَتُهُ -على مَا ذكر ابن عَبَّاسٍ- أن سليمان صلى الله عليه وسلم لما عوقب وخلفه الشيطان في ملكه دَفَنت الشياطين في خزانته وموضع مصلاه سحرًا وأخذا ونيرنجات، فلما مات سليمان صلى الله عليه وسلم جاءت الشياطين إلى الناس، فقالوا: ألا ندلكم على الأمر الذي سُخِّرت به لسليمان الريحُ والجن ودانت له به الإنس؟ قالوا: بلى، فأتوا مصلاه وموضع كرسيه، فاستخرجوا ذلك منه. فقال العلماء من بني إسرائيل: ما هذا من دين الله، وما كان سليمان ساحرا، وقال سفلة الناس: سليمان كان أعلم منا، فسنعمل بهذا كما عمل. فقال الله تعالى: {وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُوا الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ} أي: اتبعت اليهود ما ترويه الشياطين. والتلاوة والرواية شيء واحد”([18]).
ومن هذا النوع ما ذكره الله سبحانه وتعالى في قوله: {وَيَوْمَ يِحْشُرُهُمْ جَمِيعًا يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُم مِّنَ الإِنسِ وَقَالَ أَوْلِيَاؤُهُم مِّنَ الإِنسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِيَ أَجَّلْتَ لَنَا قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا إِلاَّ مَا شَاء اللّهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَليمٌ} [الأنعام: 128].
قال ابن عطية رحمه الله: “وذلك في وجوه كثيرة، حكى الطبري وغيره أن الإنس كانت تستعيذ بالجن في الأودية ومواضع الخوف، وكانت الجن تتعظَّم على الإنس وتسودها كما يفعل الربي بالكاهن والمجير بالمستجير؛ إذ كان العربي إذا نزل واديا ينادي: يا رب الوادي، إني أستجير بك هذه الليلة، ثم يرى أن سلامته إنما هي بحفظ جني ذلك الوادي. فهذا استمتاع بعضهم ببعض. وهذا مثال في الاستمتاع، ولو تتبّع لبينت له وجوه أخر كلها دنياوية. وبلوغ الأجل المؤجّل، قال السدي: هو الموت الذي انتهى الكل منهم إليه، وقيل: هو الحشر، وقيل: هو الغاية التي انتهى جميعهم إليها من الاستمتاع، كأنهم أشاروا إلى أن ذلك بقدرك وقضائك إذ لكل كتاب أجل”([19]).
وَقِيلَ: “استمتاع الإنس بالجن ما كانوا يلقون إليهم من الأراجيف والسحر والكهانة، وتزيينهم لهم الأمور التي يهوونها، حتى يسهل فعلها عليهم، واستمتاع الجن بالإنس طاعة الإنس لهم فيما يزينون لهم من الضلالة والمعاصي. قال محمد بن كعب: هو طاعة بعضهم بعضا، وموافقة بعضهم لبعض، {وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِيَ أَجَّلْتَ لَنَا} يعني: القيامة والبعث”([20]).
هذا فيما يتعلق بالعقائد، بالإضافة إلى الوحي بالباطل والتكهن بالغيب الذي ذكر الله عز وجل، قال تعالى: {هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَن تَنَزَّلُ الشَّيَاطِين * تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيم * يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُون} [الشعراء: 221-223].
عن قتادة في قوله: {كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ} قال: “هم الكهنة، تسترق الجن السمع، ثم يأتون به إلى أوليائهم من الإنس”([21]).
المظهر الرابع: تأثر الجن بالإنس:
وهذا المظهر يتحدث عنه القرآن، وجلُّه عن الأنبياء، وأن بعض الجنّ اتَّبعهم وآمن بهم، وقد ثبت بالدليل القاطع أنهم مكلَّفون مأمورون بالشرائع السماوية، وقد تحدَّث القرآن عن تأثرهم بالوحي، قال تعالى: {قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِّنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا * يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَن نُّشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا} [الجن: 1، 2]، وقال تعالى: {وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِّنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِم مُّنذِرِين * قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنزِلَ مِن بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُّسْتَقِيم} [الأحقاف: 29، 30].
عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ} قال: “لما بعث النبي صلى الله عليه وسلم حرست السماء، فقالت الشياطين: ما حرست إلا لأمر حدث في الأرض، فبعث سرايا في الأرض، فوجدوا النبي صلى الله عليه وسلم قائما يصلي بأصحابه صلاة الفجر بنخلة وهو يقرأ، فاستمعوه حتى إذا فرغ ولَّوا إلى قومهم منذرين، قالُوا: {يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا} الْآيَة كُلُهَا([22]).
وقد سخر الله الجن لسليمان وخدموه كما قال تعالى: {وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ وَمِنَ الْجِنِّ مَن يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَمَن يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنَا نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ السَّعِير * يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاء مِن مَّحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَّاسِيَاتٍ اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشَّكُور} [سبأ: 12، 13].
عَنْ مُجَاهِدٍ: {يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ} قَالَ: “الْمَحَارِيبُ: بُنْيَانٌ دُونَ الْقُصُورِ، وَالتَّمَاثِيلُ مِنَ النُّحَّاسِ، {وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ} يَعْنِي: كَحِيَاضِ الْإِبِلِ، {وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ} يَعْنِي: الْعِظَامَ”([23]).
وقصة سليمان مع الجن مصرَّفَة في القرآن، وموضَّحة بما لا يسع المقام لذكره، فقد كانوا يحضرون مجالسه، ويأمرهم وينهاهم، وقد بين القرآن أنه يكلِّفهم ببعض المهمَّات الصعبة، قال تعالى: {وَمِنَ الشَّيَاطِينِ مَن يَغُوصُونَ لَهُ وَيَعْمَلُونَ عَمَلًا دُونَ ذَلِكَ وَكُنَّا لَهُمْ حَافِظِين} [الأنبياء: 82].
وقد بنى بعضُ الناس على قصِّة سليمان جوازَ التعامل مع الجن مطلقا؛ لأن ما كان معجزةً لنبيّ جاز أن يكون كرامةً لوليّ، ونسوا أنه يستثنَى من ذلك المعجزة الخاصَّة به، والتي إن وجدت عند غيره بطَلت نبوَّته كمُلك سليمان، فإنه خاصّ به؛ لأنه قال: {رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لاَّ يَنبَغِي لأَحَدٍ مِّنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّاب} [ص: 35]. والقرآن أنزله الله على نبيه، فمتى ما أنزل ما يشبِهه على غيره ففي ذلك إبطالٌ للنبوة وللإعجاز معًا، ومع ذلك فإنَّ التعامل مع الجنّ مقيَّد بالشرع، فلا يمنع بإطلاق، ولا يجاز بإطلاق، وإنما يقيَّد بنصوص الشرع وظاهره، فالأصل في التعامل معهم أنه محدد بقول الله تعالى: {وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُواْ اللّهَ إِنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَاب} [المائدة: 2].
وحاصل فقهِ المسألة أنَّ الإنسان إن تعاونَ مع الجنِّ في محرَّم فلا خلاف في حرمة ما فعل بين أهل العلم، أما الاستعانةُ بهم في مباحٍ فقد منعه بعض أهل العلم من الحنابلة([24]) والمالكية ورعًا، قال بعضهم: “لا يجوز الجُعل على إخراج الجانّ من الإِنسان؛ لأنَّه لا يعرف حقيقته، ولا يوقف عليه، ولا ينبغِي لأهل الورع فعلُه، ولا لغيرهم، وكذا الجُعل على حلّ المربوط والمسحور”([25]). وإن كان حاصل فقه المسألة عند المالكية أن العبرة في ذلك بالتجربة وما جرت به العادة في التعامل معهم([26]). وكلامهم في المسألة راجع إلى تفصيل آخر مفادُه عدم اشتراط المنفعة للجاعل كما هو مبين.
وقد فصل شيخ الإسلام في المسألة تفصيلًا جمع فيه بين النصوص، فقال: “الجن مع الإنس على أحوال:
فمن كان من الإنس يأمُر الجنَّ بما أمر الله به رسوله، ويأمر الإنسَ بذلك، فهذا من أفضل أولياء الله تعالى، وهو في ذلك من خلفاء الرسول ونوابه.
ومن كان يستعمِل الجنَّ في أمور مباحةٍ له، فهو كمن استعمَل الإنس في أمور مباحة له، وهذا كأن يأمرهم بما يجب عليهم، وينهاهم عما حرم عليهم، ويستعملهم في مباحات له، فيكون بمنزلة الملوك الذين يفعلون مثل ذلك.
هذا إذا قدِّر أنه من أولياء الله تعالى، فغايته أن يكونَ في عموم أولياء الله تعالى، مثل النبي الملِك مع العبد الرسول، كسليمان ويوسف مع إبراهيم وموسى وعيسى ومحمد، صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين.
ومن كان يستعمل الجنَّ فيما ينهى الله عنه ورسوله، إمَّا في الشرك، وإما في قتل معصوم الدم أو في العدوان عليهم بغير القتل كتمريضه وإنسائه العلم وغير ذلك من الظلم، وإما في فاحشة كجلب من يطلب منه الفاحشةَ، فهذا قدِ استعان بهم على الإثم والعدوان، ثم إن استعان بهم على الكفر فهو كافر، وإن استعان بهم على المعاصي فهو عاص، إمَّا فاسق، وإما مذنب غير فاسق.
وإن لم يكن تامَّ العلم بالشريعة، فاستعان بهم فيما يظنّ أنه من الكرامات، مثل أن يستعين بهم على الحجّ، أو أن يطيروا به عند السماع البدعي، أو أن يحملوه إلى عرفات ولا يحج الحج الشرعي الذي أمره الله به ورسوله، وأن يحملوه من مدينة إلى مدينة ونحو ذلك، فهذا مغرور قد مكروا به.
وكثير من هؤلاء قد لا يعرف أنَّ ذلك من الجنّ، بل قد سمع أن أولياءَ الله لهم كرامات وخوارق للعادات، وليس عنده من حقائق الإيمان ومعرفة القرآن ما يفرق به بين الكرامات الرحمانية وبين التلبيسات الشيطانية، فيمكرون به بحسب اعتقاده، فإن كان مشركًا يعبد الكواكبَ والأوثان أوهموه أنه ينتفِع بتلك العبادة، ويكون قصده الاستشفاع والتوسل ممن صوّر ذلك الصنم على صورته من ملك أو نبي أو شيخ صالح، فيظن أنه صالح، وتكون عبادته في الحقيقة للشيطان”([27]).
فهذا حاصل ما في الأمر من التعامل مع الجن وفق ضوابط الشرع، والعبرة في التعامل معهم بعدَم المخالفة للدليل، أو التوسّع في المباح الذي قد يوقِع في محرم، كما نص عليه المالكية.
المظهر الخامس: التأثير على البشر حسيًّا:
وذلك بإمراضهم أو ذهاب عقولهم وجنونهم، وكل هذا في مقدرة الجنّ، فقد ذكر الله سبحانه وتعالى عن أيوبَ عليه السلام أنه مرض بسبَب فعل الشيطان، قال تعالى: {وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَاب} [ص: 41].
قِيلَ: “بنُصب في بدني وعذاب في مالي وولدي، فعند ذلك استجاب له أرحم الراحمين، وأمره أن يقوم من مقامه، وأن يركض الأرض برجله، ففعل فأنبع الله عينا، وأمره أن يغتسل منها، فأذهب جميع ما كان في بدنه من الأذى، ثم أمره فضرب الأرض في مكان آخر، فأنبع له عينا أخرى، وأمره أن يشرب منها، فأذهبت ما كان في باطنه من السوء، وتكاملت العافية ظاهرا وباطنا”([28]).
وتأثيرهم على أجسام الإنس منصوص في الشرع، محال فيه إلى مشاهدة الأثر، قال عليه الصلاة والسلام: «مَا مِنْ مَوْلُودٍ يُولَدُ إِلَّا نَخَسَهُ الشَّيْطَانُ، فَيَسْتَهِلُّ صَارِخًا مِنْ نَخْسَةِ الشَّيْطَانِ، إِلَّا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ» ثُمَّ قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: اقْرَءُوا إِنْ شِئْتُمْ: {وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} [آل عمران: ٣٦]([29]). والنخس بالشَّيْء المحدد كرؤوس الْأَصَابِع([30]).
فإذا ثبت ذلك فإن القول بأن الوباء من فعل الشياطين لا يوجد ما يدفعه ولا ما ينفيه، بل هو وراد كما وقع لأيوب، وقد قال عليه الصلاة والسلام: «أتاني جبريل عليه السلام بالحمى والطاعون، فأمسكت الحمى بالمدينة، وأرسلت الطاعون إلى الشام، فالطاعون شهادة لأمتي، ورحمة لهم، ورجس على الكافرين»([31])، وفي الحديث الآخر عن الطاعون عن أبي موسى قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «فناء أمتي بالطعن والطاعون»، فقيل: يا رسول الله، هذا الطعن قد عرفناه، فما الطاعون؟ قال: «وخز أعدائكم من الجن، وفي كل شهداء»([32]).
قال ابن القيم رحمه الله: “وهذه العلل والأسباب ليس عند الأطباء ما يدفعها، كما ليس عندهم ما يدلّ عليها، والرسل تخبر بالأمور الغائبة، وهذه الآثار التي أدركوها من أمر الطاعون ليس معهم ما ينفي أن تكونَ بتوسّط الأرواح، فإن تأثير الأرواح في الطبيعة وأمراضها وهلاكها أمرٌ لا ينكره إلا من هو أجهل الناس بالأرواح وتأثيراتها، وانفعال الأجسام وطبائعها عنها، والله سبحانه قد يجعل لهذه الأرواح تصرّفًا في أجسام بني آدم عند حدوث الوباء وفساد الهواء، كما يجعل لها تصرُّفًا عند بعض المواد الرّديئة التي تحدث للنفوس هيئة رديئة، ولا سيما عند هيجان الدم والمرة السوداء، وعند هيجان المنيّ، فإن الأرواح الشيطانيّة تتمكَّن من فعلها بصاحب هذه العوارض ما لا تتمكَّن من غيره، ما لم يدفعها دافع أقوى من هذه الأسباب من الذكر والدعاء والابتهال والتضرع والصدقة وقراءة القرآن، فإنه يستنزل بذلك من الأرواح الملكية ما يقهَر هذه الأرواح الخبيثة، ويبطل شرَّها، ويدفع تأثيرها، وقد جرَّبنا نحن وغيرُنا هذا مرارًا لا يحصيها إلا الله، ورأينا لاستنزال هذه الأرواح الطيبة واستجلاب قربها تأثيرا عظيمًا في تقوية الطبيعة ودفع المواد الرديئة، وهذا يكون قبل استحكامها وتمكّنها، ولا يكاد ينخرم، فمن وفَّقه الله بادر عند إحساسه بأسباب الشرّ إلى هذه الأسباب التي تدفَعها عنه، وهي له من أنفع الدواء، وإذا أراد الله عز وجل إنفاذَ قضائه وقدره أغفل قلب العبد عن معرفتها وتصوّرها وإرادتها، فلا يشعر بها، ولا يريدها؛ ليقضي الله فيه أمرًا كان مفعولا”([33]).
فالجن عالم غيبيّ، له قدراته الخاصّة التي أودعَها الله سبحانه وتعالى فيه، وعلاقته بالبشر لا تخرج عن المشيئة الكونية، ولا بد أن تضبطَ من طرف البشر بالمشيئة الشرعيَّة، وإلا هلك الناس. وسنة الله في الأرض جارية على تفضيل البشر، وعلى قيادتهم لسائر المخلوقات وخدمتها لهم وتسخيرها، ومتى ما نزل البشر عن بشريَّتهم فإنما ينزلون إلى البهائم أو إلى الشياطين، وذلك يعني الحيرةَ وفساد أمر الناس وضلالهم.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
ــــــــــــــــــــــــــ
(المراجع)
([1]) ينظر: لسان العرب (13/ 9)، تاج العروس (ص: 370).
([2]) ينظر: لسان العرب (13/ 95).
([3]) ينظر: آكام المرجان (ص: 23).
([4]) ينظر: آكام المرجان في أحكام الجان (ص: 25).
([5]) ينظر: تفسير الطبري (17/ 99).
([8]) ينظر: المرجع السابق (1/ 498).
([9]) ينظر: تفسير البغوي (4/ 296).
([10]) ينظر: تفسير عبد الرزاق (3/ 266).
([12]) أخرجه الطبراني في الكبير 22/ (573)، والحاكم (3702)، وصححه ابن حبان (6156)، وقال ابن عبد البر في الاستذكار (7/ 536): “إسناده جيد، رواته أئمة ثقات”، وقال ابن كثير في تفسيره (6/ 487): “رفعُه غريب جدًا”.
([13]) مجموع الفتاوى (19/ 45).
([14]) تفسير السمعاني (2/ 140).
([15]) ينظر: تفسير عبد الرازق (3193).
([16]) أخرجه ابن أبي الدنيا في هواتف الجان (95). وإسناده ضعيف؛ فيه رجل مبهم، والراوي عنه عصام بن طليق وهو الطفاوي البصري، قال أبو زُرعَة: “ضعيف الحديث”، وقال البخارِيُّ: “مجهول منكر الحديث”، كما في تهذيب الكمال (20/ 59)، وقال ابن عدي في الكامل (7/ 86): “قليل الحديث، ولا أعرف له حديثًا منكرًا فأذكره”.
([17]) ينظر: تفسير البغوي (239/8)
([18]) تأويل مختلف الحديث (ص: 266).
([19]) تفسير ابن عطية (2/ 445).
([20]) ينظر: تفسير البغوي (2/ 159).
([21]) ينظر: تفسير الطبري (19/ 414).
([22]) ينظر: تفسير عبد الرزاق (3/ 199).
([24]) ينظر: المغني (12/ 304)، الكافي (4/ 166)، مطالب أولي النهى (6/ 304).
([25]) التاج والإكليل لمختصر خليل (7/ 600).
([26]) ينظر التفصيل في: منح الجليل (8/ 67).
([27]) الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان (ص: 196-198).
([28]) ينظر: تفسير ابن كثير (7/ 74).
([30]) ينظر: كشف المشكل من حديث الصحيحين (3/ 325).
([31]) أخرجه أحمد (20767)، والطبراني في الكبير 22/ (974)، وحسنه ابن حجر في بذل الماعون (ص: 33).
([32]) أخرجه أحمد (19528)، والبزار (2946)، وحسنه ابن حجر في بذل الماعون (ص: 53، 57).