حكمُ التوقُّفِ في مسائلِ الخلاف العقديِّ
للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله.
وبعد، فمِنَ المسلَّماتِ الشَّرعيةِ أنَّ القرآن هدًى، وأن الأنبياءَ أُرسلوا مبشِّرين ومنذِرين ومبيِّنين لما اختَلف فيه الناس منَ الحقّ، وكلُّ ما يتوقَّف للناس عليه مصلحةٌ في الدّين والدنيا مما لا تدركه عقولهم أو تدركه لكنَّها لا تستطيع تمييزَ الحقّ فيه -نتيجةً لتأثير الشهوة والهوى وأحيانا ضعف العلم واختلاف النظر- تأتي الشريعة مبيِّنة لما أُبهم على البشرية أمرُه وعمي عليهم نبؤُه، فتأتي فيه بالقول الفصل، وتبيِّن الحقَّ الذي لا يتخلَّلُه باطل، وأكثر ما يكون هذا البيانُ في أمهاتِ العقائد وكلِّيات الأحكام، فلا يوجد حكم معلَّق تعليقًا تامًّا لا يهتدي إلى الحقِّ فيه مؤمِن، ولا يبيِّنُه كتاب ولا سنة، فقَد أحكم الله هذا البابَ وفصَّله، وجاء رسولُه عليه الصلاة والسلام في أبواب العقيدة بما يَشفي ويَكفي، وسمَّى الله سبحانه وتعالى القرآنَ نورًا لتوقُّف الهداية الحقيقيَّة عليه، وسمَّاه روحًا لتوقُّف الحياة الحقيقيَّة عليه، قال سبحانه: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِّنْ أَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلاَ الإِيمَانُ وَلَكِن جَعَلْنَاهُ نُورًا نَّهْدِي بِهِ مَنْ نَّشَاء مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيم} [الشورى: 52].
وليست هذه الهداية هدايةً مجملةً إلى الطريق الحقِّ، فيختار الإنسان بعقلِه ما يناسبه، لا، بل هي هدايةٌ كاملة تهدي إلى أفضل الطريقِ وأحسن السبُل، قال سبحانه: {إِنَّ هَـذَا الْقُرْآنَ يِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا} [الإسراء: 9]. يقول الإمام الطبري: “فإنّ من جسيم ما خصّ الله به أمةَ نبينا محمَّد صلى الله عليه وسلم من الفضيلة، وشرَّفهم به على سائر الأمم من المنازل الرفيعة، وحباهم به من الكرامة السنية: حفظَه ما حفظ عليهم -جلّ ذكره وتقدست أسماؤه- من وحيه وتنزيله، الذي جعله على حقيقة نبوة نبيهم صلى الله عليه وسلم دلالة، وعلى ما خصَّه به من الكرامة علامةً واضحة وحجةً بالغة، أبانه به من كل كاذب ومفترٍ، وفصَل به بينهم وبين كل جاحد ومُلحِد، وفرَق به بينهم وبين كلّ كافر ومشرك؛ الذي لو اجتمع جميعُ من بين أقطارها من جِنِّها وإنسها وصغيرها وكبيرها على أن يأتوا بسورة من مثله لم يأتوا بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرًا، فجعله لهم في دُجَى الظُّلَم نورًا ساطعًا، وفي سُدَف الشُّبَه شهابًا لامعًا، وفي مضَلة المسالك دليلا هاديًا، وإلى سبل النجاة والحق حاديًا، {يَهْدِي بِهِ اللّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلاَمِ وَيُخْرِجُهُم مِّنِ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيم} [المائدة: 16]. حرسه بعين منه لا تنام، وحاطه برُكن منه لا يُضام، لا تَهِي على الأيام دعائمُه، ولا تبيد على طول الأزمان معالمه، ولا يجوز عن قصد المحجَّة تابِعه، ولا يضلّ عن سُبُل الهدى مُصَاحبه. من اتَّبعه فاز وهُدِي، ومن حاد عنه ضلَّ وغَوَى، فهو موئلهم الذي إليه عند الاختلاف يَئِلون، ومعقلهم الذي إليه في النوازل يعقلون، وحصنهم الذي به من وساوس الشيطان يتحصَّنون، وحكمة ربهم التي إليها يحتكمون، وفصْل قضائه بينهم الذي إليه ينتهون، وعن الرضا به يصدرون، وحبله الذي بالتمسك به من الهلكة يعتصمون”([1]).
فطلب الهداية والبيان في القرآن ضرورةٌ شرعية، وهذا الطلب ينافي تعليقَ الأحكام أو العقائد إلى أجل غير مسمى، ومن ثم فإن مناقشة التوقّف في مسائل العقيدة المختلف فيها وحكمه يعدُّ من أمهات مسائل البحث الشرعي التي يجب على المسلم تبيُّن حكم الله عز وجل فيها، وهذا ما سنناقشه في هذه الورقة العلمية بإذن الله([2])، وقد جعلناها في ثلاثة مباحث:
المبحث الأول: مفهوم التوقف وأسبابه.
المبحث الثاني: التوقف في مسائل العقيدة.
المبحث الثالث: مآل القول بالتوقف في كل مسألة خلافية.
المبحث الأول: مفهوم التوقف وأسبابه:
التوقف في اللغة:
قال في مختار الصحاح: “وقفت الدابة تقف (وقوفا) و(وقفها) غيرها من باب وعد. و(وقفه) على ذنبه: أطلعه عليه. و(وقف) الدار للمساكين وبابهما وعد أيضا. و(أوقف) الدار بالألف لغة رديئة. وليس في الكلام أوقف إلا حرف واحد، وهو أوقفت عن الأمر الذي كنت فيه، أي: أقلعت. وعن أبي عمرو والكسائي أنه يقال للواقف: ما أوقفك هنا؟ أي: أي شيء صيرك إلى الوقوف؟ (والموقف) موضع الوقوف حيث كان. (وتوقيف) الناس في الحج وقوفهم (بالمواقف). (والتوقيف) كالنص. و(واقفه) على كذا (مواقفة) و(وقافا) و(استوقفه): سأله الوقوف. و(التوقف) في الشيء كالتلوم فيه”([3]).
وقال صاحب اللسان: “التوقف في الأمر وهو الوقوف عنده من غير مجاوزة له؛ ومنه الحديث: (المؤمن وقاف متأنٍّ)، وعلى ذلك قول الأعشى:
كانت وصاة وحاجات لها كفف لو أن صحبك إذ ناديتهم وقفوا
أي: ثبتوا ولم يتقدموا”([4]).
ويتضح مما سبق أن التوقف يدور معناه اللغوي على لزوم الحد وعدم مجاوزته.
أما في الاصطلاح:
فإن التوقف وإن كان يفيد معنى التردد أو التلوم إلا أنه يقصد به أحد الطرق في الاجتهاد والتعامل مع نصوص الشرع، ومن ثم يذكره العلماء كثيرا في باب التعارض والترجيح، سواء كان التعارض والترجيح بين الأدلة أو الأقوال، وهو يعني عندهم: إمساك المجتهد عن الحكم على القضية بنفي أو إثبات نظرا لتكافؤ الأدلة أو انعدام المرجحات، ويتكلمون عنه كوسيلة من وسائل التعامل مع الأدلة وأحد الخيارات التي يلجأ إليها المجتهد، وليس موقفا عامًّا يمكن تبنِّيه في جميع الأبواب أو يعتقده جميع الناس، وقد يطلقون التوقف على التوقيف، وهو: حصر الحكم في الدليل الشرعي السمعيّ فقط.
يقول الغزالي رحمه الله: “وأما مذهب الوقف إن أرادوا به أن الحكم موقوف قبل ورود السمع ولا حكم في الحال فصحيح، إذ معنى الحكم الخطاب ولا خطاب قبل ورود السمع؛ وإن أريد به أنا نتوقف فلا ندري أنها محظورة أو مباحة فهو خطأ؛ لأنا ندري أنه لا حظر، إذ معنى الحظر قول الله تعالى: لا تفعلوه، ولا إباحة إذ معنى الإباحة قوله: إن شئتم فافعلوه وإن شئتم فاتركوه، ولم يرد شيء من ذلك”([5]) .
فمن اصطلاحات التوقف انتفاء الحكم الشرعي، لا التردد وعدم الحكم كما مذهب جماعة من الأصوليين منهم الجويني([6]) والرازي([7]) والقرافي([8]) والسبكي([9]).
ويمكن تلخيص اصطلاحهم في التوقف في العبارات التالية:
– عدم ورود الحكم عن الشارع، ويشهد له ما تقدم من النقل عن الغزالي وغيره.
– عدم صدور حكم من عالم في المسألة، مثل توقف بعضهم في دلالة المشترك اللفظي وفي العلاقة بين العموم والخصوص([10]).
– عدم القطع بشيء في المسألة يسمونه توقفا، يقول الباقلاني: “وقد زعم أهل الوقف أن الخبر إذا ورد بوعيد العصاة من أهل الملة، ومن لم يبلغ عصيانه الكفر وجب الوقف فيه، وتجويز القصد به إلى العموم أو الخصوص؛ لقوله عز وجل: {إنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ ويَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاءُ} [النساء: 48]، وقوله تعالى: {وإنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِّلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ} [الرعد: 6]. وهذا القول أيضا باطل؛ لأنه قول يوجب أنه لولا ورود قوله: {ويَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ} لوجب استغراقه للعصاة من أهل القبلة والظَّلَمة والفُجّار وأكَلَة أموال الأيتام، وذلك فاسد؛ لأنه محتمل في أصل الوضع للكلّ وللبعض فيما يحتاج الوقف فيه إلى ذلك، فيرد ما ذكروه.
فصل: وقال فريق آخر من أهل الوقف: واجب الوقف في وعيد أهل القبلة؛ لجواز أن يستثني الله تعالى في وعيدهم ويشرط فيه شرطًا غير ظاهر، ثم لا يفعل ما توعد به ويكون صادقًا. وهذا قول من زعم أن الوعيد خبر عن وقوع المتوعَّد به. وهذا خطأ؛ لأن الوعيد إرهاب وتهديد، وليس بخبر عن وقوع المتوعَّد به، إلا أن يقصد إلى إيقاع المتوعد به، على ما قد بيناه في الكلام في الوعيد”([11]).
– التوقف بمعنى: عدم العلم، فقد فسروا الوقف وقولهم: لا حكم قبل الشرع بأنه ليس نفيا له، وإنما هو نفي لعدم العلم به، قال صاحب الغيث الهامع: “مذهب أئمتنا أنه لا حكم قبل ورود الشرع، وظاهر كلام المصنف انتفاء الحكم نفسه، وهو الذي حكاه القاضي أبو بكر في مختصر التقريب عن أهل الحق، وقاله الإمام في البرهان والغزالي، وقال النووي: إنه الصحيح عن أصحابنا. وقيل: المراد عدم العلم بالحكم، أي: إن لها حكمًا قبل ورود الشرع، لكنا لا نعلمه، وقال البيضاوي: إنه مراد الأشعري بالوقف في هذه المسألة؛ لأن الحكم عنده قديم، فتفسير الوقف بعدم الحكم يلزم منه حدوث الحكم، وهو خلاف مذهبه”([12]).
ومع تعدد العبارة فإنها ترجع إلى عدم الحكم، والباقي أسباب، منها الجهل بالحكم، أو تعارض الأدلة، أو انتفاؤها، أو الحيرة التي تنتج عن الشبهة. ولا شك أن التوقف بمعنى عدم الحكم أو التردد أو نفيه حين نتكلم عن العقائد يكون له معنى آخر وحكم آخر غير الحكم الذي نتكلم فيه في مسائل الفقه وقضايا الاجتهاد، والتوقف عندهم قد يكون بمعنى عدم الخوض أو السكوت، كما قد يكون بمعنى التردد وتعليق المسألة، وهذا في باب العقائد لا يمكن أن يعتمد قضية منهجية مطردة في أبواب العقيدة وموضوعاتها على نحو ما يوجد في الفقه، وإن كان التوقف المطلق لا يوجد في الفقه كموقف عمليّ.
المبحث الثاني: التوقف في مسائل العقيدة:
هنا يلزمنا أن نفرق بين مقامين:
المقام الأول: الفرق بين أصول العقائد وبين فروعها.
المقام الثاني: الفرق بين توقُّفِ شخص في مسألة بعينها وبين جعلها منهجا.
ففي مقام الأصول لا مجال للتوقف ولا للشك؛ لأن ذلك ذنب عظيم، وأحيانا يكون كفرا بالله عز وجل، قال سبحانه عن البعث: {وَإِذَا قِيلَ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَالسَّاعَةُ لاَ رَيْبَ فِيهَا قُلْتُم مَّا نَدْرِي مَا السَّاعَةُ إِن نَّظُنُّ إِلاَّ ظَنًّا وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِين} [الجاثية: 32]. قال البغوي رحمه الله: “أَيْ: مَا نَعْلَمُ ذَلِكَ إِلَّا حَدْسًا وَتَوَهُّمًا، {وَما نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ} أنها كائنة”([13]).
ومثلها في ذلك التوقف في نبوة النبي صلى الله عليه وسلم، والإيمان بالقضاء والقدر خيره وشره، وأن أهل النار مخلدون فيها وأهل الجنة مخلدون فيها، وغيرها من المسائل التي علمت من الدين بالضرورة، وهي من الوضوح بمكان عند أهل الملة لا تحتاج إلى التدليل عليها.
أما فروع العقائد ودقائقها فهذه يعذر فيها، لكن العذر ليس بموجب لعدم الترجيح، والتوقف جائز إذا تكافأت الأدلة؛ لكنه ليس منهجا ولا مذهبا، بل هو رخصة لمن انعدم لديه العلم، أو خفيت عليه المرجحات، وقد وقع للسلف كثير منه في بعض الأبواب، فمنهم من توقف عن بعض المسائل توقُّفَ الساكت الذي لا يخوضُ فيها، ومنهم من توقف لتكافؤ الأدلة ولذلك أمثلة كثيرة:
المثال الأول: رؤية النبي صلى الله عليه وسلم لربه، فمن السلف من أثبتها، ومنهم من نفاها، ومنهم من توقف كسعيد بن جبير، فقد روي عنه أنه قال: “ما أزعم أنه رآه، وما أزعم أنه لم يره”([14]).
قال الذهبي رحمه الله: “والذي دلَّ عليه الدليل عدم الرؤية مع إمكانها، فنقف عن هذه المسألة، فإن من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه، فإثبات ذلك أو نفيه صعب، والوقوف سبيل السلامة والله أعلم، ولا نعنِّف من أثبت الرؤيةَ لنبيِّنا في الدنيا، ولا من نفاها، بل نقول: الله ورسوله أعلم، بل نعنّف ونبدِّع من أنكر الرؤيةَ في الآخرة؛ إذ رؤية الله في الآخرة ثبتت بنصوص متوافرة”([15]).
المثال الثاني: سماع الموتى في قبورهم: فمنهم من أثبته، ومنهم من نفاه، ومنهم من توقف، وممن تكلم بالتوقف في شأنهم الإمام ابن عبد البر حيث قال: “والله أعلَم بما أراد رسولُه صلى الله عليه وسلم بسلامه عليهم، وقد نادى أهل القليب ببدر وقال: «ما أنتم بأسمع منهم إلا أنهم لا يستطيعون أن يجيبوا»، قيل: إن هذا خصوص، وقيل: إنهم لم يكونوا مقبورين؛ لقوله تعالى: {وَمَا أَنتَ بِمُسْمِعٍ مَّن فِي الْقُبُورِ} [فاطر: 22]، وما أدري ما هذا”([16]).
المثال الثالث: مصير مؤمني الجنّ في الآخرة، فقدِ اختلف العلماء فيهم، فمنهم من توقف فيهم، ومن هؤلاء الإمام أبو حنيفة رحمه الله، فقد توقَّف في ثوابهم ونعيمهم في الآخرة([17]).
وهذا يفيدنا أنَّ توقفَ هؤلاء يرجع إلى أمور؛ إما تعارض الأدلة، أو عدم وجود المرجّح، أو انتفاؤها مطلقًا، وليس سببه الحيرة، كما أنَّ المسائل التي توقَفوا فيها ليست مما هو ظاهر ظهورًا لا ينبغي معه التوقّف، كما أنّ هذا التوقّف منهم ليس منهجًا، بل هو موقف عارضٌ في قضيَّة معيّنة، وليس موقفا عقديًّا متَّبعًا في جميع الأبواب، ويلاحَظ أنهم لم يُتَّبعوا فيه، وإنما نُقل عنهم بوصفِه أحدَ أقوالهم، والناقل ملزَم شرعًا باتباع ما صحَّ دليلُه من هذه الأقوال، لا التخيُّر أو التوقف، فالمؤمن يعتقد أنَّ القرآن بيان وهدًى، وكذلك السنة، وهو متعبِّد لله عز وجل باتِّباعهما، فيقف حيث وقفوا، لا حيث وقفَت أفهام الرجالِ، وحسب المطَّلع على الخلاف نفيًا وإثباتًا وتوقّفا أن يراعي فيه عدم التأثيم، والتماس العذر، لا في الاعتقاد، فالاعتقاد يؤخذ من كتاب الله ومن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما عَلِمه إمام من السنة وجهله آخر فالحجة في العالم الناقِل، لا في من توقَّف أو جهِل.
فالتوقُّف عند السلف -سواء في الأدلة أو في العقائد- لا يشمَل جميعَ أبوابها، وإنما هو مخصوص ببعض الأبواب التي تتعارض فيها الأدلةُ، أو مما يمكن أن يخفَى على أهل العلم والنظر، وليس في أصول الدين ولا في الشرائعِ الثابتة، كما أنه ناتِج عن النظر في الأدلةِ صحةً وثبوتًا، قبولًا وردُّا، لا عن اعتقاد تعارُضٍ بين عقل ونقل.
كما أن التوقُّف الذي ينقل ويثبت هو توقّف العالم المجتهد، لا توقّف المقلِّد الجاهل، ولا المبتدع الضالّ، فذلك لا عبرةَ به.
المبحث الثالث: مآل القول بالتوقف في كل مسألة خلافية:
إنَّ تعليق المسائل الشرعية وتحيينها -بحجّة أنها مسائل خلافية- يؤدِّي إلى تعطيل الشريعة، وغلق باب الاجتهاد، وتفويض العقائد وتعليقها، ونفي قيام الحجة على العباد في الوحي كتابًا وسنة، هذا مع عدم تعيين نوع الاختلاف: هل هو مما يقبل أم لا؟ ونوع المختلفين: هل هم أهل السنة أم أهل بدعة؟
فأهل البدعة مختلفون في الكتاب، مخالفون له، وخلافهم لا ينضبِط بضابط؛ لأن الهوى أصلُه والضلالَ غايته، ولا حدَّ للدركات، وهو يغلق باب الترجيح إذ لا معنى له مع التوقف؛ لأن التوقف في العقائد يعنى الانسحاب إلى المناطق الحيادية.
وهاهنا أمر مهمٌ يجب تبيينُه، وهو أن الإجماع لا يرفعه الخلاف، فإذا وقع الإجماع في مسألة فإن الخلاف الحادث بعد الإجماع لا عبرة به، بل يجب القطع ببطلانه؛ فإن أبواب أصول الدين ليست مما يمكن التوقُّف فيه؛ ولذا قال الإمام أبو حنيفة رحمه الله: “من قَالَ: لَا أعرف رَبِّي فِي السَّمَاء أوْ فِي الأَرْض فقد كفر، وَكَذَا من قَالَ: إِنَّه على الْعَرْش وَلَا أدري الْعَرْش أَفِي السَّمَاء أوْ فِي الأَرْض، وَالله تَعَالَى يُدعى من أعلى لَا من أَسْفَل، لَيْسَ من وصف الربوبية والألوهية فِي شَيْء”([18]).
ونفس الشيء في التوقف في مصير الكفار، فقد قال أبو حنيفة: “من آمن بِجَمِيعِ مَا يُؤمن بِهِ إلا أنه قَالَ: لَا أعرف مُوسَى وَعِيسَى أمرسلان هما أم غير مرسلين فَهُوَ كَافِر، وَمن قَالَ: لَا أَدْرِي الْكَافِر أهو فِي الْجنَّة أوْ فِي النَّار فَهُوَ كَافِر”([19]).
وكلام السلف في المتوقِّف في مسائل العقيدة الثابتة بالشّرع كلُّه يدلُّ على ذمّ التوقف، وأنه مسلكٌ خطير في العقائد المحكمَة، بل يلومون على التوقُّف في حكمِه، قال ابن تيمية رحمه الله: “أما منِ اقترن بسبِّه دعوى أن عليًّا إلَه أو أنه كان النبيَّ وإنما غلط جبرائيل في الرسالة، فهذا لا شكَّ في كفره، بل لا شكَّ في كفر من توقَّف في تكفيره”([20])، وقال أيضا: “لكن المنصوص عن أحمد تبديع من توقف في خلافة علي، وقال: هو أضلُّ من حمار أهله، وأمر بهجرانه، ونهى عن مناكحته، ولم يتردَّد أحمد ولا أحد من أئمة السنة في أنه ليس غير علي أولى بالحق منه، ولا شكوا في ذلك”([21]).
ومثله التوقُّف في القرآن، وفي أنه غير مخلوق، وفي إثبات صفات الباري سبحانه وتعالى، فمسائل العقائد التي حسَمها الوحي وبيَّنها لا يُمكن قبول التوقُّف فيها شرعًا؛ لأن التوقف فيها اعتراض على الوحي، وعدم تسليم له، وفتحٌ لباب شرّ عظيم على الناس في العقائد والأحكام والشرائع.
فالإنسان يلزمه أن يصيرَ إلى ما قرَّره الوحيُ؛ لأن كلَّ خلاف لا بدَّ أن يُردَّ إليه، والعبرة بما شهد به ونطق، قال سبحانه وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلا} [النساء: 59].
فقوله: {فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ} “نكرة في سياق الشرط، تعم كلَّ ما تنازع فيه المؤمنون من مسائل الدين؛ دقّه وجله، جليِّه وخفيِّه، ولو لم يكن في كتاب الله ورسوله بيان حكم ما تنازعوا فيه ولم يكن كافيا لم يأمر بالرد إليه؛ إذ من الممتنع أن يأمر تعالى بالرد عند النزاع إلى من لا يوجد عنده فصل النزاع.
ومنها: أن الناس أجمعوا أن الردَّ إلى الله سبحانه هو الردّ إلى كتابه، والرد إلى الرسول صلى الله عليه وسلم هو الرد إليه نفسه في حياته وإلى سنته بعد وفاته.
ومنها: أنه جعل هذا الرد من موجبات الإيمان ولوازمه، فإذا انتفى هذا الرد انتفى الإيمان؛ ضرورة انتفاء الملزوم لانتفاء لازمه، ولا سيما التلازم بين هذين الأمرين فإنه من الطرفين، وكل منهما ينتفي بانتفاء الآخر، ثم أخبرهم أن هذا الرد خير لهم، وأن عاقبته أحسن عاقبة، ثم أخبر سبحانه أن من تحاكم أو حاكم إلى غير ما جاء به الرسول فقد حكَّم الطاغوت وتحاكم إليه، والطاغوت: كل ما تجاوز به العبد حده من معبود أو متبوع أو مطاع؛ فطاغوت كل قوم من يتحاكمون إليه غير الله ورسوله، أو يعبدونه من دون الله، أو يتبعونه على غير بصيرة من الله، أو يطيعونه فيما لا يعلمون أنه طاعة لله؛ فهذه طواغيت العالم إذا تأملتها وتأملت أحوال الناس معها رأيت أكثرهم عدلوا من عبادة الله إلى عبادة الطاغوت، وعن التحاكم إلى الله وإلى الرسول إلى التحاكم إلى الطاغوت، وعن طاعته ومتابعة رسوله إلى طاعة الطاغوت ومتابعته، وهؤلاء لم يسلكوا طريق الناجين الفائزين من هذه الأمة وهم الصحابة ومن تبعهم، ولا قصدوا قصدهم، بل خالفوهم في الطريق والقصد معا، ثم أخبر تعالى عن هؤلاء بأنهم إذا قيل لهم: تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول أعرضوا عن ذلك، ولم يستجيبوا للداعي، ورضوا بحكم غيره، ثم توعَّدهم بأنهم إذا أصابتهم مصيبة في عقولهم وأديانهم وبصائرهم وأبدانهم وأموالهم بسبب إعراضهم عما جاء به الرسول وتحكيم غيره والتحاكم إليه…”([22]).
والتوقف ليس علمًا ولا دينا يفتى به، والكلام في دين الله عز وجل إنما يكون بالعلم والشرع والبينات والزبر، والتوقف ليس شيئًا من ذلك، والعقائد مبناها على اليقين وغلبة الظن والأدلة، فمن علمها لزمه القول والاعتقاد، ومن جهلها لزمه السكوت والسؤال حتى يعلم ما يقول، قال شيخ الإسلام رحمه الله: “لا يمكن أن يكون تصديق الرسول فيما أخبر به معلقًا بشرط، ولا موقوفًا على انتفاء مانع، بل لا بد من تصديقه في كل ما أخبر به تصديقًا جازمًا، كما في أصل الإيمان به، فلو قال الرجل: أنا أؤمن به إن أذن لي أبي أو شيخي، أو: إلا أن ينهاني أبي أو شيخي؛ لم يكن مؤمنًا به بالاتفاق، وكذلك من قال: أؤمن به إن ظهر لي صدقه، لم يكن بعد قد آمن به، ولو قال: أؤمن به إلا أن يظهر لي كذبة لم يكن مؤمنًا، وحينئذٍ فلا بد من الجزم بأنه يمتنع أن يعارض خبره دليل قطعي، لا سمعي ولا عقلي، وأن ما يظنه الناس مخالفًا له إما أن يكون باطلًا، وإما أن لا يكون مخالفًا، وأما تقدير قول مخالف لقوله وتقديمه عليه فهذا فاسد في العقل، كما هو كفر في الشرع، ولهذا كان من المعلوم بالاضطرار من دين الإسلام أنه يجب على الخلق الإيمان بالرسول إيمانًا مطلقًا جازمًا عامًّا؛ بتصديقه في كل ما أخبر، وطاعته في كل ما أوجب وأمر، وأن كل ما عارض ذلك فهو باطل”([23]).
فقول الرسول صلى الله عليه وسلم وخبره هو الحكم الفصل في العقائد الذي يجب المصير إليه، قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: “ولهذا يسع الإنسان في مقالات كثيرة لا يقر فيها بأحد النقيضين، لا ينفيها ولا يثبتها، إذا لم يبلغه أن الرسول نفاها أو أثبتها، ويسع الإنسان السكوت عن النقيضين في أقوال كثيرة إذا لم يقم دليل شرعي بوجوب قول أحدهما. أما إذا كان أحد القولين هو الذي قاله الرسول صلّى الله عليه وسلّم دون الآخر، فهنا يكون السكوت عن ذلك وكتمانه من باب كتمان ما أنزل الله من البينات والهدى من بعد ما بينه للناس في الكتاب، وإذا كان أحد القولين متضمنًا لنقيض ما أخبر به الرسول صلّى الله عليه وسلّم، والآخر لم يتضمن مناقضة الرسول صلّى الله عليه وسلّم، لم يجز السكوت عنهما جميعًا، بل يجب نفي القول المتضمن مناقضة الرسول صلّى الله عليه وسلّم، أما القول الذي لا يوجد في كلام الله عزّ وجل وكلام رسوله صلّى الله عليه وسلّم لا منصوصًا ولا مستنبطًا، بل يوجد في الكتاب والسنة مما يناقضه ما لا يحصيه إلا الله، فكيف يجب على المؤمنين عامة وخاصة اعتقاده ويجعل ذلك محنة لهم؟!”([24]).
وحاصل فقه المسألة هو ما تقدم منصبّ حول التوقف بمعنى التردد الذي دافعه وقوع الخلاف في المسألة، لا مجرد منازعة الأدلة أو تنازعها، لكن التوقف لا لذات الأدلة بل لاتباع غير معصوم في أصلٍ أصَّله خالف فيه الشرع.
استدراك: هناك أبواب معلومة من العقائد على خلاف ما تحدثنا، مبناها على التوقف، فمجرد عدم العلم وهو انتفاء الدليل الشرعي موجب للسكوت المطلق وعدم الحكم بإثبات أو نفي، وهذا في كيفية الصفات وحقائق المغيبات التي استأثر الله بها في علمه عنده، قال سبحانه: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ رَبِّي لاَ يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلاَّ هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لاَ تَأْتِيكُمْ إِلاَّ بَغْتَةً يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ اللّهِ وَلَـكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُون} [الأعراف: 187]، وقال: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا * فِيمَ أَنتَ مِن ذِكْرَاهَا * إِلَى رَبِّكَ مُنتَهَاهَا} [النازعات: 42-44].
قال الشافعي رحمه الله: “فحجب عن نبيه صلى الله عليه وسلم علم الساعة، وكان من جاور ملائكة اللَّه المقربين وأنبياءه المصطفين من عباد اللَّه أقصر علمًا من ملائكته وأنبيائه؛ لأن اللَّه عز وجل فرض على خلقه طاعة نبيه، ولم يجعل لهم بعد من الأمر شيئًا، وأولى أن لا يتعاطوا حكمًا على غيب أحد، لا بدلالة، ولا ظن، لتقصير علمهم عن علم أنبيائه، الذين فرض اللَّه تعالى عليهم الوقف عما ورد عليهم حتى يأتيهم أمره، فإنه -جل وعز- ظاهر عليهم الحجج فيما جعل إليهم من الحكم في الدنيا، بأن لا يحكموا إلا بما ظهر من المحكوم عليه، وأن لا يجاوزوا أحسن ظاهره”([25]).
وعن ابن شبرمة رحمه الله قال: “من المسائل مسائل لا يجوز للسائل أن يسأل عنها، ولا للمسؤول أن يجيب فيها”([26]).
“فالعجب -يا إخواني رحمكم الله- لقوم حيارى، تاهت عقولهم عن طرقات الهدى، فذهبت تندّ محاضره في أودية الردى، تركوا ما قدّمه الله عز وجل في وحيه وافترضه على خلقه، وتعبَّدَهم بطلبه وأمرهم بالنظر والعمل به، وأقبلوا على ما لم يجدوه في كتاب ناطق، ولا تقدمهم فيه سلَف سابق، فشغلوا به، وفرّغوا له آراءهم، وجعلوه دينًا يدعون إليه، ويعادون من خالفهم عليه، أمَا عَلِم الزائغون مفاتيح أبواب الكفر ومعالم أسباب الشرك، التكلف لما لم تحط الخلائق به علمًا به، ولم يأت القرآن بتأويله، ولا أباحت السنة النظر فيه، فتزيد الناقص الحقير والأحمق الصغير بقوته الضعيفة وعقله القصير أن يهجم على سر الله المحجوب، ويتناول علمه بالغيوب يريدها لنفسه، وطوى عليها علمها دون خلقه، فلم يحيطوا من علمها إلا بما شاء، ولا يعلمون منها إلا ما يريد، فكل ما لم ينزل الوحي بذكره ولم تأت السنة بشرحه من مكنون علم الله ومخزون غيبه وخفي أقداره فليس للعباد أن يتكلّفوا من علمه ما لا يعلمون، ولا يتحمّلوا من نقله ما لا يطيقون، فإنه لن يعدو رجل كلف ذلك نظره وقلّب فيه فكره أن يكون كالناظرين في عين الشمس ليعرف قدرها، أو كالمرتمي في ظلمات البحور ليدرك قعرها، فليس يزداد على المضي في ذلك إلا بعدًا، ولا على دوام النظر في ذلك إلا تحيرًا، فليقبل المؤمن العاقل ما يعود عليه نفعه، ويترك إشغال نظره وإعمال فكره في محاولة الإحاطة بما لم يكلَّفه، فيسلك سبيل العافية، ويأخذ بالمندوحة الواسعة، ويلزم الحجة الواضحة، فمن خالف ذلك وتجاوزه إلى الغمط بما أمر به والمخالفة إلى ما ينهى عنه، يقع والله في بحور المنازعة وأمواج المجادلة، ويفتح على نفسه أبواب الكفر بربه والمخالفة لأمره والتعدي لحدوده، والعجب لمن خلق من نطفة من ماء مهينٍ، فإذا هو خصيم مبينٌ، كيف لا يفكر في عجزه عن معرفة خلقه، أما يعلمون أنَّ الله عز وجل قد أخذ عليكم ميثاق الكتاب أن لا تقولوا على الله إلا الحق؟! فسبحان الله أنى تؤفكون؟!”([27]).
ويقول الشاطبي رحمه الله: “إن كان ثم ما يدلُّ على رفع الاختلاف فثم ما يقتضي وقوعه في الشريعة، وقد وقع، والدليل عليه أمور:
منها: إنزال المتشابهات؛ فإنها مجال للاختلاف؛ لتباين الأنظار واختلاف الآراء والمدارك، هذا وإن كان التوقف فيها هو المحمود؛ فإن الاختلاف فيها قد وقع، ووضع الشارع لها مقصود له، وإذا كان مقصودًا له وهو عالم بالمآلات؛ فقد جعل سبيلا إلى الاختلاف، فلا يصحّ أن ينفى عن الشارع رفع مجال الاختلاف جملة.
ومنها: الأمور الاجتهادية التي جعل الشارع فيها للاختلاف مجالا؛ فكثيرًا ما تتوارد على المسألة الواحدة أدلة قياسية وغير قياسية، بحيث يظهر بينهما التعارض، ومجال الاجتهاد مما قصده الشارع في وضع الشريعة حين شرع القياس، ووضع الظواهر التي تختلف في أمثالها النظار؛ ليجتهدوا فيثابوا على ذلك”([28]).
فما كان علمه إلى الله سبحانه وتعالى ولا سبيل إلى معرفته -مثل حقائق صفاته سبحانه وما تجري به أقلام أقداره- فإن الإيمان به هو التوقف في البحث عنه وفي طلبه، قال الطحاوي رحمه الله: “فَمَنْ رَامَ عِلْمَ مَا حُظِرَ عَنْهُ عِلْمُهُ وَلَمْ يَقْنَعْ بِالتَّسْلِيمِ فَهْمُهُ حَجَبَهُ مَرَامُهُ عَنْ خالص التوحيد وصافي المعرفة وصحيح الإيمان، فَيَتَذَبْذَبُ بَيْنَ الْكُفْرِ وَالْإِيمَانِ وَالتَّصْدِيقِ وَالتَّكْذِيبِ وَالْإِقْرَارِ والإنكار، موسوسا تائها شاكًّا، لا مؤمنا مصدِّقا، ولا جاحدا مكذِّبا”([29]). قال سبحانه: {وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولـئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولا} [الإسراء: 36]، وقال سبحانه: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَن تُشْرِكُواْ بِاللّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَن تَقُولُواْ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُون} [الأعراف: 33].
فالجادَّة في باب العقائد هي الإيمان والتسليم والاستسلام، مع التصديق بكل الأخبار، وحسن الاعتقاد في معاني كلام الله وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم، وطلب الحق والهداية من خلال الوحي، فما بيَّنه وفصَّله لا يجوز التوقُّف فيه، وما سكت عنه مما أمره إلى الله عز وجل فإن السلامة في السكوت، ولزوم طريق القرآن، والاعتماد على الله عز وجل، وطلب الهداية منه.
والحمد لله رب العالمين.
ــــــــــــــــــــــــــــــــ
(المراجع)
([2]) أثناء التحضير لهذه الورقة العلمية وقفتُ على كتاب أفادني في الموضوع جدًّا وغير وجهة نظري في بعض المباحث، وهو بعنوان: “التوقف في العقيدة دراسة في المنهج والمسائل والأسباب عند أهل السنة” من تأليف بدر بن سعيد الغامدي، وهو كتاب جليل مفيد، جعله الله في ميزان حسنات صاحبه، وقد اقتصرت في البحث على ما أرى له علقة بالموضوع، وأهملت كل ما كان من قبيل الزيادة أو الربط. هذا مع الإفادة من المراجع الأصلية للكتاب وتنقيح النقل بما يناسب الغرض منه.
([5]) المستصفى للغزالي (ص: 52).
([10]) ينظر البرهان (1/ 320). والإحكام للآمدي (2/ 293).
([11]) التقريب والإرشاد (3/ 252).
([12]) الغيث الهامع شرح جمع الجوامع (ص: 34).
([15]) سير أعلام النبلاء (10/ 114).
([17]) ينظر: روح البيان (8/ 98).
([20]) الصارم المسلول (ص: 518).
([21]) مجموع الفتاوى (4/ 438).
([22]) إعلام الموقعين عن رب العالمين (1/ 40).
([24]) الفتاوى الكبرى (6/ 351).
([25]) تفسير الشافعي (2/ 1442)..
([26]) الإبانة لابن بطة (1/ 418).