(إِلا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللهُ) نُصرةُ النَّبيِّ ﷺ واجبُ الوقتِ وعلامةُ الإيمان
للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة
تمهيد:
أنار اللهُ سبحانه وتعالى البشريَّةَ بمبعَث محمَّد صلى الله عليه وسلم، فقد جاء رحمةً للعالمين، ومخلِّصًا لهم من ربقةِ الجاهليَّة والظلاميَّة والتَّعلق بالأوثان والجمادات والخرافات إلى نور التعلُّق بالله سبحانه وتعالى، فكان صلى الله عليه وسلم من أجلِّ نعَمِ الله على النَّاس، يقول تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء: 107]، ويقول تعالى: {كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُو} [البقرة: 151].
ومع ذلك فإنَّ الأذى لحِقَ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قديمًا وحديثًا، فطوال تلك السنوات الثلاث والعشرين التي عاشها بعد البعثة لاقى من صنوف الأذى الكثير، فقد لقي الأذى من قومه، ومن أقرب الناس إليه نسبًا، وحين خرج إلى الطائف يستجدي نصرتهم آذوه، ورموه بالحجارة حتى أدموه، وقد حوصر مع قومه في الشِّعب، ونسِب إلى السحر والجنون والكذب، فالسُّخرية من النبي صلى الله عليه وسلم ليست وليدةَ اليوم، وإيذاؤه صلى الله عليه وسلم ليس بدعةَ العصر، وقد بيَّن الله له أنَّ الطريق إلى الله محفوفة بالابتلاءات، وقد نال الأنبياءَ فيها ما نالهم، ومع ذلك فقد نصرَ الله رسوله صلى الله عليه وسلم، نصرَه حين كان طريدًا مطلوبًا ليس معه أحدٌ إلا أبا بكر رضي الله عنه، فقال الله: {إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ} [التوبة: 40]، فنصره الله في دعوته، ونصره على أعدائه، ونصره على المنافقين في المدينة، ونصره بعد مماته بإعلاء ذكره وإظهار دينه.
ومع تجدُّد كثيرٍ من مظاهر السُّخرية بالنَّبي صلى الله عليه وسلم، والاستهزاء به، والتنقُّص من قدره، حريٌّ بنا أن نتذكر إيجاب الله نصرةَ رسوله علينا، وأن نستشعر عظمةَ مَن أُوذي لنقوم بدورنا في حماية جناب المصطفى صلى الله عليه وسلم، وليس يرتفع بهذه النُّصرة إلا نحن، ولا يشرف إلا نحن، ولا يعزُّ إلا نحن، ففي هذه الورقة إطلالة سريعةٌ على نصرة الله لرسوله، ووجوب نصرته، وسبل النُّصرة التي يمكن أن نسلكها، فأقول وبالله التوفيق:
نصرة الله للرسول صلى الله عليه وسلم:
لقيَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم في حاته صنوفًا من التَّضييق والهجاء والذمِّ؛ بل محاولة القتل، إلَّا أنَّ الله سبحانه وتعالى قد نصره مرارًا، وذكر ذلك في كتابه مرَّات عديدةً، وكان نصر الله لرسوله صلى الله عليه وسلم معنويًّا وحسيًّا، حتى قبل نزول قوله تعالى: {وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} [المائدة: 67]، وبيانُ نصرة الله لنبيه بالآتي:
أولا: ردُّ الله على المشركين المتنقِّصين من النَّبي صلى الله عليه وسلم:
فأبو لهب الذي خذل المصطفى صلى الله عليه وسلم في أعظم مواقفه حين نادى من فوق جبل الصفا ليُخرج الناس من الظلمات إلى النور، فقال لهم: «إني نذيرٌ لكم بين يدي عذاب شديدٍ»، فقال له أبو لهب: تبًّا لك، ألهذا جمعتنا؟!([1])، فكان نصر الله لنبيِّه بقرآنٍ يتلى إلى يوم القيامة، يقول الله فيه: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ (1) مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ (2) سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ} [المسد: 1-3]، وبقي أبو لهب طيلة حياته كافرًا مشركًا مصداقًا لقول الله بأنه سيصلى نارَ جهنَّم، فلم يسلِم رغم طول المدَّة، ولا شكَّ أنَّ في هذا تسليةً للنبي صلى الله عليه وسلم ونصرةً له.
ويظهرُ ذلك أيضًا حين تنقَّصوا من النَّبي صلى الله عليه وسلم ووصفوه بالأبتر، فجاء الرد منَ الله سبحانه وتعالى ليبيِّن أنَّ النَّاقص والأقطع والأذلَّ هو من يتنقَّص من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فعن عكرمة في قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلَاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا} [النساء: 51]، قال: “نزلت في كعب بن الأشرف؛ أتى مكة فقال لها أهلُها: نحن خيرٌ أم هذا الصنبور المنبتر من قومه، ونحن أهل الحجيج، وعندنا منحر البدن؟ قال: أنتم خير، فأنزل الله فيه هذه الآية، وأنزل في الذين قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم ما قالوا: {إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ} [الكوثر: 3]”([2]).
وقيل: نزلت الآية في العاص بن وائل السهمي، يقول البغوي: “نزلت في العاص بن وائل السهمي؛ وذلك أنَّه رأى النبي صلى الله عليه وسلم يخرج من باب المسجد وهو يدخل، فالتقيا عند باب بني سهم وتحدَّثا وأناسٌ من صناديد قريش جلوس في المساجد، فلما دخل العاص قالوا له: من الذي كنت تتحدَّث معه؟ قال: ذلك الأبتر؛ يعني النَّبي صلى الله عليه وسلم، وكان قد توفي ابنٌ لرسول الله صلى الله عليه وسلم من خديجة رضي الله عنها”([3]).
وعلى كل حال فإنَّ الآية تشمل كل من يتنقَّص من النبي صلى الله عليه وسلم إلى قيام السَّاعة، يقول الطبري: “وأولى الأقوال في ذلك عندي بالصواب أن يقال: إنَّ الله -تعالى ذكره- أخبر أنَّ مبغض رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الأقلُّ الأذلُّ، المنقطع عقبه، فذلك صفة كل من أبغضه من النَّاس، وإن كانت الآية نزلت في شخصٍ بعينه”([4]).
ثانيًا: رفع شأن النبي صلى الله عليه وسلم وإعلاء ذكره:
فإنَّ المتنقِّصين كُثُر، وُجدوا منذ وجوده صلى الله عليه وسلم ولن ينتَهوا، لكن كم خلَّد التَّاريخ منهم؟! وكم نقش ذكرهم في صفحات العقل البشري إلى يومنا هذا؟! وهل كان ذكرهم بخير أم بشر؟! لا شكَّ أن من خُلِّد اسمه منهم فبشرٍّ لا بخير، وبقي اسم النبي صلى الله عليه وسلم إلى يومنا هذا وإلى أن يموت كل مسلم على وجه الأرض عاليًا، فهذا الإعلاء لا شكَّ أنه نصرةٌ من الله لرسوله، وقد مدحه الله بقوله: {وَإِنَّ لَكَ لَأَجْرًا غَيْرَ مَمْنُونٍ (3) وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم: 3، 4]، وقوله: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (45) وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا} [الأحزاب: 45، 46]، وقوله: {مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى (3) وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولَى (4) وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى} [الضحى: 3-5]، وقوله: {وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ} [الشرح: 4].
فالذي بقي ويبقى يُذكر بخير هو النبي صلى الله عليه وسلم، والأبتر الذليل هو عدوُّه، يقول الزمخشري في قوله تعالى: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ (2) إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ} [الكوثر: 2، 3]: “فاعبد ربك الذي أعزَّك بإعطائه، وشرَّفك وصانك من منن الخلق، مراغمًا لقومك الذين يعبدون غير الله، وانحر لوجهه وباسمه إذا نحرتَ، مخالفًا لهم في النَّحر للأوثان. إنَّ من أبغضك من قومك لمخالفتك لهم هو الأبتر لا أنت؛ لأنَّ كلَّ من يولد إلى يوم القيامة من المؤمنين فهم أولادُك وأعقابك، وذكرك مرفوع على المنابر والمنائر، وعلى لسان كل عالم وذاكر إلى آخر الدهر، يبدأ بذكر الله ويُثنَّى بذكرك، ولك في الآخرة ما لا يدخل تحت الوصف، فمثلك لا يقال له أبتر: وإنَّما الأبتر هو شانئك المنسيّ في الدنيا والآخرة، وإن ذُكِر ذُكِر باللعن”([5]).
وإلى هذا المعنى يشير ابن تيمية رحمه الله وهو يعدِّد ما اختصَّه الله من مزايا وخصائص: “ومن ذلك: أنَّ الله رفع له ذكره، فلا يُذكر الله سبحانه إلا ذُكر معه، ولا تصحُّ للأمة خطبة ولا تشهُّدٌ حتى يشهدوا أنَّه عبده ورسوله، وأوجب ذكره في كل خطبةٍ، وفي الشَّهادتين اللتين هما أساس الإسلام، وفي الأذان الذي هو شعار الإسلام، وفي الصَّلاة التي هي عماد الدين، إلى غير ذلك من المواضع”([6]).
ثالثًا: عصمة الله له من أذى أعدائه:
فقد عصمه الله سبحانه وتعالى كما وعد بقوله: {وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} [المائدة: 67]، يقول ابن كثير رحمه الله: “أي: بلِّغ أنت رسالتي، وأنا حافظُك وناصرُك ومؤيِّدك على أعدائك ومظفرك بهم، فلا تخف ولا تحزن، فلن يصل أحدٌ منهم إليك بسوء يؤذيك”([7]).
وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يحرسه أصحابه حين قدم المدينة، إلى أن نزلت هذه الآية، تقول عائشة رضي الله عنها: كان النبي صلى الله عليه وسلم يحرس حتى نزلت هذه الآية: {وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ}، فأخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم رأسه من القبَّة، فقال لهم: «يا أيها الناس، انصرفوا؛ فقد عصمني الله»([8]).
فتولَّى الله سبحانه وتعالى نصرته، وحفظه من أعدائه، يقول الماوردي: “فمن معجزاته: عصمتُه من أعدائه وهم الجمُّ الغفير والعدد الكثير، وهم على أتمِّ حنقٍ عليه، وأشد طلب لنفسه، وهو بينهم مسترسلٌ قاهرٌ، ولهم مخالط ومكاثر، ترمقه أبصارهم شزرًا، وترتعد عنه أيديهم ذعرًا، وقد هاجر عنه أصحابه حذرًا حتى استكمل مدته فيهم ثلاث عشرة سنة، ثم خرج عنهم سليمًا لم يُكْلَم في نفس ولا جسد، وما كان ذاك إلّا بعصمة إلهيَّة، وعده الله تعالى بها فحقَّقها”([9]).
بل كان هذا الحفظ للنبي صلى الله عليه وسلم حتى قبل نزول هذه الآية، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال أبو جهل: هل يعفِّر محمَّد وجهه بين أظهركم؟ قال فقيل: نعم، فقال: واللات والعزى، لئن رأيتُه يفعل ذلك لأطأنَّ على رقبته -أو: لأعفرنَّ وجهه في التُّراب-، قال: فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يصلي، زعم ليطأ على رقبته، قال: فما فجئهم منه إلا وهو ينكص على عقبيه ويتَّقي بيديه، قال: فقيل له: ما لك؟! فقال: إنَّ بيني وبينه لخندقًا من نار وهولا وأجنحةً، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لو دنا مني لاختطفته الملائكة عضوًا عضوًا»([10]). وهذا حفظٌ من الله لنبيه، أشهد عليه أكبر أعدائه أبا جهل، يقول النووي رحمه الله: “ولهذا الحديث أمثلةٌ كثيرة في عصمته صلى الله عليه وسلم من أبي جهل وغيره ممن أراد به ضررًا”([11]).
ومن ذلك ما رواه مسلم عن ابن مسعود قال: بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلِّي عند البيت وأبو جهل وأصحاب له جلوس، وقد نحرت جزورٌ بالأمس، فقال أبو جهل: أيُّكم يقوم إلى سلا جزور بني فلان، فيأخذه فيضعه في كتفي محمَّدٍ إذا سجد؟ فانبعث أشقى القوم فأخذه، فلمَّا سجد النبي صلى الله عليه وسلم وضعه بين كتفيه، قال: فاستضحكوا، وجعل بعضهم يميل على بعض وأنا قائمٌ أنظر، لو كانت لي منعة طرحته عن ظهر رسول الله صلى الله عليه وسلم، والنَّبي صلى الله عليه وسلم ساجدٌ ما يرفع رأسه حتى انطلق إنسانٌ فأخبر فاطمة، فجاءت وهي جويرية فطرحته عنه، ثم أقبلت عليهم تشتمهم، فلما قضى النبي صلى الله عليه وسلم صلاته رفع صوته، ثم دعا عليهم، وكان إذا دعا دعا ثلاثًا، وإذا سأل سأل ثلاثًا، ثم قال: «اللهمَّ عليك بقريش» ثلاث مرات، فلمَّا سمعوا صوته ذهب عنهم الضحك، وخافوا دعوته، ثم قال: «اللهمَّ عليك بأبي جهل بن هشام، وعتبة بن ربيعة، وشيبة بن ربيعة، والوليد بن عقبة، وأمية بن خلف، وعقبة بن أبي معيط» -وذكر السابع ولم أحفظه-، فوالذي بعث محمَّدًا صلى الله عليه وسلم بالحق، لقد رأيت الذين سمَّى صرعى يوم بدر، ثم سحبوا إلى القليب قليب بدر([12]).
رابعًا: نصرته له المتمثلة في هجرته:
فمن أعجب ما نصر الله به نبيَّه محمَّدًا صلى الله عليه وسلم ما صنعه به في هجرته، فهو نصرٌ عجيبٌ؛ لأنَّه صلى الله عليه وسلم أُخرج من موطنه، ومن يخرج يكون ذليلا مهانا خاسرًا، على العكس ممَّا حصل لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنَّ الهجرة وحدها فيها شواهد كثيرة لنصرة الله لرسوله، والله سبحانه وتعالى سمى الهجرة نصرًا فقال: {إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ} [التوبة: 40]، فمن يتأمَّلها وحدها يدرك مقدار هذه النصرة وتنوع شواهدها، فمن ذلك: نجاتُه صلى الله عليه وسلم من مؤامرة قريش حين دبروا لقتله وتفريق دمه على القبائل كلها، فخرج النبي صلى الله عليه وسلم من بين أظهرهم سالما معافًى، وهذا بحدِّ ذاته نصرة عظيمة، وقد ذكر الله ذلك لنبيه فقال: {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} [الأنفال: 30]، نقل الطبري عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: “إنَّ نفرًا من قريش من أشراف كل قبيلة اجتمعوا ليدخلوا دار الندوة، فاعترضهم إبليس في صورة شيخٍ جليل، فلمَّا رأوه قالوا: من أنت؟ قال شيخٌ من نجد، سمعت أنكم اجتمعتم فأردت أن أحضُركم، ولن يعدمكم منِّي رأي ونصح، قالوا: أجل ادخل. فدخل معهم، فقال: انظروا إلى شأن هذا الرجل، والله ليوشكن أن يواثبكم في أموركم بأمره… فقال أبو جهل: والله لأشيرنَّ عليكم برأيٍ ما أراكم أبصرتموه بعد، ما أرى غيره، قالوا: وما هو؟ قال: نأخذ من كل قبيلة غلامًا وسيطًا شابًّا نهدًا، ثم يعطى كل غلام منهم سيفًا صارمًا، ثم يضربوه ضربة رجل واحد، فإذا قتلوه تفرَّق دمه في القبائل كلها، فلا أظن هذا الحي من بني هاشم يقدرون على حرب قريش كلها، فإنَّهم إذا رأوا ذلك قبلوا العقل، واسترحنا وقطعنا عنَّا أذاه. فقال الشيخ النجدي: هذا والله الرأي، القول ما قال الفتى، لا أرى غيره، قال: فتفرَّقوا على ذلك وهم مجمعون له، قال: فأتى جبريل النَّبي صلى الله عليه وسلم فأمره أن لا يبيت في مضجعه الذي كان يبيت فيه تلك الليلة، وأذن الله له عند ذلك بالخروج، وأنزل عليه بعد قدومه المدينة الأنفال، يذكِّره نعمَه عليه وبلائه عنده: {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} [الأنفال: 30]”([13]). فالهجرة إذن كانت إنقاذًا من قتلٍ محقَّق بعد أن عقدت قريش عزمها على ذلك، فهو نصرٌ من الله لرسوله صلى الله عليه وسلم.
ومن ذلك: قصة سراقة بن مالك رضي الله عنه حين لحق بالنبي صلى الله عليه وسلم، يقول أبو بكر رضي الله عنه: فارتحلنا بعدما مالت الشمس، واتبعنا سراقة بن مالك، فقلت: أُتِينا يا رسول الله، فقال: «لا تَحزَن؛ إنَّ الله معنا»، فدعا عليه النبي صلى الله عليه وسلم، فارتطمت به فرسه إلى بطنها… فقال: إنِّي أراكما قد دعوتما عليَّ، فادعُوَا لي، فالله لكما أن أردَّ عنكما الطلب، فدعا له النَّبي صلى الله عليه وسلم فنجا، فجعل لا يلقَى أحدًا إلا قال: قد كفيتُكم ما هنا، فلا يلقى أحدًا إلا ردَّه، قال: ووفَّى لنا([14]).
فانظروا إلى هذه النُّصرة، فهذا الذي يريد قتل النبي صلى الله عليه وسلم يقلبه الله إلى مدافعٍ عنه، وكم عندنا في الواقع المعاصر من أمثلة شبيهة، وفي هذا يقول أنس رضي الله عنه: “فكان أول النهار جاهدًا على نبي الله صلى الله عليه وسلم، وكان آخر النهار مسلحة له”([15]).
ومن شواهد نصرة الله له في هجرته: ما وقع في غار ثور، فإنَّ كفار قريش قد أعلنت عن جائزة قيِّمة لمن يأتي برسول الله صلى الله عليه وسلم، فخرج الناس يبحثون عنه في كل مكان، ولجأ هو وأبو بكر إلى غار ثور، وهناك وصل المشركون حتى قال أبو بكر: نظرتُ إلى أقدام المشركين على رؤوسنا ونحن في الغار، فقلت: يا رسول الله، لو أنَّ أحدهم نظر إلى قدميه أبصرنا تحت قدميه! فقال: «يا أبا بكر، ما ظنُّك باثنين الله ثالثهما؟!»([16]).
فما أعظمَ هذه الطمأنينة عند النبي صلى الله عليه وسلم وهو موقنٌ بنصر الله له! وفي هذا أنزل الله تبارك وتعالى: {إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [التوبة: 40]، يقول ابن كثير: “أي: تنصروا رسوله، فإنَّ الله ناصره ومؤيده وكافيه وحافظه، كما تولى نصره {إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ} أي: عام الهجرة، لَمَّا همَّ المشركون بقتله أو حبسه أو نفيه، فخرج منهم هاربًا صحبة صديقه وصاحبه أبي بكر بن أبي قحافة، فلجأ إلى غار ثور ثلاثة أيام ليرجع الطلب الذين خرجوا في آثارهم، ثم يسيرا نحو المدينة، فجعل أبو بكر رضي الله عنه يجزع أن يطلع عليهم أحد فيخلص إلى الرسول عليه السلام منهم أذى، فجعل النَّبي صلى الله عليه وسلم يسكنه ويثبته ويقول: «يا أبا بكر، ما ظنك باثنين الله ثالثهما؟!»”([17]).
وممَّا يؤكِّد أنَّ الهجرةَ كانت نصرًا أنَّ هذه الهجرة كانت سببًا في انتشار الإسلام، وانطلاق النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه في الدعوة إلى الله تعالى بشكل أعظم، فقد كان الإسلام يزداد يومًا بعد يوم في مكة، لكنَّه انتشار بطيء، كما أنهم كانوا لا يُمكَّنون من الدعوة بحرِّيَّة؛ بل على العكس من ذلك كان كفار قريش يسومون المسلمين سوء العذاب، فتحقق النصر بالهجرة إذ وجد النبي صلى الله عليه وصحابته الأرضية التي ينطلقون منها في دعوتهم إلى الله سبحانه.
خامسًا: نصرته له من المستهزئين به ووعده بذلك:
قال الله لنبيه صلى الله عليه وسلم: {إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ (95) الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (96) وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ (97) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ (98) وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} [الحجر: 95-99]، يقول الطبري رحمه الله: “يقول -تعالى ذكره- لنبيه محمَّد صلى الله عليه وسلم: {إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ} -يا محمد- الذين يستهزئون بك ويسخرون منك، فاصدع بأمر الله، ولا تخف شيئًا سوى الله، فإنَّ الله كافيك من ناصَبَك وآذاك كما كفاك المستهزئين، وكان رؤساء المستهزئين قومًا من قريش معروفين”([18]).
وفي هذا بيانٌ من الله سبحانه وتعالى أنَّ الاستهزاء برسوله يُحزن الرسول صلى الله عليه وسلم، ولا شكَّ أنه يحزن أمته من بعده، لكن هذا الحزن لا يوقفه عن مشاريعه الدعوة والعلمية والعملية، بل يكون فاتحةً لمشاريع أعظم وأكبر في الدعوة إلى الله، وفي إظهار عظمة النبي محمد صلى الله عليه وسلم، وفي إظهار قدره في قلوب المسلمين، ولذلك بين الله لنبيه صلى الله عليه وسلم قبل هذه الآية فقال: {فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ} [الحجر: 94]، ويعني ذلك أنَّ الاستهزاء والتشكيك وحملات الإساءة لا ترد النبي صلى الله عليه وسلم عما أُمر به من إبلاغ الدين، ولا ترد المسلمين عن دينهم، ونصرتهم لنبيهم، وفي بيان هذا يقول ابن كثير رحمه الله: “يقول تعالى آمرًا رسوله صلوات الله وسلامه عليه، بإبلاغ ما بعثه به، وبإنفاذه والصَّدع به، وهو مواجهة المشركين به، كما قال ابن عباس: {فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ} أي: أمضه. وفي رواية: افعل ما تؤمر. وقال مجاهد: هو الجهر بالقرآن في الصلاة. وقال أبو عبيدة، عن عبد الله بن مسعود: ما زال النبي صلى الله عليه وسلم مستخفيًا حتى نزلت: {فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ} فخرج هو وأصحابه. وقوله: {وَأَعْرِضْ عَنِ المشْرِكِينَ (94) إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ} [الحجر: 94، 95] أي: بلِّغ ما أنزل إليك من ربك، ولا تلتفت إلى المشركين الذين يريدون أن يصدوك عن آيات الله”([19]).
سادسًا: نصرة الله لنبيه بإبقاء هذا الدين:
فبقاء هذا الدين الذي جاهد من أجله رسول الله صلى الله عليه وسلم، وانتشاره بين العالمين حتى يقول في ذلك النبي صلى الله عليه وسلم: «لا يبقى على ظهر الأرض بيت مدر ولا وبر إلا أدخله الله كلمة الإسلام، بعز عزيز أو ذل ذليل، إما يعزهم الله فيجعلهم من أهلها، أو يذلهم فيدينون لها»([20])، هو نصرةٌ لهذا النبي الذي جاء بالدين من عند الله، وهو ذكرٌ له كلما ذُكر الله سبحانه وتعالى في الشهادتين، وهو ما يشهد له الواقع، فإنَّه ما من حملةٍ مسيئة للرسول صلى الله عليه وسلم أو للإسلام إلا كان فيها خيرٌ أراده الله، ولا يعني هذا الرضا بتلك الأفعال المسيئة، أو إقرار “الإسلاموفوبيا” المنتشرة، وإنما يعني أنهم: {يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} [التوبة: 32].
وجوب نصرة الرسول صلى الله عليه وسلم:
نصرة الرَّسول صلى الله عليه وسلم واجبة على المسلمين بالمفهوم العام للنصرة، فالنصرة إحدى مقتضيات اتِّباعه وحبِّه وتقديمه على النَّفس والمال والولد، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لعمر بن الخطاب رضي الله عنه حين قال له عمر: يا رسول الله، لأنت أحب إليَّ من كل شيءٍ إلا من نفسي، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «لا والذي نفسي بيده، حتى أكون أحب إليك من نفسك»، فقال له عمر: فإنَّه الآن -والله- لأنت أحبَّ إليَّ من نفسي، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «الآن يا عمر»([21])، ومن مقتضيات محبته: نصرتُه عليه الصلاة والسلام، وهو ما كان الصحابة يترجمونه بأفعالهم.
ومن الشَّواهد على وجوب نصرة النبي صلى الله عليه وسلم: أنَّ الله سبحانه وتعالى أخذ الميثاق على كل الأنبياء من قبل محمَّد صلى الله عليه وسلم على نصرته، وقيل: أخذ الأنبياءُ المواثيق على أممِهم، ولا تضادَّ بين القولين، يقول تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ} [آل عمران: 81]، يقول قتادة: “هذا ميثاقٌ أخذه الله على النبيين أن يصدِّق بعضهم بعضًا، وأن يبلِّغوا كتاب الله ورسالاته، فبلغت الأنبياء كتابَ الله ورسالاته إلى قومهم، وأخذ عليهم فيما بلغتهم رسلهم أن يؤمنوا بمحمَّدٍ صلى الله عليه وسلم ويصدقوه وينصروه”([22]).
فالواجب هو الإيمان بالنبي صلى الله عليه وسلم أولًا، وكل من آمن به ينصره، يقول الرازي: “أمَّا قوله: {لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ} فالمعنى ظاهر، وذلك لأنَّه تعالى أوجب الإيمان به أولًا، ثم الاشتغال بنصرته ثانيًا، واللام في {لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ} لام القسم، كأنه قيل: والله لتؤمنن به”([23]).
وقد علَّق الله سبحانه وتعالى الفلاح بنصرته، فقال تعالى: {فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الأعراف: 157]، يقول ابن عباس رضي الله عنه: “{وَعَزَّرُوهُ} يقول: حموه ووقَّروه”([24])، ويقول مجاهد: “{ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ}؛ عزروه: سدَّدوا أمره، وأعانوا رسوله”([25])، ويقول الطبري رحمه الله: “وقوله: {نَصَرُوهُ}، يقول: وأعانوه على أعداء الله وأعدائه، بجهادهم ونصب الحرب لهم، {وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ} يعني القرآن والإسلام، {أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} يقول: الذين يفعلون هذه الأفعال التي وصف بها -جل ثناؤه- أتباع محمد صلى الله عليه وسلم هم المنجحون المدركون ما طلبوا ورجوا بفعلهم ذلك”([26]).
فالله سبحانه وتعالى قد علق الفلاح بنصرة رسوله، بل قد جعل الله نصرتَه من علامات صدق إيمان العبد، قال تعالى: {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} [الحشر: 8].
ومن ذلك قوله تعالى: {إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (8) لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا} [الفتح: 8، 9]، يقول قتادة: “{وَيُعَزِّرُوهُ} قال: ينصروه، {وَيُوَقِّرُوهُ} أي: ليعظموه”([27])، ويقول ابن تيمية رحمه الله وهو يبين تكريم الله لنبيه: “ومن ذلك: أنَّ الله أمر بتعزيره وتوقيره فقال: {وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ}، والتعزير: اسم جامع لنصره وتأييده ومنعه من كل ما يؤذيه، والتَّوقير: اسمٌ جامعٌ لكلِّ ما فيه سكينة وطمأنينة من الإجلال والإكرام، وأن يُعامل من التَّشريف والتَّكريم والتَّعظيم بما يصونه عن كل ما يخرجه عن حد الوقار”([28]).
ومما يدلُّ على ذلك: كل الأدلة الدالة على وجوب نصرة المؤمنين، من مثل قوله تعالى: {وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ} [الأنفال: 72]، والنبي صلى الله عليه وسلم أولى بالنصرة.
ومن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: «لا تحاسدوا، ولا تناجشوا، ولا تباغضوا، ولا تدابروا، ولا يبع بعضكم على بيع بعض، وكونوا عباد الله إخوانًا؛ المسلم أخو المسلم، لا يظلمه، ولا يخذله، ولا يحقره»([29])، يقول النووي رحمه الله: “وأمَّا «لا يخذله» فقال العلماء: الخذل ترك الإعانة والنَّصر”([30]). ومَنْ أكثر استحقاقًا للنصرة من خاتم الأنبياء والرسل صلى الله عليه وسلم؟! ونصرته عليه الصلاة والسلام ليس لحاجته هو، وإنما لإكمال إيماننا نحن بنصرته، فمتى ما وُجِد العدوان عليه صلى الله عليه وسلم هبَّ المسلمون لنصرة دينه وسنته سيرته، فمن فعل ذلك دلَّ على وجود الإيمان في قلبه، وعلى حبه لرسوله صلى الله عليه وسلم.
أساليب نصرة الرسول صلى الله عليه وسلم:
طبَّق الصحابة رضي الله عنهم تلك النداءات، فكانوا أشد الناس نصرةً للنبي صلى الله عليه وسلم، ولا زال واجب النُّصرة مستمرًّا إلى يوم القيامة، ويتأكد مع كل اعتداء أو تنقُّص أو أذيَّة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن أراد نصرة الرسول فإنَّ سبلها كثيرة، يختار كل واحد منها حسب إمكاناته ومكانه وزمانه، وحسب المصالح والمفاسد التي يراها، فما يصلح في مكان قد لا يصلح في آخر، والطريقة التي تثمر في مكان قد تفسد في آخر، فعلى المسلم أن يعقد العزم على نصرته صلى الله عليه وسلم، ثم لن يعدم طريقًا أو طرقًا لفعل ذلك، فمن أساليب نصرته صلى الله عليه وسلم:
1- الاقتداء بهديه وسنَّته:
فأوَّل ما تفعله في نصرة نبيك هو أن يروا أخلاقه وتعاليمه فيك، ولا شكَّ أنَّ القدوة الصامتة لها أثر فعَّال في كثيرٍ من الأحيان، ولا يخفى علينا انتشار الإسلام في بلدان كثيرة عبر تجار ورحَّالة أحسنوا أخلاقهم، وهذا الاقتداء والتمثل بأخلاق النبي صلى الله عليه وسلم أول سبل نصرته عليه الصلاة والسلام.
ويكون ذلك على مستوى الفرد بالتحلي بالأخلاق الحميدة، وعلى مستوى الأسرة بتنشئة الأبناء على التحلي بالأخلاق التي كان عليها النبي صلى الله عليه وسلم، وطرق غرس تلك الأخلاق في النشء كثيرة، يختار منها المربُّون ما يناسب الأعمار والزمان والأفهام، إلا أن الغاية واحدة، وهي غرس الأخلاق التي كان عليها النبي صلى الله عليه وسلم في النشء، وإعلامهم بأنها أخلاقه عليه الصلاة والسلام.
2- نشرُ سنَّته بين الخلائق:
من سبل نصرته صلى الله عليه وسلم إظهار ما جاء به من محاسن الأخلاق ومكارم الصِّفات، فليس الأمر مقتصرًا على التحلِّي بسنته، بل يدعو الإنسان إليها، وفي ذلك يقول ابن القيم رحمه الله: “وقد أمر النَّبي صلى الله عليه وسلم بالتَّبليغ عنه ولو آية، ودعا لمن بلَّغ عنه ولو حديثًا، وتبليغ سنته إلى الأمة أفضل من تبليغ السِّهام إلى نحور العدو؛ لأن ذلك التبليغ يفعله كثير من الناس، وأما تبليغ السنن فلا تقوم به إلا ورثة الأنبياء وخلفاؤهم في أممهم، جعلنا الله تعالى منهم بمنه وكرمه”([31]).
3- بيان صفاته وأخلاقه صلى الله عليه وسلم:
فمن سُبُل نصرته نشر شمائله، والاستعانة بالوسائل الحديثة في إظهار النبي صلى الله عليه وسلم على ما كان عليه، لا على ما يصوِّره عليه المسيئون، فنشر شمائل الرسول صلى الله عليه وسلم وتقريبها إلى الناس بالطرق اليسيرة عليهم من أعظم طرق النُّصرة.
4- ترجمة المقاطع والمقالات والكتب التي اهتمَّت ببيان شمائل المصطفى صلى الله عليه وسلم وصفاته وأخلاق:
فترجمتها وتقديمها في قوالب إبداعية مؤثرة، ثم نشر ذلك بالوسائل المتاحة في أوساط الشعوب التي فيها الإساءات للنبي صلى الله عليه وسلم، يعدُّ طريقةً فعَّالة في التعريف بالنبي صلى الله عليه وسلم.
ولا شكَّ أن العمل الجماعي في مثل هذه الأعمال أكثر جودة وإتقانًا، وأقدر على النشر والتأثير من الأعمال الفردية، فحقٌّ على القادرين أن يجمعوا مشاريعهم المتقاربة لتكون الفائدة أكبر، والتأثير أقوى، ولا بدَّ أن تتلاشى الحظوظ النفسية أمام المحبة الشرعية للرسول صلى الله عليه وسلم، كما أن العمل الجماعي مبدأ شرعي، وفي ذلك يقول تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى} [المائدة: 2].
5- النُّصرة الإعلاميَّة للحبيب محمد صلى الله عليه وسلم:
فدور الإعلاميين كبيرٌ في إيصال الصَّوت الذي لا يستطيع العالِم وطالب العلم أن يوصله، ولا شكَّ أن الإعلام أحد أكثر الأدوات نفوذًا في عقول المجتمعات، وبه يمكن أن يكون التأثير بشكل أكثر من مجرد الكتابة العلمية.
6- دور الكتاب والمثقفين والعقلاء من الأمة:
ودورهم ليس مقتصرًا على إظهار سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم فحسب، بل في مناقضة ما يسيئون فهمه حول النبي صلى الله عليه وسلم ومناقشته، والرد عليه بلغة علمية هادئة.
7- التعامل السليم من الأقليات الإسلامية الموجودة في الدول المسيئة بما يكفله القانون لهم في تلك البلاد، وبدون الخوض في أمور مفاسدها أكثر من مصالحها، ويترك تقدير ذلك لعلماء تلك البلاد.
8- التعامل القانوني مع الإساءات الموجهة إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فإنَّ التعدي والجناية لها قوانينها التي يمكن توظيفها في تخفيف الإساءات أو إزالتها، ويعمل به أهله المختصُّون به.
9- تفعيل الدور المناط بالحكام وولاة الأمور، وهم أعلم بطرق مجابهتهم لتلك الإساءات، وبإظهار اعتزاز المسلمين بنبيهم صلى الله عليه وسلم، وعدم قبولهم لأي إساءة كانت، وهذا الأمر متروكٌ لولاة الأمر يتصرفون فيه بما يرونه من مصالح ومفاسد.
وليست هذه بآخر الوسائل المشروعة.
وأخيرًا: بين الله سبحانه وتعالى أنَّه ناصرٌ رسوله، وما نصرتك إلا زيادة لإيمانك، ودليلٌ على محبتك، وقد نصر الله رسوله في أحلك الظروف كما بينَّا حين قال الله تعالى: {إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ} [التوبة: 40]، فمن تقاعس وتخاذل عن نصرة الرسول صلى الله عليه وسلم فإنما يحرم نفسه من منزلة العزِّ والشرف.
وأختم هذه الورقة بما قاله ابن تيمية عن النبي صلى الله عليه وسلم وهو يبين ما اختصه الله به من واجبات وحقوق لا تختصُّ برسالته، يعني بذلك أنَّها أمور لو لم تكن موجودة لما أثَّر في الرسالة، وليس للرسالة أثر في إيجابها على الأمة، فهي دليل على حبِّ الله لرسوله، وتعظيمه له، ورفعة درجة النبي صلى الله عليه وسلم، يقول ابن تيمية: “إنَّ الله سبحانه وتعالى أوجب لنبيِّنا صلَّى الله عليه وسلم على القلب واللسان والجوارح حقوقًا زائدةً على مجرَّد التَّصديق بنبوَّته، كما أوجب سبحانه على خلقه من العبادات على القلب واللسان والجوارح أمورًا زائدةً على مجرَّد التَّصديق به سبحانه، وحرَّم سبحانه لحرمة رسوله ممَّا يباح أن يفعل مع غيره أمورًا زائدة على مجرَّد التَّكذيب بنبوته.
فمن ذلك: أنَّه أمر بالصَّلاة عليه والتَّسليم بعد أن أخبر أنَّ الله وملائكته يصلون عليه.
ومن ذلك: أنَّه أخبر أنَّه أولى بالمؤمنين من أنفسهم، فمن حقه أنَّه يجب أن يؤثره العطشان بالماء، والجائع بالطَّعام، وأنه يجب أن يوقى بالأنفس والأموال.
ومن حقِّه: أن يكون أحبَّ إلى المؤمن من نفسه وولده وجميع الخلق.
ومن ذلك: أن الله أمر بتعزيره وتوقيره فقال: {وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ}.
ومن ذلك: أنَّه خصَّه في المخاطبة بما يليق به فقال: {لَا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا} [النور: 63].
ومن ذلك: أنه حرَّم التَّقدم بين يديه بالكلام حتى يأذن، وحرَّم رفع الصوت فوق صوته، وأن يجهر له بالكلام كما يجهر الرَّجل للرجل، وأخبر أنَّ ذلك سبب حبوط العمل.
ومن ذلك: أنَّه حرَّم على الأمَّة أن يؤذوه بما هو مباح أن يعامل به بعضهم بعضًا تمييزًا له؛ مثل نكاح أزواجه من بعده.
ومن كرامته المتعلِّقة بالقول: أنَّه فرق بين أذاه وأذى المؤمنين فقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُهِينًا (57) وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا} [الأحزاب: 57، 58].
ومن ذلك: أنَّ الله رفع له ذكره، فلا يذكر الله سبحانه إلا ذُكر معه، ولا تصحُّ للأمة خطبة ولا تشهد حتى يشهدوا أنَّه عبده ورسوله، وأوجب ذكره في كل خطبة، وفي الشهادتين اللتين هما أساس الإسلام، وفي الأذان الذي هو شعار الإسلام، وفي الصلاة التي هي عماد الدين، إلى غير ذلك من المواضع، هذا إلى خصائص له أخر يطول تعدادها”([32]).
وصلى الله وسلم على نبيِّنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
ــــــــــــــــــــــــــــــــ
(المراجع)
([2]) ينظر: تفسير الطبري (24/ 657-658).
([5]) تفسير الزمخشري (4/ 807-808).
([6]) الصارم المسلول على شاتم الرسول (ص: 424).
([7]) تفسير ابن كثير (3/ 151-152).
([8]) أخرجه الترمذي (3046)، والحاكم (3221)، قال الترمذي: “غريب”، وقال ابن حجر في الفتح (6/ 82): “إسناده حسن، واختلف في وصله وإرساله”.
([11]) شرح صحيح مسلم (17/ 140).
([13]) تفسير الطبري (13/ 494-495).
([15]) انظر: صحيح البخاري (3911).
([17]) تفسير ابن كثير (4/ 155).
([18]) تفسير الطبري (17/ 153).
([19]) تفسير ابن كثير (4/ 551).
([20]) أخرجه أحمد (23814)، وصححه ابن حبان (6699، 6701).
([22]) ينظر: تفسير الطبري (6/ 555).
([24]) انظر: تفسير الطبري (13/ 169).
([26]) تفسير الطبري (13/ 169).
([27]) انظر: تفسير الطبري (22/ 208).
([28]) الصارم المسلول على شاتم الرسول (ص: 422).