تحريم التماثيل – صيانةً لجناب التوحيد ودفع الشبهات المعاصرة-
للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة
يتساءل البعض: ما المانعُ من إقامة تماثيلَ مجسمةٍ في الميادين للرموز الدينية والوطنية المعاصرة؛ لتتعرف عليهم الأجيال الناشئة، وتظلَّ ذكراهم وقيمُهم محفورةً في وجدان الأجيال المسلمة؟! خاصة أنَّ التوحيد اليوم استقرَّ في الأمة، ولم يعد أحدٌ يعبُد هذه التماثيلَ كما كان قديما، ولذلك منعت منها الشريعة حينئذ، بخلاف حالِ الناس اليوم!
وقبل أن نبيِّن جوابَ هذا الكلام نشيرُ باختصارٍ إلى أنواع الصوَر، وحكم كلٍّ منها، والحكمة من النهي عن التصوير، وهل هذه الحكمة ما زالت موجودةً أم لم تعد موجودَة؟ ثم بيان ما في هذا الكلام من مغالطات. والله المستعان وعليه التكلان.
أولا: معنى الصورة في اللغة وكلام العلماء:
قال في لسان العرب: “والتمثال: الصورة، والجمع التماثيل، وظلُّ كلِّ شيء تمثالُه، والتمثال: اسم للشيء المصنوع مشبها بخلق من خلق الله، وأصله: من مثَّلت الشيء بالشيء إذا قدَّرته على قدره، ويكون تمثيل الشيء بالشيء تشبيهًا به”([1]).
وأما في كلام العلماء فإنهم يتناولون في بحثهم لمعنى الصور وما يندرج تحتها ثلاثة أنواع مختلفة:
الأول: الصور المجسمة، التي لها ظلٌ.
الثاني: الرسم باليَد.
الثالث: التصوير الفوتوغرافي المعاصر.
ثانيًا: حكم التصوير:
لا يختلف العلماء في تحريم الشريعة للتصوير إجمالا، وحرمة اتخاذ صور ذوات الأرواح، والأحاديث في ذلك كثيرة، وهي متنوعة، فمنها ما يبيِّن أنَّ المصورين أشدُّ الناس عذابًا يوم القيامة، ومنها ما يدل على لعنِ المصورين، ومنها ما يدل على عدم دخول الملائكة للبيت الذي فيه صورة، ومنها الأمر بطمس الصور حتى تصير كالجمادات التي لا روح فيها، أو تصير ممتهنة، ومنها ما يدلُّ على ذمِّ من قبلنا من الأمم بسبب تصويرهم الصور للصالحين، ومنها ما يدلُّ على أن إقامة الصور والتماثيل للصالحين كان من ذرائع الشرك، وغير ذلك مما يفيد النهي عن التصوير.
روى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث عائشة رضي الله عنها أَنَّهَا اشْتَرَتْ نُمْرُقَةً فِيهَا تَصَاوِيرُ، فَقَامَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْبَابِ فَلَمْ يَدْخُلْ، قالت: فَقُلْتُ: أَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مِمَّا أَذْنَبْتُ، قَالَ: «مَا هَذِهِ النُّمْرُقَةُ؟» قُلْتُ: لِتَجْلِسَ عَلَيْهَا وَتَوَسَّدَهَا، قَالَ: «إِنَّ أَصْحَابَ هَذِهِ الصُّوَرِ يُعَذَّبُونَ يَوْمَ القِيَامَةِ يُقَالُ لَهُمْ: أَحْيُوا مَا خَلَقْتُمْ، وَإِنَّ المَلاَئِكَةَ لاَ تَدْخُلُ بَيْتًا فِيهِ الصُّورَةُ»([2]).
وروى البخاري وغيره عن أبي جحيفة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم: «لَعَنَ آكِلَ الرِّبَا، وَمُوكِلَهُ، وَالوَاشِمَةَ، وَالمُسْتَوْشِمَةَ، وَالمُصَوِّرَ»([3]).
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «لا تَدْخُلُ الْمَلَائِكَةُ بَيْتًا فِيهِ تَمَاثِيلُ» أَوْ: «تَصَاوِير»([4]).
والأحاديث المندرجة تحت هذه العناوين كثيرة جدًّا، تدلّ على أنَّ حرمة التصوير في الجملة قطعيَّةٌ ومتواترة كذلك. وهذا -بفضل الله- لا خلافَ فيه بين العلماء قديمًا ولا حديثًا، إلا في بعض التفاصيل المتعلقة بتحقيق مناط التحريم.
فأما النوع الثاني والثالث من التصوير (الرسم باليَد، والتصوير الفوتوغرافي المعاصر) فللعماء فيهما خلاف قديم ومعاصر، هل تتناولهما النصوص المحرِّمة للتصوير أم لا يدخلان فيهما أصلا، أم تستثنى إباحة الرقم في الثوب والجدار ونحوه من نصوص التحريم؟
فذهب جمهور العلماء إلى دخول الرسم باليد في عموم تحريم التصوير، وخالف في ذلك بعض المالكية، قال النووي رحمه الله: “ولا فرق في هذا كله -أي: تحريم صور الحيوان- بين ما له ظل وما لا ظل له، هذا تلخيص مذهبنا في المسألة، وبمعناه قال جماهير العلماء من الصحابة والتابعين ومن بعدهم، وهو مذهب الثوري ومالك وأبي حنيفة وغيرهم. وقال بعض السلف: إنما ينهى عما كان له ظل، ولا بأس بالصور التي ليس لها ظل. وهذا مذهب باطل؛ فإن الستر الذي أنكر النبي صلى الله عليه وسلم الصورة فيه لا يشكّ أحد أنه مذموم، وليس لصورته ظلّ، مع باقي الأحاديث المطلقة في كل صورة”([5]).
وقال أيضا: “وقال آخرون: يجوز منها ما كان رقما في ثوب، سواء امتهن أم لا، وسواء علِّق في حائط أم لا، وكرهوا ما كان له ظل أو كان مصورًا في الحيطان وشبهها، سواء كان رقما أم غيره. واحتجوا بقوله صلى الله عليه وسلم في بعض أحاديث الباب: «إلا ما كان رقما في ثوب»، وهذا مذهب القاسم بن محمد”([6]).
وقد تعقب الحافظ ابن حجر توصيف النووي رحمه الله لدرجة الخلاف بالبطلان؛ لأنه قول أحد كبار الأئمة، مستدلا عليه بفهم محتمل، فقال رحمه الله: “والقاسم بن محمد أحد فقهاء المدينة، وكان من أفضل أهل زمانه، وهو الذي روى حديث النمرقة، فلولا أنه فهم الرخصة في مثل الحَجَلة ما استجاز استعمالها، لكن الجمع بين الأحاديث الواردة في ذلك يدلّ على أنه مذهب مرجوح، وأن الذي رُخِّص فيه من ذلك ما يمتهن لا ما كان منصوبا”([7]).
قال ابن العربي المالكي رحمه الله: “حاصل ما في اتخاذ الصور أنها إن كانت ذات أجسام حرم بالإجماع، وإن كانت رقما فأربعة أقوال:
الأول: يجوز مطلقا على ظاهر قوله في حديث الباب: «إلا رقما في ثوب».
الثاني: المنع مطلقا حتى الرقم.
الثالث: إن كانت الصورة باقية الهيئة قائمة الشكل حَرُم، وإن قطعت الرأسُ أو تفرقت الأجزاء جاز. قال: وهذا هو الأصح.
الرابع: إن كان مما يمتهن جاز، وإن كان معلقًا لم يجز”([8]).
فهذا ملخص خلاف العلماء في رسم ذوات الأرواح.
وأما التصوير الفوتوغرافي: فهو من مسائل الاجتهاد المعاصر، ومبنى الخلاف في دخول فعل التصوير في التصوير المنهي عنه أم لا، وكذلك في دخول الصورة الفوتوغرافية في الصورة المنهي عن اتخاذها أم لا.
فمن العلماء من يقول بدخوله في عموم تحريم التصوير؛ قياسًا على الرسم المنهي عنه، فيرون تحريمه إلا للحاجة، ومنهم من يرى أن إطلاق التصوير على التصوير الفوتوغرافي هو من باب الاشتراك اللفظي، ولكن حقيقته مغايرة له، ولا تتناوله عموم النصوص المحرمة للتصوير.
ومما لا ينبغي الخلاف فيه النهي عن تعليق الصور التي تكون ذريعة للتعظيم المنهيّ عنه، كصور الكبراء والعظماء والمشايخ؛ فإن معنى التعظيم المذموم موجود فيها ولو كانت غير مجسمة.
وأما النوع الأول من أنواع الصور -وهي الصور المجسمة أو التي لها ظل كما يطلق عليها السلف- فهي غرضنا في هذه الورقة؛ لبيان موقف الإسلام منها، وبيان ما يحلّ منها وما يحرم، وموطن الإجماع والاختلاف في ذلك، والإجابة عن بعض الشبهات التي تُثار حول هذه المسألة.
ثالثًا: الاتفاق على تحريم المجسَّمات:
كما سبق: اتفق العلماء في الجملة على حرمة الصور والتصوير، واتَّفقوا كذلك على حرمة الصور المجسَّمة، ودخولها دخولًا أوَّليًّا في تحريم الصور ولعن المصوّرين.
قال النووي رحمه الله: “وأجمعوا على منع ما كان له ظلٌّ، ووجوب تغييره، قال القاضي: إلا ما ورد في اللعب بالبنات لصغار البنات والرخصة في ذلك”([9]).
وقال ابن العربي المالكي رحمه الله: “فإنها -أي: الصور- محرمةٌ إذا كانت أجسادا بالإجماع”([10]). وقد نقل ابن حجر رحمه الله هذا الإجماع، وأقره عليه([11]).
وقال خليل المالكي: “التماثيل إن كان بغير حيوان كالشجر جاز، وإن كان بحيوان مما له ظل قائم فهو حرام بإجماع”([12]).
والنقول في ذلك كثيرة، فليس بين العلماء اختلاف في تحريم صور الحيوان المجسمة.
رابعًا: مواطن خلاف العلماء في ذلك:
اختلف العلماء في عدد من الصور الجزئية المتعلقة بهذه المسألة، منها:
1- عرائس البنات ولعبهنّ:
اختلف العلماء في ذلك على قولين:
القول الأول: أنها جائزة، وأن أحاديث إباحتها مخصِّصة لعموم تحريم التصوير؛ لحاجتهن إلى اللعب والترفيه وتعويد البنات على التربية ونحو ذلك.
واستدلوا على ذلك بما رواه البخاري ومسلم في صحيحيهما عن عائشة رضي الله عنها أَنَّهَا كَانَتْ تَلْعَبُ بِالْبَنَاتِ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ([13]).
قال القاضي عياض رحمه الله: “فيه جواز اللعب بهنّ، وتخصيصهم من الصور المنهي عنها لهذا الحديث، ولأن في ذلك من تدريب النساء في صغرهن على النظر لأنفسهن وبيوتهن وأبنائهن. وقد أجاز العلماء بيعهنّ وشراءهن، ولم يغيّروا أسواقها. وروي عن مالك كراهة شرائها، وهذا عندي محمول على كراهة الاكتساب بها للبائع، وتنزيه أُولي المروءات عن تولّي ذلك من بيع وشراء، لا كراهة اللعب بهنّ، وعلى الجواز بلعب الجواري بهن جمهور العلماء”([14]).
وقال الحافظ ابن حجر: “واستُدِلَّ بهذا الحديث على جواز اتخاذ صور البنات واللعب من أجل لعب البنات بهن، وخُصَّ ذلك من عموم النهي عن اتخاذ الصور، وبه جزَم عياض، ونقله عن الجمهور، وأنهم أجازوا بيع اللُّعب للبنات لتدريبهنَّ مِن صغرهن على أمرِ بُيوتهن وأولادهن”([15]).
وفي الموسوعة الفقهية: “استثنى أكثر العلماء من تحريم التصوير وصناعة التماثيل صناعة لعب البنات، وهو مذهب المالكية والشافعية والحنابلة، ونقل القاضي عياض جوازه عن أكثر العلماء، وتابعه النووي في شرح مسلم… واشترط الحنابلة للجواز أن تكون مقطوعة الرؤوس، أو ناقصة عضو لا تبقى الحياة بدونه، وسائر العلماء على عدم اشتراط ذلك”([16]).
القول الثاني: هو تحريم ذلك؛ عملا بعموم الأحاديث الدالة على التحريم، ولا مخصِّص لها، وأجابوا عن حديث عائشة رضي الله عنها بجوابين:
أولهما: أنه منسوخ بأحاديث التحريم.
ثانيهما: أن معناه أنها كانت تلعب مع البنات، فجعَلوا الباء للمصاحبة، أي: تلعب مع صويحباتها، لا أنها كانت تلعب بالعرائس.
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: “وذهب بعضهم إلى أنه منسوخ، وإليه مال ابن بطال، وحكى عن ابن أبي زيد عن مالك أنه كره أن يشتري الرجل لابنته الصور، ومن ثم رجح الداودي أنه منسوخ… قال البيهقي بعد تخريجه ثبت النهي عن اتخاذ الصور: فيحمل على أن الرخصة لعائشة في ذلك كان قبل التحريم، وبه جزم ابن الجوزي. وقال المنذري: إن كانت اللعب كالصورة فهو قبل التحريم، وإلا فقد يسمّى ما ليس بصورة لعبة، وبهذا جزم الحليمي فقال: إن كانت صورة كالوثن لم يجز وإلا جاز. وقيل: معنى الحديث اللعب مع البنات أي: الجواري، والباء هنا بمعنى مع، حكاه ابن التين عن الداودي وردّهُ”([17]).
والراجح والله أعلم: أنها جائزة، وهو قول جمهور العلماء، وأن أحاديث إباحتها مخصِّصة لعموم تحريم التصوير؛ لحاجتهن إلى اللعب والترفيه، وتعويد البنات خصوصًا على التربية، ونحو ذلك.
2- الصور غير المكتملة:
اتفق العلماء على أن الرأس إذا أزيل من الصورة زال التحريم، ويدل على ذلك امتناع جبريل عن دخول بيت النبي صلى الله عليه وسلم بسبب وجود تماثيل على الباب، وستر فيه تماثيل، فقال له: «فمُرْ برأس التمثال الذي في البيت يقطع، فيصير كهيئة الشجرة، ومر بالستر فليقطع، فليجعل منه وسادتين منبوذتين توطآن»([18]).
قال البغوي رحمه الله: “فيه دليل على أن موضع التصوير إذا نُقض حتى ينقطع أوصاله جاز استعماله”([19]).
وقال ابن قدامة رحمه الله: “وإن قُطِع منه ما لا يبقَى الحيوانُ بعد ذهابه كصدره أو بطنه، أو جُعِل له رأسٌ منفصل عن بدنه، لم يدخل تحت النهي؛ لأن الصورة لا تبقى بعد ذهابه، فهو كقطع الرأس. وإن كان الذاهب يبقي الحيوان بعده كالعين واليد والرجل فهو صورة داخلة تحت النهي. وكذلك إذا كان في ابتداء التصوير صورة بدن بلا رأس, أو رأس بلا بدن, أو جعل له رأس وسائر بدنه صورة غير حيوان, لم يدخل في النهي; لأن ذلك ليس بصورة حيوان”([20]).
ويفهم من ذلك جواز الصور النصفية التي يبقى فيها الرأس فقَط؛ لأنه لا يعيش بذلك فقط، وهو مذهب كثير من العلماء.
وذهب بعضهم إلى أنها محرمة كذلك؛ لأن الصورة في الحقيقة هي الرأس وما فيه من ملامح الوجه، فإذا بقي الرأس دون طمس لملامحه بقيت الصورة المحرمة.
جاء في الموسوعة الفقهية: “اختلفوا -أي: الشافعية- فيما إذا كان المقطوع غير الرأس وقد بقي الرأس، والراجح عندهم في هذه الحالة التحريم، جاء في أسنى المطالب وحاشيته للرملي: وكذا إن قطع رأس الصورة. قال الكوهكيوني: وكذا حكم ما صور بلا رأس، وأما الرؤوس بلا أبدان فهل تحرم؟ فيه تردد، والحرمة أرجح. قال الرملي: وهما وجهان في الحاوي، وبناهما على أنه هل يجوز تصوير حيوان لا نظير له؟ إن جوزناه جاز ذلك، وإلا فلا، وهو الصحيح. ويشملهما قوله: ويحرم تصوير حيوان”([21]).
والمنع هو الأقرب؛ لحديث: «إنما الصورة الرأس»([22])، قال الشيخ محمد بن إبراهيم رحمه الله: “التصوير النصفي لا إشكال عندي في أَنه محرم، وإن كان ذهب نزر قليل إلى القول بعدم التحريم، وربما يكون أَخف من الكامل لأَجل هذا القول، وأَما أَنا فلا إشكال عندي فيه؛ لأَن الوجه هو المقصود”([23]).
3- صور الأشجار والأحجار وما لا روح فيه:
وهذه اتفق العلماء على جوازها، إلا ما جاء عن مجاهد، فإنه جعل الشجر المثمر من المكروه، قال القاضي عياض: “لم يقله أحد غير مجاهد”([24])، ومما يدل على جواز ذلك أثر ابن عباس، فعَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي الْحَسَنِ قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى ابْنِ عَبَّاسٍ فَقَالَ: إِنِّي رَجُلٌ أُصَوِّرُ هَذِهِ الصُّوَرَ فَأَفْتِنِي فِيهَا، فَقَالَ لَهُ: ادْنُ مِنِّي، فَدَنَا مِنْهُ ثُمَّ قَالَ: ادْنُ مِنِّي، فَدَنَا حَتَّى وَضَعَ يَدَهُ عَلَى رَأْسِهِ، قَالَ: أُنَبِّئُكَ بِمَا سَمِعْتُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «كُلُّ مُصَوِّرٍ فِي النَّارِ، يَجْعَلُ لَهُ بِكُلِّ صُورَةٍ صَوَّرَهَا نَفْسًا فَتُعَذِّبُهُ فِي جَهَنَّمَ»، وَقَالَ -أي: ابن عباس-: إِنْ كُنْتَ لاَ بُدَّ فَاعِلًا فَاصْنَعِ الشَّجَرَ وَمَا لا نَفْسَ لَهُ([25]).
4- التماثيل التي صُنِعت لتَبلَى كالمصنوعة من الحلوى ونحو ذلك مما لا يدوم:
ذهب جمهور أهل العلم إلى تحريم صناعتها أو اقتنائها؛ لعموم الأحاديث القاضية بالتحريم، وكونها تَبلَى ليس معنى منافيًا للتحريم، وقد كان المشركون يصنعون أصناما من العجوَة يأكلونها بعد ذلك.
قال الدردير: “يحرم تصوير حيوان عاقل أو غيره إذا كان كامل الأعضاء إذا كان يدوم إجماعًا، وكذا إن لم يدم على الراجح كتصويره من نحو قشر بطيخ”([26]).
وذهب بعض العلماء إلى جواز ذلك؛ لأنها ممتهنة وليست دائمة([27]).
5- التماثيل الخيالية التي لا وجود لها في الواقع، كفأر على هيئة إنسان ونحو ذلك:
فهذه اختلف العلماء فيها، فمنهم من أباحها؛ لأنها ليست من خلق الله المعتاد، فليس فيها معنى المضاهاة التي حرِّم من أجلها التصوير. ومنهم من منعها لدخولها في عموم التصوير المنهي عنه.
قال في تحفة الحبيب -من كتب الشافعية- في بيان المنكرات التي تمنع من حضور الوليمة: “وصورة حيوان ولو لما لا نظير له؛ كبقر له منقار أو جناحان”([28]).
وذكر الماوردي الشافعي فيها وجهين، قال: “أحدهما: يحرم، بل يكون أشدَّ تحريما؛ لأنه قد أبدع في خلق الله تعالى”([29]).
وفي فتاوى اللجنة الدائمة: “مدار التحريم في التصوير كونه تصويرا لذوات الأرواح، سواء كان نحتًا أم تلوينًا في جدار أو قماش أو ورق أم كان نسيجًا، وسواء كان بريشة أم قلم أم بجهاز، وسواء كان للشيء على طبيعته أم دخله الخيال فصغر أو كبر أو جُمِّل أو شُوِّه أو جعل خطوطا تمثل الهيكل العظمي، فمناط التحريم كون ما صوِّر من ذوات الأرواح، ولو كالصور الخيالية التي تجعل لمن يمثل القدامى من الفراعنة وقادة الحروب الصليبية وجنودها”([30]).
خامسًا: الحكمة من تحريم التصوير:
تدل النصوص على عدة حِكَمٍ يتعلق بها تحريم التصوير، أهمها أمران:
الأول: مضاهاة خلق الله، وهذا مذكور صراحة في الأحاديث.
قال صلى الله عليه وسلم: «إن الله عز وجل يقول: ومن أظلم ممن ذهب يخلق كخلقي؟! فليخلقوا حبة، وليخلقوا ذرَّة»([31]).
والثاني: سد ذريعة الشرك.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية وهو يتحدَّث عن أمر علي رضي الله عنه لأبي الهياج بطمس الصور وتسوية القبور: “فأمره بمحو التمثالين: الصورة الممثلة على صورة الميت، والتمثال الشاخص المشرف فوق قبره؛ فإن الشرك يحصل بهذا وبهذا”([32]).
قال ابن عباس رضي الله عنهما في أسماء معبودات قوم نوح: (أسماء رجال صالحين من قوم نوح، فلما هلكوا أوحى الشيطان إلى قومهم أن انصبوا إلى مجالسهم التي كانوا يجلسون أنصابا، وسموها بأسمائهم، ففعلوا، فلم تعبد حتى إذا هلك أولئك وتنسخ العلم عبدت)([33]).
قال ابن القيم رحمه الله: “وتلاعب بهم -أي: النصارى- في تصوير الصور في الكنائس وعبادتها، فلا تجد كنيسة من كنائسهم تخلو عن صورة مريم والمسيح وجرجس وبطرس وغيرهم من القديسين عندهم والشهداء، وأكثرهم يسجدون للصور، ويدعونها من دون الله تعالى”([34])، وقال أيضا: “وغالب شرك الأمم كان من جهة الصور والقبور”([35]).
وقال أبو بكر ابن العربي المالكي رحمه الله: “والذي أوجب النهي عنه في شرعنا -والله أعلم- ما كانت العرب عليه من عبادة الأوثان والأصنام، فكانوا يصوِّرون ويعبدون، فقطع الله الذريعة وحمى الباب.
فإن قيل: فقد قال حين ذمَّ الصور وعمَلَها -من الصحيح- قول النبي عليه السلام: «من صور صورة عذبه الله حتى ينفخ فيها الروح، وليس بنافخ»، وفي رواية: «الذين يشبهون بخلق الله»؛ فعلَّل بغير ما زعَمتُم!
قلنا: نهى عن الصورة، وذكر علة التشبيه بخلق الله، وفيها زيادة علَّة عبادتها من دون الله، فنبَّه على أن نفس عمَلِها معصية، فما ظنك بعبادتها؟!
وقد ورد في كتب التفسير شأن يغوث ويعوق ونسر، وأنهم كانوا أناسًا، ثم صُوِّروا بعد موتهم وعُبِدوا. وقد شاهدتُ بثغر الإسكندرية إذا مات منهم ميت صوَّروه من خشب في أحسن صورة، وأجلسوه في موضعه من بيته، وكسوه بزَّتَه إن كان رجلًا، وحليتَها إن كانت امرأة، وأغلقوا عليه الباب، فإذا أصاب أحدًا منهم كربٌ، أو تجدَّد له مكروه: فتح الباب عليه، وجلس عنده يبكي، ويناجيهِ بكانَ وكان، حتى يكسر سَوْرة حزنه بإهراق دموعِه، ثم يغلق الباب عليه، وينصرف عنه، وإن تمادى بهم الزمان يعبدوها من جملة الأصنام والأوثان!”([36]).
سادسًا: شبهات يحتجُّ بها من يجوِّز نصب التماثيل:
الشبهة الأولى: اتِّخاذ سليمان عليه السلام للتماثيل:
دلَّ على ذلك قوله تعالى: {يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ} [سبأ: 13].
والجواب من وجوه:
أولا: أن هذا باطل؛ لمخالفته الإجماع.
قال ابن عطية رحمه الله: “وحكى مكي في الهداية أن فرقة كانت تُجوِّز التصوير، وتحتجُّ بهذه الآية، وذلك خطأ، وما أحفظ من أئمَّة العلم من يُجَوِّزه”([37]).
ثانيا: أنه لو كانت التماثيل لذوات الأرواح فإنها لا تدل على إباحتها؛ فإن شرع من قبلنا ليس شرعا لنا إذا ورد شرعنا بخلافه، وهذا محل اتفاق بين العلماء([38]).
ثالثا: أنه يحتمل أن يكون تماثيل للجمادات وغير ذوات الأرواح، وهذا جائز في شريعتنا أيضا، فلا يكون إشكال. وهذا أقرب؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم ذمَّ من قبلنا لاتِّخاذهم الصور، كما جاء في قوله صلى الله عليه وسلم لأم سلمة: «كانوا إذا مات فيهم الرجل الصالح بنوا على قبره مسجدا، وصوَّروا فيه تلك الصورة؛ أولئك شرار الخلق عند الله»([39]). فدلَّ ذلك على أن اتخاذ الصور محدَث أحدثه عُبّاد الأوثان([40]).
الشبهة الثانية: عدم كسر الصحابة للأوثان في البلاد المفتوحة:
قالوا: إن الصحابة لم يكسروا الأصنام حينما دخلوا البلاد التي فتحوها رغم انتشار التماثيل فيها.
والجواب من وجوه:
أولا: أنه لكي يستدلَّ بمثل هذا لا بد من إثبات أنَ الصحابة رأوا هذه التماثيل، وقدروا على إزالتها، ولم يفعلوا، وأنى يمكن إثباتُ ذلك؟! فاحتمال أنهم لم يروها وارد جدًّا، فلم يثبت رؤيتهم لشيء من ذلك في مصر أو الشام أو العراق.
ثانيا: أنه قد ذكر بعض المؤرخين أن هذه التماثيل -كأبي الهول- كانت مطمورة في التراب([41])، وذكر المقريزي أبا الهول ثم قال: “صنم كبير من حجارة فيما بين الهرمين، لا يظهر منه سوى رأسه فقط”([42]). فليس بمستبعد أن تكون عامّة هذه التماثيل كانت مطمورة؛ خاصة أنه لم يكن يهتمّ بها الناس أصلا لزمن قريب جدًّا، وكانوا يهملونها غاية الإهمال، وربما جعلوها مكَبًّا لنفاياتهم ونحو ذلك؛ حتى عظَّمها الغرب في نفوسهم من أجل تعزيز الانتماء للقوميات المنافية للإسلام.
ثالثا: لو فرضنا أنهم رأوها، يبقى احتمال عدم قدرتهم على إزالتها؛ فإن تكسيرها ليس بالسهل، وقد ذكر ابن خلدون أن المأمون حاول هدم بعضها فلم يقدر([43]).
فمثل هذه الوقائع لا تقاوم النصوص والإجماعات القطعية التي سبق بيانها.
الشبهة الثالثة: تحريم التصوير كان في بداية الإسلام:
قالوا: إن تحريم التصوير كان في بداية الإسلام بسبب تعلق القلوب بعبادة الأصنام، وهذه المفسدة قد زالت من قلوب الناس، وصارت هناك مصلحة في إقامتها وهي ربط الناس برموزهم الدينية والوطنية.
والجواب من وجوه:
أولا: ليست علَّة تحريم التصوير منحصرةً فقط في ذلك، بل هناك علل أخرى أشرنا لبعضها.
ثانيا: من قال: إن الناس الآن لا يُخَاف عليهم الشرك؟! ومن يأمن على نفسه البلاء إلا جاهل بالشرك أو بنفسه أو بربه؟! وإذا كان الخليل عليه السلام يدعو ربه قائلا: {وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَن نَّعْبُدَ الأَصْنَامَ * رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِّنَ النَّاسِ فَمَن تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} [إبراهيم: 35، 36]، فمن يأمن البلاء بعد إمام الحنفاء؟! ومن يتأمل واقع الناس اليوم في المشارق والمغارب يجد افتتانهم بالصور في معابدهم، وتعلّقهم بصور كبرائهم ومعظَّميهم ومتبوعيهم، بل كثير من المتصوفة يعلّقون صور شيوخهم ويتبرَّكون بها ويخاطبونها، كما يفعل النصارى مع صورة مريم والمسيح -المزعومتين- فكيف يقال: إن الناس الآن لا يخاف عليهم من الشرك والافتتان بالصور؟!
ثالثا: لو فرضنا أن الأكثر الآن لا يُخاف عليهم من ذلك؛ فقد تأتي أجيال بعد ذلك، مع فشو الجهل أكثر، ونسيان العلم أكثر، فتقع في المحظور كما حدث لقوم نوح.
رابعًا: أن مصلحة الدين مقدمة على سائر المصالح، فإذا قدَّرنا أن في نصب التماثيل المجسمة مصلحة، ففيها مفسدة أعظم تتعلَّق بالدين وهي ذريعة الشرك ومخالفة الشريعة، ودرء المفاسد مقدَّم على جلب المصالح.
فكيف إذا كانت هذه المصلحة يمكن تحصيلها بطرق كثيرة أخرى؟! فربط الشباب برموزهم الصالحة ليس موقوفًا على إقامة المجسمات في الميادين، وإلا فأين تماثيل الصحابة والتابعين والأئمة الأربعة وأئمة الفقه والحديث وأبطال الإسلام وغيرهم من المصلحين حكاما وعلماء ودعاة؟! ومع ذلك فذكراهم تملأ الدنيا.
بل الحقيقة أن هذه المصلحة متوهَّمَة، بل ربما كانت ضدَّ المقصود منها، فالملاحظ أن أكثرَ الشعوب تنفر نفرةً كبيرةً من كثرة التماثيل المنصوبة في الميادين، وكثرة الإلحاح على العامَّة ربما أتى بنقيض المقصود.
الخاتمة:
خلصنا في هذه الورقة إلى بيان اتفاق العلماء على تحريم الصور المجسمة الكاملة لذوات الأرواح، وأنه لا مصلحة فيها معتبرة في الدين أو الدنيا، بل هي مفسدة، وليس هذا كما يظن البعض رفضًا للجمال أو الفنون؛ فإن مجالات الفنون -حتى في باب الرسم- كثيرة متنوعة، سواء في تصوير غير ذوات الأرواح، أو طمس وجوهها، وغير ذلك من صور الزخرفة التي أبدع فيها الفنانون المسلمون، بل قدم المسلمون تحفًا فنية ما زالت شاهدة على رقي ذوقهم الجمالي مع حفاظهم على أحكام دينهم وشريعتهم الغراء.
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(المراجع)
([1]) لسان العرب (11/ 513) بتصرف يسير.
([2]) رواه البخاري (5957)، ومسلم (2107).
([6]) المرجع السابق، الموضع نفسه.
([8]) ينظر: فتح الباري (10/ 391).
([10]) المسالك في شرح موطأ مالك (7/ 522).
([12]) التوضيح شرح مختصر ابن الحاجب (1/ 290). وينظر: مواهب الجليل، للخطاب (2/ 264).
([13]) رواه البخاري (6130)، ومسلم (2440).
([14]) إكمال المعلم (7/ 447). وينظر: تفسير القرطبي (7/ 447).
([16]) الموسوعة الفقهية (12/ 112).
([17]) فتح الباري (10/ 527) باختصار.
([18]) رواه أبو داود (4158)، والترمذي (2806)، وقال: “حديث حسن”.
([21]) الموسوعة الفقهية (12/ 111).
([22]) أخرجه البيهقي في الكبرى (14580)، وصححه الألباني في صحيح الجامع (3864).
([23]) فتاوى الشيخ محمد بن إبراهيم (1/ 165).
([24]) ينظر: شرح النووي على صحيح مسلم (14/ 91).
([25]) أخرجه البخاري (2225)، ومسلم (2110).
([26]) الشرح الكبير (2/ 337، 338). وانظر: حاشية قليوبي (2/ 198).
([27]) ينظر: البيان والتحصيل (9/ 366).
([29]) الحاوي الكبير (9/ 565).
([30]) فتاوى اللجنة الدائمة (1/ 696).
([31]) رواه البخاري (5609)، ومسلم (2111).
([32]) مجموع الفتاوى (17/ 462).
([34]) إغاثة اللهفان (2/ 292).
([37]) المحرر الوجيز (4/ 409).
([38]) ينظر: أضواء البيان (2/ 81).
([39]) رواه البخاري (443)، ومسلم (528).
([40]) انظر: فتح الباري (10/ 382).
([41]) ينظر: شبه جزيرة العرب، للزركلي (4/ 1188).