آراء الجاحظ في محنة خلق القرآن وأهميتها لدى المستشرقين
خَلَص كثيٌر من الكُتّاب إلى أنَّ محنة الإمام أحمدَ وقودُها من العلماء القاضي أحمد بن أبي دؤاد، ومن الإعلاميين -باصطلاحنا المعاصر- الذين تولَّوا النشرَ الجاحظ.
وتأتي أهميةُ رواية الجاحظ لأخبار المحنة أنَّ المستشرقين اعتمدوها من باب تلميعِ المعتزلة، فهي توافِق توجهاتِ المستشرقين، وعلى رأسهم جوزيف فان إس الذي بنى نظريَّتَه على ثلاثة أركان:
1- تبرئة ساحة المعتزلة.
2- التشكيك في بسالة الإمام أحمد.
3- تسييس محركات المحنة.
وتكمن أهمية رواية الجاحظ لهذه المحنة ورأيه فيها أنه معتزليّ معاصرٌ لها، بل شارك فيها، وأدرك الجاحظ اثني عشر خليفةً من العباسيّين.
وكان الجاحظ قد شاعَت كتبُه في زمنه، وحظي بمكانةٍ رفيعة وسُمعة عاليةٍ، خاصَّة بعد اتِّصاله بالوزراء والخلفاء، فقد عاش في حاضِرَتين من حواضر العِلم في زمانه: البصرة وبغداد.
“في بغداد توثَّقت الصلة بينه وبين وزير المعتصم ابن الزيَّات الكاتب الشاعر المشهور”([1])، وفي بغداد عرفه الخلفاء والعلماء والأمراء([2]).
كان الجاحظ متميِّزًا عن علماء عصرِه بروعة البيان وقوَّة الألفاظ وحُسن التأليف وثقافتِه الموسوعية، وتميَّزت لغتُه بقربها من العمل الصحفيّ.
وكان للمعتزلة في أوَل أمرهِم منزلةٌ رفيعة عندَ الناس، فقد كانوا أهلَ منطقٍ وبَيان، وقدرةٍ كبيرة على الحِجاج، وقد دافَعوا عن هذا الدّين ضدَّ الزنادقة الفُرس أعداءِ الإسلام، فهيمَنَت مجالسُهم على مساجدِ البصرة، واتَّبعهم الأحداث، يقول الجاحظ: “وكان أهل البصرة فيما يرون من آداب المعتزلة يَبعثون أولادهم ليتأدَّبوا بأدبهم”([3])، وهذه دعوى من الجاحظ تحتاج إلى إثبات.
وتتلمَذَ على المعتزلة الكثير من العلماء والشعراء، ودان بمذهَبِهم الساسةُ والقضاة، وكان المأمون ممن اعتَنَق مذهبَهم، ونادى ببدعةِ خلق القرآن، واجتهد في جمع الكلِمَة على هذا الرأي، وعظمت المحنة في عهد المعتصم حتى إنه قام بتعذِيبِ الإمام أحمد بن حنبل بالسِّياط؛ لأنه قال بأنَّ القرآن كلام الله، فتراجعت مكانةُ المعتزلة بعد هذه الفِتنَة، وانفضَّ الناس من حولهم، خاصَّةً بعد وصولِ المتوكِّل قصرَ الخلافة.
برزَ في المعتزلة الكثيرُ مِن علماء اللّغة والدّين، من أبرزهم الجاحظ. وقد اعتزَّ بانتمائه للمعتزلة كما في كتبه([4])،وله دور في الدفاع عن الإسلام ضد النصارى وغلاة الشيعة، وصنف في ذلك مؤلفات، منها: كتاب (المختار في الرد على النصارى)، وكتاب (حجج النبوة)، ورسالة (الرافضة).
آراء الجاحظ في محنة خلق القرآن:
سلك الجاحظ مسلك التهوين مما حصل من المعتزلة تجاهَ الإمامِ أحمد، وتلميع المعتزلة، واعتزازه بفِعلِهم.
1- فممَّا لخّصه ما رتين هندز (ت 1988م) حولَ تفاوُت الروايات التاريخيّة ما ذكره في اختلافِ عددِ الجلدات التي عذِّب بها الإمام أحمد، وإبرازه للرواية لتي تقلِّلها، منها رواية الجاحظ، وهو المعاصر لابن حنبل، يخبرنا أنَّه ضُرِب فقط 30 جلدةً، والمسعوديّ يعتقد أنّها 38 جلدَة، بينما يذهب ابن المرتضى إلى أنّها 68 جلدة([5]).
2- ويوجز المستشرق الأمريكي مايكل كوبرسون تطوّر فكرة اتهام الإمام أحمد بأنّه استسلم، ويكشف الرمز الغربيّ في تبنّي الفكرة فيقول: (المعرفة الحديثة مؤخَّرًا فقط وضعت الرواية التقليدية لإطلاق سراح الإمام أحمد موضعَ المساءلة والتمحيص، فالرواية الحنبلية المبكّرة تزعم أنَّ ثبات الإمام أحمد هو الذي انتصر… ولكنّ الجاحظ -وهو مصدر معاصر ومناوئ- صرَّح بشكل قاطع أنّ ابن حنبل استسلم… وفي عصرنا هذا فإنّ فكرة استسلام الإمام أحمد وجدت نصيرًا رصينًا لها في جوزيف فان إس الذي يقول عن ابن حنبل: إنّه دون إقرار بخلق القرآن لن يدعوه يذهب)([6]).
3- والجاحظ حين تعرّض لواقعةِ المحنة حَملت عباراتُه لغةَ انتماءٍ في غاية الخطورةِ، فلم يكن ينظُرُ لنفسه وفِرقتِه المعتزلة باعتبارهم طرفًا خارجيًّا في محنَة الإمام، ففي رسالته عن (خلق القرآن) لاحِظ كيف يخاطب الجاحظُ أهلَ الحديث بقولِه: (ونحن لم نكفِّر إلا من أَوسعناه حجّةً، ولم نمتحن إلا أهلَ التُّهمة)([7]).
ويستمرّ في مخاطبة أهل الحديث فحين عرض مجادلة ابن أبي دؤاد للإمام أحمد ثمّ ضرب المعتصم للإمام أحمد عقب المجادلة، قال الجاحظ: (وأيّة حجّة لكم في امتحاننا إياكم، وفي إكفارنا لكم)([8]).
وآخر جملة يختم بها الجاحظ رسالته في خلق القرآن هي الاستقواء الفاضِح بالسلطة في الترغيب والترهيب، حيث يقول: (النابتة اليوم في التشبيه مع الرافضة، وهم دائبون في التألّم من المعتزلة، غدرُهم كثير، ونصبهم شديد… إلا أنّ معك أمرين: السلطان، وميلهم إليه وخوفهم منه)([9]).
وفي رسالة في (نفي التشبيه) التي بعثها الجاحظ لابن أبي دؤاد الابن -وهو أيضًا معتزلي كأبيه-… كان الجاحظ يحرّضه ويسوّل له الشدّة على أهل الحديث باعتبارهم مشبّهة… حيث يقول: (كيف صاروا في باطلهم أيام قدرتهم أقوى منا في حقِّنا أيام قدرتنا)([10]).
هذه المواقف من الجاحظ تجاه أهل الحديث تبيّن بوضوح تنقُّصه من أهل السنة، بل وعدم عنايته بالحديث، وفي الحقيقة أنه ليس بثقةٍ فيما يروي وينقُل، وإن روايته للحديث في غاية الضّعف، بل ومطعون في عدالته، قال ابن الجوزي: (عمرو بن بحر الجاحظ قال ثعلب: ليس بثقة ولا مأمون)([11])، ونقل الذهبي مقولة أبي العباس ثعلب وعلَّق عليها بقوله: (قلت: كان ماجنًا، قليل الدين، له نوادر)([12]).
4- وفي موقف المعتزلة من خلفاء المحنة، وهل تبرؤوا منهم أو من فعلتهم، في رسالة للجاحظ يرثي حال العوامّ وأنهم أصبحوا مشبّهة يثبتون الصفات الإلهيَة راح يسلِّي نفسَه بأن ولاة الأمر على مذهبِ نفيِ الصفات، حيث يقول: (أرجو أن يكون الله قد أغاث المحقّين ورحمهم، وقوّى ضعفَهم وكثّر قلّتهم، حتّى صار ولاة أمرنا في هذا الدهر الصعب والزمن الفاسد أشدَّ استبصارًا في التشبيهِ مِن عِليتِنا، وأعلمَ بما يَلزم فيه منّا، وأكشفَ للقناع من رؤوسنا، وصادفوا الناس وقد انتظَموا معاني الفساد أجمع)([13]).
وهنا تعليق مهمٌّ بخصوص عقيدة العوامّ عبر العصور، نقول: كانوا على عقيدة السلف في المجمَل، وقد عانى ليس فقط الجاحظ المعتزلي منهم ومن معتقداتهم الموافقة للسلف، بل حتى الأشاعرة كانوا يعانون من عدم اعتقاد العوامّ بعقيدتهم على الدّوام، فبعد اعتراف ابن عساكر في القرن السادس بأن معظم العامّة ليسوا على اعتقادهم نجد في القرن التاسع اعترافًا مهمًّا من السنوسيّ الأشعريّ في (شرح متن أم البراهين) على سلامة عقائد عوام الناس وعدم تمشعرهم، ورميهم بالتجسيم كذلك.
قال السنوسي: “وأما العامّة فأكثرهم ممن لا يَعتني بحضور مجالس العلماء، ومخالطة أهل الخير، يتحقَّق منهم اعتقاد التجسيم والجِهة، وتأثير الطبيعة -القول بالأسباب- وكون أفعال الله تعالى معلَّلة لغرض، وكون كلامه جل وعلا حرفًا وصوتًا، ومرة يتكلَّم ومرة يسكت كسائر البشر، ونحو ذلك من اعتقادات أهلِ الباطل، وبعضُ اعتقاداتهم أجمع العلماء على كفر معتقدها”([14]).
ونعود إلى موضوع خلفاء المحنة ونقول: إن الأمر لا يختلف عند كلّ مؤرِّخي المعتزلة وكتّاب تراجمهم، فهم يضعون خلفاءَ المحنة في مواضع محترمة، فقد وضع القاضي عبد الجبّار المأمون في أثناء الطبقة الثالثة من طبقات المعتزلة، وأردف بقوله: (ثمّ المعتصم والواثق زادا في تقوية ذلك)([15]).
بل تناقلوا شكر بعض أصحابهم لخلفاء المحنة: (ومنهم -أي: المعتزلة- أبو عبد الله محمد بن سماعة، أخذ الفقه عن محمد بن الحسن، ودعا إلى العدل، وقال للمعتصم لما فعل بابن حنبل ما فعل: يا أمير المؤمنين، هذا موقفٌ أدَّيت حقَّ الله فيه، وأرضيتَه به، فشكر الله لك ذلك)([16]).
وقال الحاكم الجشمي (ت 394ه) في رسالته التي قتل بسببها: (ومن سلفنا شيوخنا المتكلّمون كأبي الهذيل وبشر والنظام وأبي موسى وغيرهم… ومن الخلفاء كالمأمون والمعتصم والواثق)([17]).
5- ولما أنتجت المحنة عكسَ مقصودِ المعتزلةِ وتكتُّلِ معطّلة الصفات فقد تنفّس الجاحظ غُبنًا مماثًلا، وراح يُعيد صياغة قصّة المحنة بطريقةٍ تُظهر الإمام أحمد وكأنّه كان في مجرّدِ زيارة تكريميّة لقصر المعتصم، لم يتعرّض فيها إلا لشيء من عتاب الأحبّة!
يقول الجاحظ: (وقد قال صاحبكم للخليفة المعتصم يوم جمع الفقهاء والمتكلمين والقضاة والمخلصين إعذارا وإنذارا: امتحَنتني وأنت تعرفُ ما في المحنة، وما فيها من الفتنة، ثم امتحَنتَني من بين جميع هذه الأمَّة! قال المعتصم: أَخطأتَ، بل كذبتَ، وجدتُ الخليفةَ قبلي قد حبَسَك وقيَّدك، ولو لم يكن حبسَك على تهمةٍ لأمضى الحكمَ فيك، ولو لم يخفك على الإسلام ما عرض لك… وما زال به رفيقًا وعليه رقيقا، ويقول: لأن أستحييكَ بحقٍّ أحبُّ إليَّ مِن أن أقتلَك بحقٍّ! حتى رآه يعاند الحجة، ويكذب صراحا عند الجواب…
وأما الموضع الذي واجه فيه الخليفة بالكذب والجماعة بالقحةِ وقلَّة الاكتراث وشدَّة التصميم فهو حين قال له أحمد بن أبي دواد: تزعم أن الله ربُّ القرآن؟ قال: لو سمعتُ أحدًا يقول ذلك لقلت. قال: أفما سمعتَ ذلك قطّ مِن حالف ولا سائلٍ، ولا من قاصٍّ، ولا في شعر، ولا في حديث؟! قال: فعرف الخليفة كَذِبه عند المسألة، كما عرف عنوده عند الحجَّة.
وأحمد بن أبي دواد -حفظك الله- أعلمُ بهذا الكلام وبغيره من أجناس العلم من أن يجعلَ هذا الاستفهامَ مسألة، ويعتمد عليها في مثل تلك الجماعة؛ ولكنه أراد أن يكشفَ لهم جُرأتَه على الكذب كما كشف لهم جرأته في المعاندة. فعند ذلك ضربه الخليفة.
وأيّة حجّة لكم في امتحاننا إياكم وفي إكفارنا لكم…
على أنه لم ير سيفًا مشهورا، ولا ضُرب ضربًا كثيرا، ولا ضُرب إلا ثلاثين سوطًا مقطوعة الثّمار، مشعَّثة الأطراف، حتى أفصحَ بالإقرار مرارًا. ولا كان في مجلس ضيّق، ولا كانت حاله حالَ مؤيسة، ولا كان مثقَلا بالحديد، ولا خلع قلبه بشدَّة الوعيد. ولقد كان ينازع بألينِ الكلام، ويجيب بأغلَظ الجواب، ويرزَنون ويخفُّ، ويحلمون ويطيش. وعبتم علينا إكفارنا إياكم)([18]).
هذه الرواية التي حرَّف فيها الجاحظ، التقطها المؤرخون المتأخِّرون من الشيعة والزيدية المعتزليون، وأدرجوها في كتبهم تسليمًا بما ورد فيها، كما هو صنيع المسعودي (ت 346هـ) وابن المرتضى (840هـ).
والجاحظ معروف بكثرة تزويقه للكلام، بل إنّ القاضي أحمد بن أبي دؤاد -هذا الذي مدحه الجاحظ- لَمَّا حمل إليه مقيّدًا بطلبٍ منه، فلما دخل القاضي عليه قال: ما علمتك إلا متناسيًا للنِّعمة، كفورًا للصنيعة، معدنًا للمساوئ، وما فتّني باستصلاحي لك؛ ولكن الأيّام لا تصلح منك لفساد طويّتك، ورداءة طبيعتك، وسوء اختيارك، وغالب ضغنك، فقال الجاحظ: خفّض عليك أيّدك الله، فوالله لأن يكون لك الأمر عليّ خير من أن يكون لي عليك، ولأن أسيء وتحسن أحسن في الأحدوثة عنك من أن أحسن فتسيء، ولأن تعفو عنّي في حال قدرتك أجمل بك من الانتقام منّي. فقال: أحمد الله، ما علمتك إلّا كثير تزويق الكلام، فحلّ عنه الغلّ والقيد، وأحسن إليه، وصدّره في المجلس، وقال: هات الآن -يا أبا عثمان- حديثك([19]).
فانظر كيف أنطق الله، وأشهد عليه شاهدًا من أهله ليتَّهمه بتزويق الكلام، ثمّ انظر كيف ألان الله له صنعةَ التزويق مع ما هو فيه من كرب وضيق، فكيف وهو يرفل في بلاط السلطان؟!
وقد بقيت هذه النسخة غيرَ معتمدة في عامّة كتب التأريخ والتراجم، حتى جاء مستشرقو المحنة، وعلى رأسهم فان إس، وبرغم أنَّ هذا الاعتماد على نسخة الجاحظ ينطوِي على اقتراف جناية منهجيّة في البحث العلمي؛ إلا أنّ المستشرقين المتأخِّرين يعتبرون هذا من إنجازات فان إس، قال المستشرق نمرود هورفيتز: (التحوّل الهام الذي صنعَه هؤلاء العلماء في صياغة التاريخ هو استدماج الرواية اللاسنّيّة للمحنة في توصيفهم وتحليلهم)([20]).
والله الهادي إلى سواء السبيل.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(المراجع)
([1]) انظر: الجواحظ في الأدب العربي: حياتهم بيئتهم نتاجهم، خضر موسى (ص: 15).
([2]) انظر: كتابة الجاحظ في ضوء نظرية الحجاج، علي سلمان (ص: 116).
([3]) انظر: التراث النقدي والبلاغي عند المعتزلة، وليد قصاب (ص: 27).
([4]) انظر: الروابط والعوامل الحجاجية في رسائل الجاحظ، عبد السلام بوفار (ص: 14).
([5]) انظر نقلًا عن السكران: التأويل الحداثي للتراث (ص: 236).
([7]) رسائل الجاحظ، رسالة بعنوان: خلق القرآن، تحقيق: عبد السلام هارون، مكتبة الخانجي، ط1، 1399هـ (3/ 292).
([8]) خلق القرآن، الجاحظ (3/ 294).
([9]) خلق القرآن، الجاحظ (3/ 300).
([10]) رسائل الجاحظ، رسالة بعنوان: نفي التشبيه، تحقيق: عبد السلام هارون، مكتبة الخانجي، ط1، 1399هـ (1/ 287).
([11]) الضعفاء والمتروكين (2/ 223).
([12]) سير أعلام النبلاء (9/ 414).
([13]) رسائل الجاحظ، رسالة بعنوان: النابتة، تحقيق عبد السلام هارون، مكتبة الخانجي، ط1، 1399هـ، (1/ 287).
([14]) شرح أم البراهين (ص: 86).
([15]) فضل الاعتزال وطبقات المعتزلة (ص: 227).
([16]) طبقات المعتزلة، ابن المرتضى (ص: 129).
([17]) رسالة الشيخ إبليس إلى إخوانه المناحيس (ص: 83)، وانظر: التأويل الحداثي للتراث (ص: 286-287).
([18]) رسائل الجاحظ، خلق القرآن (3/ 292-296).