تعظيمُ الإسلامِ لجميع الأنبياء عليهم السلام
للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة
تمهيد:
للوهلة الأولى ولمن ليس لديه سابقُ علم بالأديان السماوية يظنّ أن الأنبياء عليهم السلام لا علاقةَ تربط بعضَهم ببعض، فلا غايةَ ولا منهج، بل قد يظنُّ الظانُّ أنهم مرسَلون من أرباب متفرِّقين وليس ربًّا واحدًا لا شريكَ له؛ وذلك لما يراه من تناحر وتباغُض وعِداء بين أتباع هذه الأديان ومنتسبِيها، والله جل جلاله لم يكن ليذَر العباد يعيشون ظلمات الجهل بحقيقة الأمر، فرحم العباد بإرسال خاتم النبيين والمرسلين محمد صلى الله عليه وسلم هدًى ورحمة للعالمين، وبالرسالة الخاتمة (الإسلام) والتي اتَّسمت بالكمال وشمول الدعوة لعموم البشرية بل للثقلين، وأنزل عليهم القرآن تبيانًا لكل شيء ليحكم بين العباد فيما اختلفوا فيه.
ومن خلال ما سنستعرضه -بعون الله وتوفيقه- في ما يلي من سطور هذا المنثور سنتعرف على العلاقة بين الإسلام والأنبياء والأديان السماوية والكتب المنزلة.
أولًا: العلاقة بين الأنبياء وبين الأديان السماوية وبين الكتب المنزلة:
بيّن الإسلام حقيقة العلاقة التي تربط الأنبياء بعضهم ببعض بما يحقِّق الغاية من إرسالهم والتي توصلنا لنتيجة حتمية بأنهم جميعهم يدعون إلى توقير الأنبياء وتعظيمهم والإقرار بفضلهم، وقد شبه النبي صلى الله عليه وسلم هذه العلاقة بالإخوة لأب واحد؛ ويعني: الإسلام، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أنا أَولى الناس بعيسى ابن مريم في الدنيا والآخرة، والأنبياء إخوة لعلات؛ أمهاتهم شتى ودينهم واحد»([1]).
وأهم غاية يرمي إليها الحديث هي: الإيمان بأنبياء الله جميعًا، وبأنهم متَّحِدون متعاونون يَنصر آخرُهم أوَّلَهم، ويؤيِّد بعضهم بعضًا. ومن هنا نعلم أنه لا يمكن أن يكون منشَأ الخلافات والعِداء بين المنتسبين للأديان هم الأنبياء، وليست الإساءة إلى نبيّ من الأنبياء من منهجهم، وستتجلى هذه الحقائق أكثر في أثناء هذا البحث.
ثانيًا: وحدة مصدر تلقي الكتب السماوية التي أنزلت على الأنبياء:
قد بيّن القرآن والسنة في آيات وأحاديث كثيرة أن مصدر الديانات واحد، وغاية إرسال الرسل واحدة، ومنها قول الله تعالى: }ألم * اللهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ * نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنزَلَ التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ * مِن قَبْلُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَأَنزَلَ الْفُرْقَانَ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِآيَاتِ اللهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَاللهُ عَزِيزٌ ذُو انتِقَامٍ} [آل عمران: 1-4]، وقال الله تعالى: }وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [النحل: 36]، فدِين الأنبياء مِن أوَّلهم إلى آخِرِهم، من نوح إلى محمَّد عليهم الصلاة والسلام هو الإسلام، قال تعالى: }إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلاَمُ} [آل عمران: 19]، والمراد به: الاستسلام لله تعالى وفق مراد الله وشرعه والذي أنزله على أنبيائه ورسله.
فالإسلام له إطلاقان: عام وخاص، أما الإسلام العام فهو دين الأنبياء الذي يقوم على الأصول العامة وهي أربعة:
الأصل الأول: توحيد الله تعالى.
الأصل الثاني: الأركان العملية الكبرى كالصلاة والزكاة والصيام مع الاختلاف في تفاصيل الأحكام.
الأصل الثالث: القيم الخُلقية كالصدق والعدل والإحسان والأمانة وغيرها.
الأصل الرابع: تحريم الفواحش كالقتل والزنا والربا والظلم والسرقة والكذب وغيرها.
والاختلاف في دين الأنبياء إنما هو في الشرائع بحسب طبيعة كلّ أمة وما يناسبها، قال تعالى: }لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا} [المائدة: 48]. “ولا خلاف أن الله تعالى لم يغاير بين الشرائع في التوحيد والمكارم والمصالح، وإنما خالف بينها في الفروع حسبما علمه سبحانه”([2]).
هذا هو الإسلام العام لجميع الأنبياء، وهو المراد بمثل قوله تعالى: }إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ} [آل عمران: 19]، وقوله: }مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا} [آل عمران: 67]، وقوله حكاية عن سليمان: }أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ} [النمل: 31]، وقوله: }أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آَبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} [البقرة: 33]، وغيرها من الآيات.
وجاء في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم قوله: «الأنبياء إخوة لعلات؛ أمهاتهم شتّى، ودينهم واحد)([3]). وهذا مثل ضربه الرسول صلى الله عليه وسلم ليبيِّن اتفاق الرسل في الدين الواحد واختلافهم في الشرائع.
وأما الإسلام الخاص فهو ما بُعث به محمد صلى الله عليه وسلم المتمثّل بالقرآن العظيم وسنة النبي الكريم.
ثالثًا: وحدة الهدف والغاية التي جاء بها الأنبياء:
ومن الجوانب التي تبيِّن علاقة الأنبياء والأديان مع بعضها البعض وحدة الغاية من إرسال الرسل، وبيّن القرآن الكريم الهدف الذي أنزل الله من أجله التوراة والإنجيل والقرآن -وهي أعظم الكتب المنزلة من عند الله- والهدف هو: أن يكون دينُ الله منهجًا لحياة البشرية، بغض النظر عمن أُرسل إليهم، وسواء جاء لقرية من القرى، أو لكافة البشرية إلى قيام الساعة.
وأيّ دين سماوي جاء به نبيّ غايتُه أن يكون “منهجَ حياة” فذلك لتكامله في جوانب ثلاثة وبها قيام حياة البشرية:
1- العقيدة التي تنشئ التصور الصحيح للحياة.
2- الشعائر التعبدية التي تربط القلوب بالله.
3- التشريعات التي تنظم واقع الحياة العملية والعلاقات.
والقرآن يعرض هذا التكامل في سورة المائدة في الديانات الثلاث الكبرى: اليهودية، والنصرانية، والإسلام، قال تعالى: }إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُواْ لِلَّذِينَ هَادُواْ وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُواْ مِن كِتَابِ اللهِ وَكَانُواْ عَلَيْهِ شُهَدَاء فَلاَ تَخْشَوُاْ النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلاَ تَشْتَرُواْ بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ * وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالأَنفَ بِالأَنفِ وَالأُذُنَ بِالأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَن تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَّهُ وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أنزَلَ اللهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ * وَقَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِم بِعَيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَآتَيْنَاهُ الإِنجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ وَمُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةً لِّلْمُتَّقِينَ * وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الإِنجِيلِ بِمَا أَنزَلَ اللهُ فِيهِ وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللهُ فَأُوْلَئِكَ* هُمُ الْفَاسِقُونَ * وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ عَمَّا جَاءكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاء اللهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِن لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَآ آتَاكُم فَاسْتَبِقُوا الخَيْرَاتِ إِلَى الله مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ * وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُم بِمَآ أَنزَلَ اللهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَن يَفْتِنُوكَ عَن بَعْضِ مَا أَنزَلَ اللهُ إِلَيْكَ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللهُ أَن يُصِيبَهُم بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيرًا مِّنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ * أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ حُكْمًا لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ} [المائدة: 44-50].
رابعًا: الإسلام هو الحَكَم لهيمنته على جميع الأديان والكتب:
لما جعل الله الإسلام خاتمة الرسالات اقتضَت أن تمتاز هذه الرسالة عن سابقتها من الرسالات بأمور تجعل المرءَ يتَّخذ الإسلام هو الحاكم في قضية نزاهة الأنبياء وكمالهم وعِصمتهم، وما لهم من التعظيم، وصحة ما يورده عنهم أتباعهم:
1- فجعلها صالحة لكل زمان ومكان، وهذا المعنى -وهو كمال الرسالة وشمولها- أشار إليه القرآن في غير موضع كقوله تعالى: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ} [النحل: 89]، وقال جلّ وعلا: {مَّا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْءٍ} [الأنعام: 38]، وقال تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا} [المائدة: 3].
2- جمعت الشريعة الخاتمة محاسن الرسالات السابقة، وفاقتها كمالًا وجلالًا، يقول الحسن البصري رضي الله عنه: “أنزل الله مائة وأربعة كتب، أودع علومها أربعة: التوراة، والإنجيل، والزبور، والفرقان -القرآن-، ثمّ أودع علوم الثلاثة الفرقان”([4]).
3- الهيمنة على الكتب السابقة، كما في قوله تعالى: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ} [المائدة: 48].
وإنما كان القرآن مهيمنًا على الكتب؛ لأنه الكتاب الذي لا يصير منسوخًا البتة، ولا يتطرق إليه التبديل والتحريف، قال تعالى: }إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر: 9].
ومعنى الهيمنة في الآية أي: شاهدًا على ما قبله من الكتب، ومصدقًا لها؛ يعني يصدق ما فيها من الصحيح، وينفي ما وقع فيها من تحريف وتبديل وتغيير، ويحكم عليها بالنسخ أو التقرير؛ ولهذا يخضع له كل متمسك بالكتب المتقدمة ممن لم ينقلب على عقبيه كما قال تعالى: }الَّذِينَ آتَيْنَاهُمْ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ وَإِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ قَالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ} [القصص: 52، 53].
“فصارت له الهيمنة على ما بين يديه من الكتب من وجوه متعددة: فهو شاهد بصدقها، وشاهد بكذب ما حرِّف منها، وهو حاكم بإقرار ما أقره الله، ونسخ ما نسخه، فهو شاهد في الخبريات، حاكم في الأمريات”([5]).
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: “أصل الهيمنة: الحفظ والارتقاب، تقول: هيمن فلان على فلانك إذا صار رقيبا عليه”([6]).
فيكشف القرآن التحريفات والمبتدعات التي صنعها مرتزقة أصحاب الديانات السابقة من الأحبار والرهبان ونحوهم، كما في قوله تعالى: {فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ} [المائدة: 13]، وقوله: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ} [المائدة: 15].
هذا هو الإسلام في سعته وشموله لكل الرسالات، وفي ولائه لكافَّة الرسل، وفي توحيده الدين كله لله، ورَجْعِهِ جميع الرسالات إلى أصلها الواحد، والإيمان بها جملة كما أرادها الله لعباده.
خامسًا: الوسطية والشهادة على الأمم السابقة:
قال تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاس} [البقرة: 143].
وعن أبي سعيد رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم: «يجيء نوحُ وأمته، فيقول الله تعالى: هل بلغت؟ فيقول: نعم أي ربِّ، فيقول لأمته: هل بلّغكم؟ فيقولون: لا، ما جاءنا من نبيّ، فيقول لنوح: من شهد لك؟ فيقول: مُحمَّد -صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ- وأمته، فنشهد أنه قد بلغ، وهو قوله -جَلَّ ذكره-: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ}»([7]).
وهذه الشهادة للنبي صلى الله عليه وسلم وأمته تكون يوم القيامة حينما يتَّهم أقوامٌ الرسل أنبياءَهم زورًا وبهتانًا أنهم لم يبلِّغوهم رسالةَ ربِّهم، عندها يشهد النبي صلى الله عليه وسلم، وتشهد أُمَّته من بعده بأنَّ الرسل أدوا الأمانة وبلغوا الرسالة.
وقال صلى الله عليه وسلم: «يجيء النبي ومعه الرجلان، ويجيء النبي ومعه الثلاثة، وأكثر من ذلك وأقل، فيقال له: هل بلغت قومك؟ فيقول: نعم، فيدعى قومه، فيقال: هل بلغكم هذا؟ فيقولون: لا، فيقال: من شهد لك؟ فيقول: محمد وأمته، فتدعى أمة محمد، فيقال: هل بلغ هذا؟ فيقولون: نعم، يقول: وما علمكم بذلك؟ فيقولون: أخبرنا نبينا بذلك أن الرسل قد بلغوا، فصدقناه، قال: فذلك قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا}»([8]).
سادسًا: تعظيم الإسلام للأنبياء ومقارنته مع موقف أتباع الأديان السماوية:
الإسلام من أكثر الأديان السماوية تعظيمًا للأنبياء والمرسلين والدفاعِ عنهم، وهو الدين الذي اجتمَعت فيه الأديان، وكتابه الكتاب الذي اجتمعت فيه الكتب السماوية، ونبيه محمد صلى الله عليه وسلم هو الذي أخَذ الله ميثاقَ النبيين وأتباعهم بواجب الإيمان به ونصرته، وبهذا يصدق على الإسلام بأنه رسالة عالمية إلى قيام الساعة، ولن يصل أحد إلى الله إلا عن طريق هذا الدين الخاتم، وفيما يلي ستتجلى لنا عظمة هذا الدين في تعظيم الأنبياء أجمعين.
سابعًا: النبي محمد صلى الله عليه وسلم وتعظيمه لإخوته من الأنبياء والمرسلين:
ختم الله رسالاته بمحمد صلى الله عليه وسلم، فكانت رسالته رحمة وهدى للعالمين، فلم يَأْتِ ليختلف مع الآخرين، ويُثِير البغضاء والشحناء، بل جاء ميسِّرًا ومبشرًا لا منفرًا ولا معنِّتًا ولا متعنِّتًا.
وضرب النبي محمد صلى الله عليه وسلم أروع الأمثلة في احترام جميع الأنبياء الذين سبقوه وتقديرهم، ومنهم: إبراهيم وموسى وعيسى عليهم الصلاة والسلام، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يذكر إخوانه الأنبياء والمرسلين ذكرَ مُحِبٍّ ومعظّم، كوصفِ أحدِهم بــ”العبد الصالح”، أو بــ”أخي”، وحتى في معرض ذكر أفضليته يحرص رسول الله صلى الله عليه وسلم على إظهار معنى أخوَّة الأنبياء وواجب التعظيم، فهذا النبيّ صلى الله عليه وسلم غضِب حين رأى مع عمرَ صحيفةً فيها شيءٌ من التَّوراةِ، وقال: «أوَفي شكٍّ أنتَ يا ابنَ الخطابِ؟! ألم آتِ بها بيضاءَ نقِيَّةً؟! لو كان أخي موسى حيًّا ما وسِعَه إلا اتِّباعي»([9]).
وقال صلى الله عليه وسلم: «أنا أوْلى الناسِ بعيسى ابن مريم في الدنيا والآخرة، والأنبياءُ إخوةٌ لعلَّات؛ أمَّهاتُهم شتَّى، ودِينُهم واحد»([10]).
وقال صلى الله عليه وسلم: «فأقول كما قال العبد الصالح -أي: عيسى عليه السلام-: }وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ})([11]).
وقال صلى الله عليه وسلم: «فذكرتُ قولَ أخي سليمانَ: }رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي}»([12]).
وقال عليه الصلاة والسلام: «رحم الله أخي موسى؛ لقد أوذي بأكثر من هذا فصبر»([13]).
وآياتُ القرآن تدعوه إلى إعلان ذلك المعنى، فيقول تعالى: {قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ} [الأحقاف: 9]، فالإسلام ينظر إلى الأنبياء جميعًا نظرة تبجيل وتعظيم؛ فاستحقَّ لذلك أن يكون الدِّينَ الخاتم للبشريَّة.
ويؤكد الله على معنى أخوة الأنبياء بقوله لنبيه: }أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ} [الأنعام: 90].
بل في كثير من مواطن الأذى يواسي الله نبيه صلى الله عليه وسلم بما لاقاه إخوانه من الأنبياء السابقين مِن أذى ونصَب.
ثامنًا: نظرة القرآن للرسل والأنبياء:
قد تقدَّم ذكر شيء من موقف القرآن من الأنبياء، وبالأخص ذكر كون القرآن مهيمنًا على جميع الكتب السابقة المنزلة عليهم، فيكشف زيفَ ادعاءات الكاذبين على أنبيائه.
ومنذ بعثة النبي صلى الله عليه وسلم والقرآن يتنزَّل بقصص الأنبياء؛ لأن الرسالة التي نزلتْ عليهم جميعًا واحدة، وهدفها واحد، فكان القرآن في منتهى الوضوح في بيان حقيقة العَلاقة بين الرسل جميعًا، حيث قال تعالى: {إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآَتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا * وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا} [النساء: 163، 164].
وتكلم القرآن عن تكريم موسى عليه السلام على سبيل المثال فيقول: {وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى آَتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ} [القصص: 14]، ويقول أيضًا: {إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالاَتِي وَبِكَلاَمِي فَخُذْ مَا آَتَيْتُكَ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ} [الأعراف: 144]، وغيرها كثير.
وتكلم عن عيسى عليه السلام ومَجِده في أكثر من موضع، كقوله تعالى: {قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آَتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا * وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلاَةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا. وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا * وَالسَّلاَمُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا} [مريم: 30-33].
واستمرَّ هذا التكريم والتعظيم طيلة حياة النبي صلى الله عليه وسلم رغم العداء والأذى الشديد من اليهود والنصارى، بل حتى بعد خيانة يهود بني قريظة للمسلمين ومحاولتهم استئصال شأفةِ المسلمين من المدينة ذكَر الله النبيَّين الكريمين في ذكر أولي العزم من الرسل، فقال تعالى: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا} [الأحزاب: 7]، وليس الشأن محاباة أو مداهنةً، وإنما تأكيد على براءتهما ممن يدَّعون الانتساب إليهما، وهنا تتجلَّى أمانة الرسول الله صلى الله عليه وسلم؛ إذ ينقل تكريم الله لهؤلاء الأنبياء العظام على رغم خيانة أقوامهم وأتباعهم.
“ولم يكن هذا الاحتفاء والاحترام لهذين الرسولين العظيمين أمرًا عرضيًّا عابرًا في القرآن الكريم، بل كان متكرِّرًا بشكل لافتٍ للنظر؛ فعلى الرغم من ورود لفظ (محمد) صلى الله عليه وسلم أربع مرَّات فقط، ولفظ (أحمد) مرَّة واحدة فقط، نجد أن لفظ (عيسى) قد جاء خمسًا وعشرين مرَّة، ولفظ (المسيح) إحدى عشرة مرَّة، بمجموع ستّ وثلاثين مرَّة! بينما تصدَّر موسى عليه السلام قائمة الأنبياء الذين تمَّ ذكرهم في القرآن الكريم؛ حيث ذُكر مائة وست وثلاثين مرَّة”([14]).
وبالنظر إلى عدد المرَّات التي ذُكر فيها كل نبيّ في القرآن نُدرك مدَى الحفاوة التي زُرعت في قلوب المسلمين لهم؛ ممَّا يدلُّ دلالة قاطعة على أن الإسلام يجِلُّ كلَّ الرسل والأنبياء.
وقد سُمِّيَت سورة بكاملها بسورة “الأنبياء”، وبعد أن ذكر جملةً طيبةً منهم، وذكر ما امتازوا به مِن خصال وصفات عظيمة، ختم قصصهم بقوله تعالى: }إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ} [الأنبياء: 90].
وفي المقابل نجد اليهود والنصارى قد عمِلوا بالنقيض؛ فلجؤوا لتحريف التوراة والإنجيل وإخفاء التبشير بنبيِّنا محمد صلى الله عليه وسلم كما جلَّى لنا القرآن والسنة ذلك فقال تعالى: }أَوَلَمْ يَكُن لَّهُمْ آيَةً أَن يَعْلَمَهُ عُلَمَاء بَنِي إِسْرَائِيلَ} [الشعراء: 197]، فالآية تبين علم بني إسرائيل بالنبي صلى الله عليه وسلم، وأنه مكتوب عندهم كما قال تعالى: {وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ} [الشعراء: 196].
فالقرآن يخبرنا أن محمدًا صلى الله عليه وسلم وأمته موجودٌ ذكرهم في الكتب السماوية السابقة، وأنَّ الأنبياء السابقين بشَّروا به، “وقد فهم جمعٌ من المفسرين من قوله تعالى: }وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّيْنَ لَمَا آتَيْتُكُم مِّن كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءكُمْ رَسُولٌ مُّصَدِّقٌ لِّمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُواْ أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُواْ وَأَنَاْ مَعَكُم مِّنَ الشَّاهِدِينَ} [آل عمران: 81] أنّ الله أخذ العهد والميثاق على كلّ نبي لئن بُعث محمد صلى الله عليه وسلم في حياته ليؤمننَّ به ويترك شرعه لشرعه، وعلى ذلك فإن ذكره موجود عند كل الأنبياء السابقين”([15]).
وذكر الله في القرآن صراحةً أنه مذكور عندهم، فقال تعالى: }الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الأعراف: 157[.
تاسعًا: الإسلام يقرر أهلية الأنبياء والرسل لتحمّل الأمانة وأنهم أكمل البشرية:
بلوغ مقام النبوة والرسالة لا يكون بالطلب والاجتهاد، وإنما هو اختيار واصطفاء لا يعتريه الخطأ والسهو؛ لأنه من الله العليم الحكيم الخبير المحيط بمعادن العباد وقلوبهم، وفي هذا يقول الله سبحانه: {اللهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ} [الأنعام: 124].
ومن تأمل في سيرهم عجز عن وصف كمالهم وحسن خِلقتهم وأخلاقهم؛ ولهذا أخبرنا الله أنه يعلم من الأصلح ليكونوا أمناء وحيه وإقامة دينه وتبليغ رسالته.
وإذا كان ثمةَ تفاضل فسيكون بين الأنبياء والمرسلين، وليس لبشر أيًّا كان أن ينضم إلى هذه المفاضلة، قال تعالى: {وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا} [الإسراء: 55]، وقال تعالى: {تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِّنْهُم مَّن كَلَّمَ اللهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ} [البقرة: 253] .
وهذا الكمال الذي نتحدَّث عنه ليس فيه شيء من خصائص الألوهية وصفات الربوبية كما ادَّعت اليهود والنصارى في بعض الأنبياء، وأبطل الله ادعاءاتهم وبيّن زيفها، قال تعالى مبينًا براءة عيسى مما نسب إليه: {وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَٰهَيْنِ مِن دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِن كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ * مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَّا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنتَ أَنتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنتَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} [المائدة: 116، 117].
فإذًا الكمال الذي نتحدَّث عنه هو كمال بشريّ، والناس متفاوتون فيه، “ولا شكّ أن الأنبياء والرسل يمثّلون الكمال الإنسانيّ في أرقى صوره، ويتحقق فيما يأتي:
1- الكمال في الخلقة الظاهرة: قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللهُ مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِنْدَ اللهِ وَجِيهًا} [الأحزاب: 69]. وقد بين لنا رسولنا صلى الله عليه وسلم أن إيذاء بني إسرائيل لموسى كان باتهامهم إياه بعيب خِلْقي في جسده([16]).
وفيه أن الأنبياء في خَلقهم وخُلُقهم على غاية الكمال، وأن من نسَب نبيًّا إلى نقص في خلقته فقد آذاه، ويخشى على فاعله الكفر([17]).
2- الكمال في الأخلاق: ولو لم يتَّصف الرسل بهذا الكمال الذي حباهم الله به لما انقاد الناس إليهم، ذلك أن الناس لا ينقادون عن رضًا وطواعية لمن كثرت نقائصه، وقلَّت فضائله.
3- الرسل ذوو أنساب كريمة: فجميع الرسل بعد نوح من ذريته، وجميع الرسل بعد إبراهيم من ذرية إبراهيم، قال تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا وَإِبْرَاهِيمَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالكِتَابَ} [الحديد: 26].
4- أحرار بعيدون عن الرق: فالرق وصف نقصٍ لا يليق بمقام النبوة… يأنف الناس ويستنكفون من اتّباع من اتَّصف بها، وأن يكون إمامًا لهم وقدوة، وهي أثر الكفر، والأنبياء منزهون عن ذلك([18]).
5- التفرد في المواهب والقدرات: الأنبياء أُعطوا العقول الراجحة، والذكاء الفذ، واللسان المبين، والبديهة الحاضرة، وغير ذلك من المواهب والقدرات التي لا بدّ منها لتحمل الرسالة ثم إبلاغها ومتابعة الذين تقبلوها بالتوجيه والتربية”([19]).
عاشرًا: الإسلام أوجبَ الإيمان بالرسل جميعًا وجعله أصلًا من أصول الإيمان:
الله عز وجل يأمر عباده بالإيمان بالرسل جميعًا، فقال تعالى: {قُلْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ عَلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ عَلَىٰ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَىٰ وَعِيسَىٰ وَالنَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} [آل عمران: 84].
وفي حديث جبريل: «الإيمان: أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وتؤمن بالقدر خيره وشره»([20]).
حادي عشر: القرآن يوبّخ أهل الكتاب على كفرهم وضلالهم وعصيانهم لأنبيائهم، ويبطل مزاعمهم في الأنبياء غلوًّا أو إجحافًا:
كما في قوله تعالى: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ} [المائدة: 78].
وقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا * أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا} [النساء: 150، 151].
وقوله: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ} [التوبة: 30].
وقوله تعالى: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ} [المائدة: 17].
ثاني عشر: الإسلام توعَّد من كفر بالرسل ولو كان واحدًا بانتفاء صفة الإيمان عنه، وأكَّد على كفره وضلاله:
ومن الضلال البعيد أن يزعُم أناس أنهم مؤمنون بالله ويكفُرون بالرسل، قال تعالى: {وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا} [النساء: 136].
وهؤلاء ما قدروا الله حقَّ قدره؛ لأن الله تعالى حكيم منزه عن العبث: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ عَلَىٰ بَشَرٍ مِّن شَيْءٍ} [الأنعام: 91].
وصفة الإيمان منتفيَة عمن آمن بالله وكفر بالمرسلين أو ببعضهم، قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَن يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَن يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَٰلِكَ سَبِيلًا * أُولَٰئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا} [النساء: 150، 151].
ثالث عشر: الإسلام يقرَّر أن من كذَّب رسولًا واحدًا فقد كذَّب بجميع الرسل:
فالرسل ربُّهم واحدٌ، ودعوتهم واحِدَة، ودينهم واحِد، والكفر برسول واحد كفرٌ بجميع الرسل؛ ولذا كان التعبير القرآني دقيقًا، قال تعالى: {كذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ} [الشعراء: 105]، وقال: {كذَّبَتْ عَادٌ الْمُرْسَلِينَ} [الشعراء: 123]، وقال: {كذَّبَتْ ثَمُودُ الْمُرْسَلِينَ} [الشعراء: 141]، وقال: {كذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ الْمُرْسَلِينَ} [الشعراء: 160].
وقوم نوح لم يُكَذِّبوا إلاَّ نوحًا، ولكن الله تعالى يذكر أنهم كذَّبوا المرسلين، فالرسالة في أصلها واحدة، وهي الدعوة إلى توحيد الله وإخلاص العبودية له، فمَنْ كَذَّب بها فقد كَذَّب بالمرسلين أجمعين، فهذه دعوتهم أجمعين.
رابع عشر: الإسلام مدح من آمن بالأنبياء جميعًا وذمَّ من فرَّق ولم يؤمن بجميعهم:
مدح الله تعالى أمَّة الإسلام بإيمانهم بجميع الرسل دون تفريق بينهم، قال تعالى: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ} [البقرة: 285].
كما أنه عز وجل ذمَّ أهل الكتاب الذين فرقوا بين النبيين ولم يؤمنوا بهم جميعًا: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ قَالُوا نُؤْمِنُ بِمَا أُنزِلَ عَلَيْنَا وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِّمَا مَعَهُمْ} [البقرة: 91].
خامس عشر: الإسلام ينهى عن التفضيل بين الأنبياء المفضِي إلى التنازع والخصومة والتنقّص:
فعن أبي سعيد الخدري، عن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: «لا تخيروا بين الأنبياء»([21]) أي: لا تقولوا: فلان خير من فلان. وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تفضلوا بين أنبياء الله»([22]) أي: لا تقولوا: فلان أفضل من فلان.
ويحمل النهي الذي ورد في الأحاديث على النهي عن التفضيل إذا كان على وجه الحميّة والعصبية والانتقاص، أو كان هذا التفضيل يؤدّي إلى خصومة أو فتنة، “وقال العلماء في نهيه عن التفضيل بين الأنبياء: إنَّما نهى عن ذلك من يقول برأيه، لا من يقوله بدليلٍ، أو من يقوله بحيث يؤدّي إلى تنقيص المفضول، أو يؤدي إلى الخصومة والتنازع، أو المراد: لا تفضِّلوا بجميع أنواع الفضائل بحيث لا يترك للمفضول فضيلة”([23]).
والحمد لله رب العالمين.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(المراجع)
([1]) أخرجه البخاري (3443)، ومسلم (2365).
([2]) الجامع لأحكام القرآن (16/ 164).
([3]) أخرجه البخاري (3443)، ومسلم (2365).
([4]) ينظر: أضواء البيان (3/ 336).
([8]) أخرجه ابن ماجه (4284)، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (2448).
([9]) أخرجه أحمد (٣/ ٣٨٧)، وحسنه الألباني في إرواء الغليل (1589).
([13]) أخرجه البخاري (3150)، ومسلم (1062) مطولًا باختلاف يسير.
([14]) المعجم المفهرس لألفاظ القرآن الكريم (ص: 218، 494، 666، 680).
([15]) انظر: دقائق التفسير لابن تيمية (1/ 335)، تفسير السعدي (ص: 136)، الرسل والرسالات للأشقر (ص: 162).
([16]) انظر: صحيح البخاري (3404)، وصحيح مسلم (339).
([17]) ينظر: فتح الباري (6/ 438).
([18]) ينظر: لوامع الأنوار البهية (2/ 265).
([19]) الرسل والرسالات للأشقر (ص: 83-79) بتصرف.
([21]) أخرجه البخاري (2412، 6916)، ومسلم (2374).