الحرية في المجال الأخلاقي في الفلسفة الليبرالية الغربية
الحرية مكون أساسي من مكونات الليبرالية؛ فمن الطبيعي أن تأخذ مساحة واسعة من التحليل عند رواد هذا الفكر ومنظريه، خصوصًا أن الليبرالية كمصطلح
مرادفة للحرية، أو التحرر في بيئة منشئها، فالليبرالية “هي الفكر الذي يركز على أهمية الفرد، وضرورة تحرره من كل أنواع السيطرة، ويصبو على نحو خاص إلى التحرر من التسلط بنوعيه: تسلط الدولة -الاستبداد السياسي-وتسلط الجماعة -الاستبداد الاجتماعي-“([1]).
وتعاريف الليبرالية تتمحور حول مدلول واحد لها، وهو حرية الفرد غير المحدودة؛ لأنها هي المحور الأساسي والركيزة الأولى في الفكر الليبرالي، وتخوض معركتها مع الدولة والمجتمع والدين؛ لحساب هذه الحرية، وتعتبر نصرها في الخروج بالفرد إلى الاستقلال عن أي مؤثر بما في ذلك القيم الدينية، والمنظومات القيمية الأخلاقية، بل إن صناعة الذوق الاستهلاكي عن طريق النسق الفكري الليبرالي، يذهب إلى خلق رغبات عبثية، وتحويلها إلى عوائد استهلاكية من أجل إدخال الفرد في دوامة النمط الاستهلاكي.
إذ أن الأخلاق الليبرالية تنظر إلى الكائن الإنساني كجسد، ويهمها فيه غرائزه وطلبه الالتذاذ، دون أن تضع في الاعتبار الأبعاد المعنوية في حياة الإنسان، وهي الأبعاد التي أبصرتها الشرائع الدينية في تجلياتها الحكمية، وسنحاول تسليط الضوء على الجانب الأخلاقي عند الليبرالية مع التركيز على عنصرين أساسين هما:
– نسبية الأخلاق عند الليبرالية
– علاقة الفرد بغيره.
أولا: نسبية الأخلاق:
وهذا مبدأ منحدر من عقيدة الرشد البشري عند الإنسان الأول، والاستهانة بعقيدة البعث، وهما العقيدتان الثابتتان في المذهب البروتستانتي، وبناء على أن الموت هو نهاية المطاف، فإن الحياة الدنيا شيء مقدس؛ لأنها البداية والنهاية، وفيها الثواب والعقاب، والسعادة والتعاسة. ومن ثم فإن ملكية المال، وحرية التصرف فيه، والسلوك الشخصي والفردي، هما محور حياة الإنسان في الفكر الليبرالي. ولهذا فإن كل القيم الأخلاقية عند الليبرالية، لا بد أن تدور حول الحرية الفردية والملكية الخاصة، وينبغي ألا تكون حائلًا بين الإنسان وحقه في أن يكسب ما شاء وينفقه فيما يريد([2]).
ولتأكيد هذا المعنى ألف “جون سيتوارت” كتابه عن “الحرية والنفعية والحكومة النيابية” ودَعا في هذا الكتاب إلى الاستناد للواقع لا إلى المثل في إصدار الأحكام على الأشياء، وقال: “إن الحرية الليبرالية في جوهرها، هي إطلاق العنان للناس ليحققوا خيرهم بالطرق التي يرونها”([3]). ولهذا لا يعتبرون القيم الأخلاقية؛ لأنها تقيد من حرية الفرد، وحين تتعارض القيم مع المبادئ فإنهم يضربون بالقيم عُرض الحائط، بل يرى بعضهم أن الأخلاق الدينية كانت احتجاجا سلبيا أكثر من كونه إيجابيا، وخاملة أكثر من كونها فاعلة، وهي امتناع عن الشر لكنها ليست سعيا للخير، وبرر اعتراضه عليها بكثرة عبارة “عليك أن لا” بدلا من “عليك أن تفعل”[4]. وهذا التبرير يبين محور الرفض عند الليبرالية للأخلاق، وهو وجود التكاليف، وما تزعم أنه قيود أخلاقية أو عادات دينية، ومن ثم لم تجد الليبرالية غضاضة في التصريح بنسبية الأخلاق والقيم.
ومن القيم التي تصرح الليبرالية بنسبيتها -رغم أهميتها ومحورتيها في الفكر الإنساني-قيمة العدل، فالعدل يعد قيمة أخلاقية نسبية بالنسبة لليبرالية؛ لأنه راجع إلى فهم كل إنسان أو مجتمع للعدل الذي يوصله إلى مصلحته وغايته، فهو وسيلة بالنسبة لهم لا غاية، ولذلك يلغونه حين يتعارض مع حرية الفرد وملكيته. يقول جون لوك: “إن الحكومة المدنية لها وظيفة وحيدة، وهي تحقيق العدالة، بضمان قدسية الحرية الفردية وحماية الملكية الخاصة، ومن ثم، فإنه لا يجوز للدولة التدخل فيهما، أو تغييرهما لتطبيق العدالة”([5]).
فالليبرالية نتيجة لإعلائها مفهوم الحرية الذي ترجع في تفسيره الى منطق غرائزي يجعل اللذة والمنفعة أساسا للعلاقة لا بد أن تصطدم بالقيم الأخلاقية؛ لتعارضها في كثير من الأحيان مع هذه القضايا، ويظل السؤال الأكثر إقلاقا لها يتعلق بالمبادئ والقيم!
ثانيا: علاقة الفرد بغيره:
يقول عالم الاجتماع الفرنسي “الكسي طو فيكل”، وهو أحد أقطاب الليبرالية: “إن معنى الحرية الليبرالية الصحيح هو أن كل إنسان نفترض فيه أنه خُلق عاقلًا، يستطيع إحسان التصرف ويملك حقًّا لا يقبل التفويت في أن يعيش مستقلًّا عن الآخرين، في كل ما يتعلق بذاته، وأن ينظم كما يشاء حياته الشخصية”([6]).
وحول هذا التعريف للحرية دندن جميع الليبراليين على اختلاف ألسنتهم وألوانهم، وهذا التعريف للحرية يجعل الإنسان كائنًا معزولًا غير اجتماعي؛ لأن تفكيره ينحصر في دائرة ذاته واهتماماته الشخصية من غير أن يتأثر بأحد أو يؤثر على أحد، ولا يعني غيرَه ما يفعله هو، ويجب ألا يكون متأثرًا بأي فكر واعتقاد ديني، أو قبلي، أو عرقي. ولذا فإن الفكر الليبرالي لا يهتم بأفعال غيره؛ لأنها لا تَعنيه، وهذا مَكْمَن الخلل في العقل الليبرالي ومفهومه للحرية؛ لأنه لا يُدرك لوازم الأفعال؛ لأن الأفكار لا تنضبط، ولا يُعرف صحيحها من فاسدها إلا بمجموع أفعال أصحابها، فإذا حصر الإنسان في فعله، ولم يعط له الحق في فعل غيره، فإنه يصبح مفهوم الحق والصواب عنده ملتبسًا، ويكون الناس بهذا في حيرة من أمرهم؛ لأن كلًّا منهم يحدد الحق من زاويته، ويفسره بغريزته، هذا بالإضافة إلى فتح باب العلاقات على مصراعيه دون قيود. فالمطلوب في الجنس هو تحقيقه لمبدأ الحرية، والمطلوب من المادي هو تحقيقه للذة والمنفعة، ولو أدى ذلك إلى الإضرار بالغير ماديًّا ومعنويًّا في القريب العاجل أو الآجل، ويُشترط في الضرر المادي أو الجنسي لكي يكون ضررًا انتفاءُ الرضى من الطرفين فقط، فإذا وُجد التراضي سمي الزنا جنسًا خارج نطاق الأسرة، وسمي الربا فائدة.
يقول آدم سميث أبو اللبرالية: “إن السلوك الإنساني يخضع لستة بواعث هي: حب الذات، وعشق الحرية، والولوع بالملكية، والسعي على العمل، والميل المتبادل”([7]).
واستُخلص من ذلك أن الفرد هو أفضل حَكَم على مصلحته الخاصة، وقد ركزت الليبرالية على نظرية الفرد المطلق الذي لا ينضوي تحت أنساق أخلاقية، وظهرت في الداخل الليبرالي فلسفات لا تهدف إلى وضع حدود لهذا الفرد المطلق، وإنما حاولت تعميق اتجاهه نحو التفرد، وإشباع الغرائز[8] وهناك مشاكل تعاني منها اللبرالية في العلاقة بين الحرية والمفهوم الأخلاقي والقيم، من أهمها:
أن القيم الليبرالية لا تستطيع أن تؤثر في معنويات المجتمع، ولا تستطيع أن تجعل من أفراده وأبنائه أصحابَ أخلاق مثالية.
أن هذه القيم التي تتكلم عنها الليبرالية لا تتكلم عن الإنسان من الناحية الروحية والقلبية، ولا تهدف إلى إصلاح نفسه، بل تكتفى بالتركيز على الجانب الغريزي وتحقيق الرغبات.
أن هذه القيم، ومنها الحرية الفردية تعاني من التناقض في ذاتها، فكلما كانت الحرية فردية أضرَّت بمبدأ المساواة بين أفراد المجتمع، والمساواةُ الكاملة بين أفراد المجتمع تضر بالحرية.
إن السؤال الأكثر إقلاقًا لليبرالية هو السؤال القِيَمي الذي يتعلق بالأخلاق، فالحرية كمصطلح له أبعاد فلسفية لم يعد يُستقى معناه من مدلوله اللغوي في أي لغة، بل هو يزداد يومًا بعد يوم توسعًا في المعنى، مما جعله مصطلحًا مفتوحًا يستقى معناه من تطبيقات الإنسان ورغباته، حسب الطرح الليبرالي. ولا ضير أن يجد أصحاب الطرح الليبرالي المنظوماتِ القِيَمِيَّة، والشرائع الدينية، والأعراف الاجتماعية كلَّها سدًّا منيعًا أمامهم، بل عدوًّا لهم.
إن المبادئ الليبرالية تتهاوى أمام سؤال الأخلاق، ولا تقدم ما يمكن أن يعرف فيه الإنسان العاقل الفرق بينه وبين الحيوان الذي يشترك معه في الغريزة، فكل منهما يسعى خلفها، دون مراعاة للضرر الناتج عنها، ودون شعور بالآخرين واحترام لمشاعرهم.
لقد عانت الليبرالية، ولاتزال تعاني من أنسنة العلاقات الاجتماعية، وفصلها عن المبدئ الديني، وحتى الأخلاقي، مما أدى بالليبرالية إلى أن تكون إشكالية لمعتنقها في المفهوم والمبادئ، وذلك لما تتسم به الليبرالية من غموض حين يتعلق الأمر بالأخلاق، وليس مستغربا على الليبرالية هذا الغموض، فجعل النفعية مبدأ والغريزة مقصدا، هو ما جعل الليبرالية تخوض معركة الأخلاق مع ذاتها، وتدخل مجتمعاتها ومعتنقيها في دوامة من القلق فإنك حين تتحدث عن الأخلاق عند الليبرالية، تتحدث عن الفساد الذي أنتجته الرأسمالية، وتتحدث عن الحروب التي خاضها معتنقو هذ الفكر لا لشيء إلا حبا منهم في إثبات الحرية المطلقة للفرد وتبني مبدأ المنفعة واللذة الذين باتا همًّا مقلقًا لجميع المجتمعات الليبرالية، وذلك لتفاوتهما، وعدم وجود معيار ولو وضعي يتفق عليه الليبراليون يحكمهما، وقد ظهرت آثار كارثية لهذا الفكر تعكس الخطر الذي يمكن أن يسببه للمجتمعات التي لا تمانع في تلقيه منها:
أولا: التشكيك في عقيدة المسلمين، وزعزعة الثقة بها، بمختلف الأسباب والطرق الملتوية الخبيثة. مما يجعل الناس في قطيعة تامة مع مصادر التلقي والاستدلال، ومحاولة التزهيد والتشويه المتعمد للتراث الإسلامي عقيدة وشريعة.
ثانيا: الانهزامية والترويج بأن الإسلام هو سبب التخلف، ولا يمكن أن يتقدم المسلمون إلا بتركه كما تجاوز الغرب النصرانية المحرفة والوثنية المخرِّفة، هذا بالإضافة إلى نشر فكر شهواني لا يحتم دينا ولا يقر عادة حسنة، مما يؤدي حتما الى انتشار الفاحشة بجميع أنواعها.
إعداد اللجنة العلمية بمركز سلف للبحوث والدراسات [تحت التأسيس]
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
([1]) موسوعة لا لاند الفلسفية (1/ 726)
([2]) ينظر صراع الثوابت بين الليبرالية والإسلام (ص 84)
([3]) عن الحرية (ص 65) تأليف جون استيوارت مل
[4] المصدر السابق: (ص60)
([6]) الحالة الاجتماعية في فرنسا 1863 (1/26)
([7]) ينظر: صرا الثوابت بين الليبرالية والإسلام (86) نقلا عن نظرية الشعور الأخلاقي.
[8] ينظر: دراسات معرفية في الحداثة الغربية (ص185)