التَّشكيكُ سُنّةٌ باطنية
للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة
المقدمة:
لا داعِي للفزع والخوف المفرط من موجة التشكيك في أصول الإسلام وثوابته ومسلَّماته التي نمرّ بها في هذا العصر – كما يزعمه من بعض المسلمين وأعدائه – وكأنّ أمر الإسلام – في زعمهم – أصبح مسألة وقت، وهو إلى زوال واضمحلال!
فقد ظهر بين المسلمين من يشكِّكهم في أصول دينهم وثوابته في سالف الأزمان بتدبير ماكرٍ، وخطّة محكمة كما يقال، فماذا كان؟! الذي حصل أنه برزت نصاعة الدين الإسلامي في عقائده وشرائعه ونظمه، وتبيّن تهافُت كلّ محاولاتِ دحضه وبث الشبهات حوله.
نعم هذا هو الحال دومًا وفي كل زمان، والقصة تتكرر في كلّ وقت وإن تغيرت أسماء شخصياتها واختلفت وسائلهم، فالتاريخ -كما يقولون- يعيد نفسه.
لقد ظهر بين المسلمين من يشكِّكهم في أصول دينهم وثوابته في سالف الأزمان بتدبير ماكرٍ، وخطّة محكمة كما يقال، ولكن هيهات هيهات.
فالله سبحانه وتعالى هو الذي وعد بحفظ القرآن ودين الإسلام، فهو القائل: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر: 9]، أي: “إنا للقرآن لحافظون من أن يزادَ فيه باطل ما ليس منه، أو يُنقص منه ما هو منه من أحكامه وحدوده وفرائضه”([1])، وقد صدَقنا وعدَه، وهو لا يخلف الميعاد.
بل إن “من أعظم أسباب ظهور الإيمان والدين وبيان حقيقة أنباء المرسلين ظهور المعارضين لهم من أهل الإفك المبين، كما قال تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ (112) وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُوا مَا هُمْ مُقْتَرِفُونَ (113) أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلًا وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (114) وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [الأنعام: 112-115]… وذلك أن الحقّ إذا جُحد وعورض بالشبهات أقام الله تعالى له مما يحقّ به الحقّ ويبطل به الباطل من الآيات البينات بما يظهره من أدلة الحقّ وبراهينه الواضحة، وفساد ما عارضه من الحجج الداحضة… فسائر أعداء الأنبياء من المجرمين شياطين الإنس والجن الذين يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا إذا أظهروا من حججهم ما يحتجون به على دينهم المخالف لدين الرسول، ويموّهون في ذلك بما يلفّقونه من منقول ومعقول، كان ذلك من أسباب ظهور الإيمان الذي وعد بظهوره على الدين كله بالبيان والحجة والبرهان، ثم بالسيف واليد والسنان”([2]).
وهذه الورقة ستتناول شيئًا من تاريخ أولئك المشكّكين؛ لنرى أن التشكيك هو التشكيك والأسلوب هو الأسلوب وإن اختلفت الشعارات وارتدَى المضلُّ اليوم غير ثوب الأمس.
تمهيد:
مما لا يخفى على من يقِف على ثغور الإسلام والذود عن الشبهات التي تثار حوله بل وعلى المتربصين المشكّكين في الدين أيضًا أن أصول الإسلام ثابتة متينة راسخة، فأركان الإسلام والإيمان وأصول العقيدة وأصول الشرائع والقرآن في ثبوته وحجيته وإعجازه ودلالته أمور ثابتة متينة؛ ولذا لا يتجرأ المشكّكون والمشاغبون على التقرب منها فضلًا عن الحوم حولها، فلا يعارض المعارضون في أصل الإيمان بالنبي محمد صلى الله عليه وسلم وفضله على غيره من الأنبياء، وفضل آياته على آياتهم، وفضل أتباعه على أتباعهم في الجملة، وغيرها من الآيات الباهرات؛ وإنما يبحثون عن قضايا لا علاقة لها بأصل المسألة؛ ككونه تزوَّج عائشة وهي صغيرة مع أنه تزوّج خديجة وهي تكبره بسنوات.
فهم لا يتجرّؤون على الحوم حول أصول دين الإسلام، وإنما غاية أمرهم التلبيس والتشكيك في قضايا فرعية، أو دليل فرعي من أدلة أصل من الأصول الثابتة بالحجج والدلائل المتضافرة المتواترة، وهذا ما نلحَظه في واقعنا المعاصر اليوم، وهو ما نلحظه أيضا مع طائفة من المندسين الحاقدين المتربصين بدين الإسلام في القرن الثالث الهجري، فمن هم؟
من أوائل الفرق المتربصة للتشكيك في أصول الإسلام:
لما انتصر الدين الإسلامي وانتشر في أصقاع الأرض شرقًا وغربًا ظهر من بين أولئك المغلوبين من دخل الإسلام مندسًّا ماكرًا كائدًا، بعكس عامة الناس الذين دخلوه فرحين مستبشرين متهلّلين بعد أن رأوه الحقَّ الذي لا حقَّ بعده؛ في اعتقاداته وشرائعه ومسائله ودلائله، ولكن مؤسِّسو الباطنية لم ينظروا بعين الطالب للحقّ والعدل، وإنما بعين الطالب للثأر والدم والحقد والبغض، فعموا وصمّوا عن الحقّ الذي في الإسلام، وكادوا له بالمكر والمخادعة، حيث لم يتمكّنوا من الكيد له بالسيف والمواجهة.
فالباطنية هم: طوائف استهدفوا هدم الإسلام وإبطالَ شعائره وأحكامه العملية تحت غطاء تأويل النصوص الظاهرة وإثبات معانٍ باطنة لها، ملتجِئين إلى التفسير الإشاري للنصوص ودعوى أنها رموزٌ يقصَد بها ما يريدون من المعاني([3]).
لقد كان الغرض الأول لهؤلاء الباطنية هو الطعن في الإسلام بالمكر والكيد، كما نقل اتّفاق أهل المقالات على ذلك الغزالي رحمه الله حيث قال: “مما تطابق عليه نقلة المقالات قاطبة أن هذه الدعوة لم يفتتحها منتسب إلى ملة ولا معتقد لنحلة معتضد بنبوة، فإن مساقها ينقاد إلى الانسلال من الدين كانسلال الشعرة من العجين، ولكن تشاور جماعة من المجوس والمزدكية وشرذمة من الثنوية الملحدين وطائفة كبيرة من ملحدة الفلاسفة المتقدمين، وضربوا سهام الرأي في استنباط تدبير يخفّف عنهم ما نابهم من استيلاء أهل الدين، وينفّس عنهم كربة ما دهاهم من أمر المسلمين، حتى أخرسوا ألسنتهم عن النطق بما هو معتقدهم من إنكار الصانع وتكذيب الرسل وجحد الحشر والنشر والمعاد إلى الله في آخر الأمر”([4]).
نعم، إنهم كانوا يقصدون تقويض أصول الإسلام، ولكن بالحيلة والمكر، فما حيلهم التي استخدموها للطعن في الإسلام؟ وما علاقتها بالتشكيك؟
من أهمّ الأحداث التي تبيّن لنا حيلَهم قصةُ رأس رؤوس الباطنية الذي اشتُقّ للطائفة اسم من اسمه وهو حمدان قرمط([5])، يرويها لنا الغزالي رحمه الله حيث يقول: “وكان المسمى حمدان قرمط رجلا من أهل الكوفة، مائلا إلى الزهد، فصادفه أحد دعاة الباطنية في طريق وهو متوجّه إلى قريته، وبين يديه بقر يسوقها، فقال حمدان لذلك الداعي وهو لا يعرفه ولا يعرف حاله: أراك سافرت عن موضع بعيد، فأين مقصدك؟ فذكر موضعا هو قرية حمدان، فقال له حمدان: اركب بقرة من هذه البقر لتستريح عن تعب المشي، فلما رآه مائلا إلى الزهد والديانة أتاه من حيث رآه مائلا إليه، فقال: إني لم أومر بذلك، فقال حمدان: وكأنك لا تعمل إلا بأمر! قال: نعم، قال حمدان: وبأمر من تعمل؟ فقال الداعي: بأمر مالكي ومالكِك ومن له الدنيا والآخرة، فقال حمدان: ذلك إذن هو رب العالمين، فقال الداعي: صدقت، ولكن الله يهب ملكه لمن يشاء، قال حمدان: وما غرضك في البقعة التي أنت متوجه إليها؟ قال: أمرت أن ادعو أهلها من الجهل إلى العلم ومن الضلال إلى الهدى ومن الشقاوة إلى السعادة، وأن أستنقذهم من ورطات الذل والفقر، وأملّكهم ما يستغنون به عن الكد والتعب، فقال له حمدان: أنقذني أنقذك الله، وأفض عليّ من العلم ما يحبّبني به، فما أشد احتياجي إلى مثل ما ذكرته! فقال الداعي: وما أمرت بأن أخرج السر المخزون لكل أحد إلا بعد الثقة به والعهد عليه، فقال حمدان: وما عهدك؟ فاذكره لي فإني ملتزم له، فقال الداعي: أن تجعل لي وللإمام على نفسك عهد الله وميثاقه أن لا يخرج سر الإمام الذي ألقيته إليك، ولا تفشي سري أيضا، فالتزمَ حمدان سرَّه، ثم اندفع الداعي في تعليمه فنون جهله حتى استدرجه واستغواه واستجاب له في جميع ما دَعاه، ثم انتدب حمدان للدّعوة وصار أصلا من أصول هذه الدعوة، فسمِّي أتباعه القرمطية”([6]).
وهنا يلاحَظ العنصر الأهمّ الذي ابتدأنا به ورقتنا، وهو تهيئة النفوس للتشكيك والطعن في أصول الإسلام بغطاء الزهد والتقشف في الدنيا أحيانا، وبغطاء طلب هداية الناس ودعوتهم إلى الحق والخير أحيانا أخرى، وبغطاء البحث عن الحقيقة ثالثة، وغطاء طلب العلم والمعرفة رابعة، وغيرها من أنواع الستور التي يرخيها أرباب التشكيك على شبهاتهم وتشكيكاتهم.
ولكن الأمر أعظم من أن يكون ما عمله ذلك الداعي مجردَ أمور اعتباطية أو وسائل حصلت مصادفة في ذلك الوقت واستحدثت في عقله فعمل بها، لا ليس الأمر كذلك.
بل إن الباطنية كانت لهم وسائل وطرق مخطّطة للعمل على تقويض الإسلام وزعزعته في النفوس إن لم يفلحوا في التقويض، {وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} [يوسف: 21].
حيل الباطنية في الطعن في الإسلام وزعزعة عقائد المسلمين:
لقد كان الداعية الباطني يسير وفق مخطَّط مرسوم له، لا يخرج عنه ولا ينفك عنه، ضمن منظَّمة سرية تعمل في الخفاء لزعزعة الإسلام من نفوس المسلمين، وكان من أهم الوسائل التضليلية عند الباطنية التشكيك في قضايا الإسلام وإثارة الشبهات والإشكالات حول عقائده وتشريعاته، ولكنهم لم يكونوا يثيرونها بصورة المعارض القاصد نقضَ الدين من أصوله، وإنما بصورة المشفِق الطالب للحقّ والباحث عن كاشف لتلك الشبهات، ولذلك كانوا يتدرجون مع من يلقون إليه تلك الشبهات قبل إلقائها عليه ببعض الوسائل ومراتب الحيل، وبعد التشكيك يتدرجون معه في مراتب الإضلال حتى ينخلع من دين الإسلام.
فالتشكيك أصلٌ أصيل في منهج الباطنية، فعليه مدار حيلهم، وللتدرج فيه قدموا له بحيلتين لتهيئة من يشكّكونه في دينه، ومن بعد التشكيك يطمئنّون إلى طمس الإسلام في قلبه، فقد كانت لهم حيل مخططة مرتبة متدرجة في تشكيك الناس في الإسلام ودعوتهم إلى باطلهم، وقد ذكرها كثير ممن تصدّى لدراسة حالهم والتعريف بخطرهم([7])، وبينوا اتفاقهم على هذه الأساليب والحيل، وهي تسع حيل يسيرون فيها مع المدعو بالتدرج على حسب المراتب التالية: 1- التفرّس، 2- التأنيس، 3- التشكيك، 4- التعليق، 5- الربط، 6- التدليس، 7- التأسيس، 8- الخلع، 9- المسخ أو السلخ.
فما معنى مراتب الحيل هذه؟ وكيف يتعاملون مع من يدعونه؟
من أهم الحيل التي كانوا يهيئون بها المسلم لتشكيكه في أصول الإسلام حيلتان يبدؤون بهما خطتهم في التشكيك، ثم تتلوها حيل أخرى وهي:
الحيلة الأولى: التفرّس، وهذه الحيلة خاصة بالداعية الباطني نفسِه، فلا بدّ أن يتّصف الداعية بجملة من الصفات؛ لأنه يترتب عليها عدد من الحيل بعدها؛ كي يتحقق الهدف المرجو من دعوته، ويؤدي دوره في إغواء الناس على الوجه المخطط له، وهذه الصفات هي: أن يكون الداعية الباطني صادق الفراسة، ويقصدون به: أن يُحسن النظر في حال المدعو، ومدى قبوله بما سيلقَى إليه؛ لذلك يرتبون على هذه الصفة الصفة الثانية.
والصفة الثانية هي: ألا يتكلّم الداعية الباطني مع أهل العلم، ويقولون: (لا تلقِي البذرة في الأرض السبخة)، و(لا تنشر دعوتك في بلد فيه متنور)، ويقصدون: أن يقصر دعوته على جهّال الناس، وأن لا يفشي أسرار دعوتهم في بلد فيه عالم من العلماء.
والصفة الثالثة: يجب على الداعي الباطني الاتصاف بقوة الحدس، أن يكون قويَّ الحدس، ذكيَّ الخاطر، قادرًا على التلبيس، يستطيع تغيير الظواهر وردها إلى البواطن، إما اشتقاقًا من لفظها أو تلقبًا بها من عددها أو تشبيها لها بما يناسبها.
الصفة الرابعة: أن لا يدعو الجميع على مسلك واحد وبطريقة واحدة، وإنما يراعي حال من يدعو وميوله وما يوافق هواه، فيبادر في تزيينه ويحسّن له الغلوّ فيه.
وقد بيَّن وسائل إضلالهم ابن الجوزي رحمه الله حيث قال: “يستدرجون الخلق إلى مذاهبهم بما يقدرون عليه، فيميلون إلى كل قوم بسبب وافقهم، ويميزون من يمكن أن ينخدع ممن لا يمكن، فيوصون دعاتهم فيقولون للداعي: إذا وجدت من تدعوه فاجعل التشيع دينك، ادخل عليه من جهة ظلم الأمة لعلي بن أبي طالب، وقتلهم الحسين، وسبيهم لأهله، والتبري من تيم وعدي وبني أمية وبني العباس، وقل بالرجعة، وأن عليا يعلم الغيب، فإذا تمكنت منه أوقفته على مثالب علي وولده، وبينت له بطلان ما عليه أهل ملة محمد وغيره من الرسل، وإن كان يهوديا فادخل عليه من جهة انتظار المسيح، وأن المسيح هو محمد بن إسماعيل بن جعفر، وهو المهدي، واطعن في النصارى والمسلمين، وإن كان نصرانيا فاعكس، وإن كان صابئيا فتعظيم الكواكب، وإن كان مجوسيا فتعظيم النار والنور، وإن وجدت فيلسوفا فهم عمدتنا لأنا نتّفق وهم على إبطال نواميس الأنبياء وعلى قدم العالم، ومن أظهرت له التشيع فأظهر له بغض أبي بكر وعمر، ثم أظهر له العفاف والتقشف وترك الدنيا والإعراض عن الشهوات، ومر بالصدق والأمانة، والأمر بالمعروف، فإذا استقر عنده ذلك فاذكر له زلل أبي بكر وعمر، وإن كان سنيا فاعكس، وإن كان مائلا إلى المجون والخلاعة فقرر عنده أن العبادة بُله، والورع حماقة، وإنما الفطنة في اتباع اللذة وقضاء الوطر من الدنيا الفانية”([8]).
هذا ملخص المرتبة الأولى فقط من الحيل.
الحيلة الثانية: التأنيس، ويقصدون به: بعث الأمن والطمأنينة في نفس المدعو، بعد أن يأتوا إليه بما يستميله ويستدرجه، فهم يوافقونه على المذهب الذي هو عليه، ويذكرون من محاسنه ما يبعث في نفسه الأمن والطمأنينة، ويتلطفون معه في الحديث، ويسامرونه ويسايرونه؛ لغرس الثقة والمحبة لما يقوله الداعي، تهيئة له لتشكيكه في أصول دينه، ثم إلقاء التعليمات الباطنية عليه وتقبله لها.
الحيلة الثالثة: التشكيك، وهذه المرحلة هي المرحلة الانتقالية من مجرد التهيئة لقبول دعوتهم إلى البدء بالطعن في الإسلام ونقض أصوله عند المسلم وتشكيكه فيها وزعزعة إيمانه ويقينه، فبعد أن يطمئن المدعو يبدأ الداعية بمحاولة زعزعة عقيدته وتشكيكه فيها من خلال شبهات تُلقى إليه وأسئلة تُطرح عليه، وهم يركزون في ذلك -كما ذكرنا- على مسائل فرعية وحكم من الأحكام دون مناقشة الأصول ككون أصل الامتثال لأمر الله ورسوله مبنيًّا على أصل متين، فمن باب التشكيك يسألونه في تفصيلات قد يضل فيها من لم يكن من أهل العلم، كالسؤال عن السبب والحكمة من الأمر بالغسل مثلا من المني وهو طاهر، وعدم الأمر بالغسل من البول والغائط مع كونهما نجسين! أو السؤال مثلا عن الحكمة من الطواف بالبيت وهي حجارة! أو الحكمة من رمي الجمرات، أو الحكمة من الإحرام لمن أراد الحج والعمرة، أو الحكمة من قضاء الحائض الصوم وعدم قضائها للصلاة مع كونهما واجبين، أو الحكمة من كون أبواب الجنة ثمانية وأبواب النار سبعة، فيأتون إلى قليل البصيرة في الدين بمثل هذه الأسئلة المحيرّة، ويلقونها عليه بهذا الأسلوب على أنها أمور تدعو إلى التشكيك في هذا الدين الذي يعتقِده، وأنها أمور غير مفهومة، وليس فيها ما يُقنِع العقول، ويعظمون له أمر تلك التساؤلات والشكوك، لكنهم لا يجيبون له عليها، بل يعلّقون الإجابة عنها، وغرضهم من إلقائها تشكيكُه في دينه، ولا شك أن المرء إذا بلغ به الشكّ في صحة الدين مبلغَه تقبَّل بعد ذلك أي شيء يقال له، وتنطلي عليه كل حيلة، فيكون كالريشة في مهبّ ريح الشبهات، تذهب به يمنة ويسرة، وهو ما حصل للإمام الغزالي رحمه الله حين عرّض نفسه لهذه الشبهات حيث قال: “فأقبلت بجدّ بليغ أتأمل المحسوسات والضروريات، وأنظر هل يمكنني أن أشكّك نفسي فيها؟ فانتهى بي طول التشكيك إلى أن لم تسمح نفسي بتسليم الأمان في المحسوسات أيضًا… فلما خطر لي هذه الخواطر وانقدحت في النفس حاولت لذلك علاجًا، فلم يتيسر؛ إذ لم يكن دفعه إلا بالدليل، ولم يمكن نصب دليل إلا من تركيب العلوم الأولية. فإذا لم تكن مسلَّمة لم يمكن تركيب الدليل، فأعضل الداء، ودام قريبًا من شهرين، أنا فيهما على مذهب السفسَطة بحكم الحال، لا بحكم النطق والمقال”([9]).
وليس من الإسلام في شيءٍ ولا من العقل في شيء دعوى من يدّعي ضرورةَ الانسلاخ من الحقائق والثوابت التي ثبتت لدى الإنسان؛ بدعوى الموضوعية والتجرد من المسلمات السابقة، فحال من يفعل ذلك كحال من معه نورُ المصباح يهتدي به في الظلام، ثم هو يكسِر ذلك المصباحَ ويسعى لصُنعه ليصلَ إلى النور بنفسه، فهو يعيش في الظلام بدلًا من النور الذي وجده.
ومن العجيب أن نجد هذا الطرح بين أهل الإسلام مع أن الإسلام لم يقل في يوم من الأيام: (اعصب على عينك واتّبعني)، وإنما يقول: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ} [محمد: 19]، فأمر بالعلم قبل القول والعمل.
إن دعاة الباطنية بعد هذه المرحلة يستطيعون التلاعب بالمسلم وبكل حرية؛ لأنه -كما ذكرنا- أصبح كالريشة في مهب الريح، وكالميت بين يدي المغسل، ولذا تأتي الحيل التالية.
الحيلة الرابعة: التعليق، وفيها يتركون المدعوَّ متأرجحًا في عقيدته، متلهّفًا لمعرفة إجابات الأسئلة التي سألوها، متشوقًا إلى العلم بها، فإذا ما سألهم عن جواب ما ذكروه علّقوا قلبه بطلبه.
الحيلة الخامسة: الربط، وتسمى عند بعض علماء الفرق: حيلة العهود والمواثيق، وفيها يربطون لسان المدعو بالأيمان المغلظة والعهود المؤكدة أن لا يفشي أسرارهم.
الحيلة السادسة: التدليس، بعد اليمين وتأكيد العهد لا يسمح ببثّ الأسرار إليه دفعة واحدة، ولكن يتدرّج معه ويراعي أمورًا منها: أنه يقتصر في أول وهلة على ذكر قاعدة المذهب، ويقول له: منار الجهل تحكيم الناس عقولهم الناقصة وآراءهم المتناقضة وإعراضهم عن الاتباع والتلقي من أصفياء الله، ومنها أن يحتال لإبطال المدرك الثاني من مدارك الحق وهو ظواهر القرآن، فيبين له أهمية العلم الباطن، ومنها أن لا يظهر مخالفته للأمة وانسلاخه من الدين ببيان انتسابه لأبعد الفرق وأطوعها لقبول الخرافات وهم الروافض، وهكذا.
الحيلة السابعة: التأسيس، وفيها يلجأ داعي الباطنية إلى التمويه والتشويق، في محاولةٍ منه لإغراء المدعو للدخول في مذهبهم، فيضع له قاعدة، يقولون له: لا تُنكر في الظاهر، ولا تبطل الباطن، وقصدهم في ذلك استدراجه من حيث لا يدري إلى معتقد الباطنية، فيقول له الداعي: الظاهر قشر والباطن لب، الظاهر رمز والباطن هو المعنى المقصود، فيؤسّس في نفسه الشغف إلى معرفة البواطن، والإعراض عن ظواهر النصوص؛ إذ المدعو قد وصل عندهم إلى مرتبة العلم الباطني.
الحيلة الثامنة: الخلع، وفيها يقول داعي الباطنية للمدعو: قد عرفت الآن أن هذه النصوص يراد ما ورائها، فوجب عليك البحث عن بواطنها، ويخبره أن فائدة الظاهر أن يفهم ما وُدع فيه من علم الباطن لا العمل به، وأن الأحمق هو الذي يأخذ بظواهر النصوص، ويخبرون المدعو أنه متى وقف على الباطن سقط عنه حكم الظاهر، وفي هذه الحيلة يُسقطون عن المدعو عددا من التكاليف الشرعية على سبيل التدرج؛ كالصلاة والصيام والزكاة والحج وغيرها من شرائع الإسلام؛ بدعوى أنه عرف سرها ومقصودها، ويحلون له ما حرم الله عليه من الزنا والخمر والميسر ونحو ذلك؛ مما يجعله واقعًا في حمأة الرذيلة والفساد، مفلسًا من الدين.
الحيلة التاسعة: المسخ أو السلخ، وفيها يُعلمون المدعو أنه قد صار منهم، وأن وثاقه قد أُطلق، يعني كأنه كان محبوسًا وقد حُرر بوصوله إلى هذه المرحلة، وحل له كل ما حُرّم على غيره من الناس الذين لم يدخلوا في مذهبهم، وزالت عنه جميع التكاليف، فليس ثمة حرام.
ومن هنا يتّضح لنا أن أول دركة من دركات الانحلال والانخلاع من الدين هي إثارة الشكوك وزعزعة الإيمان بالمسلمات والعقائد الإسلامية، فهو المرتكز الأول الذي منه ينطلقون إلى خلع الدين من نفس الإنسان خصلة خصلة عقيدة عقيدة وحكما حكما، حتى يصل إلى المرتبة التي يكفر فيها بكل ما في الإسلام من عقائد وشرائع، فهدم المبادئ والقيم ونشر الإلحاد والإباحية هو غرض الباطنية في القديم، وهو غرض من ينشر الشكوك والشبهات اليوم في أوساط المسلمين عبر الوسائل المختلفة.
نهي السلف عن التعرض للشبهات:
ومن هنا ندرك أهميةَ ما كان عليه السلف من اجتناب الشبهات واجتناب أصحابها، بل والنهي عن مجالستهم وسماع كلامهم ولو كانت آيات من القرآن الكريم، وهذا هو المنهج النبوي الذي ورد في الصحيح حيث قال عليه الصلاة والسلام: « الحلال بيّن، والحرام بيّن، وبينهما مشبهات، لا يعلمها كثير من الناس، فمن اتَّقى المشبهات استبرأ لدينه وعرضه، ومن وقع في الشبهات كراع يرعى حول الحمى، يوشك أن يواقعه، ألا وإن لكل ملك حمى، ألا إن حمى الله في أرضه محارمه، ألا وإن في الجسد مضغة، إذا صلحت صلح الجسد كلُّه، وإذا فسدت فسد الجسد كلُّه، ألا وهي القلب»([10]).
ومن هذا الأصل انطلق الصحابة والتابعون وأئمة الإسلام، فالإمام الملهم عمر بن الخطاب رضي الله عنه حين سأله صَبيغ عن {الذَّارِيَاتِ ذَرْوًا} وأشباهه سيَّره إلى الشام، وزجر الناس عن مجالسته، مع أنه كان سائلًا عن شيء من القرآن ولكن بغرض تتبع الشبهات([11])،قال الآجري: “لم يكن ضرب عمر رضي الله عنه له بسبب عن هذه المسألة، ولكن لما تأدّى إلى عمر ما كان يسأل عنه من متشابه القرآن من قبل أن يراه علم أنه مفتون، قد شغل نفسه بما لا يعود عليه نفعه، وعلم أن اشتغاله بطلب علم الواجبات من علم الحلال والحرام أولى به، وتطلّب علم سنن رسول الله صلى الله عليه وسلم أولى به، فلما علم أنه مقبل على ما لا ينفعه، سأل عمر الله تعالى أن يمكنه منه، حتى ينكّل به، وحتى يحذّر غيره”([12]).
وكذلك كان موقف التابعي الجليل محمد بن سيرين حين أتاه رجلٌ من أهل الكلام، فقال: ائذن لي أن أحدّثَك بحديث، قال: لا أفعل، قال: فأتلو عليك آية من كتاب الله؟ قال: ولا هذا، فقيل له في ذلك، فقال ابن سيرين: لم آمَنْ أن يذكرَ لي ذكرًا يقدح به قلبي([13]).
وورد عنه أيضا أن رجلا دخل عليه في بيته، فذكر له شيئا من القدر، فقال محمد: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَىٰ وَيَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [النحل: 90] قال: وأخذ بأصبعيه في أذنيه فقال: لتخرجن من عندي أو لأخرجن عنك، فخرج الرجل فقالوا: يا أبا بكر، لو سمعت من الرجل، فقال محمد: إن قلبي ليس بيدي، وإني خفت أن ينفث في قلبي شيئًا لا أستطيع أن أخرجه من قلبي، فكان أحب إلي أن لا أسمع كلامه”([14]).
وقال الحسن بن محمد: “لا تجالسوا أهل القدر”([15]).
والنصوص عن السلف كثيرة في هذا الباب.
الخاتمة:
نبراس المؤمن هو ما أمره الله سبحانه وتعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر: 7]، فالمؤمن يسلم لما أمره الله سبحانه وتعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم، وينتهي عما نهاه، فالحلال بين، والحرام بين، وأما تتبع الشبهات واللهث وراء كل مشكك فليس من شأن المؤمن، وقد سبق مثيري الشبهات في زماننا كثيرون أمثالهم، وبقي الإسلام شامخًا بأصوله وعقائده وشرائعه، محفوظًا بحفظ الله سبحانه وتعالى الذي سخَّر أئمة الإسلام للقيام به.
وصلَّى الله وسلم على نبيِّنا محمَّد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــ
(المراجع)
([3]) ينظر: الملل والنحل للشهرستاني (1/ 192)، فضائح الباطنية للغزالي (ص: 11)، كشف أسرار الباطنية لمحمد الحمادي (ص: 18).
([5]) فمن أسماء الباطنية القرامطة؛ نسبة إلى حمدان قرمط.
([7]) ينظر: فضائح الباطنية (ص: 21)، الفرق بين الفرق (ص: 282).
([8]) المنتظم في تاريخ الملوك والأمم (12/ 293).
([9]) المنقذ من الضلال (ص: 112 وما بعدها).
([10]) أخرجه البخاري (52)، ومسلم (1599).
([11]) أخرجه الدارمي (1/ 252)، والآجري في الشريعة (1/ 483)، واللالكائي في شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة (4/ 702).
([13]) ينظر: ذم الكلام وأهله للهروي (4/ 348).