كيف ظهرَ الشِّرْكُ في النصارى؟
للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة
المقدمة:
لا يختلِفُ العقلاءُ في قبحِ الشرك وفداحَتِه؛ فإنَّ البشرية مفطورةٌ على النُّفرة من الشرك بالله وإعطاءِ شيء مِن خصائصه تعالى لغَيره، تمامًا كبديهيَّة إقرار البشرية بوجودِه وخالِقِيَّته أولًا، فهذه قضايا فطريةٌ ضروريةٌ لا تحتاج إلى نظرٍ واستِدلال([1])، وقد يُعمل الإنسان فيها عقلَه ونظرَه مسانَدةً منه لهذه الفطرة؛ “لينالَ المؤمنُ بذلك زيادةَ اليقين وثلج الصدر”([2])، هذا من حيث الأصل، إلا أنه قد يَعرِضُ للإنسان ما يحتاج معه إلى النظرِ والاستدلال العقليّ؛ لإيقاظ هذا المعنى الفطري الكامن في النفس([3]).
فقُبحُ الشّرك وقذارة فِكر صاحبه أمرٌ بَدَهيّ في العقول السويةِ، سواء عند النصارى أو عند اليهود أو عند المسلمين، وهو ما جاءت به جميع الرسل من عند الله، قال الله تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [النحل: 36]، وقال: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (18) إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ} [آل عمران: 18، 19].
وفي هذا البحث ننقِّب عن بداية ظهور الشرك في النصارى وانتشاره مع أن عيسى عليه السلام بعث بالتوحيد ونبذ الشرك.
تمهيد:
على مرِّ الأزمان كانت دعوة رسل الله عليهم السلام هي الدعوة إلى توحيد الله سبحانه وتعالى والنهي عن الشرك به، وما من نبيٍّ إلا وقد دعا قومه إلى إفراد الله سبحانه وتعالى بالعبادة واجتناب عبادة غيره من الطواغيت والشركاء والأنداد، قال تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [النحل: 36]، فكل الأمم السالفة بعث الله فيهم من يدعوهم إلى عبادة الله وحده لا شريك له وإفراده بالطاعة واجتناب سبل الشياطين والمشركين([4])، وهذا الأصل اجتمع الأنبياء كلهم على الدعوة إليه، ومن دعا إلى التوحيد دعا إلى سبيل الأنبياء ومن كذَّب بالتوحيد كذَّب رسل الله أجمعين([5]) كما قال تعالى: {كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ} [الشعراء: 105].
وبهذا جاء عيسى عليه السلام، جاء بالأمر بتوحيد الله سبحانه وتعالى وعدم الإشراك به، ولم يأمر قط بعبادته من دون الله تعالى، ولا برفعه فوق منزلة النبوة التي أنزله الله إياها: {وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ (116) مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (117) إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [المائدة: 116-118]، فعيسى عليه السلام إنما بعث بالأمر بالتوحيد والنهي عن الشرك؛ ولذلك قال: “ما قلت لهم إلا الذي أمرتني به من القول أن أقوله لهم، وهو أن قلت لهم: اعبدوا الله ربي وربكم”([6])، ولم يعرف منهم الشرك إلا بعد قبضه كما في هذه الآية.
فكما ترى هنا “شهد المسيح عليه السلام أن هذا هو أعظم وصية في الناموس، فعبادة الله وحده لا شريك له، وأن يكون الله أحبَّ إلى العبد من كل ما سواه هو أعظم وصيةٍ وكلمةٍ جاء بها المرسلون كموسى والمسيح ومحمد صلوات الله عليهم أجمعين، وضد هذا هو الشرك الذي لا يغفره الله تعالى”([7]).
طروء الشرك على الأمم:
لم يستمرَّ النصارى على التوحيد الذي بَعث الله به نبيَّه عيسى عليه السلام، بَل طرأ على قوم عيسى ما طَرأ على مَن قبلهم من أتباعِ الأنبياء، ودَبَّ إليهم إبليسُ بأسباب ظهور الشرك بالله بينهم؛ ومن أهمِّ تلك الأسباب الغلوُّ في تعظيم الأنبياء والصَّالحين كما أخبر عليه الصلاة والسلام([8])، فإذا نقَّبنا عن أوَّل طروءِ للشرك في البشرية وجدنا أنَّ هذا هو سببه، فإن الناسَ بعد آدم عليه السلام ظلّوا موحِّدين لله سبحانه وتعالى عشرةَ قرون([9])، وحصل فيهم الشرك بذريعة التقرُّب إلى الله سبحانه وتعالى بالصالحين وصورهم وتماثيلهم، فإشكاليتهم الكبرى كانت بسبب الغلو في الصالحين؛ وأدى بهم الغلو في الصالحين إلى عبادتهم والتقرب إليهم أملًا في أن يقربوهم إلى الله سبحانه وتعالى، يقول ابن كثير (774هـ) رحمه الله: “وبالجملة فنوح عليه السلام إنما بعثه الله تعالى لما عُبِدت الأصنام والطواغيت، وشرع الناس في الضَّلالة والكفر، فبعثه الله رحمة للعباد، فكان أول رسول بعث إلى أهل الأرض”([10])، وقال في موضع لاحق: “والمقصود أن الفساد لما انتشر في الأرض وعم البلاء بعبادة الأصنام فيها بعث الله عبده ورسوله نوحا عليه السلام يدعو إلى عبادة الله وحده لا شريك له، وينهى عن عبادة ما سواه، فكان أول رسول بعثه الله إلى أهل الأرض”([11]).
وهكذا تتابعت الرسل من بعده بالدعوة إلى توحيد الله سبحانه وتعالى كلما انحرفت البشرية عن هذا المسار الذي خلقوا للسير عليه، وهو عبادة الله وحده لا شريك له، قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء: 25]، فعادٌ قوم هود استنكروا عليه أنه دعاهم إلى عبادة الله وحده لا شريك وتركِ عبادة ما سواه من الطواغيت والآلهة فقالوا: {أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ} [الأعراف: 70]، أي: “أجئتنا تتوعدنا بالعقاب من الله على ما نحن عليه من الدين؛ كي نعبد الله وحده، وندين له بالطاعة خالصًا، ونهجر عبادة الآلهة والأصنام التي كان آباؤنا يعبدونها، ونتبرأ منها؟!”([12]).
ولم يكن الحال مختلفًا مع قوم إبراهيم الذين أرسله الله إليهم، فقد كانوا يثبتون ربوبية الله سبحانه وتعالى في الجملة، وإنما كان شركهم بالكواكب والأصنام، وقصدهم من ذلك هو التقرب إلى الباري سبحانه وتعالى، فهم “كانوا يتقرَّبون إلى الهياكل تقربا إلى الروحانيات، ويتقربون إلى الروحانيات تقربا إلى الباري تعالى؛ لاعتقادهم بأن الهياكل أبدان الروحانيات، ونسبتها إلى الروحانيات نسبة أجسادنا إلى أرواحنا، فهم الأحياء الناطقون بحياة الروحانيات، وهي تتصرف في أبدانها تدبيرا وتصريفا وتحريكا كما نتصرف في أبداننا، ولا شك أن من تقرب إلى شخص فقد تقرب إلى روحه”([13]).
وأمَّا بنو إسرائيل الذين أرسل إليهم موسى عليه السلام فقد كانوا مقِرِّين بربوبية الله سبحانه وتعالى؛ إذ هم من بيت إبراهيم وإسحاقَ عليهما السلام في الأصل، وما إن أنقَذهم الله من فرعون الذي ادَّعى الربوبية من دون الله حتى طلبوا من موسى أن يجعَلَ لهم آلهة يتقربون بها إلى الله سبحانه وتعالى؛ جهلًا منهم أن ذلك عين الشركُ الذي نهى الله عنه وحذر منه، فقالوا: {يَا مُوسَى اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ} [الأعراف: 138]، قال ابن جريج: “وكانوا يعبدون أصنامًا على صُوَر البقر، فلهذَا أثارَ ذلك شبهةً لهم في عبادتهم العجل بعد ذلك”([14]). وأيضًا فإن العجل الذي عبدوه من دون الله لم يعتقدوا فيه أنه الربُّ الخالق المالك الرازق، وإنما عبدوه من دون الله؛ ولذلك احتج المولى عليهم بما يقرّون به حيث قال تعالى: {وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لَا يُكَلِّمُهُمْ وَلَا يَهْدِيهِمْ سَبِيلًا اتَّخَذُوهُ وَكَانُوا ظَالِمِينَ} [الأعراف: 148]، يقول الإمام الطبري (310هـ) رحمه الله: “يخبر -جل ذكره- عنهم أنهم ضلوا بما لا يضلُّ بمثله أهلُ العقل؛ وذلك أن الرب جل جلاله الذي له ملك السموات والأرض، ومدبِّر ذلك، لا يجوز أن يكون جسدا له خوار، وقوله: {أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لَا يُكَلِّمُهُمْ وَلَا يَهْدِيهِمْ سَبِيلًا} يقول: ألم ير الذين عكفوا على العجل الذي اتخذوه من حليهم يعبدونه أن العجل لا يكلمهم ولا يهديهم سبيلا؟! يقول: ولا يرشدهم إلى طريق، وليس ذلك من صفة ربهم الذي له العبادة حقًّا، بل صفته أنه يكلم أنبياءه ورسله، ويرشد خلقه إلى سبيل الخير، وينهاهم عن سبيل المهالك والردى. يقول الله جل ثناؤه {اتَّخَذُوهُ} أي: اتخذوا العجل إلها، وكانوا باتخاذهم إياه ربًّا معبودا ظالمين لأنفسهم؛ لعبادتهم غير من له العبادة، وإضافتهم الألوهة إلى غير الذي له الألوهة”([15]).
وفي هذا يقول ابن تيمية (728هـ) رحمه الله: “والشركُ في بني آدم أكثره عن أصلين:
أولهما: تعظيم قبور الصالحين، وتصوير تماثيلهم للتبرك بها، وهذا أول الأسباب التي بها ابتدع الآدميون…
والسبب الثاني: عبادة الكواكب، فكانوا يصنعون للأصنام طلاسم للكواكب”([16]).
طروء الشرك على النصارى بسبب الغلو:
لقد دخل الشرك على النصارى من نفس المدخل الذي دخل منه الشرك على غالب الأمم، وهو باب الغلوِّ، فقد كان من أمر الحواريِّين أنهم اختلفوا في أوَّل المعجزات التي حصلت لعيسى عليه السلام وآخرها، وهو ولوجه إلى الدنيا من غير أبٍ وتجسُّد الكلمة، ثم صعوده إلى السماء في آخر حياته، وغلوا في كل واحدة من هاتين، فرغم أن المسيح كان بشرًا يعيش بين ظهرانيهم يأكل ويشرب، وكانت تجري عليه كل أحكام البشر، إلا أنهم قالوا بتجسّد الكلمة وحلول الإله في المسيح عليه السلام، “أما الأول فإنهم قضوا بتجسد الكلمة، ولهم في كيفية الاتحاد والتجسّد كلام، فمنهم من قال: أشرق على الجسد إشراق النور على الجسم المشفّ، ومنهم من قال: انطبع فيهم انطباع النقش في الشمع، ومنهم من قال: ظهر به ظهور الروحاني بالجسماني، ومنهم من قال: تدرع اللاهوت بالناسوت، ومنهم من قال: مازجت الكلمة جسد المسيح ممازجة اللبن الماء والماء اللبن”([17])، وكما نرى فإن الغلو وصل بهم إلى أن أضفوا على المسيح شيئا من خصائص الإله سبحانه وتعالى؛ كدعوى حلول الله في جسده وكونه ابن الله على تفصيل طويل منهم وخلاف أطول في حقيقة هذا المعنى([18]).
والحاصل أن النصارى لم يلتزموا بما أمرهم به عيسى عليه السلام وبما أتاهم به من عند الله، بل تأثروا بالأمم المشركة وبالوثنيين كما أثبت ذلك كثير من الباحثين، يقول ابن تيمية (728هـ) رحمه الله: “النصارى ركَّبوا دينًا من دينين: من دين الأنبياء الموحِّدين ودين المشركين، فصار في دينهم قسطٌ مما جاءت به الأنبياء، وقِسطٌ مما ابتدعوه من دين المشركين في أقوالهم وأفعالهم… النصارى لم يتَّبعوا لا التوراة ولا الإنجيل، بل أحدثوا شريعة لم يُبعث بها نبيٌّ من الأنبياء، كما وضعوا لقسطنطين (الأمانة)، ووضعوا له أربعين كتابًا، ويُسمُّونها القوانين، فيها بعض ما جاءت به الأنبياء، وفيها شيء كثير مخالفٌ لشرع الأنبياء، وصاروا إلى كثير من دين المشركين الذين عَبدوا مع الله آلهة أخرى وكذَّبوا رسله، فصار في دينهم من الشرك وتغيير دين الرسل ما غيَّروا به شريعة الإنجيل”([19]).
وهذا ما اعترف به الباحثون ممن تربَّوا على النصرانية نفسِها، وغدا من المسلمات عند علماء مقارنة الأديان أن النصرانية تكوَّنت من أصول وثنية؛ حتى قال قائلهم: لا ندري هل تنصَّرت الرومانية أم تروَّمت النصرانية!([20]).
يقول د. محمد الشرقاوي: “لمعت في الغرب أسماء علماء كثيرين في حقل نقد الأسفار المقدسة والديانة المسيحية نتيجةَ الاحتكاك بالفكر الإسلامي والثقافة الإسلامية من ناحية، وبفعل عوامل أخرى من ناحية ثانية… ثم توجَّه علماء الغرب وباحثوه في العصر الحديث إلى دراسة الديانات القديمة: الهندية، البابلية، والكاراتيه، والفارسية، والصينية، والمصرية القديمة، واليونانية، والرومانية، والإسكندنافية، والمكسيكية وغيرها. وأذهلتهم نتائج بحوثهم المؤسسة على التنقيبات والحفائر وقراءة الوثائق وتحليلها، فأيقنوا -بالوثائق والمستندات- أن العقائد التي تسربت إلى ديانة عيسى عليه السلام ورسوله مأخوذة جملة وتفصيلا من الوثنيات الشرقية المصرية والبابلية والهندية والفارسية والغربية: اليونانية، والرومانية. ونشروا ثمرات بحوثهم وتحليلاتهم وموازناتهم في كتبهم وموسوعاتهم العلمية”([21]).
وأول ظهور لمثل هذه الاعترافات حصل بعد أن قامت قائمةُ علم مقارنة الأديان في أوروبا مع جماعة من المهتمِّين من أمثال (ماكس مولر) وغيره من الباحثين، وإن كان هذا العلم قد سبق المسلمون بإبداعه وإظهاره، وتركوا لنا تراثًا ضخمًا كما رأينا من كلمة ابن تيمية (728هـ) رحمه الله وغيره من الأئمة.
ومن أوائل من صرخ ونادى بالتنقيب عن الأصول الوثنية في هاتين الديانتين (إرنست رينان) الذي أثار حين إبرازه نتيجةَ بحثه ضجةً كبيرةً في أوساط النصارى في القرن التاسع عشر([22])، وكان خلاصة بحثه الذي توصل إليه وأثار تلك الضجة: “أن الدراسات التاريخية للمسيحية وأصولها تثبت أن كل ما ليس له أصل في الإنجيل مقتبسٌ من أسرار الوثنية”([23])، ويعلق (نايتون) على ذلك قائلا: “ونحن لا نبالغ إذا قلنا: إن ما يعرف بالأسرار الدينية في المسيحية مستوحًى من الأديان الوثنية القديمة”([24]).
وفي هذا الصدد أيضا يصرح صاحب كتاب تاريخ العالم: “أن المسيحية لم تكن عند أكثر الناس غير ستار رقيقٍ يخفي تحته نظرةً وثنية خالصة للحياة”([25]).
وحين ألَّف العالم البلجيكي المتخصِّص في تاريخ الأديان (فرانز كومون) أكد هذه الحقيقة التي نحن بصدد الحديث عنها، وهي أن الديانة المسيحية ليست سوى مزيج محسَّن الصورة والهيئة من الأديان الوثنية القديمة، ودين ملفَّق من شتى العقائد والأديان الوثنية؛ ومن هنا سمى كتابه: (لا جديد تحت الشمس)؛ ليؤكد أن الآلهة الوثنية لم تمت بعد، وإنما هي هي بقيت تُعبَد باسم المسيحية من بعد([26]).
أما (نايتون) فقد أمضى أكثر من ثلاثين عاما في تدريس علم مقارنة الأديان في جامعات فرنسا، وهو من ألمع رجال هذا العلم، فقد نادى بصورة فجَّة بأهمية دراسة الأديان الوثنية والوضعية الشرقية: “ونحن في دراستنا لتاريخ الأديان اليوم لا نستطيع أن ننكِر ما بين المسيحية والوثنية من صلاتٍ وثيقة وأواصر متينة، بل إنه يلزمُنا ويجب علينا أن نبين كيف أن المسيحية هذه تحدَّرت من الوثنية، وصار لهما نسب واحد وأصل مشترك، وهذا أمر منطقيٌّ طبيعيّ جدًّا لدى مؤرخ الأديان… إننا لا نستطيع أن نفهم مسيحيتنا حقَّ الفهم إذا لم نعرف جذورها الوثنية، فقد كان للوثنية قسطٌ وافر في تطوّر الدين المسيحي، وهو قِسط غير مباشر ولا منظور إذا صحَّ أن لليهودية تأثيرًا على المسيحية، وكانت أساسًا جوهريّا للنظرة المسيحية؛ فإن علينا أن ننبه أن اليهودية نفسَها أصيبت بالتأثيرات الوثنية في فارس وبابل، وخضعت لنفوذهما عندما كان اليهود في المنفى، غير أن هناك تأثيرًا خاصًّا مباشرًا أصاب المسيحية -وهو جوهر موضوعنا-، لقد كان للوثنية اليونانية والفارسية هيمنة على المسيحية، وكذلك كان للوثنية في عموم الشرق. هكذا تألَّف دينٌ جديد، لَمْلَم أَشتاتَه من هنا وهناك، وكان كمَن يصبُّ خمرًا عتيقا في جِرارٍ جديدة”([27]).
إن (نايتون) يؤكِّد هنا ضرورة من الضرورات لفهم النصرانية نفسها؛ ألا وهو ضرورة تعلم الأديان الوثنية؛ لأنها ولجت النصرانية وتجذَّرت فيه تجذرًا عميقًا، وامتزجت بها حتى لا تكاد تُفهم بدون فهم أصولها، إننا لو أردنا أن نضرب مثلًا لهذه الحال فمثله كمثل الذي يتكلَّم عن ضرورة تعلُّم الأصل لفهمِ ما يتفرَّع عليه، كما يوصي المحدِّث بتعلم أصول الحديث لمعرفة ما يدور في كتب الحديث من أحكام وإطلاقات ومصطلحات، وكما أنه يجب على الأصولي تعلم المنطق ليفهم المصطلحات المنطقية التي شابت علمَ الأصول؛ إذ فهم الأصل يُعين على فهم الفرع.
ولفهم هذا التمازج أكثر وهذا التجذُّر الوثني في الديانة النصرانية دعنا نرجع إلى ما قدَّم به كتابه يُدلِّل فيه ما ذكره حيث قال: “ثلاثة قرون من الاضطهاد الوثني الشديد للمسيحية! ثلاثة قرون من الاضطهاد الروماني بخاصَّة! ثلاثة قرون كانت فيها ردَّة فعل المسيحية قويَّة عنيفةً، لكنها لم تكن تعني أبدًا أن هنالك تناقضًا كبيرًا واضحَ المعالم بين الطرفين! وعلى الرغم من أن كثيرًا من الناس يعتقِد بأن هنالك تناقضًا فإن الحقيقة مختلفة جدًّا”([28]). فهذا تفسير لتلك العقائد التي زرعت في النصرانية زراعة لتلائم البيئة التي زرعت فيها؛ حيث يشهد جملة من مؤرخي الأديان بأن النصرانية تروَّمت بدل أن تنصِّر الرومانيين الوثنيين، فهذا التجذُّر الوثني هو بسبب ما كان عليه حال النصرانية في قرونها الأولى.
يقول (ول ديورانت): “لما فتحت المسيحية روما انتقل إلى الدين الجديد دماء الدين الوثني القديم: لقب الحبر الأعظم، وعبادة الأم العظمى، وعدد لا يحصى من الأرباب التي تبث الراحة والطمأنينة في النفوس، وتمتاز بوجود كائنات في كل مكان لا تدركها الحواس، كل هذا انتقل إلى المسيحية كما ينتقل دم الأم إلى ولدها.
وأسلمت الإمبراطورية المحتضرة أزِمَّة الفتح والمهارة الإدارية إلى البابوية القوية، وشحذت الكلمة بقوة سحرها ما فقده السيف المسلول من قوته، وحلَّ مبشِّرو الكنيسة محلَّ الدولة.
إن المسيحية لم تقض على الوثنية، بل ثبَّتَتْها؛ ذلك أن العقل اليوناني عاد إلى الحياة في صورة جديدة، في لاهوت الكنيسة وطقوسها، ونقلت الطقوس اليونانية الخفية إلى طقوس القداس الرهيبة، وجاءت من مصر آراء الثالوث المقدس، ويوم الحساب، وأبدية الثواب والعقاب، وخلود الإنسان في هذا أو ذاك. ومن مصر جاءت عبادة الأم الطفل، والاتصال الصوفي بالله؛ ذلك الاتصال الذي أوجد الأفلوطينية واللاأدرية، وطمس معالم العقيدة المسيحية”([29]).
نماذج من الوثنيات الدخيلة على النصرانية:
لا نحتاج إلى كبير تأمّل حتى يلاحظ الملاحظ الأصول الشركية التي دخلت على النصرانية في كثير من عقائدها، فقد سبق أن بيَّنَّا أنهم اختلفوا في طبيعة المسيح، واشتدَّ الاختلاف بين الطوائف المسيحية الأولى جدًّا، فكان جوهر الخلاف متمحورًا حول شخص المسيح أهو رسول من عند الله فقط، أم أن له منزلةً أعلى من منازل الرسل والأنبياء الذين عرفتهم البشرية جمعاء من لدن آدم عليه السلام؟! وهل هو بمنزلة الابن من الله، أو أنه ابن الله حقًّا له صفة القِدَم فله طبيعتان بشرية وإلهية؟!
ويعود السرُّ في هذا الاختلاف إلى المعجزة الأولى التي ظهرت منذ ولادته وهي خلقه من غير أب، وهكذا اشتدَّ الخلاف والنزاع بينهم، وكلّ يزعم أن نحلته هي المسيحية الصحيحة التي جاء بها المسيح عليه السلام، يقول أبو زهرة: “ويظهر أن ذلك الاختلاف وتلك النحل المتباينة المتنازعة قد ظهرت بعد أن دخلت طوائف مختلفة من الوثنيين من الرومان واليونان والمصريين، فتكوَّنَ في المسيحية مزيجٌ غير تام التكوين، غير تام الاتحاد والامتزاج، وكل قد بقي عنده عن عقائده الأولى ما أثَّر في تفكيره في دينِه الجديد، وجعله يسير على مقتضى ما اعتنق من القديم من غير أن يشعُر أو يريد”([30]).
فالتثليثُ على سبيل المثال عقيدة شركيَّة وثنيَّة معروفة في أديان الهند القديمة وغيرها، ومما يَتعجَّب منه الناظر في الدين النصراني أن التثليثَ الذي هو أصل الأصول في دينهم لا نجِد له ذكرًا في الأناجيل فضلًا عن الاستدلال والمنافحة عنه! فالأناجيل لم تتحدَّث عن هذا التثليث إلا قليلًا، وليس من باب المبالغة في التقليل، فليس في الأناجيل ذكره إلا في موضعين، أما أكثر النصوص التي نعثر فيها على عقيدة التثليث فهي رسائل بولس الذي كان له دورُه في تحريف النصرانية عن مسارها التوحيدي الذي نزلت به إلى المسار الوثني، بل نجد حوالي خمسة إصحاحات من إصحاحات رسائل بولس تتحدَّث عن التثليث صراحة!([31]).
ولا تتعجب أيضا وأنت تتتَبَّع التاريخَ النصراني أنه يجب عليك الانتظار حتى القرن الرابع الميلادي ليتمَّ الإعلان صراحةً عن عقيدة التثليث على لسان القدِّيس إثناس السكندري في مجمع نيقية التي قمع فيها الموحِّدون (الآريسون)([32]).
إذن أليس من المريب أن يكون هذا أصلًا من أصول الدين ثم لا نجد له ذكرًا في الكتب المقدسة التي عندهم؟! هذا على فرض التسليم بأنها تحتوي على إنجيل عيسى الذي نزل به عليهم من عند الله، فكيف لو عَرفنا أنَّ تلك الكتب أيضا اعتراها ما اعتراها! فإذا كان الأمر كذلك فمن أين جاءت فِكرة التثليث؟!
وممن دخل في ذلك الدين فلاسفةٌ لهم آراء فلسفية، أرادوا أن يفهموا ما اعتنقوه جديدًا على ضوئها، وعلى مقتضى منطقِها وتفكيرها.
ولقد كانت تلك الاختلافات كامِنةً لا تظهر مدَّةَ الاضطهادات الرومانية؛ لأنهم شغلوا بدفع الأذى ورد البلاء واستقبال المحن والكوارث، وكانوا يستسرّون بدينهم ولا يظهرونه، ويخفون عقائدهم ولا يعلنونها، حتى إذا رزقوا الأمان ونزلت عليهم سحائب الاطمئنان ظهرت الخلافات الكامنة، وإذا هم لم يكونوا متَّفقين إلا في التعلُّق باسم المسيح والاستمساك بالانتساب إليه، من غير أن يتَّفقوا على شيءٍ في حقيقته؛ ولذا لما منَحَهم قسطنطين عطفَه واعتزم الدخولَ في النصرانية ووجد هذا الاختلاف الشديد أمر بعقد مجمع نيقية([33]).
وإذا ما أردنا التعمُّق أكثرَ في وثنية فكرة التثليث وإقامة الأدلة على أنه عقيدة شركية وثنيَّة فإننا لا نحتاج إلى كثير عناء، ففكرةُ التثليث معروفة في أديان الهند القديمة وغيرها، فكثير من الديانات حلَّت مشكلتَها مع الكثرة الهائلة من الآلهة بفكرة الثالوث المقدَّس كخطوة أولى مِنهم للقول بأنهم موحِّدون؛ فإن التثليث يجمَع بين فكرة التعدّد والتوحيد كما يزعمون، يقول د. أحمد شلبي: “وحوالي القرن التاسع قبل الميلاد وصل فكر الكهنة الهنود إلى إبراز هذه النتيجة التي تقرب من التوحيد أو تصل إليه، فقد جمعوا الآلهة في إله واحد، وقالوا: إنه هو الذي أخرج العالم من ذاته، وهو الذي يحفظه ثم يهلكه ويرده إليه، وأطلقوا عليه ثلاثة أسماء، فهو برهما من حيث هو موجِد، وهو فشنو من حيث حافظ، وهو سيفا من حيث هو مهلك”([34]).
وكذلك نجد الديانة الميثراوية، فهم يقولون بالتثليث على ما يلي: أوزرد (الخالق)، أهردمان (المهلك)، ميثرا (المخلص)([35]).
ونجد مثل هذا الإله الثالوث في جملة من الأديان الأخرى غير الأديان الهندية، بل إننا نعثر على آلهة التثليث في مختلف البلدان والأديان الوثنية القديمة حول العالم، ففي الهند: (میترا، فارونا، أریامان)، وفي إيران: (أهورا مزاده، أناهيتا، میترا) وفي بابل: (سين، شمش، عشتار)، وفي اليونان: (زیوس، هيرا، دیونیزوس)، وعند الرومان: (جوبيتر، جونون، مينيرفا). وهي لائحة طويلة جدًّا من الآلهة المثلثة عند الشعوب الوثنية القديمة. وهذا يعني أن التثليث المسيحي لم يولد من عدم، وإنما له أصوله الوثنية كما قررنا في هذا البحث([36]).
يقول برتشرد: “لا تخلو كافة الأبحاث الدينية المأخوذة عن مصادر شرقية من ذكر أحد أنواع التثليث أو التولد الثلاثي”([37])، ويقول نايتون: “وخلاصة القول أننا لا نستطيع إلا أن نعترف بالأصل الوثني لعبارة (ابن الله)، كما لا بد لنا من القول: إن هذه العبارة قد كان لها تأثير كبير على استقطاب الكثير من الوثنيين في الديانة المسيحية، بل دخل بعضهم في الدين الجديد بسببها”([38]).
وما أصدق كلمة ابن تيمية (728هـ) رحمه الله حين قال: “مَن تدبّر التوراة وغيرها من كلام الأنبياء -عليهم السلام- من النصارى تبيَّن له أن دينهم يناقض دين الأنبياء كلهم، وأن ما هم عليه من التثليث والاتحاد والشرك لم يُبعَث به أحدٌ من الأنبياء”([39]).
الصلب والفداء:
وبعد الحديث عن عقيدة التثليث الوثنية ننتقل للحديث عن عقيدة الصلب والفداء التي هي أيضًا من أصول النصرانية، هل أخذتها عن أهل الشرك والأوثان أم أنه مما جاء به المسيح عليه السلام؟!
والجواب وبكل بساطة أن فكرة الصلب من أجل الخلاص كانت عقيدةً وثنية منتشرة قبل المسيحية، وعبادة الصليب أصلها وثني، حيث كانوا يستخدمون الصليب في السحر قبل المسيحية، وما لبثت القساوسة أن تلقفوها وأدخلوها إلى الدين حين أُعجِب بها الأباطرة الوثنيون([40]).
ومن أقرب الأمثلة التي يمكن أن تبين هذا الأمر أن نعرف أن (كرشنا) إله الهندوس يعتقدون فيه أنه مات صلبًا خلاصًا للبشرية تمامًا كما تعتقد المسيحية في المسألة، يقول د. منقذ السقار: “وبولس عندما ادَّعى صلب المسيح فداء للخطيئة فإنه إنما يكرر عقيدة قديمة، تناقلتها الوثنيات قبل المسيح بزمن طويل، وقد نسج الإنجيليون أحداث صلب المسيح على نحو ما قرره بولس، وعلى صورة ما ورد عن الأمم الوثنية القديمة، حتى أضحت قصة الصلب في الأناجيل قصة منحولةً من عقائد الأمم الوثنية، ولعل أوضحها شبهًا بقصة المسيح أسطورة إله بابل بعل… نقل المؤرخ فندلاي وغيره مقارنة بين ما قيل عن بعل قبل المسيحية وما قيل عن المسيح في المسيحية”([41]).
وحينئذ ليس من المستغرب أن نجد النصارى في هذا الصدد يصرحون بقولهم: “إن قسطنطين ومن تلاه من الأباطرة الوثنيين أدخلوا الوثنية في المسيحية” كما يقول المؤرخ أرنولد ميلر([42]).
يقول د. محمد الشرقاوي: “توصَّل علماء الغرب في القرن العشرين بعد التنقيب والفحص والموازنة إلى أن النصرانيةَ قد استمدَّت عقائدها الأساسية (التثليث، والكلمة، والتجسد، أو الاتّحاد، أو اللاهوت والناسوت، وموت الإله الابن وصلبه، وقيامته من الأموات، والفداء والكفارة، والخلاص… إلخ) من الديانات الوثنية القديمة السابقة على المسيحية، وبذلك قد تخلَّت عن ديانة عيسی التي أوحاها الله إليه، وتشبَّهت بالوثنيات وتابعتها… هذا ما أعلنه علماء الغرب المسيحيون أخيرا”([43]).
وقد جرَّهم هذا الغلو إلى جملةٍ من البدع والمحدثات ما أنزل الله بها من سلطان؛ من التقرب إلى المسيح وعبادته، وعبادة أمه مريم عليهما السلام، “فمن عبادتهم لعيسى عليه السلام إشراكُهم إياه في كلِّ عبادة تكون لله تعالى؛ لزعمهم أنه جزء منه، وتعظيمهم لصورته ولصورة الصليب لمشابهتها للصليب الذي صُلِب عليه فيما زعموا. ومن تعظيمهم لأمِّه تعظيمُ صورتها والاستغاثة بها”([44]).
ولم يحصل في تاريخ الأنبياء أن أحدًا منهم أَمر بدعاء الموتى من الأنبياء أو الصالحين والاستشفاع بهم، فضلًا عن دعاء تماثيلهم والاستشفاع بها، بل كان هذا الغلو في الصالحين هو من أهم أسباب الشرك في البشرية كما أسلفنا([45]).
وقد لخص ابن تيمية (728هـ) رحمه الله جملة هذه الانحرافات في كلمة مختصرة قال فيها: “فإن المسيح لم يَسُنَّ لكم التثليث والقول بالأقانيم، ولا القول بأنه رب العالمين، ولا سنَّ لكم استحلال الخنزير وغيره من المحرمات، ولا ترك الختان، ولا الصلاة إلى المشرق، ولا اتخاذ أحبارهم ورهبانهم أربابًا من دون الله، ولا الشرك واتخاذ التماثيل والصليب ودعاء الموتى والغائبين من الأنبياء والصالحين وغيرهم وسؤالهم الحوائج، ولا الرهبانية، وغير ذلك من المنكرات التي أحدثتموها، ولم يسنَّها لكم المسيح، ولا ما أنتم عليه هي السنة التي تسلمتموها من رسل المسيح.
بل عامة ما أنتم عليه من السنن أمور محدثة مبتدعة بعد الحواريين، كصومكم خمسين يومًا زمن الربيع، واتخاذكم عيدًا يوم الخميس والجمعة والسبت، فإن هذا لم يسنه المسيح ولا أحد من الحواريين، وكذلك عيد الميلاد والغطاس، وغير ذلك من أعيادكم.
بل عيد الصليب إنما ابتدعته هيلانة الحرانية القندقانية أم قسطنطين، فأنتم تقولون: إنها هي التي أظهرت الصليب وصنعت لوقت ظهوره عيدًا، وذلك بعد المسيح والحواريين بمدة طويلة في زمن الملك قسطنطين بعد المسيح بأكثر من ثلاثمائة سنة.
وفي ذلك الزمان أحدثتم الأمانة المخالفة لنصوص الأنبياء في غير موضع، وأظهرتم استحلال الخنزير وعقوبة من لم يأكله، وابتدعتم في ذلك الزمان تعظيم الصليب وغير ذلك من بدعكم، وكذلك كتب القوانين التي عندكم التي جعلتموها سنة وشريعة، فيها شيء عن الأنبياء والحواريين، وكثير مما فيها ابتدعه من بعدهم لا ينقلونه لا عن المسيح ولا عن الحواريين، فكيف تدعون أنكم على السنة والشريعة التي كان عليها المسيح؟! وهذا مما يعلم بالاضطرار والتواتر أنه كذب بين”([46]).
نهي القرآن الكريم النصارى عن الغلوّ:
كما تبين لنا كان الغلو في المسيح عليه السلام عاملًا رئيسًا في ضلال النصارى، ومن هنا نجد القرآن يؤكد ويحذر وينذر من هذا الغلو الذي وقع فيه أهل الكتاب، قال الله تعالى: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَا تَقُولُوا ثَلَاثَةٌ انْتَهُوا خَيْرًا لَكُمْ إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا (171) لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ وَلَا الْمَلَائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعًا} [النساء: 171، 172].
فالله سبحانه وتعالى يأمر النصارى هنا بالحذر من الغلو، وأن لا يجاوزوا الحدَّ في دينهم، ولا يفرطوا فيه، ولا يقولوا في عيسى غير ما قاله عن نفسه وأنزله الله إياه من منزلته؛ فإن قولهم في عيسى: إنه ابن الله قول منهم على الله بغير الحق؛ فما المسيح -أيها الغالون في دينهم من أهل الكتاب- بابن الله كما تزعمون، ولكنه عيسى ابن مريم، دون غيرها من الخلق، لا نسب له غير ذلك. ثم نفى عنه ما يزعمونه فيه من صفات الإلهية، وأكد أنه رسول الله أرسله الله بالحق، ثم أمر أهل الكتاب أن يصدّقوا بوحدانية الله وربوبيته، وأنه لا ولد له، وتوعدهم ونهاهم عن أن يقولوا عنه: ثالث ثلاثة([47])، ولا شك أن النهي عن الغلو يشمل المسلمين أيضا.
وقد عرض المولى سبحانه وتعالى في سورة المائدة جملة من عقائد النصارى كقولهم بأن الله هو المسيح أو هو ثالث ثلاثة وأنكرها عليهم بقوله تعالى: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ (72) لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [المائدة: 72، 73].
قال الإمام الطبري (310هـ) رحمه الله: “يقول الله تعالى ذكره: فلما اختبرتهم وابتليتهم بما ابتليتهم به أشركوا بي، وقالوا لخلق من خلقي، وعبد مثلهم من عبيدي، وبشر نحوهم معروف نسبه وأصله، مولود من البشر، يدعوهم إلى توحيدي، ويأمرهم بعبادتي وطاعتي، ويقر لهم بأني ربه وربهم، وينهاهم عن أن يشركوا بي شيئا: هو إلههم، جهلا منهم بالله وكفرا به، ولا ينبغي لله أن يكون والدا ولا مولودا… مع أنه قال لهم: اجعلوا العبادة والتذلل للذي له يذل كل شيء، وله يخضع كل موجود، مالكي ومالككم، وسيدي وسيدكم، الذي خلقني وإياكم”([48]).
ثم بيَّن سبحانه وتعالى أن اختلافاتهم وتناقضاتهم كانت بسبب غلوِّهم ومجاوزتهم حدَّهم وبسبب اتباعهم للأهواء، فأمرهم بالتوبة والأوبة إلى الله سبحانه وتعالى من نسبة السوء إليه وهو الغفور الرحيم، قال تعالى: {أَفَلَا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (74) مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلَانِ الطَّعَامَ انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآيَاتِ ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (75) قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (76) قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ} [المائدة: 74-77]، فنهاهم المولى سبحانه وتعالى عن الغلو وأمرهم بالتوبة منه.
الخاتمة: فالنفس ليس لها نجاة ولا سعادة ولا كمال إلا بأن يكون الله معبودها ومحبوبها الذي لا أحب إليها منه؛ ولهذا كثر في الكتب الإلهية الأمر بعبادة الله وحده، “فالنفوس محتاجة إلى الله من حيث هو معبودها ومنتهى مرادها وبغيتها، ومن حيث هو ربها وخالقها. فمن آمن بالله رب كل شيء وخالقه، ولم يعبد إلا الله وحده، بحيث يكون الله أحبَّ إليه من كل ما سواه، وأخشى عنده من كل ما سواه، وأعظم عنده من كل ما سواه، وأرجى عنده من كل ما سواه، بل من سوى بين الله وبين بعض المخلوقات في الحب بحيث يحبه مثل ما يحب الله، ويخشاه مثل ما يخشى الله، ويرجوه مثل ما يرجو الله، ويدعوه مثل ما يدعوه، فهو مشرك الشرك الذي لا يغفره الله”([49]).
وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه وسلم.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(المراجع)
([1]) ينظر: بيان تلبيس الجهمية (4/ 570).
([2]) الانتصار لأهل الحديث (ص: 60)، وينظر: درء تعارض العقل والنقل (3/ 303).
([3]) ينظر: درء تعارض العقل والنقل (3/ 303).
([5]) أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن (7/ 484).
([8]) أخرجه النسائي (3057) وابن ماجه (3029).
([9]) ينظر: جامع البيان (4/ 275)، المستدرك على الصحيحين للحاكم (2/ 596).
([10]) البداية والنهاية (1/ 238).
([11]) البداية والنهاية (1/ 250).
([14]) تفسير ابن كثير (3/ 467).
([15]) جامع البيان (13/ 117)، وينظر: آثار الشيخ العلامة عبد الرحمن بن يحيي المعلمي (3/ 617 وما بعدها).
([16]) الرد على المنطقيين (1/ 285).
([18]) ينظر: إظهار الحق (3/ 681).
([19]) الجواب الصحيح (5/ 23 وما بعدها).
([20]) ينظر: الأصول الوثنية للمسيحية (ص: 43) أندريه نايتون ورفاقه، ترجمة: سميرة عزمي الزين، منشورات المعهد الدولي للدراسات الإنسانية.
([21]) مقدمة د. محمد الشرقاوي لكتاب: العقائد الوثنية في الديانة النصرانية لمحمد بن طاهر التنير البيروتي (ص: 22 وما بعدها).
([22]) ينظر: الأصول الوثنية للمسيحية (ص: 20) أندريه نايتون ورفاقه، ترجمة: سميرة عزمي الزين.
([23]) نقلا عن: الأصول الوثنية للمسيحية (ص: 20) أندريه نايتون ورفاقه، ترجمة: سميرة عزمي الزين.
([24]) الأصول الوثنية للمسيحية (ص: 20) أندريه نايتون ورفاقه، ترجمة: سميرة عزمي الزين.
([25]) تاريخ العالم، هاملتون (4/330).
([26]) ينظر: الأصول الوثنية للمسيحية (ص: 21) أندريه نايتون ورفاقه، ترجمة: سميرة عزمي الزين.
([27]) الأصول الوثنية للمسيحية (ص: 19) أندريه نايتون ورفاقه، ترجمة: سميرة عزمي الزين.
([28]) الأصول الوثنية للمسيحية (ص: 19) أندريه نايتون ورفاقه، ترجمة: سميرة عزمي الزين.
([30]) محاضرات في النصرانية (ص: 122).
([31]) ينظر: الأصول الوثنية للمسيحية (ص: ٤3) أندريه نايتون ورفاقه، ترجمة: سميرة عزمي الزين.
([32]) ينظر: هداية الحيارى في أجوبة اليهود والنصارى (2/ 554)، محاضرات في النصرانية لأبي زهرة (ص: 122).
([33]) محاضرات في النصرانية لأبي زهرة (ص: 122).
([34]) أديان الهند الكبرى: الهندوسية والجينية والبوذية (ص46).
([35]) ينظر: معالم في تاريخ الإنسانية، ويلز (ص: 693-720)، محاضرات في النصرانية، أبو زهرة (ص: 42).
([36]) ينظر: عقيدة التثليث جذورها وتطويرها.. عرض ونقد، فوزية الحتيرشي (ص: 39-44)، رسالة ماجستير بقسم العقيدة بجامعة أم القرى عام 1422هـ، الأصول الوثنية للمسيحية (ص: ٤٥) أندريه نايتون ورفاقه، ترجمة: سميرة عزمي الزين.
([37]) خرافات المصريين الوثنية (ص: 285)، نقلا عن: العقائد الوثنية في الديانة النصرانية، لمحمد بن طاهر التنير البيروتي (ص: 55).
([38]) الأصول الوثنية للمسيحية (ص: ٤٠) أندريه نايتون ورفاقه، ترجمة: سميرة عزمي الزين.
([39]) الجواب الصحيح (4/ 462).
([40]) ينظر: هل العذراء مريم حيّة؟ داني فيرا (ص: 109).
([41]) هل العهد الجديد كلام الله؟ (ص: 97).
([42]) مختصر تاريخ الكنيسة (ص: 149-152).
([43]) مقدمة د. محمد الشرقاوي لكتاب: العقائد الوثنية في الديانة النصرانية لمحمد بن طاهر التنير البيروتي (ص: 25 وما بعدها).
([44]) آثار الشيخ العلامة عبد الرحمن بن يحيي المعلمي اليماني (3/ 648).
([45]) ينظر: الجواب الصحيح (5/ 74).
([46]) الجواب الصحيح (3/ 438).
([47]) ينظر: جامع البيان (9/ 415 وما بعدها).