الثلاثاء - 14 شوّال 1445 هـ - 23 ابريل 2024 م

دعوى جناية أهل السُّنَّة على المتكلمين..(هل اعتنى المتكلمون بتوحيد الألوهية؟)

A A

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة

تمهيد:

توحيد الله سبحانه وتعالى هو ما أرسل الله به الرسل وأنزل به الكتب، ولا تخفى مركزيَّة التَّوحيد في دعوات الرُّسل، وأنَّ التشريعات كلها راجعة إليه ومبنية عليه، وبقدر اهتمام الكتاب والسنة بالتوحيد كان اهتمام علماء أهل السنة والجماعة به تقريرًا وتأصيلًا وبيانًا ودفعًا لما يثار حوله من شبهات.

ومن المعلوم أن لبّ دعوة الرسل هو إفراد الله بالعبادة، فلا يُصرف شيءٌ من العبادة لغير الله، ولا يشرك معه غيره، ولا يدعى غيره، ولا يستغاث بغيره فيما لا يقدر عليه إلا هو سبحانه، كما أنَّه من المعلوم أنَّ كفار قريش الذين بعث فيهم الرسول محمد صلى الله عليه وسل كانوا يقرون بربوبية الله، أعني: أنه الخالق الرازق المالك، وأنهم كانوا يرون الأصنام شفعاء لهم عند الله كما ذكر الله في كتابه قولهم: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر: 3]، فلم يكن المانع لهم من الدخول في الإسلام هو الإقرار بربوبية الله، وإنما المانع لهم إفرادُه وحده بالعبادة دون سواه، وقد ذكر الله تعجبهم فقال: {أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} [ص: 5]، ومن هنا اهتمَّ أهل السنة والجماعة بهذا النوع من التوحيد، وسموه: توحيد الألوهية، والتوحيد العملي، وتوحيد القصد والطلب، وكان اهتمامهم بهذا النوع اهتمامًا بالغًا لاهتمام القرآن الكريم به.

أمَّا إذا صرفنا بصرنا عن أهل السُّنة والجماعة إلى الفرق الأخرى كالمتكلمين، فإنَّنا لا نرى ذاك الاهتمام بهذا التوحيد، بل أكثرهم صرف النظر عنه، وقلَّ اهتمامهم به، وكان جلُّ اهتمامهم مصروفًا إلى غير توحيد الألوهية، فيقسمون التوحيد إلى عدة أقسام لا نجد منها ما ينطبق على توحيد الألوهية أو إفراد الله بالعبادة، ولهذا التصور آثارٌ على عدد من المسائل؛ من أهمها: كون صرف بعض العبادات لغير الله دون اعتقاد الربوبية شركًا أو ليس بشرك.

وعدم اهتمام عُظْم المتكلمين بتوحيد الألوهية معلومٌ وشائعٌ، ويعرفه من له اطلاع على كتب المتكلّمين؛ بيد أنَّه يظهر بين الفينة والأخرى من يدَّعي أن هذا كذبٌ على المتكلمين، وأن أهل السنة قد بالغوا في الردّ على المتكلمين من هذه الجهة؛ بل كذَبوا عليهم، أو -على أحسن تقدير- أخطؤوا في توصيف حقيقة موقف المتكلمين من توحيد الألوهية.

فهل فعلًا جنى أهل السنة والجماعة على المتكلمين حين قالوا: إنهم لم يهتموا بتوحيد الألوهية؟ وهل كان توصيف بعض علماء أهل السنة والجماعة -كابن تيمية رحمه الله- لاهتمام هؤلاء بتوحيد الربوبية وعدم اهتمامهم بتوحيد الألوهية أو عدم معرفة كثير منهم لحقيقة التوحيد، هل كان قولًا خاطئًا كاذبًا على المتكلمين؟

هذا ما نروم بيانَه في هذه الورقة، مع التأكيد على أنه ليس المراد هو مجرد الانتصار لابن تيمية رحمه الله، فإنه ليس بمعصوم بل يخطئ ويصيب، لكن المراد هو معرفة حقيقة اهتمام المتكلمين بتوحيد الألوهية وتقرير ذلك في أمهات كتبهم، وقبل الشروع في بيان اهتمام المتكلمين بتوحيد الألوهية نقدّم بمقدمة سريعة بتعريف التوحيد عند أهل السنة وعند المتكلمين باختصار.

التوحيد عند أهل السنة:

أما التوحيد لغة: فإنَّ مادة “وحَّد” تدور حول الانفراد والاختصاص، يقول الجوهري: “الوحدة: الانفراد. تقول: رأيته وحده”([1]).

وهو اصطلاحًا: إفراد الله بخصائصه من الربوبيَّة والألوهيَّة والأسماء والصفات.

ومن التعريف السابق يتبيَّن لنا أقسام التوحيد عند أهل السنة والجماعة، فقد قسموا التوحيد إلى ثلاثة أقسام، أو إلى قسمين هما في الأصل ثلاثة، فالتوحيد من جهة ما يتعلق بالله ينقسم إلى ثلاثة أقسام:

  • توحيد الربوبية.
  • توحيد الألوهية.
  • توحيد الأسماء والصفات.

    أما من جهة العبد نفسه فينقسم إلى قسمين:

  • التوحيد العلمي، ويشتمل على توحيد الربوبية وتوحيد الأسماء والصفات، ويسمى: التوحيد الخبري، والتوحيد القولي، وتوحيد المعرفة والإثبات.
  • التوحيد العملي، وهو توحيد الألوهية، ويسمى: توحيد القصد والطلب.

أما توحيد الربوبية فمعناه: إفراد الله بالخلق والملك والتدبير.

وأما توحيد الألوهية فهو: إفراد الله بالعبادة.

وتوحيد الأسماء والصفات: إثبات الأسماء والصفات الواردة في الكتاب والسنة، دون تمثيل أو تكييف أو تعطيل أو تحريف.

هذا ما يتعلق بالتوحيد، أما ما يتعلق بكلمة الإله عند أهل السنة والجماعة فإنَّنا نعرفها لأهمية ذلك، ولكون النقاش إنما يدور حول هذا كما سيأتي بيانه.

فالإله عند أهل السنة والجماعة لغة: مصدر أله يأله، يقول الجوهري: “أله بالفتح إلاهة، أي: عبد عبادة. ومنه قرأ ابن عباس رضي الله عنهما: (ويذرك وإَلَاهَتَك) بكسر الهمزة، قال: وعبادتك… ومنه قولنا: الله، وأصله: إِلَه على فِعال بمعنى مفعول، لأنه مألوه أي: معبود”([2]).

والألوهية تعني: استحقاق الله للعبادة، والإله يعني المعبود، يقول الزجاج: “ومعنى قولنا: إلَه إنما هو الذي يستحقُّ العبادة، وهو تعالى المستحق لها دون من سواه”([3]).

وقد توارد علماء السلف على تفسير الإله بالمعبود، وآيات القرآن تدل على هذا([4]).

وهذه المعاني مبثوثة منتشرة معلومة؛ لذا لا حاجة للإطالة فيها([5]).

التوحيد عند المتكلمين:

الواحد عند المتكلمين هو الذي لا يتجزأ ولا ينقسم ولا يتبعّض، وعلى هذا تقريراتهم، يقول القاضي عبد الجبار: “اعلم أن الواحد قد يستعمل في الشيء ويراد به أنه لا يتجزأ ولا يتبعض، على مثل ما نقوله في الجزء المنفرد أنه جزء واحد… وقد يستعمل ويراد به أنه مختص بصفة لا يشاركه فيها غيره”([6]).

وقد بين القاضي عبد الجبار أن الأصل إذا أطلق الواحد على الله فإنهم يقصدون المعنى الثاني مع صحة الأول، ويؤكد هذا في موضع آخر فيقول: “فأمَّا في اصطلاح المتكلمين فهو: العلم بأنَّ الله تعالى واحدٌ لا يشاركه غيره فيما يستحق من الصفات نفيًا وإثباتًا على الحد الذي يستحقه، والإقرار به، ولا بد من اعتبار هذين الشرطين: العلم والإقرار جميعًا؛ لأنه لو علم ولم يقر، أو أقرَّ ولم يعلم لم يكن موحدًا”([7]).

ويوافقهم في هذا الأشاعرة في المجمل، يقول الجويني: “الباري سبحانه تعالى واحد، والواحد في اصطلاح الأصوليين: الشيء الذي لا ينقسم”([8]).

وخلاصة كلامهم في هذا أنَّ التوحيد: توحيد الله في ذاته، وتوحيده في صفاته، وتوحيده في أفعاله.

ومن هنا نعرف أقسام التوحيد عند المتكلمين، وهي:

  • توحيد الله في ذاته.
  • توحيد الله في صفاته.
  • توحيد الله في أفعاله.

يقول الرازي مبينًا هذا المعنى: “اعلم أنَّه تعالى واحد في ذاته، وواحد في صفاته، وواحد في أفعاله، أما أنه واحد في ذاته فلأنَّ ذاته منزهة عن جهات التركيبات… وأما أنه واحد في صفاته فهو أنه ليس في الوجود موجود آخر يساويه في الوجود بالذات، وفي العلم بكل المعلومات، وفي القدرة على كل الممكنات، وفي الغنى عن كل ما سواه. وأمَّا أنه واحد في أفعاله فهو أنه ليس في الوجود موجود يكون مبدئًا لجميع الممكنات إمَّا بغير واسطة وإما بواسطة إلا هو”([9])، ويقول الشهرستاني: “قال أصحابنا: الواحد هو الشيء الذي لا يصح انقسامه إذ لا تقبل ذاته القسمة بوجه، ولا تقبل الشركة بوجه، فالباري تعالى واحد في ذاته لا قسيم له، وواحد في صفاته لا شبيه له، وواحد في أفعاله لا شريك له”([10]).

والتَّقسيم أمر اصطلاحي لا ضير فيه إن كان يوافق المعنى الصحيح، لكنا لا نجد توحيد الألوهيَّة ضمن هذا التقسيم، فإنَّ توحيد الذات يريدون به نفي التركيب والتبعيض والتجزُّؤ والتجسيم المؤدي -عندهم- إلى نفي الصفات، وأما توحيد الصفات فيريدون به نفي أن يكون لله شبيه في صفاته، وأما توحيد الأفعال فيعني إفراد الله بأفعاله بحيث يستحيل أن يكون لغير الله فعل من الأفعال على وجه الإيجاد، وفي هذا يقول الباجوري: “والحاصل أنَّ الوحدانية الشاملة لوحدانيَّة الذات ووحدانية الصفات ووحدانية الأفعال تنفي كمومًا خمسة: الكم المتصل في الذات وهو تركبها من أجزاء، والكم المنفصل فيها وهو تعددها بحيث يكون هناك إله ثانٍ فأكثر، وهذان الكمان منفيان بوحدة الذات. والكم المتصل في الصفات وهو التعدد في صفاته تعالى من جنس واحد كقدرتين فأكثر… والكم المنفصل في الصفات وهو أن يكون لغير الله صفة تشبه صفته تعالى، كأن يكون لزيد قدرة يوجد بها ويعدم بها كقدرته تعالى، أو إرادة تخصص الشيء ببعض الممكنات، أو علم محيطٌ بجميع الأشياء، وهذان الكمان منفيان بوحدانية الصفات، والكم المنفصل في الأفعال وهو أن يكون لغير الله فعل من الأفعال على وجه الإيجاد، وإنما ينسب الفعل له على وجه الكسب والاختيار، وهذا الكم منفي بوحدانية الأفعال”([11]).

والمقصود من هذا العرض المختصر: بيان أن التوحيد الذي ينقسم إلى ثلاثة أقسام عند المتكلمين ليس فيه توحيد الألوهية، وإنما تلك الأقسام راجعة إلى توحيد الأسماء والصفات والربوبية، مع وجود أخطاء في مفهومهما، كنفي الصفات، ونفي قدرة العبد، وغير ذلك([12]).

توحيد الألوهية في ميزان المتكلمين:

حين نستعرض كتب المتكلمين المبيّنة لحقيقة الاعتقاد نجد أنَّها لا تولي توحيد الألوهية اهتمامًا، فإنَّ التوحيد عندهم هو ما سبق بيانه، ولا تشتمل الأقسام التي يذكرونها على إفراد الله بالعبادة، فالمتكلمون في المجمل لم يهتموا في كتبهم وتقريراتهم بتوحيد الألوهيَّة.

وينبغي التنبيه هنا على قضية مهمة، وهي: أننا لا نعني بهذا الكلام أن المتكلمين يرون استحقاق غير الله للعبادة، أو أن الله لا ينفرد باستحقاق العبادة، فهذا غير صحيح ولا يقول به مسلم، وإنما المراد أن توحيد الألوهية عندهم لا يتمايز عن الربوبية، بل يرونهما نوعا واحدًا، فأصل التوحيد عندهم: اعتقاد الربوبية، وينبني عليه: أنَّ أي فعل يصرف إلى الله فإنه عبادة لاعتقادنا الربوبية فيه، وصرف نفس العمل لغير الله ليس بشرك، والعمل لا يسمى عبادة لأننا لا نعتقد الربوبية في ذلك الذي صُرف له ذلك العمل، وهذا فارق مهمٌّ جدًّا بين أهل السنة والمتكلمين، يظهر أثره في بيان الشرك وما يناقض التوحيد، فإن كثيرًا من صور الشرك التي جاءت في الكتاب والسنة ليست مناقضة للتوحيد عند المتكلمين؛ لأنَّ الأصل في التوحيد هو اعتقاد الربوبيَّة، فمتى لم يعتقد الإنسان الربوبيَّة لغير الله فإنَّه يكون -عندهم- محققًا للتَّوحيد وإن صرف شيئًا من العبادة لغير الله.

وقد بينَّا أنَّ هذا لا يعني أنَّهم يرون عدم استحقاق الله للعبادة، والخلاف ليس في هذه النُّقطة حتى يأتي من يبين بعض النصوص التي يذكر فيها المتكلمون أن الله سبحانه وتعالى يستحق إفراده بالعبادة، فهذا المعنى لوحده صحيح، لكنهم لا يذكرون هذا في أقسام التوحيد، ولا يميّزونه عن توحيد الربوبيَّة، ولا يذكرون -مع ذكرهم بأنَّ الله يستحق العبادة- أنَّ صرفها لغير الله شرك ولو لم يعتقد الربوبيَّة.

فليس الخلاف إذن في استحقاق الله للعبادة كما يصوره بعض من يرد على أهل السنة في قولهم بأن المتكلمين لم يهتموا بتوحيد الألوهية، وإنما الخلاف في كون توحيد الربوبية هو الأصل عند المتكلمين، وبتحقيقه يكون الإنسان مسلمًا ولو صرف العبادات لغير الله دون اعتقاد الربوبية فيه. أما أهل السنة والجماعة فإنهم يرون أن من اعتقد الربوبية في الله سبحانه وتعالى فإنه لا يكفيه ذلك بمفرده في الدخول في الإسلام وتحقيقه، بل لا بد له من أن يفرد الله بالعبادة، فلا يصرف شيئًا منها لغير الله ولو لم يعتقد الربوبية في ذلك المخلوق، فإن صرف هذه العبادات لغير الله إن كانت عبادات محضة كانت شركًا بالله سبحانه وتعالى.

وممَّا يبين عدم اهتمام المتكلمين بتوحيد الألوهية الآتي:

1- تعريفهم لكلمة “الإله”:

ممَّا يبين عدم اهتمام المتكلمين بتوحيد الألوهية وعدم اعترافهم بكونه نوعًا من التوحيد: تفسيرهم لكلمة الإله، فقد سبق بيان تعريف أهل السنة والجماعة لكلمة “الإله” وأنَّ معناها: المعبود، أما المتكلمون فقد ذكروا في معنى كلمة الإله بأنه: القادر على الاختراع، فأرجعوا معناها إلى توحيد الربوبية، وهو ما يؤكد ما قلناه من أن التوحيد عند المتكلمين راجعٌ إلى الربوبية فقط.

وهذ الأمر -أعني: تفسير كلمة “الإله” بالقادر على الاختراع- شائع ذائع في كتب المتكلمين، وهو أخص وصف للإله عند كثيرٍ منهم كما نسب ذلك الشهرستاني إلى أبي الحسن الأشعري فقال: “صار أبو الحسن رحمه الله إلى أن أخص وصف الإله هو القدرة على الاختراع، فلا يشاركه فيه غيره”([13])، ويقول البغدادي: “واختلف أصحابنا في معنى الإله؛ فمنهم من قال: إنه مشتق من الإلهية وهي قدرته على اختراع الأعيان، وهو اختيار أبي الحسن الأشعري، وعلى هذا القول يكون الإله مشتقًّا من صفة. وقال القدماء من أصحابنا: إنَّه يستحق هذا الوصف لذاته، وهو اختيار الخليل بن أحمد [و]المبرد وبه نقول”([14])، وقد ذكره البيهقي([15]) والقشيري([16]) والرازي([17]).

ولذلك يرى المتكلمون خطأ تفسير كلمة “الإله” بالمعبود، وقد ذكر القشيري تفسير كلمة الإله عند المتكلمين، ثم ذكر معناه عند أهل السنة والجماعة ولم يرتضِه، قال: “ومن الناس من قال: إن معنى الإله أنَّه المعبود، ومنهم من عبَّر عنه فقال: هو المستحق للعبادة، ومنهم من قال: الذي لا تجب العبادة إلا له، والدليل على أنه من التأله الذي هو التعبد… وهذا أيضا لا يصح”([18])، وقال الرازي: “لا نسلم أن معناه: أنه الذي يستحق العبادة، ويدل عليه وجهان:

الأول: أنه لو كان كذلك لوجب أن لا يكون إلهًا للجمادات والبهائم؛ لأنه تعالى يستحق عليها العبادة، ولزم أن لا يكون إلها في الأزل لم يخلق أحدًا، ولم ينعم على أحد، فلم يكن مستحقًّا للعبادة.

الثاني: أنا بينا أنَّ العقل لا يدل على حصول الاستحقاق؛ لأنه لا يتفاوت حال المعبود بسبب هذه العبادة وهي شاقة على العابد، فوجب أن لا يحكم العقل بوجوبه. إذا ثبت هذا فنقول: الإله هو القادر على الاختراع”([19]).

ويعني هذا: أن توحيد الربوبية هو الأصل وهو المعيار في كون العمل عبادة أو ليس بعبادة، فالمتكلمون يقولون باستحقاق الله للعبادة كما بينا، لكن صرف تلك العبادات لغير الله ليست شركًا؛ لأن الأصل هو الاعتراف بالربوبية، فمتى لم يعتقد الربوبية في هذا الذي صرف له العبادة لم يقع في الشرك، وهذا منافٍ لدعوة الرسل عليهم السلام، وفي هذا يقول ابن تيمية رحمه الله: “والإله هو بمعنى المألوه المعبود الذي يستحق العبادة، ليس هو الإله بمعنى القادر على الخلق، فإذا فسر المفسر الإله بمعنى القادر على الاختراع، واعتقد أن هذا أخص وصف الإله، وجعل إثبات هذا التوحيد هو الغاية في التوحيد كما يفعل ذلك من يفعله من المتكلمة الصفاتية، وهو الذي ينقلونه عن أبي الحسن وأتباعه؛ لم يعرفوا حقيقة التوحيد الذي بعث الله به رسوله، فإن مشركي العرب كانوا مقرين بأن الله وحده خالق كل شيء، وكانوا مع هذا مشركين”([20]).

2- تقسيم المتكلّمين للتوحيد:

سبق الحديث عن أقسام التوحيد عند المتكلمين، وبينَّا أنَّهم يقسمونه إلى ثلاثة أقسام هي راجعة إلى توحيد الربوبية والأسماء والصفات، فمن ينظر لأقسام التوحيد التي هي: توحيد الله في ذاته، وفي أفعاله، وفي صفاته؛ يدرك تمامًا أنَّ توحيد الألوهية غائب عن هذا التقسيم.

ولا شك أنَّ الاهتمام بأمرٍ ما ينبئك عنه ذكرُه في الكتب أصالة والاهتمام به تأصيلًا وتقريرًا ودفعًا للشبهات حوله، وهو ما لا نجده عند المتكلمين بالنسبة لتوحيد الألوهية، وندرك تمامًا أنه لا مشاحاة في الاصطلاح، فلو كان المتكلمون أصّلوا له وقرروه في تقسيماتهم للتوحيد وبينوه ولو باسمٍ آخر لما كان هناك إشكال، لكننا لا نجد هذا التأصيل عند المتكلمين في أمهات كتبهم وعند ذكرهم للتوحيد وأقسامه، فأقسام التوحيد لدى المتكلمين راجعة إلى الربوبية والأسماء والصفات كما بينَّا.

فتوحيد الله في أفعاله يعني إفراد الله تعالى بأفعاله من الخلق والرزق والتدبير، وهو توحيد الربوبية عند أهل السنة والجماعة.

وتوحيد الله في ذاته يريدون به نفي التركيب والتجزّؤ والتعدّد والتبعض، ومعلوم أن هذا أدى بهم إلى نفي الصفات عن الله سبحانه وتعالى.

وتوحيد الله في صفاته يعنون به نفي التشبيه، وهو لفظ مجمل لديهم إذ إن كل طائفة تجعل التشبيه في الصفات التي لا تثبتها وتنفي التشبيه عما تثبت، وهو مقابل لتوحيد الصفات في الجملة.

ومن هنا نعلم خطأ من ينكر على أهل السنة حين ينسبون إلى المتكلمين عدم اهتمامهم بالألوهية، فهذا ما تشهد به كتبهم وتقسيمهم، ولا يغني عن هذا جمعهم لبضعة نصوص من هنا وهناك يذكر فيها بعض المتكلمين أن الله يستحقّ العبادة، فهذا لا ينكره باحث، لكن المشكلة في عدم ذكرهم للألوهية عند ذكر التوحيد، وعدم اهتمامهم به، وهو الذي نعتقد أنه أهم ما جاءت به الرسل ولأجله أنزل الله الكتب، وانبنى على هذا إخراجُ العمل عن مسمى الإيمان، وحكمُ كثيرٍ منهم على صرف العبادة لغير الله ما لم يعتقد الصارفُ الربوبية في من صُرِفت أنه ليس شركًا.

3- إنكارهم لتوحيد الألوهيَّة:

يرى كثيرٌ من المتكلمين أنَّ إفراد توحيد الألوهية بدعة تيمية، فليس الأمر أنهم لم يهتمّوا بتوحيد الألوهية فحسب، بل يرون بدعية إفراده عن الربوبية، ولهم في ذلك كتب عديدة مفردة، وفصول ومباحث من كتب عقدية([21])، وهذا في الحقيقة رد على من يتشبّث بثياب المتكلمين ويدافع عنهم في شيء هم يرونه بدعة وينكرونه!

4- مصادرهم الأصلية شاهدة:

من يأخذ نظرة سريعةً في المصادر الأصلية للمتكلمين يجد أنهم لا يفردون توحيد الألوهية بذكر، وأن جلَّ حديثهم في التوحيد إنما هو عن أقسام التوحيد التي ذكرناها والتي هي راجعة إلى الربوبية والأسماء والصفات، ومما يبين هذا: اهتمامهم البالغ في كتبهم بأول واجب، وجعله النظر أو القصد إلى النظر، مع عدم تخصيص إفراد الله بالعبادة بالذكر، فإن فتحت مثلًا “شرح الأصول الخمسة” للقاضي عبد الجبار تجده بدأ كتابه بأول واجب، وحقيقة النظر وأنواعه، ثم دليل الأعراض وما يتعلق به، ثم تكلم عن التوحيد واقتصر فيه على الحديث عن قدرة الله وبعض الصفات الأخرى الراجعة إلى ربوبيته سبحانه وتعالى.

أما إن نظرنا إلى الماتريدية فنجد أبا منصور الماتريدي قد بدأ كتابه “التوحيد” بإبطال التقليد ووجوب النظر، ثم عن حدوث العالم، ثم بدأ يتحدث عن نفي الجسمية عن الله سبحانه وتعالى وبعض ما يتعلق بصفاته، وذكر خلافًا في صفات الذات وصفات الفعل، وغير ذلك مما يتعلق بهذه المعاني الراجعة إلى الربوبية.

والحال نفسه عند الأشاعرة، فدونك مصادرهم الأصلية تصفّحها ما شئت، وقلِّب فيها نظرك، فإنك ستجد ما قلته وأخبرت به من خلو مجملها من ذكر توحيد الألوهية، وإن كنا نجد في بعض كتب التفسير وغيرها إشارة إلى استحقاق الله للعبادة، وهو مما لا خلاف فيه، لكننا لا نجده قسما من أقسام التوحيد ولا عند الحديث عنه، فهذا ابن فورك في حكايته لمقالات أبي الحسن بدأها ببيان مذهب أبي الحسن في معنى العلم وأحكامه، ثم النظر، ثم ذكر كثيرًا من الفصول التي ليس منها بيان توحيد الألوهية، وأما أبو بكر الباقلاني -المؤسس الثاني للمذهب الأشعري- فقد بيّن في مقدمة كتابه “تمهيد الأوائل وتلخيص الدلائل” أنه ذكر في هذا الكتاب معنى العلم وأقسامه، والأدلة على حدوث العالم وإثبات محدثه، ثم كلامًا عن المخالفين للإسلام، وإن كان -من باب الإنصاف- قد أشار إلى الألوهية في كتابه “الإنصاف فيما يجب اعتقاده ولا يجوز الجهل به”، وأما الجويني من بعده فقد بدأ كتابه “الإرشاد إلى قواطع الأدلة في أصول الاعتقاد” ببيان أحكام النظر ووجوبه شرعًا، ثم حدوث العالم وإثبات محدثه، ثم تكلّم عن صفات الله وقسَّمها إلى نفسية ومعنوية، ثم ذكر وحدانية الله، وخلاصة كلامه فيها: بيان دليل التمانع، ونفي أن يكون له شريك، هذا مبلغ ما ذكره في وحدانية الله بعد أن عرف التوحيد والإله بما عرفت به الأشاعرة، أما كتابه الآخر “الشامل في أصول الدين” فقد بدأه ببيان حقيقة الجوهر وإثبات العرض وغير ذلك، وذكر فصلًا كاملًا عن معنى التوحيد، فما الذي ذكره؟ بدأ هذا الفصل ببيان معنى الوحدانية والتوحيد، فذكر أنه: “اعتقاد الوحدانية”([22])، ثم بدأ يذكر دليل التمانع للدلالة على وحدانية الله في ربوبيته، ثم نفى الجسمية عن الله، وناقش بعض شبهات المعتزلة في بقية الفصل، فأين أعظم ما يوحّد الله به وهو إفراده بالعبادة؟!

هذه جملة من الكتب، ولو شاء من يتَّهم أهل السنة بعدم إنصاف الأشاعرة أو الكذب عليهم الزيادة لزدنا، فمؤلفاتهم مبثوثة موجودة يسهل الاطلاع عليها، فأين هذا الاهتمام بتوحيد الألوهية حتى ينكروا على أهل السنة والجماعة ويتهموهم بأنهم يكذبون على المتكلمين والأشاعرة بالخصوص حين يقولون: إنهم لم يهتموا بتوحيد الألوهية؟! فدونكم هذه الدواوين الكبار والمصادر الأصلية لتخرجوا لنا اهتمامًا بهذا الباب.

وليس الأمر أن المصادر الأصلية والكتب الكبيرة لم تميّز توحيد الألوهية وتفرده فقط، بل الأمر كلّه في إهمال ذكر هذا التوحيد وعدم الإشارة إليه إلا نادرًا، مع الاهتمام الكبير بتقرير توحيد الربوبية الذي هو مطلوب بلا شكّ، لكن إفراد الله بالعبادة وصرف كلّ أنواع العبادة لله وحده هو المقصد الأسمى للرسل، فكان الاهتمام به أولى، ومع هذا فليست الكتب القديمة هي التي خلَت من ذكر هذا التوحيد، بل حتى الكتب المعاصرة، والكتب التي ألّفت بعد انتشار مظاهر الشرك وصرف أنواع من العبادة لغير الله، فلا نجد إلا إنكارًا لهذا النوع من التوحيد في الكتب المتأخرة، وربطًا لتوحيد الألوهية بالربوبية ربطًا تامًّا بحيث لا يمكن أن يتمايز ويقع الشرك فيه بمفرده مع الإقرار بالربوبية، وعليه فلا وجه للإنكار على أهل السنة حين ينكرون على المتكلمين عدم اهتمامهم بتوحيد الألوهية، وليس لهم ما يستدلون به على اهتمام المتكلمين بتوحيد الألوهية إلا فتاتٌ من عبارات في تفسير بعض آيات القرآن الكريم، ومعظمها في بيان أن الله سبحانه وتعالى يستحق أن يعبَد، فمتى خالفنا في هذا التقرير؟! ومتى قال علماء أهل السنة والجماعة: إن المتكلمين لا يرون استحقاق الله للعبادة؟! هذا لا يقول به مسلم، لكنّ أهل السنة وعلماءهم -ومنهم بالخصوص: ابن تيمية رحمه الله- إنما أنكروا على المتكلمين اهتمامَهم البالغ بتوحيد الربوبية مع إغفال توحيد الألوهية، فليس الإنكار لمجرد الاهتمام بالربوبية، ولكن لتركهم الألوهية مقابل ذلك، فاهتمّوا غاية الاهتمام بإثبات الصانع ودليل التمانع، وتركوا بيان إفراد الله بالعبادة وأن هذا متميّز عن توحيد الربوبية الخالي عن اعتقاد الألوهية بمفهوم أهل السنة والجماعة.

هذه جملة من الأمور التي تبين عدمَ اهتمام المتكلمين بأعظم أنواع التوحيد، وبأعظم ما جاءت به الرسل وهو توحيد الألوهية.

اعتراض ونقاش:

ذكر بعض علماء أهل السنة والجماعة واقع المتكلمين في تقريرهم للتوحيد، وبيّنوا أنهم إنما اهتمّوا بتوحيد الربوبية وهو أكثر ما بينوه في كتبهم وأصلوا له وقرروه، وقد رأيت مصداق ذلك فيما سبق، بيد أنه قد يعترض معترضون على التقرير السابق، بل يرون أن علماء أهل السنة قد تجنّوا على المتكلمين في نسبة عدم الاهتمام بالألوهية إليهم، ومن أولئك العلماء الذين يرون أنهم قد أخطؤوا في وصف واقع المتكلّمين مع توحيد الألوهية: ابن تيمية رحمه الله، فممَّا قاله في توصيف حال المتكلمين مع توحيد الألوهية: “فكان الكفار يقرون بتوحيد الربوبية، وهو نهاية ما يثبته هؤلاء المتكلمون إذا سلِموا من البدع فيه”([23])، ويقول رحمه الله: “فقد تبين أنَّ ما يسمّونه توحيدًا فيه ما هو حقّ، وفيه ما هو باطل، ولو كان جميعه حقّا؛ فإن المشركين إذا أقروا بذلك كله لم يخرجوا من الشرك الذي وصفهم به في القرآن وقاتلهم عليه الرسول صلى الله عليه وسلم، بل لا بد أن يعترفوا أنه لا إله إلا الله، وليس المراد (بالإله) هو القادر على الاختراع كما ظنَّه من ظنه من أئمة المتكلّمين، حيث ظنّوا أنَّ الإلهية هي القدرة على الاختراع دون غيره، وأنَّ من أقرَّ بأن الله هو القادر على الاختراع دون غيره فقد شهد أن لا إله إلا هو؛ فإنَّ المشركين كانوا يقرون بهذا وهم مشركون كما تقدم بيانه”([24])، وهنا يظهر أن ابن تيمية رحمه الله ينسب إلى المتكلمين أنه كان جل اهتمامهم بتوحيد الربوبية، وأنهم أخطؤوا في تفسير كلمة الإله إذ فسروها بالقادر على الاختراع، فيرى البعض أن في هذا جنايةً على المتكلمين واتهامًا لهم بما ليس فيهم، ويمكن مناقشة هذا الكلام من خلال الآتي:

أولا: ليس الخلاف في تقرير استحقاق الله للعبادة، فلم يقل ابن تيمية رحمه الله ولا غيره بأن المتكلمين ينكرون استحقاقَ الله للعبادة، أو أنهم يرون جواز عبادة غير الله! بل بعض المتكلمين ينصون في مواضع -خاصة في كتب التفسير- بأن الله هو المستحق للعبادة لا غيره([25])، ولا شك أن من اعتقد استحقاقَ غير الله للعبادة فإنه قد وقع في الكفر، لكن الأمر الذي نتحدّث عنه هو: هل جعل المتكلمون هذا الأمر -وهو استحقاق الله للعبادة- من أنواع التوحيد وبيّنوه وأصّلوا له في بيان التوحيد وبيان أقسامه أم لم يفعلوا ذلك؟

الذي يراه ابن تيمية رحمه الله أن مجمَل المتكلمين لم يؤصّلوا لتوحيد الألوهية، واستحقاق الله للعبادة لم يجعلوه من أقسام التوحيد، والكتب التي سبق ذكرها وعرض بعضها تصدّق كلام ابن تيمية رحمه الله ولا تعارضه.

ثانيًا: نقطة الخلاف أن المتكلّمين جعلوا توحيد الألوهية هو الربوبية، فلا ينفكّ عنه، فصرف الأعمال والأقوال لله مع اعتقاد الربوبية فيه عبادة له، وهو الوحيد الذي يستحق العبادة، وصرفها لغير الله مع اعتقاد الربوبية فيه شرك بالله، أما صرف تلك الأعمال لغير الله مع عدم اعتقاد الربوبية فيه فليس بشرك، فحين ينسب إلى المتكلمين عدم اهتمامهم بالألوهية فذلك لأنهم لم يجعلونه متميّزًا، وانبنَت عليه آثار خطيرة في مسائل الشرك وغيره.

ثالثًا: ذكر ابن تيمية رحمه الله أن توحيد المتكلّمين نهايته هو الإقرار بالربوبية، وهو التوحيد الذي أقرّ به كثيرٌ من المشركين في زمن النبي صلى الله عليه وسلم، فلينظر من ينكر على أهل السنة إلى أقسام التوحيد عند المتكلمين، ثم يبين لنا وجه غلط كلام ابن تيمية رحمه الله، فإن من وحّد الله في ذاته ورأى عدم التركيب والتعدّد، ووحَّده في أفعاله ورأى اختصاص الله بالخلق أو القدرة على الاختراع، ووحّده في صفاته فرأى أنه لا يشبهه شيء، هل هذا هو ما يُدخل في الإسلام؟! وهل هو ما جاء النبي صلى الله عليه وسلم يدعو إليه أصالة، أم كان هذا معروفًا شائعًا عند كثير من مشركي العرب؟! الجواب: أنه كان شائعًا ومعروفًا عند كثيرٍ من مشركي العرب، وكان خلافهم مع النبي صلى الله عليه وسلم في إفراد الله بالعبادة، ولا أقول: إن كلّ العرب لم يعتقدوا في أصنامهم الربوبية، وإنهم كلهم كان خلافهم مع النبي صلى الله عليه وسلم في إفراد الله بالعبادة فقط، لكن جزءًا من مشركي العرب كانوا كذلك، فلِم لم يكونوا مسلمين حين حقّقوا توحيد الربوبية ولم يعتقدوا الربوبية في غيره؟ هذا ما يريد ابن تيمية رحمه الله توضيحه وتقريره([26])، وأنّ مردّ أقسام التوحيد التي يذكرونها ليس فيه شيء من إفراد الله بالعبادة وإن كان هو مطلوبًا في ذاته، فلم يخطئ ابن تيمية رحمه الله في وصف واقع حالهم، وقد ذكر رحمه الله أمرين هما محلُّ نقده للمتكلمين، أوّلهما: ما ذكرته هنا من أن منتهى توحيدهم الإقرار بالربوبية لا إفراد الله بالعبادة، أما الثاني فهو فيما يلي.

رابعًا: الأمر الثاني الذي انتقده ابن تيمية عليهم: تفسيرهم “الإله” بالقادر على الاختراع، وهذا مذكور في نصه رحمه الله، فهل حقًّا فسّر المتكلمون “الإله” بهذا التفسير أم أن هذا كذب أو خطأ من ابن تيمية رحمه الله عليهم؟! وقد مرَّ أن جمهور المتكلمين قرروا هذا التعريف للإله، بل ردّ بعضهم على تفسيره بالمعبود، ومعنى ذلك أن من يتشهّد بالشهادة فإنه يعترف بأن الله قادر على الاختراع، فهل هذا هو المعنى الذي قاتل عليه النبي صلى الله عليه وسلم، أم إفراد الله بالعبادة ليكون معنى الشهادة حينئذ: لا معبود بحق إلا الله؟!

خامسًا: أنه لا تعميم في كلام ابن تيمية، فيلاحظ القارئ أمرًا مهمّا في مجموع كلام ابن تيمية رحمه الله، فإنه حين تكلّم عن أن التوحيد عند المتكلمين منتهاه: توحيد الربوبية، بين أن هذا قول المتكلّمين، أي: قول معظمهم، فإنه من المعلوم أن نسبة قول إلى فرقة أو طائفة لا تبطلها أقوالٌ فرديّة قليلة، ولهذا فإن ابن تيمية رحمه الله في مواضع أخرى يكون أكثر دقة فيقول: “فإن عامّة المتكلمين الذين يقرّرون التوحيد في كتب الكلام والنظر غايتهم أن يجعلوا التوحيد ثلاثة أنواع”([27]). فيقرر بأن هذا قول عامتهم.

أما حين تكلم عن تفسير “الإله” بالقادر على الاختراع فإنه يقول: “كما ظنه من ظنه من أئمة المتكلمين”، فالكلام مع بعض المتكلّمين ممَّن ظنَّ هذا الظن، ذلك أننا وجدنا عددًا من المتكلمين قد نصّوا على أن الإله معناه المعبود، وإن كان هؤلاء لا يمثّلون أكثرية، لكن ابن تيمية رحمه الله مع هذا انتبه لهذا وبيّن أن نقده متوجّه إلى من فسّر كلمة الإله بهذا المعنى لا إلى غيرهم. وقد رأيت كلامه حول هذا المعنى في التدمرية([28]) والدرء([29]) والنبوات([30])، ويذكر أيضًا أن بعض المتكلمين يجعلون القدرة على الاختراع أخصّ وصف للإله، ذكر ذلك في الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح([31]) وبغية المرتاد([32])، وهو في هذه الكتب كلها يخصص ولا يعمم.

فهذه جملة من الأمور التي تبيّن أن ابن تيمية رحمه الله كان يعرف حقيقةَ أقوال القوم في المسألة، وأنه كان منصفًا في نسبة هذا إليهم، هذا ما تبيّن من خلال التقرير السابق، مع يقيننا بأنه لا عصمة لأحد بعد المصطفى صلى الله عليه وسلم، وابن تيمية رحمه الله بشر يخطئ كغيره، لكنه أصاب في نسبة عدم الاهتمام بالألوهية إلى مجمل المتكلمين.

وأخيرًا: لا شكّ أن إخراج توحيد العبادة من أقسام التوحيد له آثار سلبية عديدة، من أهمها: إغفال حقيقة دعوة الرسل التي كانت من أجل إفراد الله بالعبادة، وليس للإقرار بربوبية الله فحسب، وإن كانت الربوبية مستلزمة للألوهية، لكن من لم يلتزم بها فإنه لا يدخل في الإسلام كما هو واضح في دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم لقومه، ومن أهم الآثار: أن إخراج توحيد الألوهية وعدم تمييزه عن الربوبية وتقرير أن صرف شيء من العبادة لا يكون شركًا إلا باعتقاد الربوبية أنتج لنا انتشارَ الشرك وأسبابِه مثل الاستغاثة بغير الله، وتعظيم القبور والتعلق بها من دون الله، وما أسقط الأمة في وحل صرف الأعمال لغير الله والتعلق بغير الله إلا تقرير أن هذه الأعمال مفردةً ليست من التوحيد، وإنما الشأن كله في اعتقاد الربوبية.

وقد تبين لنا في هذه الورقة المختصرة أن المتكلمين أهملوا تقرير توحيد الألوهية وإن كانوا أقروا وأثبتوا استحقاق الله للعبادة وأنه لا يعبد إلا الله، وكان هذا سببًا في إنكار بعض علماء أهل السنة عليهم، وهو إنكار في محلّه.

وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(المراجع)

([1]) الصحاح تاج اللغة وصحاح العربية (2/ 547).

([2]) الصحاح تاج اللغة وصحاح العربية (6/ 2223-2224).

([3]) تفسير أسماء الله الحسنى (ص: 26).

([4]) تنظر ورقة علمية في مركز سلف بعنوان: الدلائل القرآنية على أن (لا إله إلا الله) تعني: لا معبود بحق إلا الله. على الرابط التالي: https://salafcenter.org/4267/

([5]) تنظر ورقة علمية في مركز سلف بعنوان: ماهية التوحيد.. حديث في المعنى (يتضمن الكلام على معنى التوحيد عند السلف والمتكلمين)، على الرابط التالي:

https://salafcenter.org/5302/

وينظر: حقيقة التوحيد بين أهل السنة والمتكلمين، للدكتور: عبد الرحيم السلمي.

([6]) شرح الأصول الخمسة (ص: 277).

([7]) السابق (ص: 128).

([8]) الإرشاد (ص: 55).

([9]) المطالب العالية من العلم الإلهي (3/ 257).

([10]) نهاية الإقدام في علم الكلام (ص: 56).

([11]) تحفة المريد على جوهرة التوحيد (ص: 114).

([12]) تنظر ورقة علمية في مركز سلف بعنوان: ماهية التوحيد.. حديث في المعنى (يتضمن الكلام على معنى التوحيد عند السلف والمتكلمين)، على الرابط التالي:

https://salafcenter.org/5302/

وينظر: حقيقة التوحيد بين أهل السنة والمتكلمين، للدكتور: عبد الرحيم السلمي.

([13]) نهاية الإقدام في علم الكلام (ص: 56).

([14]) أصول الدين (ص: 123).

([15]) الاعتقاد (ص: 59).

([16]) شرح الأسماء الحسنى (ص: 65-66).

([17]) تفسير الرازي (32/ 217).

([18]) شرح أسماء الله الحسنى (ص: 64).

([19]) المطالب العالية من العلم الإلهي (9/ 285).

([20]) درء تعارض العقل والنقل (1/ 226).

([21]) ينظر: السهم السديد في ضلالة تقسيم التوحيد لجميل حليم الحسني، ومصباح الأنام وجلاء الظلام في رد شبه البدعي النجدي التي أضل بها العوام لعبد الله علوي الحداد، وبراءة الأشعريين من عقائد المخالفين لأبي حامد بن مرزوق (مستعار)، وكلمة هادئة في بيان خطأ التقسيم الثلاثي للتوحيد لعمر كامفلي، والتنديد بمن عدد التوحيد: إبطال محاولة التثليث في التوحيد والعقيدة الإسلامية لحسن السقاف، وغيرها الكثير.

([22]) الشامل في أصول الدين (ص: 351).

([23]) الفتاوى الكبرى (6/ 565).

([24]) مجموع الفتاوى (3/ 101).

([25]) ينظر مثلا: تفسير الرازي (1/ 210)، وتفسير الماتريدي (7/ 177)، وتفسير البيضاوي (1/ 153).

([26]) وقد ذكر هذا المعنى -أعني أن ما يقرره المتكلمون قد حققه بعض المشركين ومع ذلك لم تحكم الشريعة بإسلامهم- في عدة مواضع، منها: بيان تلبيس الجهمية في تأسيس بدعهم الكلامية (3/ 138)، ودرء تعارض العقل والنقل (1/ 226).

([27]) التدمرية (ص: 179).

([28]) السابق (ص: 185).

([29]) درء تعارض العقل والنقل (1/ 226).

([30]) النبوات لابن تيمية (1/ 285).

([31]) الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح لابن تيمية (3/ 294).

([32]) بغية المرتاد في الرد على المتفلسفة والقرامطة والباطنية (ص: 261).

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

جديد سلف

الإباضــــية.. نشأتهم – صفاتهم – أبرز عقائدهم

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة مقدمة: من الأصول المقرَّرة في مذهب السلف التحذيرُ من أهل البدع، وذلك ببيان بدعتهم والرد عليهم بالحجة والبرهان. ومن هذه الفرق الخوارج؛ الذين خرجوا على الأمة بالسيف وكفَّروا عموم المسلمين؛ فالفتنة بهم أشدّ، لما عندهم من الزهد والعبادة، وزعمهم رفع راية الجهاد، وفوق ذلك هم ليسوا مجرد فرقة كلامية، […]

دعوى أن الخلاف بين الأشاعرة وأهل الحديث لفظي وقريب

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة مقدمة: يعتمِد بعض الأشاعرة المعاصرين بشكلٍ رئيس على التصريحات الدعائية التي يجذبون بها طلاب العلم إلى مذهبهم، كأن يقال: مذهب الأشاعرة هو مذهب جمهور العلماء من شراح كتب الحديث وأئمة المذاهب وعلماء اللغة والتفسير، ثم يبدؤون بعدِّ أسماء غير المتكلِّمين -كالنووي وابن حجر والقرطبي وابن دقيق العيد والسيوطي وغيرهم- […]

التداخل العقدي بين الفرق المنحرفة (الأثر النصراني على الصوفية)

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة مقدمة: بدأ التصوُّف الإسلامي حركة زهدية، ولجأ إليه جماعة من المسلمين تاركين ملذات الدنيا؛ سعيًا للفوز بالجنة، واقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم، ثم تطور وأصبح نظامًا له اتجاهاتٌ عقائدية وعقلية ونفسية وسلوكية. ومن مظاهر الزهد الإكثار من الصوم والتقشّف في المأكل والملبس، ونبذ ملذات الحياة، إلا أن الزهد […]

فقه النبوءات والتبشير عند الملِمّات

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة مقدمة: منَ الملاحَظ أنه عند نزول المصائب الكبرى بالمسلمين يفزع كثير من الناس للحديث عن أشراط الساعة، والتنبّؤ بأحداث المستقبَل، ومحاولة تنزيل ما جاء في النصوص عن أحداث نهاية العالم وملاحم آخر الزمان وظهور المسلمين على عدوّهم من اليهود والنصارى على وقائع بعينها معاصرة أو متوقَّعة في القريب، وربما […]

كيف أحبَّ المغاربةُ السلفيةَ؟ وشيء من أثرها في استقلال المغرب

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة   مقدّمة المعلِّق في كتابِ (الحركات الاستقلاليَّة في المغرب) الذي ألَّفه الشيخ علَّال الفاسي رحمه الله كان هذا المقال الذي يُطلِعنا فيه علَّالٌ على شيءٍ من الصراع الذي جرى في العمل على استقلال بلاد المغرب عنِ الاسِتعمارَين الفرنسيِّ والإسبانيِّ، ولا شكَّ أن القصةَ في هذا المقال غيرُ كاملة، ولكنها […]

التوازن بين الأسباب والتوكّل “سرّ تحقيق النجاح وتعزيز الإيمان”

توطئة: إن الحياةَ مليئة بالتحدِّيات والصعوبات التي تتطلَّب منا اتخاذَ القرارات والعمل بجدّ لتحقيق النجاح في مختلِف مجالات الحياة. وفي هذا السياق يأتي دورُ التوازن بين الأخذ بالأسباب والتوكل على الله كمفتاح رئيس لتحقيق النجاح وتعزيز الإيمان. إن الأخذ بالأسباب يعني اتخاذ الخطوات اللازمة والعمل بجدية واجتهاد لتحقيق الأهداف والأمنيات. فالشخص الناجح هو من يعمل […]

الانتقادات الموجَّهة للخطاب السلفي المناهض للقبورية (مناقشة نقدية)

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة مقدمة: ينعمُ كثير من المسلمين في زماننا بفكرٍ دينيٍّ متحرِّر من أغلال القبورية والخرافة، وما ذاك إلا من ثمار دعوة الإصلاح السلفيّ التي تهتمُّ بالدرجة الأولى بالتأكيد على أهمية التوحيد وخطورة الشرك وبيان مداخِله إلى عقائد المسلمين. وبدلًا من تأييد الدعوة الإصلاحية في نضالها ضدّ الشرك والخرافة سلك بعض […]

كما كتب على الذين من قبلكم (الصوم قبل الإسلام)

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة المقدمة: مما هو متَّفق عليه بين المسلمين أن التشريع حقٌّ خالص محض لله سبحانه وتعالى، فهو سبحانه {لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ} [الأعراف: 54]، فالتشريع والتحليل والتحريم بيد الله سبحانه وتعالى الذي إليه الأمر كله؛ فهو الذي شرَّع الصيام في هذا الشهر خاصَّة وفضَّله على غيره من الشهور، وهو الذي حرَّم […]

مفهوم العبادة في النّصوص الشرعيّة.. والردّ على تشغيبات دعاة القبور

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة لا يَخفَى على مسلم أنَّ العبادة مقصَد عظيم من مقاصد الشريعة، ولأجلها أرسل الله الرسل وأنزل الكتب، وكانت فيصلًا بين الشّرك والتوحيد، وكل دلائل الدّين غايتها أن يَعبد الإنسان ربه طوعًا، وما عادت الرسل قومها على شيء مثل ما عادتهم على الإشراك بالله في عبادتِه، بل غالب كفر البشرية […]

تحديد ضابط العبادة والشرك والجواب عن بعض الإشكالات المعاصرة

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة لقد أمر اللهُ تبارك وتعالى عبادَه أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئًا، قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56]، ومدار العبادة في اللغة والشرع على التذلُّل والخضوع والانقياد. يقال: طريق معبَّد، وبعير معبَّد، أي: مذلَّل. يقول الراغب الأصفهاني مقررًا المعنى: “العبودية: إظهار التذلّل، والعبادة أبلغُ منها؛ […]

رؤية النبي صلى الله عليه وسلم يقظة.. بين أهل السنة والصوفية

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة مقدمة: الناظر المدقّق في الفكر الصوفي يجد أن من أخطر ما قامت عليه العقيدة الصوفية إهدار مصادر الاستدلال والتلقي، فقد أخذوا من كل ملة ونحلة، ولم يلتزموا الكتاب والسنة، حتى قال فيهم الشيخ عبد الرحمن الوكيل وهو الخبير بهم: “إن التصوف … قناع المجوسي يتراءى بأنه رباني، بل قناع […]

دعوى أن الحنابلة بعد القاضي أبي يعلى وقبل ابن تيمية كانوا مفوضة

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة إن عهدَ القاضي أبي يعلى رحمه الله -ومن تبِع طريقته كابن الزاغوني وابن عقيل وغيرهما- كان بداية ولوج الحنابلة إلى الطريقة الكلامية، فقد تأثَّر القاضي أبو يعلى بأبي بكر الباقلاني الأشعريّ آخذًا آراءه من أبي محمد الأصبهاني المعروف بابن اللبان، وهو تلميذ الباقلاني، فحاول أبو يعلى التوفيق بين مذهب […]

درء الإشكال عن حديث «لولا حواء لم تخن أنثى»

  تمهيد: معارضة القرآن، معارضة العقل، التنقّص من النبي صلى الله عليه وسلم، التنقص من النساء، عبارات تجدها كثيرا في الكتب التي تهاجم السنة النبوية وتنكر على المسلمين تمسُّكَهم بأقوال نبيهم وأفعاله وتقريراته صلى الله عليه وسلم، فتجدهم عند ردِّ السنة وبيان عدم حجّيَّتها أو حتى إنكار صحّة المرويات التي دوَّنها الصحابة ومن بعدهم يتكئون […]

(وقالوا نحن ابناء الله ) الأصول والعوامل المكوّنة للأخلاق اليهودية

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة المقدمة: لا يكاد يخفى أثر العقيدة على الأخلاق وأثر الفكر على السلوك إلا على من أغمض عينيه دون وهج الشمس منكرًا ضوءه، فهل ثمّة أصول انطلقت منها الأخلاق اليهودية التي يستشنعها البشر أجمع ويستغرب منها ذوو الفطر السليمة؟! كان هذا هو السؤال المتبادر إلى الذهن عند عرض الأخلاق اليهودية […]

تغاريد سلف

جميع الحقوق محفوظة لمركز سلف للبحوث والدراسات © 2017