هذه فطرتنا التي فُطِرنا عليها
للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة
مقدمة:
تشهد البشرية اليوم تطوّرًا ورقيًّا وثورة صناعية مادية ومعلوماتية هائلة، ولكن هذا التقدّم المادي الذي أسهم بشكل كبير في رفاهية الإنسان وتقويم جسده وصحته لم يصاحبه تقدّم وعناية بما يقوّم قلب الإنسان وفؤاده، بل الحاصل السعي حثيثًا إلى إفساد فطرة الله التي فطر الإنسان عليها من صلاح القلب وصحته وصفائه وعبادته لله؛ “فالله سبحانه فطر عباده على محبته وعبادته وحده؛ فإذا تركت الفطرة بلا فساد كان القلب عارفًا بالله محبًّا له عابدًا له وحده، لكن تفسد فطرته من مرضه”([1]) إما بالشبهات وإما بالشهوات، فكما أن مرض البدن فساد لحركته الطبيعية وإدراكه وإضعاف لقواه، فكذلك مرض القلب “نوع فساد يحصل له يفسد به تصوّره وإرادته؛ فيفسد تصوّره بالشبهات التي تعرض له حتى لا يرى الحق أو يراه على خلاف ما هو عليه، وتفسد إرادته بحيث يبغض الحقّ النافع ويحب الباطل الضار”([2]).
وكل إنسان يعلم أن المريض أضعف من الصحيح، يتألم ويتأذى مما قد لا يتأذى منه الإنسان الصحيح السويّ من برودة أو حرارة أو عمل أو طعام؛ لأنه لا يقوى عليها لضعفه بالمرض، وكما أن مرض الجسد إذا وجد معه ما يقوّي أسبابه قوي وإذا عورض بضدها ضعف، فكذلك مرض القلب من شكّ وجهل وغيره، فإذا وردت عليه شبهة أو شهوة ازداد مرضًا على مرضه، وإن جوبهت بموعظة وحكمة وقرآن وسنة حصل له الشفاء واستصح بعد علة؛ “فإن القلب الصحيح لو تعرضت له المرأة لم يلتفت إليها، بخلاف القلب المريض بالشهوة؛ فإنه لضعفه يميل إلى ما يعرض له من ذلك بحسب قوة المرض وضعفه، فإذا خضعن بالقول طمع الذي في قلبه مرض.
والقرآن شفاء لما في الصدور ومن في قلبه أمراض الشبهات والشهوات؛ ففيه من البينات ما يزيل الحق من الباطل، فيزيل أمراض الشبهة المفسدة للعلم والتصور والإدراك بحيث يرى الأشياء على ما هي عليه، وفيه من الحكمة والموعظة الحسنة بالترغيب والترهيب والقصص التي فيها عبرة ما يوجب صلاح القلب؛ فيرغب القلب فيما ينفعه ويرغب عما يضره، فيبقى القلب محبًّا للرشاد مبغضًا للغي بعد أن كان مريدًا للغي مبغضًا للرشاد.
فالقرآن مزيل للأمراض الموجبة للإرادات الفاسدة حتى يصلح القلب فتصلح إرادته، ويعود إلى فطرته التي فطر عليها كما يعود البدن إلى الحال الطبيعي، ويغتذي القلب من الإيمان والقرآن بما يزكيه ويؤيده كما يغتذي البدن بما ينميه ويقوّمه؛ فإن زكاة القلب مثل نماء البدن”([3]).
وفي هذه الورقة سنعرض للفطرة السوية التي فطر الله الإنسان عليها، ونبحث في حقيقتها وسماتها ونبرز قوتها وضرورة التشبث بها ممن سلمت فطرته والرجوع إليها ممن انتكست فطرته.
تمهيد:
لقد خلق الإنسان ومعه أجهزته الجسدية التي بها يعيش، ففي جسده أجهزة استشعار وأجهزة حماية وأجهزة تنشيط وأجهزة نمو تحافظ عليه وتعينه على النمو والبقاء، وتحفظ له صحته، فكل عاقل يدرك أن الخالق الذي خلقه أودع فيه أجهزةً تعمل على بقائه ومستعدّة للعمل على نموه، فأجهزة الطعام -على سبيل المثال- مستعدة لأنواع المطعومات الصحيحة، وتفرق بين ما يقوّم الجسد وينميه وبين ما يفسد الجسد ويُضعفه، وتتصرّف مع كل نوع من الطعام بما يتناسب معه، وليس ذلك من صنع الإنسان، بل من صنع الله {الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ} [النمل: 88]،.
وكما أن الجسدَ أُودع فيه ما يحافظ عليه فكذلك القلب أُودع فيه ما يحافظ على صحته ويقيه الأمراض والآفات والعلل، فالله سبحانه خلق الإنسان وأودع فيه فطرةً نقيةً خالصةً ترشده إلى الغاية التي خلق من أجلها، وجعلها “مستعدة لإدراك الحقائق ومعرفتها، ولولا ما في القلوب من الاستعداد لمعرفة الحقائق لم يمكن النظر والاستدلال والخطاب والكلام والفهم والإفهام، وكما أنه سبحانه جعل الأبدان مستعدة للاغتذاء بالطعام والشراب ولولا ذاك لما أمكن تغذيتها وتربيتها، وكما أن في الأبدان قوة تفرق بين الغذاء الملائم والمنافي ففي القلوب قوة تفرق بين الحق والباطل أعظم من ذلك”([4]).
ولا شك أنك -أخي القارئ- بعد أن عرفت هذا الجهاز الفكري ذا الأهمية البالغة تتساءل: ما الفطرة؟
حقيقة الفطرة؟
المقصود بالفطرة: أن الإنسان يولد على نوع من الجِبِلَّة والطبع المتهَيِّئ لقبول الدين الحقّ وهو دين الإسلام([5]). فالخلقة والهيئة التي يولد عليها الإنسان معدة ومهيأة لاستقبال الرسالات السماوية وأخبار الوحي؛ وهي كذلك مهيأة للتمييز بين المخلوقات ومزودة بالمبادئ الأولية الضرورية مما يستدلّ به على خالقه ومعبوده، ويعرف شرائعه، ويؤمن به([6])، وهذا المعنى متوافق مع اللغة أيضا([7]).
والمقصود بهذا أنها موجودة بالقوة في نفس الإنسان منذ ولادته، لا أنها متحقّقة بالفعل، فالله تعالى خلق البشر لا يعلمون شيئًا، ولكن في نفسه ما يرشده إلى العلم الصحيح بما وهبه من السمع والبصر والفؤاد، فالإنسان مفطور على التسليم بالحقّ بمجرد تصوّره ومعرفته بحيث لا يحتاج إلى برهان، ومفطور على العمل بموجبه بمجرد ذلك؛ لأن الغريزة العقلية تقتضيها بالضرورة([8]).
قال أبو شامة: “أصل الفطرة: الخلقة المبتدأة، ومنه {فَاطِر السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} أي: المبتدئ خلقَهنَّ، وقوله صلى الله عليه وسلم: «كلّ مولود يولد على الفطرة»([9]) أي: على ما ابتدأ الله خلقه عليه… والمعنى: أن كلَّ أحد لو تُرِك من وقت ولادته وما يؤدّيه إليه نظره لأداه إلى الدين الحق وهو التوحيد“([10]). ولما كان الأمر بهذه المثابة نجد أن من العلماء من فسرها بأنه دين الإسلام؛ لأن الفطرة السوية ستقوده إليه ولا غرابة، قال ابن حجر (852هـ): “وأشهر الأقوال أنّ المراد بالفطرة الإسلام”([11])، ثم نقل عن ابن عبد البر (463هـ) قوله: “وهو المعروف عند عامة السلف، وأجمع أهل العلم بالتأويل على أن المراد بقوله تعالى: {فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا} [الروم: 30]: الإسلام”([12]).
وهناك من فسر الفطرة بأنها مجرد السلامة من غير انقياد إلى الحقّ وإلى الإسلام، وقائل هذا القول إن أراد به “أنهم خُلِقوا خَالِين من المعرفة والإنكار، من غير أن تكون الفطرة تقتضي واحدًا منهما، بل يكون القلب كاللّوح الذي يقبل كتابة الإيمان وكتابة الكفر، وليس هو لأحدهما أقبل منه للآخر… فهذا قول فاسد؛ لأنه حينئذٍ لا فرق بالنسبة إلى الفطرة بين المعرفة والإنكار، والتهويد والتنصير والإسلام، وإنما ذلك بحسب الأسباب”([13]).
سمات الفطرة:
تتَّسم الفطرةُ البشرية التي فطر الله الناس عليها بعدة سمات منها ([14]):
- أنها كامنة في النفس لا تحتاج إلى شيء من خارجه: فالفطرة جهاز كامن في النفس البشرية يهتدي به إلى الحق، ويستضيء به في طريق الحياة، ويميز به بين اللوحات الإرشادية الحقة واللوحات الزائفة التي لا تمثل الحقَّ، ومن هنا نجد الحق تعالى يدعو إلى ملازمة هدي هذا الجهاز: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ} [الروم: 30]، فهذا أمر صريح من المولى سبحانه وتعالى بلزوم هذه الفطرة التي فطرنا عليها من معرفته وتوحيده بصيغة الحثّ والترغيب([15]).
- أنه لا حاجة إلى تعلمها والتدرّب عليها: فما دام سلَّمنا أنها كامنة في النفس فالإنسان يدركها بمجرد تصورها، ويعمل بموجبها بمجرد ذلك، ولا حاجة إلى النظر في أدلتها وحججها وبراهينها حتى يصدّق بها، بل إن مجرد إدراكها وتصوّرها كاف لليقين بها، بل كلُّ إنسان يسلّم بها بمجرّد تصوّرها، فهي تلزم “نفس العبد لزومًا لا يمكن معه دفعه عن نفسه”([16])، ومن ذلك معرفة الله تعالى، فهي فطريةٌ بديهيةٌ ضروريةٌ لا تحتاج إلى تعلم ونظر واستدلال([17]).
- أنه يستدل بها ولا يستدلّ عليها؛ لأن القضايا الفطرية قضايا تسليمية([18])، ولا يمكن الشكّ فيها أو تصوّر نقيضها؛ لأنها مقتضى غريزة الإنسان العقلية، ومقتضى خلقته وفطرته التي خلق عليها، ولا يتمكّن من مقاومتها، ولأنها أساس الاستدلال التي عليها تُبْنى المعارف والعلوم بإجماع العقلاء([19]).
- أن أحكامها عامة غالبة في البشرية وهي الأصل فيه: فالقضايا الفطرية قضايا مسلَّمة ضروريةٌ، يسلِّم بها الناس عامة إلا النادر منهم، فلا نزاع فيها، كوعي الإنسان بنفسه وبذاته وبتفكيره وبقراءته ما يقرأ وهكذا، وعلم الإنسان بأن كلَّ حادث له سبب، فكلّ إنسان إذا أوذِي وضُرِب مثلًا لا ينفكّ عن البحث عن الفاعل وعن السبب الذي منه الأذى، ولا يقبل عقلُه أن يقال: إن ذلك الأذى ليس له سبب وليس له فاعل وإنما حصل عبثًا هكذا. وقد ضرب ابن تيمية (728هـ) لهذا الحكم العامّ مثلًا يوضِّحه فقال: “لو لم تقتض الفطرةُ الأكلَ عند الجوع -مع القدرة عليه- لم يوجد الأكل إلا بسبب منفصل… والطفل مفطور على أن يختار شربَ اللبن بنفسه، فإذا تمكَّن من الثدي لزم أن يرتضع لا محالة، فارتضاعه ضروريّ إذا لم يوجد معارض، وهو مولود على أن يرتضع، فكذلك هو مولود على أن يعرف الله، والمعرفة ضرورية له لا محالة إذا لم يوجد معارض”([20]). ومن هنا نجد أن جميع الناس “يتمادحون بالشجاعة والكرم، حتى إن ذلك عامة ما يمدح به الشعراء في شعرهم، وكذلك يتذامّون بالبخل والجبن، والقضايا التي يتفق عليها بنو آدم لا تكون إلا حقًّا، كاتفاقهم على مدح الصدق والعدل، وذم الكذب والظلم”([21])، ولكن هذه القضايا قد يعرض لها ما يحجبها، ومن هنا يتفاوت الناس في إدراكها وفي العمل بها.
- أنها مريحة للوجدان: فالأمور الفطريّة ترتاح لها القلوب وتذعن لها، بعكس من ينادي بما يضادّ الفطرة؛ ولذا كانت الدعوة إلى الشّرك والخرافات أمورًا مستشنعة في نفسها لو أدركها الإنسان وتصوّرها حقّ التصور؛ لأنها مناقضة للفطرة، وعلى العكس من ذلك فإن القرآن فيه شفاء للصدور وراحة للأفئدة والوجدان؛ ولذا قال تعالى: {لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ} [الحشر: 21]، ففيه البينات المزيلة للشبهات والمواعظ والإرشادات المنقِّية من الشهوات([22]).
- أنها متسقة مع الأذهان: فالأجهزة الأخرى المودَعَة في جسم الإنسان متَّفِقة مع جهاز الفطرة، فكما أن الجهاز الهضمي متناغم مع الجهاز الإخراجي وجهاز الدورة الدموية وغيرها من الأجهزة، فكذلك الجهاز الفطريّ متَّفق ومتناسق مع الأجهزة الأخرى كالعقل والحسّ، فهي مساندة للفطرة في الوصول للحقّ، وموقظة لها في حال غيابها وغفلتها، وكلها سبل وطرائق متضافرة موصلة إلى الحقيقة الكامنة في النفس، ذلك أن {الرَّحْمَنُ (1) عَلَّمَ الْقُرْآنَ (2) خَلَقَ الْإِنْسَانَ (3) عَلَّمَهُ الْبَيَانَ} [الرحمن: 1-4]، فمن خلق الإنسان وأودع فيه الفطرة هو الذي خلق فيه العقل وأنزل الشرع، وهو ما أكّد عليه ابن كثير وهو يفسّر آية الفطرة بقوله: “فسدِّد وجهك واستمرّ على الدين الذي شرعه الله لك من الحنيفية ملّة إبراهيم، الذي هداك الله لها وكمّلها لك غاية الكمال، وأنت مع ذلك لازم فطرتك السليمة التي فطر الله الخلق عليها؛ فإنه تعالى فطر خلقه على معرفته وتوحيده، وأنه لا إله غيره”([23]).
- أنها سهلة يسيرة الفهم مناسبة لكل المستويات: فمن أهمّ سمات الفطرة سهولتها ويُسرها، فعامة الناس لا يقوَون على الغوص في دقائق الأدلة وجليل العلل، ولكن القضايا الفطرية ظاهرة وأحكامها واضحة معلومة لكلّ أحد، فلا أحد ينكرها ولا أحد يحرّف شيئًا من أحكامها، فلا أحد يجهد في إدراك النهار وطلوع الشمس؛ لأنها قضية فطرية مسلَّمة عند البشرية جمعاء، ولا نقاش مع من يقرّ بها، وإنما النقاش مع ينكرها، وكذلك الحال مع القضايا الفطرية الأخرى ككون كل مسبَّب لا بدّ له من سبب، وكون الواحد نصف الاثنين، وغيرها من الأمور البدهية التي يدركها البشر بمجرد تصورها، ولا تكدّ الأذهان في طلب معرفتها.
- أنها قريبة المأخذ أي: أن الإنسان لا يعاني في الإحاطة بحقيقتها واستيعابها كما يعاني في غيرها كما هو الحال مع القضايا الفلسفية على سبيل المثال، ويعود السبب إلى أنها مستقاة من داخل النفس البشرية وكامنة فيها ومتناسقة معها، وهذا مطلب الناس كلّهم إلا من انحرف عن فطرته، “فكما أن الحركة كحركة الحجر تطلب مركزها بأقصر طريق -وهو الخط المستقيم- فالطلب الإرادي الذي يقوم بقلوب العباد كيف يعدل عن الصراط المستقيم القريب إلى طريق منحرف طويل. والله تعالى فطر عباده على الصحة والاستقامة إلا من اجتالته الشياطين فأخرجته عن فطرته التي فطر عليها”([24])، ولكن إذا فسدت فطرة الإنسان قد لا يقنع إلا بالطرق المعوجَّة الوعِرة الطويلة([25]).
- أنها موصلة إلى المطلوب: فالإنسان يبحث عن الدليل من أجل الوصول إلى المدلول، لا من أجل الفذلكة في الدليل نفسه وصياغته ومقدّماته وعناصره، وإنما من أجل الوصول إلى المدلول فهو الغاية منه، ومن هنا قال العلماء: “الدليل والبرهان هو المرشد إلى المطلوب والموصل إلى المقصود، وكلما كان مستلزما لغيره فإنه يمكن أن يستدل به عليه… فالمقصود أن كلّ ما كان مستلزما لغيره بحيث يكون ملزوما له؛ فإنه يكون دليلا عليه وبرهانا له“([26]).
- أنها منتهى العلوم وغاياتها: فمن بلغ من العلم منتهاه وتخصّص فيه حتى أحاط بجذوره وفروعه أيقن بيقينية القضايا الفطرة، وهذا يذكّرنا بتلك العبارات التي كان يردّدها فطاحلة المتكلمين من ضرورة العودة إلى الفطرة، كما قال إمام الحررمين أبو المعالي الجويني عند موته: “لقد خُضت البحر الخِضَمّ، وخلَّيت أهل الإسلام وعلومَهم، ودخلت فيما نهَوني عنه، والآن إن لم يتداركني ربي برحمته فالويل لابن الجويني، وها أنا ذا أموت على عقيدة أمي”([27]). ومقصوده أنه لم يجد عند الفلاسفة والمتكلمين إلا الحيرة والندم، يقول ابن تيمية رحمه الله: “ومن أحكم العلوم حتى أحاط بغاياتها ردَّه ذلك إلى تقرير الفِطر على بداياتها، وإنما بعثت الرسل لتكميل الفطرة لا لتغييرها، {فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ} [الروم: 30]”([28]).
الفطرة في الكتاب والسنة:
لقد وردت الفطرة في نصوص كثيرة من نصوص الكتاب والسنة مؤكِّدة على وجوب التمسك بموجبها وما فيها، ومن ذلك:
- قول الله تعالى: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ} [الروم: 30] أي: “فسدِّد وجهك واستمرَّ على الدين الذي شرعه الله لك من الحنيفية ملة إبراهيم، الذي هداك الله لها وكمّلها لك غاية الكمال، وأنت مع ذلك لازم فطرتك السليمة التي فطر الله الخلق عليها؛ فإنه تعالى فطر خلقه على معرفته وتوحيده، وأنه لا إله غيره”([29]). فهذا أمر صريح من المولى سبحانه وتعالى بلزوم هذه الفطرة التي فطرنا عليها من معرفته وتوحيده بصيغة الحثّ والترغيب([30]).
- قوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ} [الأعراف: 172]، وعلى الرغم من اختلاف المفسرين في هذه الآية حيث أكد بعضهم على أنها قصّة حقيقية واقعية، وأن الإشهاد كانَ حقيقةً في عالم الذرّ، ونفَى بعضهم كونها حقيقة وإنما هي كناية عن خلقهم على هيئة يقرّون معها بالله سبحانه وتعالى، أقول: على الرغم من هذا الاختلاف إلا أنهم متّفقون على أن البشرية مفطورة على الاعتراف بالله سبحانه وتعالى والإقرار بوحدانيته وربوبيته للخلق وألوهيته واستحقاقه العبادة وحده لا شريك له، فهذه قضية محكمة فطرية([31]).
- ومن أهم الأحاديث والآثار الواردة في ذلك ما جاء من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ما من مولود إلا يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه وينصرانه أو يمجسانه، كما تُنتِج البهيمة بهيمة جمعاء، هل تحسون فيها من جدعاء؟»، ثم يقول أبو هريرة رضي الله عنه: {فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ} [الروم: 30]([32]). ولا تعارض هنا بين هذا وبين تقدير الله سبحانه وتعالى، “فالمولود ولد على الفطرة سليمًا، وولد على أن هذه الفطرة السليمة يغيّرها الأبوان، كما قدر الله تعالى ذلك وكتبه، كما مثل النبي صلى الله عليه وسلم ذلك بقوله: «كما تُنتِج البهيمة بهيمةً جمعاء، هل تحسون فيها من جدعاء؟»، فبيّن أن البهيمة تولَد سليمة، ثم يجدعها الناس، وذلك بقضاء الله وقدره، فكذلك المولود يولد على الفطرة سليمًا، ثم يفسدِه أبواه، وذلك أيضًا بقضاء الله وقدره”([33]).
- ومن ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم: «ألا إن ربي أمرني أن أعلمكم ما جهلتم، مما علمني يومي هذا: كل مال نحلته عبدا حلال، وإني خلقت عبادي حنفاء كلّهم، وإنهم أتتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم، وحرَّمت عليهم ما أحللتُ لهم، وأمَرَتهم أن يشركوا بي ما لم أنزل به سلطانا…»([34])، “فالحنيفية: الإسلام”([35])، “والحنيف في كلام العرب: المستقيم المخلص، ولا استقامة أكثر من الإسلام”([36]). قال ابن تيمية رحمه الله: “وهذا صريح في أنه خلقَهم على الحنيفية، وأن الشياطين اجتالتهم بعد ذلك”([37]).
قضايا فطرية من الكتاب والسنة:
ومن تأمل هذه النصوص الواردة في الفطرة يستطيع استنباط مجموعة من القضايا الفطرية الكامنة في النفوس، ومنها:
- فطرية معرفة الله سبحانه وتعالى وتوحيده واللجأ إليه وعبادته، فأهل السنة يؤكّدون على أن معرفة الله تعالى فطريةٌ بديهيةٌ ضروريةٌ، وليس هو في حاجة إلى البحث والنظر والأدلة، بل هذه المعرفة كامنة في نفسه وفطرته([38])، وهذا لا يعني أن البحث والنظر والاستدلال لا أثر له في مؤازرة هذه الفطرة وهذه المعرفة، بل على العكس من ذلك، يفوز الإنسان مع كلّ العوامل السابقة بإعماله العقل ونظره في الأدلة، فيزداد يقينًا على يقينه وإيمانًا على إيمانه.
وفي ذات الوقت: لا يعني هذا التقرير الذي قعّدناه أن كل إنسان لا بدّ أن تكون عنده هذه المعرفة حاضرة، بل قد يشوب هذه الفطرةَ ما يشوبها من التضليلات والشبهات والتشكيكات؛ ما يجعلها مغمورة في وسط تلك المدلهمّات، ويكون الإنسان بحاجة في تلك الظلمات إلى سراج يضيء له طريق الفطرة وينير له ما أظلم عليه منها، سواء بالبحث والنظر والتأمل والتفكر في نوع من أنواع الأدلة، أو بالدعاء والإلحاح، أو بغيرها، فقد يحتاج الإنسان إلى إيقاظ هذا المعنى الفطري الكامن في النفس([39]). ومن حكمة المولى سبحانه وتعالى أنه لم يحصر الدلالة عليه في الفطرة فيَهلَك من أظلم عليه هذا الطريق، بل جعل أنوارًا عدة تضيء طريق معرفته سبحانه للبشر؛ من عقل ونظر وفطرة ومشاهدة وآيات ورسل وأنبياء وعِبر؛ فالأدلةُ الدالةُ على وجوده سبحانه وتعالى كثيرة متنوعة([40])، بخلاف ما يدعيه من أخطأ في هذا الباب([41]).
- فطرية توحيد الله تعالى، فكما أن الإنسان يهتدي بفطرته لو خُلّي بينه وبينها إلى معرفة الله سبحانه وتعالى، فإنه كذلك يهتدي إلى توحيده؛ ومن هنا ردَّ القرآن من زاغ في باب التوحيد وشكّ فيه إلى فطرته حين قال تعالى: {أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [إبراهيم: 10]، أي: أفي إلهيته وتفرُّده بوجوب العبادة شكّ؟! ولا يستحق العبادة إلا هو وحده لا شريك له؛ فإن غالب الأمم كانت مقرة بالصانع ([42]).
- فطرية التديّن، فالإنسان يجد من نفسه افتقارًا إلى إله يعبدُه ويخضع له، ويلجأ إليه في الشدائد ويثني عليه في الموائد، ويتلهَّف إلى عونه وتدبيره ومدَده، وتنجلي هذه الغريزة إذا ادلهمَّت الخطوب على الإنسان كما يقول تعالى: {حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [يونس: 22]. ومن العجيب أن الدراسات الغربية الحديثة لا تعترف بهذا صراحةً، وتحاول تفسيره تفسيرًا ماديًّا طبيعيًّا تطوّريًّا، وتعترف ضمنًا بأن التدين فطرة في الإنسان، ولكنها تزعم أنّ المسؤول عن ذلك جينٌ من جيناتِه ولكن بِلغة أخرى، فهناك كثير من الدراسات التي تُجرَى على هذه الغريزة حتى صار يُبحث عن جين موجود في نفس الإنسان مسؤول عن التدين!([43]). إذن “لا بدّ من إله معين، محبوب لذاته من كلّ حي، ومن الممتنع أن يكون هذا غير الله، فلزم أن يكون هو الله، وأن كل إنسان ولد على محبته سبحانه وتعالى”([44]).
- فطرية البحث عن المعنى، فكلّ إنسان يجد من نفسه ضرورة أن لوجوده غاية، وأنه وُجد لهدف، ولا يرضى الإنسان لعقله بأن يتخيّل صناعة جهاز صغير بلا فائدة، فكيف يُعقل أن ترضى نفسه بالقول بأن لا فائدة من وجوده؟!
فالإنسان لا محالة مريد همّام كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم: «أصدق الأسماء حارث وهمام»([45])، وهذا الهمّ وهذه الإرادة لا شكّ سيقودانه إلى البحث عن الأسئلة الكبرى وأجوبتها التي لا جواب شافي لها إلا في دين الإسلام، فالله خلقنا لنعبده، {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ} [آل عمران: 185]، {وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ} [الحديد: 20].
- فطرية النَّزْعَة الأَخلاقيَّة، والمقصود بذلك أن في النفس البشرية شعورًا فطريًّا تميّز به بين الخير والشر، والحسن والقبيح، فكل إنسان على وجه البسيطة يقرّ ضرورة بأن العدل مطلب وقيمة عليا، ولا يرضى بأن يعامَل إلا بالعدل، ولا يرضى على نفسه بالظلم، ويقرّ بأن العدل هو الخير وهو الحسن، وكذلك الحال مع الصدق، فلا يرضى أحد من الناسِ أن يعامل إلا بالصدق، ولا يرضى أنّ تعامِله بالكذب والغشّ والخداع، وكل إنسان يحب العدل والصدق وينفر من الظلم والكذب([46]).
- فطرية المبادئ العقلية الأولية وهي: “القضايا التي يصدّق بها العقل الصريح لذاته ولغريزته”([47])، كمبدأ الهوية، ومبدأ عدم التناقض، ومبدأ السببية([48])، فهذه المبادئ بالإضافة إلى أنها مسلَّمات عقلية هي أيضا قضايا فطرية، فكلُّ إنسان يسلِّم بها بمجرّد تصوّرها، وهي موجودة في الإنسان بالقوة منذ ولادته، فالإنسان مفطور على التسليم بها بمجرد تصورها بحيث لا يحتاج إلى برهان؛ لأن الغريزة العقلية تقتضيها بالضرورة([49]).
الخاتمة:
الحجة الفطرية من أقوى الحجج المؤثرة على النفس البشرية، وتميُّزها بسهولتها ويسر فهمها ووصولها إلى المطلوب وقرب مأخذها وكمونها في النفس وكونها مبتدأ العلوم ومبتدأ كل دليل يجعل من الفطرة دليلًا مهمًّا يتشبّث به المسلم خاصّة في كل أحواله، في الرخاء وفي الشدة؛ لتكون له كالبوصلة الضابطة لسيره، والميزان الذي يزن به تصوراته وتصرفاته، وفي الوحي الإلهي كمٌّ هائل من الاستدلال بالفطرة والإلزام بلوازمها والرد إلى مسلَّماتها وقضاياها؛ إذ الفطرة الأصيلة يمكن أن تبصِّر طالب الهدى في أيّ لحظة، ويمكن أن تستثار وتوقَظ فيمن عمي عنها في أي لحظة، فيوقن بالحق ويعرض عن الباطل.
فقلب الإنسان “إنما خلق لأجل حب الله تعالى، وهذه الفطرة التي فطر الله عليها عباده… فالله سبحانه فطر عباده على محبته وعبادته وحده؛ فإذا تركت الفطرة بلا فساد كان القلب عارفًا بالله محبًّا له عابدًا له وحده”([50]).
وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(المراجع)
([1]) مجموع الفتاوى (10/ 134).
([2]) مجموع الفتاوى (10/ 93) بتصرف يسير.
([4]) الصواعق المرسلة (3/ 1112).
([5]) في تعريف الفطرة أقوال للعلماء، وما ذكرته هو مذهب عامّة السلف وعامة أهل التأويل في تفسير آية الروم. ينظر: شرح النووي على مسلم (16/ 208)، درء تعارض العقل والنقل (3/ 303)، فتح الباري لابن حجر (3/ 248).
([6]) ينظر: المحرر الوجيز لابن عطية (4/ 336).
([7]) ينظر مادة (فطر) في: لسان العرب (5/ 55-56)، تاج العروس (13/ 325-326)، مقاييس اللغة لابن فارس (4/ 510).
([8]) ينظر: المعرفة في الإسلام لعبد الله القرني (ص: 203).
([9]) أخرجه البخاري (1359)، ومسلم (6926).
([10]) ينظر: فتح الباري لابن حجر (10/ 339).
([12]) التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد (18/ 72).
([13]) درء تعارض العقل والنقل (8/ 444).
([14]) ينظر: قواعد وضوابط منهجية للردود العقدية، أحمد قوشتي عبد الرحيم (1/ 491). وقد أفدت منها في هذه الورقة.
([15]) ينظر: تفسير البغوي (6/ 269).
([16]) درء تعارض العقل والنقل (6/ 106).
([17]) ينظر: بيان تلبيس الجهمية (4/ 570).
([18]) ينظر: الفصل في الملل لابن حزم (5/ 109)، درء التعارض (3/ 903).
([19]) ينظر: درء تعارض العقل والنقل (6/ 106).
([20]) درء تعارض العقل والنقل (8/ 448).
([22]) ينظر: مجموع الفتاوى (10/ 93).
([23]) تفسير ابن كثير (6/ 313) بتصرف.
([24]) مجموع الفتاوى (6/ 569).
([25]) ينظر: درء تعارض العقل والنقل (3/ 73).
([26]) مجموع الفتاوى (9/ 209).
([28]) مجموع الفتاوى (31/ 105).
([29]) تفسير ابن كثير (6/ 313) بتصرف.
([30]) ينظر: تفسير البغوي (6/ 269).
([31]) ينظر: فتح القدير للشوكاني (2/ 299). وللاستزادة في معنى الآية والأقوال ينظر: إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم (3/ 290)، تفسير البغوي (3/ 300).
([32]) أخرجه البخاري (1359)، ومسلم (6926).
([33]) درء تعارض العقل والنقل (8/ 361).
([35]) ينظر: شرح النووي على صحيح مسلم (17/ 197).
([36]) شفاء العليل لابن القيم (ص: 286)
([37]) درء تعارض العقل والنقل (8/ 363).
([38]) ينظر: بيان تلبيس الجهمية (4/ 570).
([39]) ينظر: درء تعارض العقل والنقل (3/ 303).
([40]) ينظر: درء تعارض العقل والنقل (3/ 303).
([41]) وهذا ما أخطأ فيه عامة المتكلمين؛ إذ زعموا أن معرفة الله نظرية لا فطرية، وأوجبوا النظر وكفَّروا المقلّد، وبنوا على ذلك مجموعة من الضلالات. ينظر: شرح الأصول الخمسة للقاضي عبد الجبار (ص: 39)، الإنصاف للقاضي الباقلاني (ص: 22)، الإرشاد لإمام الحرمين الجويني (ص: 3)، المواقف للإيجي (ص: 32).
([42]) ينظر: تفسير ابن كثير (4/ 482).
([43]) ينظر: شموع النهار للشيخ عبد الله العجيري (ص: 32).
([44]) درء تعارض العقل والنقل (8/ 464) وما بعدها.
([45]) أخرجه أبو داود (4952)، وصححه الألباني.
([46]) ينظر: مجموع الفتاوى لابن تيمية (11/ 347)، مدراج السالكين لابن القيم (1/ 230)، المعرفة في الإسلام للدكتور عبد الله القرني (ص: 265).
([47]) البصائر النصيرية للساوي (ص: 139).
([48]) ينظر: المعرفة في الإسلام، عبد الله القرني (ص: 298)، الأسس المنهجية لنقد الأديان، محمد بسيس السفياني (1/ 158).