مفهومُ البُغاةِ ..بين تحقيق الفقهاء وغرائب المعاصرين
للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة
من المعلوم أنَّ المصطلحات تحمل في طياتها حمولةً ثقافية تعبِّر عن مضامينها داخلَ الحقل المعرفي الذي وُلدت فيه، وضمن البيئة الثقافية المنشِئة لها، ومن ثم فإنّ التعامل معها بالتبسيط أو التحوير يُخرجها عن دلالتها ويجعَلها عرضةً للتلاعب من كلّ من يبحث بحثًا غير جادٍّ، ويروم من خلاله الوصولَ إلى نتائج مسبَقة لا تسمح الآليات الموضوعية بالوصول إليها، فلم يكن بدّ من التكلّم بلسان الشرع وبلغَة الفقه؛ لكن يتمّ تفسير المصطلحات على خلاف مراِد واضعيها، أو المطالبة بتمديد صلاحياتها حتى تتداخل مع مفاهيم أخرى ذات استقلالية تامّة ودلالة خاصّة، والتعدّد في استخدام المصطلح في مجالات مختلفة يورث الترادُف إن اتفقت المعاني، كما يؤدّي إلى الاشتراك في حالة اختلافها، وهو إجمال لا يتناسَب مع لغة التخاطُب التي يُقصَد منها الإفهامُ والتبيين.
ومن المصطلحات التي سعى البعضُ إلى جعلها ذاتَ دلالة مزدوَجة ليتمَّ التلطيخ بها ومنح الشرعية لقطاعات معيّنة وسحبها من أخرى مصطلح البغاة والبغي.
وقد اتُّهمَ الفقهاء في استخدام المصطلح استخدامًا متحيِّزا، وهذه تهمةٌ تجعَل جميعَ فقهاء الأمّة في قفص الاتهام حتى مَن وقف منهم ضدَّ الحكام، ولم ير في وقوفه مناقضةً للمصطلح، ولا حاجة إلى إعادة صياغته كما يريد المتحمِّسون للثورات التي لم تعُد ثورةً على الحكام الظَّلَمة بقدرِ ما هي ثورةٌ في بعض تجلّياتها على بعض نصوص الشرع وأحكامه، وبنفس الطريقة الانفعالية في الخروج على القوانين يمارس المفكِّرون الخروجَ على المصطلحات الشرعية وإعادة صياغتها وتعيين دلالة جديدة لها؛ لكي تتناسب مع كلّ فعل ثوريّ يقوم به منفعل أو مظلوم يريدُ حقَّه، ويُعميه طلبُه عن الوسائل الشرعيّة في استرجاعِه، ويرى في انتظار الحكم الشرعيّ تفويتًا للفرصة، فلا يجد المفكّر بدًّا من تدارك هذه العجلة إلا بالتعامل بمحاذَرة وندِّيَّة مع مصطلحات الفقهاء التي لا تتوافق مع متطلَّبات الثورة توافقًا من كل الوجوه.
ومع مرارة الواقع وتشتُّت الكلمة وتناقض الأحداث والأهداف ووجودِ شبكة من المصطلحات ذات الدلالة السائلة لا يمكِن لمن يريد البحثَ الجادَّ في الشرع إلا أن يحرِّر المصطلحات الشرعية تحريرًا تتبين به حدود الله؛ حتى لا يتعدّاها الناس أو يقربوها، ومن الحدود التي تكلَّمت عنها الشريعة حدُّ البغاة، فلزم أن نعرفَ معنى البغي ثم البغاة ثم طريقة الشريعة التي قررتها النصوص الشرعية وفسَّرها العلماء في التعامل مع البغاة.
وأحكام البغاةِ متداولَة في كتب الفقه الإسلامي كلِّها، فكلّ منِ اعتنى بالأحكام الشرعية العلمية تناولها، سواء في التفسير أو في الحديث أو في الفقه أو في السياسة الشرعية والقضاء، وهي مفصَّلة تفصيلًا كليًّا ومبيَّنة الشروط في الكتب؛ لذلك فالادعاء فيها من السهل الاستدراك عليه؛ لأنّه ما من فقيه مشهور ألّف في الفقه عموما إلا وله رأي مسجَّل فيها، وقد أفردها بالكلام.
وقد أفردها بعض الباحثين المعاصرين بالتأليف، فمن أوسع البحوث التي أفردتها بالتأليف رسالة ماجستير مقدَّمة بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية بعنوان: “أحكام البغاة في الشريعة الإسلامية” لمؤلفها أمان الله محمد صديق، وهذا البحث جيّد، لكنه ألِّف من أجل بيان أحكامها وما يترتب عليها، وليس من أجل الدفاع عن الحكم أو الردِّ على الدعاوى حوله، ومع ذلك فقد تناول كثيرًا من الأحكام الفقهية المتعلِّقة بها، ونحن في هذه الورقة العلمية نبين مفهوم البغاةِ في الاصطلاح الفقهيّ، وهل هو تحيّز للسلطان أم تمسّك بالنصوص الشرعية، ونرد على الشُّبَه الواردة فيه، ونبدأ ببيان المفهوم:
المبحث الأول: مفهوم البغاة لغة وشرعا:
في هذا المبحث نتناول التعريفَ اللغوي والاصطلاحي لهذا المفهوم، ولا شكّ أن تعدُّده في الإطلاق الشرعي وتنصيص الفقهاء على هذا التعدّد يدلّ بوضوح على عدم التحيز.
البغي لغة: “التعدي. وبغى الرجل على الرجل: استطال. وبغت السماء: اشتدَّ مطرها، حكاها أبو عبيد. وبغى الجرح: ورم وترامى إلى فساد. وبغى الوالي ظلم. وكلّ مجاوزة في الحدّ وإفراط على المقدار الذي هو حدّ الشيء فهو بغيٌ. وبرئ جرحه على بغى، وهو أن يبرأ وفيه شيء من نغل”([1]). وفلان يبغي على الناس إذا ظَلمهم وطلب أذاهم. والفئة الباغية: هي الظالمة الخارجة عن طاعة الإمام العادل([2]).
والبغي في الاصطلاح الشرعي: مأخوذ من المادّة اللغوية، وهو مستخدم في الشرع لمعانٍ:
الإطلاق الأول: الظلم، قال سبحانه: {إِذْ دَخَلُوا عَلَى دَاوُودَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قَالُوا لاَ تَخَفْ خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ فَاحْكُم بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَلاَ تُشْطِطْ وَاهْدِنَا إِلَى سَوَاء الصِّرَاطِ} [ص: 22]. فكل من ظلم أو حسد فهو باغ، فظلم الوالي للناس يسمَّى بغيًا. ومن إطلاق البغي بمعنى الظلم قوله: {ذَلِكَ وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنصُرَنَّهُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ} [الحج: 60]، ومنه قوله تعالى: {إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُوْلَئِكَ لَهُم عَذَابٌ أَلِيمٌ} [الشورى: 42]. قال ابن عطية: “المعنى {إِنَّمَا السَّبِيلُ} الحكم والإثم {عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ} أي: الذين يضعون الأشياء غير مواضعها من القتل وأخذ المال والأذى باليد وباللسان، والبغي {بِغَيْرِ الحَقِّ} وهو نوع من أنواع الظلم، خصه بالذكر تنبيها على شدته وسوء حال صاحبه، ثم توعدهم تعالى بالعذاب الأليم في الآخرة”([3]).
الإطلاق الثاني: الطائفة الممتنعة عن الصلح بعد طلبِه منها، وهذا منطوق قوله سبحانه: {وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِن فَاءتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} [الحجرات: 9]. قال ابن الجوزي: “{فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا} طلبت ما ليس لها ولم ترجع إلى الصلح، {فَقاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ} أي: تَرْجِع {إِلى أَمْرِ اللَّهِ} أي: إِلى طاعته في الصلح الذي أمر به”([4]).
ويمكن ملاحظةُ أمرٍ عند المفسّرين والمحدثين والفقهاء: ففي تناولهم للآية لا يخصّون البغي بجماعة من الناس، وإنما كلّ خروج على سلطان الشريعة هو بغي؛ فلذلك قد تقتتل طائفتان من الناس ويحقّ وصف البغي لهما جميعًا، ولا يخصّ واحدة دون الأخرى؛ لأن موجب الاقتتال بينهما غير معتبر شرعًا، فيلزمان جميعًا بالشرع، قال القرطبي رحمه الله: “قال العلماء: لا تخلو الفئتان من المسلمين في اقتتالهما، إما أن يقتتلا على سبيل البغي منهما جميعا أو لا. فإن كان الأول فالواجب في ذلك أن يمشَى بينهما بما يصلح ذات البين ويُثمر المكافّة والموادعة. فإن لم تتحاجزا ولم تصطلحا وأقامتا على البغي صِير إلى مقاتلتهما. وأما إن كان الثاني -وهو أن تكون إحداهما باغية على الأخرى- فالواجب أن تقاتَل فئة البغي إلى أن تكفَّ وتتوب، فإن فعلت أصلح بينها وبين المبغي عليها بالقسط والعدل. فإن التحَم القتال بينهما لشبهة دخلت عليهما وكلتاهما عند أنفسهما محقّة، فالواجب إزالة الشبهة بالحجة النيرة والبراهين القاطعة على مراشِد الحقّ. فإن ركبتا متن اللجاج ولم تعملا على شاكلة ما هديتا إليه ونُصحتا به من اتباع الحقّ بعد وضوحه لهما فقد لحقتا بالفئتين الباغيتين”([5]).
الإطلاق الثالث: الفئة المتأوِّلة الخارجة عن طاعة الإمام، ويشترط لأن تكون باغيةً أن تكون جماعة، وأن تكون متأوِّلة تأويلا سائغا، قال المتولِّي: “وإنما اعتُبِرت هذه الصفة؛ لأن مَنْ خالف من غَيْر تأويل كان معاندًا، ومَنْ تمسّك بالتأويل يَطْلُب الحق على اعتقاده فلا يكون معاندًا، فيثبت له نوع حرمةٍ بسُقُوط الضمان وغيره، ومَثَّلَ التأويلَ الحامل على مخالفة الإِمام والخُرُوج عليه بما وقع للذين خَرَجوا عَلَى عليّ رَضِيَ الله عَنْهُ حيث اعتقدوا أَنَّه يَعْرِف قتلَةَ عثْمَان رَضِيَ اللهُ عَنْهُ ويقدر عليْهِم، ولا يقتصُّ منهم لرضاه بقتله، ومواطأته إياهم، ومثل غيره التأويل الحامل على منع الحق بما وقع لبعض مانِعِي الزَّكَاة من أبي بكْرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ حيث قالوا: أمرنا بدَفْع الزكاة إلى مَنْ صلاَتُهُ سَكَنٌ لنا”([6]).
وقال المالكية: “وأما أهل العصبية وأهل الخلاف لسلطانهم بغيا بلا تأويل فيؤخذون بالقصاص ورد المال قائما كان أو فائتا”([7]).
وأن تكون في منعة، فيحتاج في كفهم إلى الجيش، فالواحد والاثنان لا يعدَّان من البغاة؛ لأن المنعة منتفِية في حقّهما، وفي حالة انتفت المنعة والقوة صاروا كقطاع الطريق. واشتراط المنعة والقوة متفق عليه بين الفقهاء([8]).
فحاصل شروط وصفهم بالبغي: أن تتوفر فيهم ثلاثة شروط:
الأول: أن يكونوا في منعة، بأن يكون لهم شوكة بقوة وعدد وبمُطاع فيهم.
الثاني: أن يخرجوا عن قبضة الإمام العادل إما بترك الانقياد له أو بمنع حق توجه عليهم، سواء كان الحق ماليا أو غيرَه كحد وقصاص.
الثالث: أن يكون لهم تأويل سائغ([9]).
وفي التقييد بالإمام العادل دليل على أن غيره ليس كذلك، وهذا ما ينفي تهمة الانحياز، بل الفقهاء مصرِّحون بأنّ غيرَ العادل لا يسمَّى الخارجون عليه بغاةً، وإذا استعانوا بأهل الذمَّة لا ينتقِض عهدُ أهل الذمة، قال المواق من المالكية: “وإن كان السلطانُ غيرَ عادل واستعانوا بأهل الذمة فليس ذلك نقضًا لعهد أهل الذمة”([10]). وسوف نتناول قضية تحريم الخروج وأن مبناها ليس هو مبنى حكم البغاة.
وفي تقييد البغاة بالطائفة الممتنعة والمتأوّلة ما يخرج نوعين من أنواع المعارضة للحاكم:
النوع الأول: معارضةُ قوله الباطل بالقول وردُّه والامتناع عنه سواء مِن فرد أو جماعة، فهذا لا يعدُّ بغيًا.
والنوع الثاني: معارضتُه مع عدم قتالِه، وذلك بالتزام الصّمت وترك التعرّض أو المعاونة، فهذه أمور لا يتناولها الفقه في أحكام البغاة، بل هي داخلة في النّصح وعدَم الطاعة في المعصية المجمَع عليه عند الفقهاء.
المبحث الثاني: الفرق بين البغاة والخوارج:
الدارس لكتب الفقه يجِد أن الفقهاءَ في استخدامهم للفظ البغاة لا يحصرونه في الخوارج، فالبغاة أعمّ من الخوارج؛ لأنّ الخوارج قد يستحلّون من المسلمين ما لا يستحلّه سائر البغاة، وإن كانت أحكام البغاة قد تنطبق على الخوارج، ومن الفروق بينهم:
أنّ الخوارج يكفّرون مرتكبَ الكبيرة، وليس بالضرورة أن يكون البغاة كذلك.
أنّ الخوارج يستحلّون دماء المسلمين وسبيَهم، وليس بالضرورة البغاة كذلك.
الخوارج حثّ النبي صلى الله عليه وسلم على قتلهم وقتالهم بخلاف البغاة.
أنّ الخوارج ترتبط عقيدتهم بالخروج على الإمام وعلى جماعة المسلمين، بينما البغاة قد لا يكون خروجهم على الإمام وامتناعهم عن طاعته إرادةً منهم لعزله أو اعتراضًا على إمامته، بل قد يمتنعون عن طاعتِه لأسباب أخرى ومطالب تخصّهم([11]).
وهذا التفريق من الفقهاء يدلّ على أن مصطلح الخوارج المستخدَم من أجل التلطيخ عند بعض المعاصرين لم يكن مرادًا عند الفقهاء في هذا الباب؛ لأنه مصطلح عقديّ، ويراد من خلاله تبيين مخالفة أهل السنة في الاعتقاد، وليس بالضرورة أن يكون الباغي مخالفًا لأهل السنّة في الاعتقاد، فلا ينسب إلى بدعَة لم يفعلها، وإنما ينسب إلى ما يتبيّن به حكم الشرع فيه، وقد مرّ معنا إطلاق البغاة على من خالف عليًّا رضي الله عنه بتأويل سائغ، ولم ينكر إمامته وإنما امتنع عن طاعته لطلب حقّ يراه متعيّنا، وليس خارجيا.
تفريق الفقهاء بين البغاة والمحاربين والمشركين:
لخص الإمام القرافي المالكي رحمه الله الفروق بينهم، وما نقله القرافي عن ابن بشير رحمهما الله نصّ عليه أهل المذاهب الأخرى، وقد اكتفينا بنقل القرافي للاختصار والجمع قال: “قال ابن بشير يمتاز قتال البغاة على قتال المشركين بأحد عشر وجهًا: أن يقصد بالقتال ردعهم القهريّ، ويكفّ عن مدبِرهم، ولا يجهز على جريحهم، ولا يقتل أسراهم، ولا تغنم أموالهم، ولا تسبى ذراريهم، ولا يستعان عليهم بمشرك، ولا يوادعهم على مال، ولا تنصب عليهم الرعادات، ولا تحرق عليهم المساكن، ولا يقطع شجرهم، وقتال المحاربين قتال البغاة إلا في خمس: يقاتلون مدبرين، ويجوز تعمد قتلهم، ويطالبون بما استهلكوا من دم ومال في الحرب وغيرها، ويجوز حبس أسراهم لاستبراء حالهم، وما أخذوه من الخراج والزكوات لا تسقط عمن كان عليه كالغاصب”([12]).
المبحث الثالث: شروط قتال الفئة الباغية بين الحفاظ على هيبة الدولة والتحرز من دماء المسلمين:
لا يشكّ عاقل أن النّظم الجادّة لا تسمح بالخروج عليها ولا وبنقضها ولا بممارسات داخل حدود سلطتها قد تتناقض مع قِيَمها، ودليل ذلك أن دعاةَ النظُم الديمقراطية بعد استقرار النظام بأغلبية مريحةٍ لن يسمحوا لحركات تمرُّدية حتى ولو رفعت شعار الشريعة أن تعارضه من وجهة نظرها، وتتّخذ الوسائل لمعارضتها له بناء على وجهة نظرها دون أي اعتبار لما هو متاح لها قانونيا أم لا، وهم في ذلك لا يرون أنفسَهم سدنة للنظام ولا متحيّزين له على حساب الحرية؛ لأن الحرية مقيدة بالقانون وبالمبادئ الدستورية، وقد لا يمانعون في استخدام النظام لأي وسيلة ردع ضد الخارجين عليه بما في ذلك القتل؛ لأن في السماح للمعارضة باستخدام وسائل غير مشروعة وتتنافى مع النظام تضييعًا للنظام وتسويغا للفوضى، والنظام الإسلاميّ كأيّ نظام جادّ لا يمكن أن يؤيّد على قيام الدولة ويطلب نصب الإمام من أجل انتظام أمر الناس ثم لا يحوي إجراءات ردعيّة لتفادي أيّ خروج عليه بغير حقّ، ومن ثمّ شرع قتال الفئة الباغية -وهي الممتنعة- حتى ترجع إلى الحق بما فيه طاعة الإمام في المعروف، ومن ثم فإن هذه الطائفة إن وُجدت وامتنعت عن طاعة الإمام بعد استقرار الحقّ له في الإمامة بأحد وسائل الانعقاد فإنّ الامتناع عن أداء حقّه في الطاعة انطلاقًا من عدم أحقّيته بالإمامة أو عدم الالتزام بقوانين الدولة، فإن القانون والطاعة لا يمكن أن يعلَّقا، فلا بدّ من سيفٍ يأطر على الحقّ وحجةٍ تبيّنه، واللجوء إلى القتال لم يكُن محلَّ إشادة من الفقهاء ما لم تُستَنفذ الشروط الموجِبة له، وتقريرها من طرفِ الفقهاء يدلّ على أنها راعت جانبين:
الجانب الأول: هو حرمة دماء المسلمين.
والجانب الثاني: الحفاظ على الدولة وعلى انتظام أمر الناس.
ولأنّ قتال البغاة لا بدّ أن يكون بأمر شرعي؛ فإنه لا بدّ من توفر الشروط المعتَبَرة شرعا فيه وانتفاء الموانع، وهذه الشروط هي:
أولا: أن يكون الإمام عادلا، ودليل ذلك عدم خروج الفقهاء والعلماء والسلف مع الحجاج، فلا يُعان الأمير الظالم على القتال، قال مالك رحمه الله: “إن كان مثلَ عمر بن عبد العزيز وجب على الناس الذبُّ عنه، وأما غيره فلا”([13]).
ثانيا: تسليم أهل العدل وذوي الرأي عدالة الإمام، فإذا لم يسلّموا له بالإمامة والعدالة لم تكن الفئة الممتنِعة عن طاعته باغيةً، قال الدردير: “فشرط الإمام: تسليمُ العدول ذوي الرأي؛ فلا يرد قتال الإمام الحسينِ يزيدَ بن معاوية؛ لأنّ يزيد لم يسلِّم أهل الحجاز إمامته لظلمه”([14]). وقبله بدر الدين العيني، فاشترط عدالة الإمام([15]) وهو مفهوم من اشتراط العدالة في الطائفة حتى يصحّ تسمية الثانية بالباغية عند الفقهاء.
الثالثة: أن يستتبّ الأمر للإمام ويعلم أنه يمكنه ردعهم بالقتال، وإلا فلا قتال، قال فخر الدين الزيلعي الحنفي: “والمرويّ عن أبي حنيفة من لزوم البيت محمول على عدَم الإمام، وأمّا إعانة الإمام من الواجبات عند القدرة، وما روي عن ابن عمر مع جماعة من الصحابة من القعود عن الفتنة محمول على أنهم كانوا عاجزين”([16]).
رابعا: أن يكون البغاة بخروجهم مغالبين للسلطة وأن يكون الخروج مصحوبًا بالمغالبة أي: باستعمال القوة، فإذا كان غيرَ مصحوب بالقوة فليس خروجًا كأن يمتنعوا عن بيعة الإمام دون قتاله كما وقع لسعد بن عبادة في رفضه بيعة أبي بكر رضي الله عنه ورجوعه عن ذلك من دون قتال؛ لأنه لم يحمل سيفا ولم يمتنع من أداء واجب، قال ابن تيمية رحمه الله: “وإنما نازع سعد بن عبادة والحباب بن المنذر وطائفة قليلة، ثم رجع هؤلاء وبايعوا الصديق، ولم يعرف أنه تخلّف منهم إلا سعد بن عبادة. وسعد وإن كان رجلا صالحا، فليس هو معصومًا، بل له ذنوب يغفرها الله، وقد عرف المسلمون بعضَها، وهو من أهل الجنة السابقين الأولين من الأنصار، رضي الله عنهم وأرضاهم”([17]) .
وهكذا فعل علي رضي الله عنه مع الخوارج؛ فإنه لم يقاتلهم في البداية، بل بين أن ذلك من حقوقهم فقال: “لكم علينا ثلاث: لا نمنعكم مساجد الله أن تذكروا فيها اسم الله، ولا نمنعكم الفيء ما دامت أيديكم مع أيدينا، ولا نبدؤكم بقتال”، وفي رواية: “لا نقاتلكم حتى تقاتلوا”([18]).
ويعتبر الخروج بغيًا عند مالك والشافعي وأحمد وأهل الظاهر بشرط استعمال القوة فعلًا، أما قبل استعمالها فلا يعتبر الخروج بغيًا، ولا يعتبرون بغاةً، ويعاملون كما يعامل العادِلون ولو تحيّزوا في مكان وتجمّعوا، وأبو حنيفة يشترط العزمَ على القتال، وهو مصرَّح به عند بعض الحنابلة([19]).
هذا مع وجوب دعوتهم للصّلح أولا، وعدم مباغتتهم بالقتال، وعدم القصد لإفنائهم، ولا تجوز الاستعانة عليهم بكافر محارب، وإجراء أحكام المسلمين عليهم من إرث وصلاة ونفاذ بيع ونكاح، وعدم سبي النساء والصبيان، وغير ذلك مما هو معلوم في كتب الفقه، فليست كلّ معارضة للحاكم بغيًا في العرف الفقهيّ، بل البغي هو تكييف لأحدِها، وبعضها يكون مباحًا كما قد يكون حِرابة حسبَ المقصد وطبيعة الخروج عن القانون.
المبحث الرابع: تحريم الخروج على الحاكم ومنزع الفقهاء فيه:
هذه مسألة منفردة عن البغاة وأحكامهم، ويدرسُها الفقهاء من زاوية مختلفة تمامًا عن زاوية أحكام البغاة، وهي قضيّة الخروج على الحاكم، فأغلب فقهاء السلف ومن تبعهم من أهل الحديث والفقه لا يحبّذون الخروج على الحاكم بالسيف ولو جار وظلمَ ظلما لا يصل معه إلى الكفر، ومبنى هذه المسألة عندهم ليس هو الانحياز للحاكم أو حبّه، بل ينظرون في المسألة نظرا شرعيًّا يراعي عدة أمور منها: الأدلة الشرعية ومقاصد الشريعة، ووحدة الأمة وعدم تفريق كلمتها، والمصلحة والنظر فيها نظرا شرعيًّا بعيدا عن العاطفة والأهواء، والخوف من الفتنة.
وإغفال هذه الجوانب عند الفقهاء مع ظهورها والتنصيص عليها والتصريح بها واستدعاء عنصر خارجيّ -وهو الانحياز للحاكم انحيازا مطلقا- لا يعدو أن يكون تحليلا سياسيًّا لمواقف شرعية وتعاملا مع النظر الفقهي بآليات أجنبية عنه، ودونك -أيها المبارك- الأدلة الدالة على ما قلناه:
الأدلة الشرعية على حرمة الخروج على الحاكم ما لم يغلب شرُّه خيرَه:
فقد وردت نصوص شرعية تحرم الخروج على الحاكم ونزع اليد من الطاعة، وهي تزيد على المائة، ونقتصر على بعضها من باب التمثيل:
من ذلك قوله عليه الصلاة والسلام: «ستكون أمراء فتعرفون وتنكرون، فمن عرف برئ، ومن أنكر سلم، ولكن من رضي وتابع»، قالوا: أفلا نقاتلهم؟ قال: «لا؛ ما صلوا»([20]).
وقال عليه الصلاة والسلام: «من كره من أميره شيئا فليصبر، فإنه من خرج من السلطان شبرا مات ميتة جاهلية»([21]).
وقد سأل سلمة بن يزيد الجعفي رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا نبي الله، أرأيت إن قامت علينا أمراء يسألونا حقَّهم ويمنعونا حقّنا، فما تأمرنا؟ فأعرض عنه، ثم سأله فأعرض عنه، ثم سأله في الثانية أو في الثالثة فجذبه الأشعث بن قيس وقال: «اسمعوا وأطيعوا، فإنما عليهم ما حملوا وعليكم ما حملتم»([22]).
قال أبو عبد الله محمد بن علي بن الحسن القلعي الشافعي: “فَهَذِهِ الْأَحَادِيث تدلك على أنه يجب على المرء كراهة ما أحدثوا من بدعة، وترك موافقهم على مخالفة السنة، والامتناع عن طاعتهم في المعصية، مع الانكفاء عن الخروج عليهم، وملازمة جماعتهم في الطاعة، وامتثال أوامرهم في المباح، والانقياد لأحكامهم في المعروف، فيستديم بذلك سلامة دينه وصلاح دنياه وحقن دمه وحفظ ماله وحياته وعرضه”([23]).
وقال جماهير أهل السنة من الفقهاء والمحدثين والمتكلمين: لا ينعزل بالفسق والظلم وتعطيل الحقوق، ولا يخلَع، ولا يجوز الخروج عليه بذلك، بل يجب وعظه وتخويفه؛ للأحاديث الواردة في ذلك، قال القاضي: وقد ادعى أبو بكر بن مجاهد الإجماع في هذا، وقد رد عليه بعضهم بقيام الحسن وابن الزبير وأهل المدينة على بني أمية، وبقيام جماعة عظيمة من التابعين والصدر الأول على الحجاج، وتأول هذا القائل قوله: “وأن لا ننازع الأمر أهله” في أئمة العدل، وحجّة الجمهور أن قيامهم على الحجاج ليس لمجرّد الفسق، بل لما غيّر من الشرع، وظاهر من الكفر. قال القاضي: وقيل: إن هذا الخلاف كان أولا، ثم حصل الإجماع على منع الخروج عليهم([24]).
قال ابن بطال: “وإن كان الإمام غير عدل فالواجب عند العلماء من أهل السنة ترك الخروج عليه، وأن يقيموا معه الحدود: الصلوات، والحج، والجهاد، وتؤدّى إليه الزكوات، فمن قام عليه من الناس متأوّلا بمذهب خالف فيه السنة أو لجور أو لاختيار إمام غيره سمّي فاسقا ظالما غاصبا في خروجه؛ لتفريقه جماعة المسلمين، ولما يكون في ذلك من سفك الدماء. فإن قاتلهم الإمام الجائر لم يقاتِلُوا معه، ولم يجز أن يسفكوا دماءهم في نَصره”([25]).
ومثل هذه النصوص كثيرةٌ، ولعلك ترى فيها ألا يقاتَل مع الحاكم الظالم، ومع ذلك يصرّحون بعدم الخروج عليه، ولو استقصيناها لخرجنا عن موضوع الورقة.
النظر في المصلحة:
كثير من الفقهاء لا يرى الخروجَ على الحاكم الظالم مراعاةً للمصالح الشرعية، والتي منها وحدة الأمة واجتماع كلمتها وحفظ شوكتها، والقتال يُضعفها، فبقاء الحاكم على بعض علاته أولى من الفتنة بين الناس والاقتتال، قال الطبري: “والصوابُ أن الواجب على كل من رأى منكرًا أن ينكره إذا لم يخف على نفسه عقوبةً لا قِبَل له بها؛ لورود الأخبار عن النبي صلى الله عليه وسلم بالسمع والطاعة للأئمة، وقوله صلى الله عليه وسلم: «لا ينبغي للمؤمن أن يذل نفسه»، قالوا: وكيف يذل نفسه؟! قال: «يتعرض من البلاء ما لا يطيق»([26])”([27]). وهذا أبو عمر ابن عبد البر يقول معلقا على أحاديث الطاعة للحكام وتغيير منكرهم: “هذا واضح في أنه لا يلزم التغيير إلا من القوة والعزة والمنعة، وأنه لا يستحق العقوبة إلا من هذه حاله، وأما من ضعف عن ذلك فالفرض عليه التغيير بقلبه والإنكار والكراهة”([28]).
والغزالي رحمه الله يضع النصال على النّصال في المسألة فيقول: “لو تعذّر وجود الورع والعلم فيمن يتصدّى للإمامة وكان في صرفه إثارةُ فتنة لا تُطاق حكمنا بانعقاد إمامته؛ لأنا بين أن نحركَ فتنة بالاستبدال، فما يلقى المسلمون فيه من الضرر يزيد على ما يفوتهم من نقصان هذه الشروط التي أثبتت لمزية المصلحة، فلا يهدم أصل المصلحة شغفًا بمزاياها كالذي يبني قصرًا ويهدم مصرًا، وبين أن نحكم بخلوّ البلاد عن الإمام وبفساد الأقضية وذلك محال، ونحن نقضي بنفوذ قضاء أهل البغي في بلادهم لمسيس حاجتهم، فكيف لا نقضي بصحة الإمامة عند الحاجة؟!”([29]).
وقال شيخ الإسلام رحمه الله: “وقلّ من خرج على إمام ذي سلطان إلا كان ما تولَّد على فعله من الشر أعظم مما تولّد من الخير، كالذين خرجوا على يزيد بالمدينة، وكابن الأشعث الذي خرج على عبد الملك بالعراق، وكابن المهلب الذي خرج على ابنه بخراسان، وكأبي مسلم صاحب الدعوة الذي خرج عليهم بخراسان أيضا، وكالذين خرجوا على المنصور بالمدينة والبصرة، وأمثال هؤلاء، وغاية هؤلاء إما أن يغلِبوا وإما أن يغلَبوا، ثم يزول ملكهم فلا يكون لهم عاقبة”([30]).
وفصَّل المسألة تفصيلا في معرض ردِّه على قضية ترك علي والحسين للقتال فقال: “وإذا قال القائل: إن عليا والحسين إنما تركا القتال في آخر الأمر للعَجز؛ لأنه لم يكن لهما أنصار، فكان في المقاتلة قتل النفوس بلا حصول المصلحة المطلوبة. قيل له: وهذا بعينه هو الحكمة التي راعاها الشارع صلى الله عليه وسلم في النهي عن الخروج على الأمراء، وندب إلى ترك القتال في الفتنة، وإن كان الفاعلون لذلك يرون أن مقصودهم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، كالذين خرجوا بالحرة وبدير الجماجم على يزيد والحجاج وغيرهما. لكن إذا لم يزُل المنكر إلا بما هو أنكر منه صار إزالته على هذا الوجه منكرًا، وإذا لم يحصل المعروف إلا بمنكر مفسدته أعظم من مصلحة ذلك المعروف كان تحصيل ذلك المعروف على هذا الوجه منكرا. وبهذا الوجه صارت الخوارج تستحلّ السيف على أهل القبلة، حتى قاتلت عليّا وغيره من المسلمين. وكذلك من وافقهم في الخروج على الأئمة بالسيف في الجملة من المعتزلة والزيدية والفقهاء وغيرهم، كالذين خرجوا مع محمد بن عبد الله بن حسن بن حسين، وأخيه إبراهيم بن عبد الله بن حسن بن حسين وغير هؤلاء”([31]).
ونقل ابن التين عن الداودي قال: “الذي عليه العلماء في أمراء الجور أنه إن قدر على خلعه بغير فتنة ولا ظلم وجب، وإلا فالواجب الصبر”([32]).
ولأن الخروج على الحاكم دافعُه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فيلزم أن يكون في ذلك على وصف الشارع في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وتغير المنكر له أربع حالات:
الأولى: أن يزول ويخلفه ضدّه.
الثانية: أن يقل وإن لم يزل بجملته.
الثالثة: أن يخلفه ما هو مثله.
الرابعة: أن يخلفه ما هو شرّ منه.
وقد فصّل الإمام ابن القيم رحمه الله حكمها تفصيلا فقال: “فالدرجتان الأوليان مشروعتان، والثالثة موضعُ اجتهاد، والرابعة محرمة؛ فإذا رأيتَ أهل الفجور والفسوق يلعبون بالشطرنج كان إنكارك عليهم من عدم الفقه والبصيرة، إلا إذا نقلتهم منه إلى ما هو أحبّ إلى الله ورسوله”([33]).
فإذا تأكّد أن الخروج لا يأتي بخير، وأنه يؤدّي إلى منكر أعظم منه؛ فإنه يُقَوَّم عندهم على أنه شقٌّ لعصا لمسلمين وحمل للسيف على الأمة وقتال فتنة، الأولى فيه الترك والتعبد لله سبحانه وتعالى والنجاة من دماء الناس وأموالهم.
وهم حين يقرّرون هذا المعنى لا يختلفون في وجوب نصح الحاكم إذا جار وظلم؛ وذلك للأدلة الواردة في ذلك، وإنما ينكرون خروجًا لا يتحقَّق منه المطلوب، ولا يدفع الشرّ، أما النصحُ والإنكارُ فلا يمنعونه، قال أبو عمر ابن عبد البر رحمه الله: “وأما مناصحة ولاة الأمر فلم يختلف العلماء في وجوبها إذا كان السلطان يسمعها ويقبلها”([34]).
وقد قال عليه الصلاة والسلام: «إن الله يرضى لكم ثلاثا ويسخط لكم ثلاثا: يرضى لكم أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئا، وأن تعتصموا بحبل الله جميعا، وأن تناصحوا من ولاه الله أمركم، ويسخط لكم قيل وقال، وإضاعة المال، وكثرة السؤال»([35]).
قال الباجي: “«أن تناصحوا من ولاه الله أمركم» وهو الإمام ونوابه؛ بمعاونتهم على الحق، وطاعته فيه، وأمرهم به، وتذكيرهم برفق ولطف، وإعلامهم بما غفلوا عنه من حقوق المسلمين، وترك الخروج عليهم، والدعاء عليهم، وبتألُّف قلوب الناس لطاعتهم، والصلاة خلفهم، والجهاد معهم، وأداء الصدقات لهم، وأن لا يطرَوا بالثناء الكاذِب، وأن يدعَى لهم بالصلاح”([36]).
وهذا أمر مضت به سنة العلماء، وجرت به أقلامهم في القديم والحديث، وليس مما يمكن المزايدة فيه.
وختامًا، لا بد من التنبيه إلى أن الفقهاء ينطلقون في موقفهم من الحاكم ومن معارضته من نصوص شرعية، ومن نظرة إصلاحية، تعتمد الفقه وتستبعِد العاطفة، وتراعي مقاصد الشرع ومآلات الأمور، وهذا الذي ينبغي أن يحاكَموا إليه، لا أن يحاكموا إلى منهجية ثورية عاطفيّة تخطب ودَّ الجماهير، ولا تراعي المقاصد. وأكبر دليل على ذلك أن ما أجمع عليه الفقهاء من أسباب عزل الحاكم -وهو الكفر- ليس موجبًا للعزل عند هؤلاء ما دام الحاكم يطبّق الديمقراطيةَ، وهذا دليل على وجود مقدّسات للفكرة من خارج الوسط الشرعي، وأن لمنتقدي الفقهاء مشاربُ تخصّهم ومختبرات يعرضون عليها أقوالهم، لا يعنيها كثيرٌ مما يراعيه الفقهاء في نظرهم الفقهي وفي بُعدهم الشرعي.
والله الموفق، وهو الهادي إلى سواء السبيل.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(المراجع)
([1]) الصحاح للجوهري (6/ 2281).
([3]) تفسير ابن عطية (6/ 150).
([5]) تفسير القرطبي (16/ 317).
([6]) العزيز شرح الوجيز المعروف بالشرح الكبير (11/ 78).
([7]) التاج والإكليل لمختصر خليل (8/ 370).
([8]) ينظر: بدائع الصنائع للكاساني (9/ 465)، الشرح الكبير للدردير مع حاشية الدسوقي (4/ 140)، نهاية المحتاج (7/ 402)، المغني (10/ 64)، الفروع (6/ 152).
([9]) ينظر: فتح القريب المجيب في شرح ألفاظ التقريب (ص: 290).
([10]) التاج والإكليل (8/ 371).
([11]) ينظر: فتاوى ابن تيمية (35/ 58)، وبدائع الصنائع (9/ 466).
([13]) ينظر: التاج والإكليل شرح مختصر خليل (8/ 368).
([15]) ينظر: البناية شرح الهداية (7/ 303).
([16]) تبيين الحقائق شرح كنز الدقائق (3/ 295).
([17]) مجموع الفتاوى (1/ 320).
([18]) السنن الكبرى للبيهقي (16763).
([19]) ينظر: شرح الزرقاني على الموطأ (8/ 60)، ونهاية المحتاج (7/ 367)، الشرح الكبير على المقنع (20/ 66).
([23]) تهذيب الرياسة وترتيب السياسة (ص: 118).
([24]) ينظر: فتح المنعم شرح صحيح مسلم (7/ 477).
([25]) شرح صحيح البخاري لابن بطال (5/ 128).
([26]) أخرجه الترمذي (2254) وقال: “حسن غريب”.
([27]) ينظر: شرح البخاري لابن بطال (10/ 51).
([29]) إحياء علوم الدين (1/ 115).
([30]) منهاج السنة النبوية (4/ 527-528).