المناهج الفقهية المعاصرة : عرض وتحليل
- تمهيد:
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، محمد وآله وصحبه، ومن اهتدى بهديه يوم الدين، وبعد:
فإن قضية التمذهب والالتزام بمذاهب الأئمة الأربعة وعدم الخروج عنها: شكلت جدلاً كبيرًا في الواقع المعاصر، والسبب في ذلك ما لهذه القضية من تداخل مع العديد من القضايا الكلية المنهجية كالفتوى، والاجتهاد، والتقليد، والاتباع، وغير ذلك.
كما أن هذه القضية لها أهميتها الخاصة في المدرسة السلفية، إذ الالتزام بالمنهج السلفي يعني العودة بالدين إلى مصادره الأولى: الكتاب والسنة، مما يجعلها تتحفظ على بعض ممارسات متأخري المذاهب، مما قد يفسره البعض برفض المذاهب جملة وتفصيلاً.
وقد شهدت بدايات عصر الصحوة نزاعات عنيفة بين أصحاب الاتجاه المذهبي الذي كان سائدًا في ذلك الوقت، وبين أصحاب الاتجاه السلفي الذي بدأ يظهر بقوة بعد خفوت حينًا من الدهر.
وكان من أثر ذلك أن تبلورت مناهج الدراسة المعاصرة إلى مناهج متعلقة بالمنهج السلفي، بالإضافة إلى المدارس الفقهية المعروفة، كما بدأ يظهر منهج جديد يحاول أن يلتقط من الأقوال الفقهية ما يراه أوفق لمعيشة الناس وحياتهم.
والكتاب الذي نحن بصدده يتناول المناهج المعاصرة في محاولة للانتصار للمنهج المذهبي على ما أسماه بالمنهج السلفي والمنهج التيسيري.
ولعل أكبر الأخطاء التي ارتكبها المؤلف هي: اعتبار المدرسة الظاهرية في الفقه هي ممثل الاتجاه السلفي، وهو خطأ منهجي كبير كان له أثره الكبير على بنية الكتاب الرئيسية ونتائجه التي توصل إليها.
وفي هذه الورقة نعرف بالمؤلف وبمجمل موضوعات الكتاب، ثم نذكر أبرز المؤاخذات عليه.
التعريف بالمؤلف وكتابه
- المؤلف هو د. عبد الإله بن حسين بن محمد العرفج، سعودي الجنسية من مواليد الإحساء في 1385 هـ / 1965 م.
نشأ في أسرة تشتغل بالمذهب الشافعي، وتربى في الإحساء على يد مشايخ المذهب الشافعي هناك، وأكثر من لازمه وأثر فيه هو شيخه أحمد بن عبد الله الدوغان.
يعمل أستاذًا مساعدًا للحاسب بجامعة الملك فيصل، وهو أحد مشايخ المدرسة الشرعية الشافعية بالإحساء، وله العديد من الأبحاث والكتب المنشورة ([1]).
- التعريف بالكتاب
اسم الكتاب: المناهج الفقهية المعاصرة.
يقع في 508 صفحة، نشرته مكتبة آفاق للنشر الطبعة الأولى في 1436 هـ – يوليو 2015 م. تقريظ أ.د. حاتم بن عارف العوني الشريف.
والكتاب – كما هو واضح من العنوان – يتناول المناهج الفقهية المعاصرة بالعرض والتحليل، وقد حدد هذه المناهج بأنها: المنهج المذهبي، والمنهج السلفي، والمنهج التيسيري.
- سبب تأليف الكتاب
ذكر المؤلف أن سبب تأليفه للكتاب هو الآراء الغريبة التي تتعارض مع ما تربى عليه من المنهج الفقهي، وقد تمثلت تلك الآراء فيما يلي:
– الدعوة إلى نبذ المذاهب الفقهية وتحريم تقليدها.
– دعوى اقتران المذهبية الفقهية بالجمود والتعصب والفرقة والتخلف.
– دعوى اقتران المذهبية الفقهية بتعطيل العقل والحرمان من الحكمة.
– مساواة التمذهب الفقهي بالتعصب المذهبي.
– الفتاوى الجزئية التي تتعارض مع ما استقر عليه الإجماع.
– الوقائع التي حدثت تتضمن الإنكار والاحتساب على أتباع المذاهب الفقهية في أمور ثبت لديهم صحتها في مذاهبهم الفقهية بأدلة معتبرة.
– الفوضى الفقهية ثم قصر الفتوى على هيئة كبار العلماء.
هذه الأمور التي ذكرها، وذكر نماذج وأمثلة لها؛ جعلت المؤلف يرى الحاجة ماسة إلى تناول المناهج الفقهية المعاصرة بالتحليل؛ لمعرفة مكمن الخلل وموطن الزلل الذي من خلاله خرجت هذه الفتاوى والآراء الغريبة والشاذة، وحدثت بسببها الوقائع القاسية والمؤلمة.
- منطلقات المؤلف في كتابه
المؤلف ينطلق في كتابه من عدة منطلقات:
1- أن المناهج الفقهية المعاصرة ثلاثة: المنهج المذهبي، والمنهج السلفي، والمنهج التيسيري، وهي مناهج متغايرة مختلفة في طريقة التناول والتأصيل وإن اتفقت في بعض الفروع.
2- أن المنهج الفقهي المذهبي هو الأصل؛ ولذا فقد استفاض في عرضه و عرض مزاياه، ودفع التهم عنه، مستغرقًا في ذلك قدرًا أكبر بكثير من القدر الذي خصصه للكلام على المنهجين الآخرين، فلا نبالغ إذا قلنا إن الهدف من الكتاب هو الانتصار للمنهج المذهبي.
3- المؤلف تناول المذهب الشافعي كمثال على المنهجية المذهبية، والشيخ الألباني والشيخ صديق حسن خان القنوجي كمثال على المنهج السلفي، والشيخ القرضاوي كمثال على المنهج التيسيري.
- عرض مجمل للقضايا الرئيسية التي يتناولها الكتاب
قسم المؤلف كتابه إلى مقدمة وستة فصول وخاتمة:
تناول في المقدمة: سبب تأليف الكتاب وقد استغرق نحو 45 صفحة.
أما الفصل الأول: فجعله لشروط الاجتهاد الشرعي وأسباب الخلاف الفقهي. وذكر فيه مبحثين، المبحث الأول فيه بيان شروط الاجتهاد الشرعي، تحدّث فيه عن مراتب المجتهدين، وعرّج على دعوة الترابي لتخفيف شروط الاجتهاد كمعالم للتجديد، ثم ذكر في سياق الرد عليه معالم تجديد أصول الفقه عند الشيخ عبد الله بن بيّه.
أما المبحث الثاني فجعله لبيان أسباب الخلاف الفقهي، فذكرها، ثم عقد عنوانًا هو: النظرة السديدة للخلاف الفقهي لينهي به هذا الفصل، أكد فيه أن خلاف العلماء في الفقه أمر سائغ.
الفصل الثاني: بعنوان: المناهج الفقهية المعاصرة، جعله لعرض المناهج الفقهية الثلاثة وعرض نقاط الاتفاق والاختلاف، ومدى ثبات كل منهج وفق قواعده الأصولية، مع أخذ نموذج لكل مدرسة كمثال، فذكر اجتهاد الشافعي كمثال على المنهج المذهبي، وذكر الألباني كمثال على المنهج السلفي، والقرضاوي كمثال للمنهج التيسيري.
الفصل الثالث: بعنوان: المنهج المذهبي.
تعرض فيه لأهمية التفقه على الطريقة المذهبية، واجتماع الفقه في المذاهب الأربعة، وقضية التقيّد بالمذهب وعدم الخروج عنه، ثم ذكر الشبهات التي تثار حول المنهج المذهبي وأطال في الجواب عنها، ثم السبب المنطقي والصحيح لوجود المذاهب الأربعة، وكذلك تناول قضية التعصب المذهبي، وأصول المذاهب، وهل يمكن توحيد المذاهب الأربعة في مذهب واحد أم لا.
الفصل الرابع: بعنوان: المنهج السلفي.
تناول فيه تحديد معنى السلفية، مستدلاً بأقوال للشيخ صديق حسن خان، ثم تناول قضية تضمين الدليل في الفتوى، وسرد بعضًا من الفتاوى السلفية التي لا دليل عليها؛ ليدلل على أن العبرة بالعالم وليس بالدليل، ثم بحثًا عن كون الدليل الشرعي لا يمنع الخلاف الفقهي، وذكر ثلاثين مثالاً لمسائل اختلف فيها رموز التيار السلفي ليدلل على ذلك، ثم تناول بعد ذلك قضية احتكار الحق بوصفها أحد معالم هذا المنهج ودلل على ذلك بفتاوى الشيخ الألباني التي قطع فيها بأن ما ذهب إليه هو الحق وناقشه في ذلك.
بعد ذلك تناول قضية التفريع الفقهي وأهميتها، ثم اعتبر أن المنهج السلفي ينظر إلى تلك الفروع نظرة سيئة مدللاً بأقوال الشيخ صديق حسن خان في ذلك.
ثم تطرق لقضية إسرار الاجتهاد حرصًا على مكاسب التقليد، وأن هذا هو سبب شيوع التقليد في نظر المنهج السلفي، ثم أجاب تفصيلاً عن هذا الاتهام.
بعد ذلك ذكر أن المنهج السلفي يلتفّ على التمذهب الفقهيّ، فهو يدعو أتباعه إلى التزام فتاوى ابن تيمية وابن القيم، وهو عين ما ينكرونه على المذهبيين، كما أن لديهم ثقة في كتب المذاهب ويتعلمون منها.
ثم تحدث عن قضية الإنكار في مسائل الخلاف مقررًا أن المنهج السلفي يقرر الإنكار في المسائل المختلف فيها رغم إطباق العلماء على أنه لا إنكار في مسائل الخلاف.
ثم عقد عنوانًا هو: الجرأة على منصب الاجتهاد، ليقرر أن من الحقائق المشتركة بين كثير من علماء المنهج السلفي هو تيسير الاجتهاد الشرعي، وتعويد صغار الطلبة على الترجيح، مما أدى إلى جرأة عجيبة على منصب الاجتهاد، وأن هذا مخالف لمنهج العلماء السابقين جميعًا.
الفصل الخامس: بعنوان: المنهج التيسيري.
بدأ الفصل بالحديث عن أن التيسير مقصد شرعي، ثم بين أقسام التيسير ومظاهره، ثم عقد عنوانًا للحديث عن الرخص الشرعية ورخص الفقهاء، ثم الأخذ بالرخص وتتبعها والفرق بينهما، وذكر أمثلة على تتبع الرخص ثم بين المقصود من حديث «اختار أيسرهما ما لم يكن إثمًا»، ثم تحدث عن ضوابط عملية للاستفادة من المذاهب الفقهية؛ وذلك بوضع شروط لصحة التقليد: شرحها، وأطال في شرحها، وناقش من يجوِّز العمل بالرخص الفقهية وتتبعها، وختم الفصل بذكر نص قرار مجمع الفقه الإسلامي بشأن الأخذ بالرخصة وحكمه.
الفصل السادس: بعنوان قصيدة الشيخ العجلي، حيث بدأه بترجمة للشيخ وبيان سبب القصيدة، وذكرها وهي قصيدة مكونة خمسة وتسعين بيتًا يرد فيها على الشيخ صديق حسن خان في ذمه للتمذهب، ويؤصل فيها للمنهج الفقهي المذهبي.
- الملاحظات على الكتاب
يلاحظ على الكتاب ما يلي:
1- الكتاب يصح أن يسمى الانتصار للمنهج المذهبي! فعنوان الكتاب يقتضي أن يكون عرض المناهج الثلاثة على وزان واحد من ذكر الأصول وطريقة التدليل، لكن المؤلف لم يفعل ذلك، وإنما بدأ بذكر حسنات المنهج المذهبي وأفاض في ذلك، وهون من سلبياته، على عكس ما فعل بالمنهج الذي سماه بالمنهج السلفي.
2- المؤلف لم يتناول المنهج السلفي (المزعوم) بالدراسة بل تناول الشيخ الألباني بالدراسة التفصيلية والنقد، معتبراً الألباني ممثلاً للمدرسة السلفية في الفقه، فاعتمد على أقوال الشيخ الألباني والشيخ صديق حسن خان، وأكثر من النقل عنهما، بل إنه في بيان الفتاوى الشاذة تتبع الألباني في المسائل التي خالف فيها الإجماع وذكرها!
وهذا أمر غير سديد لأمور:
أولها: أن أعلام المنهج السلفي ليسوا متابعين للشيخ الألباني أو موافقين له في هذه المسائل التي ذكرها، أو في أصوله التي بنى عليها قوله فيها، ليجعل هذه المسائل علامة على المنهج السلفي، وقد كان يصح هذا لو أن أعلام المنهج السلفي قالوا بكل تلك المسائل أو تابعوا الألباني فيما خالف فيه الإجماع، أو أنهم وافقوه في رد الإجماع، فكيف يكون الحال إذا كان أصحاب المنهج السلفي وأعلامه هم مَن ردّ عليه مخالفاته للإجماع وناقشوه فيها؟! ونحن لا ننفي أن الألباني وصديق حسن خان من أعلام السلفيين، لكنهما في الفقه أقرب إلى المنهج الظاهري.
ثانيها: أن أي منصف يريد أن يدرس فقه مدرسة ما أن فلابد له من النظر إلى فقهاء هذه المدرسة وليس إلى محدثيها، فأين الشيخ ابن عثيمين، والشيخ ابن باز، والشيخ بكر أبو زيد، رحمهم الله الجميع، وغيرهم من أعلام هذه المدرسة ؟
ثالثها: أنه قد ذكر أن هذه المدرسة تقتفي أثر ابن تيمية وابن القيم، وهما من أعلام المذهب الحنبلي، فلماذا لم يتناول فقه هذين الإمامين كما فعل مع المنهج المذهبي ؟!
3- ليس هناك منهج في الفقه يسمى “المنهج السلفي” والوصف القريب إلى ما ذكره هو المنهج الظاهري، ولا أدل على ذلك من كون أصحاب هذا المنهج السلفي (الذي ذكره) وأعلامه يدرسون المذهب الحنبلي، لكنهم يرفضون الجمود عليه متى رأوا في مسألة أن قول المذهب فيها مخالف للكتاب والسنة من وجهة نظرهم، وهم في ذلك لا يخرجون عما قاله أهل العلم، فلا يأتون بقول لم يسبقوا إليه، بل لابد لهذا الفهم أن يكون قد قال به أحد من أهل العلم المتقدمين.
ولا أدل على ذلك من كون من أثرى المدرسة الحنبلية المذهبية بأفضل مدخلٍ معاصرٍ لمذهب من المذاهب هو الشيخ بكر أبو زيد رحمه الله، فقد ألف كتابه المشهور (المدخل المفصل إلى فقه الإمام أحمد وتخريجات الأصحاب) في مجلدين كبيرين، وهو من أنفس ما أُلف في هذا الباب، والشيخ عَلَم من أعلام السلفية المعاصرة، وكذلك فالذي شرح كتب المذهب الحنبلي وقربها للناس هو الشيخ ابن عثيمين رحمه الله، وهو علم من أعلام المدرسة السلفية المعاصرة.
وعليه فيصح لنا أن نقول: إن المؤلف لم يتناول بالدراسة في كتابه إلا طريقة متخيّلةً سمّاها المنهج السلفي، وضرب لها مثالا بأحد علماء الحديث المعاصرين وسلّط عليه وعلى آرائه النقد.
4- أن المؤلف جعل المنهج السلفي قسيمًا للمنهج المذهبي، فمنهج دراسة الفقه إما مذهبي، وإما سلفي، وهذا أمر غير دقيق، فالمنهج السلفي ليس منهجًا للدراسة الفقهية فلا يكون قسيمًا للدراسة المذهبية. وهذا محصّلة لما سبق تقريره.
5- أن المؤلف لا يفرق بين متقدمي المذهب ومتأخريه، ومعلوم أن غالب النقد الذي توجّه إلى المذاهب الفقهية إنما توجه لمتأخريهم وليس للمتقدمين، ولذا فلا يصح أن يدلل المؤلف على ردّ المؤاخذات التي أخذت على المنهج المذهبي بالنقل عن متقدمي المذاهب فقط.
6- ذكر المؤلف أن الاتجاه المذهبي يرى أصحابُه جواز التزام مذهب فقهي معين، ويفرِّعون مستجدات المسائل على نصوص مذهبهم وأصوله، وقد يخرجون عنه إذا ظهر لهم ضعفه ومرجوحيته([2])، وهذا الذي ذكره ليس هو السائد عند أصحاب الاتجاه المذهبي، بل كثير منهم يوجبون اتباع المذهب، ولا يجيزون لطالب العلم أن يخالف المذهب إلا إذا وجد حديثًا صريحًا يخالف المذهب، ولم يجد لإمامه حجة، وخشي مخالفة الحديث([3]).
فماذا يفعل المؤلف مع قول جلال الدين المحلي الشافعي: «الأصح أنه يجب على العامي وغيره ممن لم يبلغ رتبة الاجتهاد: التزام مذهب معين من مذاهب المجتهدين يعتقده أرجح من غيره»([4])
ومع قول محمد بن أحمد بن محمد عليش: « وأما العالم الذي لم يصل لرتبة الاجتهاد، والعامي المحض فإنه يلزمهما تقليد المجتهد.. والأصح أنه يجب عليهما التزام مذهب معين من مذاهب المجتهدين يعتقد أنه أرجح من غيره»([5]).
7- عندما تناول المؤلف تنزيه علماء المذاهب عن التعصب للمذهب على حساب الدليل الشرعي لم يذكر لنا سوى مثالاً واحدًا في جانب التأصيل والتنظير، فهل يكفي مثالٌ واحدٌ لدفع التهمة؟ بينما في المقابل توجد أمثلة كثيرة تنظّر وتؤصل للتعصب المذهبي.
8- هوَّن المؤلف من شأن ما حصل بين متأخري المذاهب الفقهية الأربعة من تناحر وفرقة، فذهب يدلل على تسامح المذاهب مع بعضها البعض بأمثلة هي صحيحة في ذاتها لكنها لا تمثل غالب الأمر، فالتنافر الحاصل بين متأخري أصحاب المذاهب مشهور معلوم، ويكفي في الدلالة على ذلك ما ذكره هو من أمثلة، بالإضافة إلى ما انتشر في القرون المتأخرة من صلاة أصحاب كل مذهب بمفردهم، فيكون في المسجد الواحد أربعة محاريب، أو عدة أئمة للصلاة الواحدة، أو أربعة مؤذنين لكل مذهب مؤذن؟! أفلا يكفي هذا للدلالة على مدى الفرقة التي حصلت للأمة؟!
9- تحرير المؤلف لمحل النزاع بين المنهج السلفي والمنهج المذهبي فيه قصور شديد، بل ليس بصحيح، فقد ذكر([6]) أن مرتكز الخلاف هو أن المنهج المذهبي يلتزم منهجًا معينًا من المذاهب الفقهية الأربعة، أما المنهجان السلفي والتيسيري فلا يلتزمان منهجًا فقهيًا محددًا وإنما يجتهدان ويرجحان ويختاران.
وهذا في الحقيقة ليس موطن النزاع بين المنهج السلفي -إن جازت التسمية- والمنهج المذهبي، وليس هذا لب الخلاف مع أصحاب الاتجاه المذهبي، وليست هذه هي الاعتراضات الأساسية على متأخريهم.
فالسلفيون لا يعارضون التزام مذهب فقهي من المذاهب الأربعة في الدراسة والإفتاء والعمل، بل يضعون التمذهب في منزلته، فهو للمتعلم من باب الوسائل التي تطلب تحصيلًا للمقاصد، وللمجتهد لا يصح أن يتغوّل على مقصد التفقه في الأدلة الشرعية والاجتهاد لمعرفة الحكم الشرعيّ، فالالتزام وفق الضوابط التي وضعها أهل العلم قديماً -وهم من أئمة المذاهب أيضًا- ولذا فإن الخلاف الحقيقي بين الاتجاه السلفي ومتأخري أصحاب المذاهب يظهر بوضوح عند تناول المسائل التالية:
– هل يلزم المكلف أن يلتزم مذهباً فلا يسأل أحدًا من غير أهله.
– هل يجوز للمكلف أن يقول للمفتي أفتني على المذهب الفلاني.
– ماذا يفعل العامي إذا سمع حديثًا يعارض ما أفتاه المفتي وحضر وقت العمل.
– ما الذي يلزم طالب العلم الذي حصل شروط الاجتهاد العامة ( والتي ذكرها أصحاب المذاهب ) ؟
– لماذا يقصرون جواز الاجتهاد على المجتهد المطلق رغم أنهم يصرحون بامتناعه في الأزمنة المتأخرة.
هذه القضايا وغيرها تمثل نقاط خلاف حقيقية بين المنهجين لم يتعرض لها المؤلف في كتابه.
10- ذكر أن المناهج الفقهية الثلاثة متفقه على: عدم جواز التقليد للعالم المجتهد، ووجوبه على العامي([7])، وسكت عن حكم طالب العلم الذي لم يصل لدرجة الاجتهاد، وهذا أحد مواطن النزاع الحقيقية بين الفريقين. وقد أعاد ذكره([8]) ومع ذلك فلم يحرر قول الاتجاه المذهبي في شأن هذه المرتبة.
11- ذكر أن من الاتهامات التي وجهت للمنهج المذهبي: تعطيل العقل وحركة الاجتهاد الفقهي واستيعاب النوازل المستجدة.
وأجاب عن هذا بأن هذا النقد ينطلي على من لم يحط خُبرًا بكتب المذاهب الفقهية، وذكر تسعة أمثلة لتفريعات فقهية قال بها علماء المذاهب تصلح أن تكون مفتاحًا للاجتهاد في مسائل نازلة في هذا العصر([9]).
ولكن هذا لا يجيب على الاتهام بغلق باب الاجتهاد الذي اتفقت كلمة متأخري المذاهب على القول به.
قال علي حيدر: «إن للمجتهد شروطاً وصفاتٍ معينة في كتب أصول الفقه، فلا يقال للعالم مجتهد ما لم يكن حائزاً على تلك الصفات، ومع ذلك فالمتأخرون من الفقهاء قد أجمعوا على سد باب الاجتهاد خوفاً من تشتت الأحكام، ولأن المذاهب الموجودة وهي المذاهب الأربعة قد ورد فيها ما فيه الكفاية»([10]).
12- ذكر أن معظم ادعاءات معارضي المنهج المذهبي تتلخص في الدعاوى التالية:
– إهمال الاستدلال بالكتاب والسنة.
– تعطيل حركة الاجتهاد.
– أدت إلى التعصب المذموم.
– نشرت روح التحزب والتفرق.
– تكونت نتيجة الكسل وضعف الهمة.
وعلى الرغم من أن هذه الاتهامات قد وجهت للاتجاه المذهبي، إلا إنها لم توجه لأصل الالتزام بالمذهب، وإنما لنوع خاص من الالتزام بالمذهب يرى معارضوه أنه لا يجوز. ولم يذكر لنا المؤلف من أطلق هذه الاتهامات، وهل كان علماء السلفية هم من أطلقها؟ أم دعوات متفرقة نتيجة للتعصب المذهبي الفاحش الذي سيطر على أصحاب المذاهب وأتباعهم، فأطلق أمثال الشوكاني وصديق حسن وغيرهم دعوات الانتعاق من التمذهب، ثم ما هو سياقها التاريخي والجغرافي لنعرف هل كانت بمثل هذه العمومية التي ذكرها أم لا!
ثم هل كان رفض المعارضين للدراسة المذهبية معتمدًا على هذه الاتهامات فقط ؟
13 – على الرغم من كون ما وجهه المؤلف من نقد إلى الاتجاه التيسيري صحيح إلا إننا نرى أن اتخاذ القرضاوي كنموذج أمر غير مناسب، وذلك لأنه – كما ذكر المؤلف عنه – لا يرى ترجيح الأقوال تحت ضغط الواقع المعاصر، وإن كان لم يلتزم بذلك في الحقيقة، لكن نسبة شخص إلى اتجاه تحتاج إلى أن يتوافق معه في أصوله قبل فروعه، فالفروع تحتمل وقوع الخطأ في التطبيق، أما الأصول فهي ما يتم بناء المناهج عليها.
14- الذي يقرأ الكتاب لا يخطئ نظره تحامل المؤلف على الشيخ الألباني، فعلى الرغم من أسلوب المؤلف الهادئ البعيد عن التشنّج والقدح؛ إلا إنه لمز الشيخ الألباني في أمور خارجة عن المنهج الفقهي، كطريقة دراسته وانتقاد غيره له في علم الحديث، وأطال الكلام عن فتوى له حمّل كلامَه فيها فوق ما يحتمله.
هذه هي أبرز الملاحظات التي تتوجّه إلى الكتاب، ولا شك أن بحث كهذا تحتاج على تريّث ودرس معمّق وطول نفس في البحث، وإنصاف في النظر والمداولة، ونظر كاشف إلى مواطن النزاع الحقيقية، والله المستعان.
([1]) انظر: حوار مع الدكتور العرفج نشرته جريدة عكاظ في العدد 71 بتاريخ 20 إبريل 2012 م.
([3]) يكفي أن نشير هنا إلى قول العز ابن عبد السلام -وهو من علماء المذهب الشافعي- وهو يتعجب من الفقهاء المقلدين في القواعد الكبرى (2/135-136)، وانظر كتاب (التمذهب) لعبدالفتاح بن صالح قديش اليافعي وهو معاصر، وهو ينتصر في هذا الكتاب لذلك، وقد نقل من أقوال أئمة المذاهب ما تدل على ذلك.
([4]) شرح جمع الجوامع للمحلي ( 2/440)
([5]) فتح العلي المالك للشيخ عليش (1/60)
([10]) انظر: شرح مجلة الأحكام العدلية لعلي حيدر ( 1/34 ).