مغالطات حول مقام إبراهيم عليه السلام
للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة
أولًا: تمهيد:
بين الحين والآخر يثار جدل في حقيقة مقام إبراهيم عليه السلام، وضرورة نقله من مكانه، وأنه غير مراد في قول الله تعالى: {فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا} [آل عمران: 97]، ويتناول الحديث فيه أطراف مختلفة، فمنها صحف ومجلات وقنوات إعلامية، وأخرى هندسيَّة معمارية وتنظيم الحشود، ومنها علماء الدين والشريعة، ولسنا بصدد إغلاق باب الحوار والنقاش والمدارسة فيما يسوغ فيه الخلاف؛ ولكن ينبغي التنبه إلى أمرين:
1- أن لا يكون النقاش فيه بمعزل عن المتخصصين من علماء الشريعة، ولا ينفرد غير المتخصص بإعمال رأيه وما يملي عليه اجتهاده وهو ليس لديه أدوات الاجتهاد؛ وذلك أن هناك منهجًا علميًّا شرعيًّا يجب أن يسير على وفقه من أراد مدارسة هذه المسائل، وقد حرم الله تعالى التكلم بلا علم، فقال تعالى: {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا} [الإسراء: 36].
وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إنَّ العلماءَ ورثةُ الأنبياءِ، وإنَّ الأنبياءَ لم يُورِّثُوا دينارًا ولا درهمًا، ورَّثُوا العِلمَ فمن أخذَه أخذ بحظٍّ وافرٍ»([1]).
وهؤلاء العلماء قد قضوا وأفنوا أعمارهم في تعلم العلم الشرعي، وتحصيل أدوات الاجتهاد والرسوخ في العلم، وتلقتهم الأمة بالقبول، وشهدوا لهم بالصلاح حتى ماتوا على ذلك، ثم يأتي من يتطاول عليهم، ويتهمهم بأنهم عجزوا عن فهم المقام الذي أمر الله العباد أن يتخذوه مصلَّى، وأنهم سلكوا طريق التعسف واتباع الهوى ولي النصوص حتى يثبتوا أن مقام إبراهيم المقصود في الآية هو الحجر الذي وقف عليه إبراهيم عليه السلام لبناء الكعبة، وزاد في تطاوله ووصف المقام بأنه حجر منحوت! وهذا ما يتعلق به التنبيه التالي.
2- أن مقام إبراهيم عليه السلام يتعلق بأول بيت وضعه الله تعالى للعبادة، وهو البيت الحرام المعظَّم، وقد أعلى الله شأن هذا البيت، وحرَّمه وأعظم حرمته، وأعظم الشعائر المتعلقة بتلك البقعة المعظمة المباركة؛ فالواجب أن يكون منطلق الحوار والنِّقاش فيه بما لا يتنافى أو يتعارض مع مقصود الشارع من تعظيم البيت الحرام وتعظيم شعائره، قال الله تعالى: {ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ} [الحج: 32].
وأقسم الله تعالى بالبلد الحرام إشارة وتنبيهًا لعظمته، فقال تعالى: {لَا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ} [البلد: 1]، وقال سبحانه: {وَهَذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ} [التين: 3].
وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم المسلمين في أي بلد كان بعدم البصق لجهة القبلة تعظيمًا لها؛ فكيف بمن يتكلم في شعائر الله وآياته في البيت الحرام -ومنها المقام- بما لا يليق وبما ينافي التعظيم، فعن حذيفة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلَّم: «مَن تفل تجاه القِبْلةَ جاء يوم القيامة وتَفْلَته بين عينيه»([2]).
ثانيًا: مقام إبراهيم عليه السلام وتعظيمه والعناية به عبر التاريخ:
مقام إبراهيم عليه السلام تعلقت به مزيَّة تعبدية بأمر الله تعالى، فما زال معظَّمًا عند الناس من لدن إبراهيم عليه السَّلام إلى يومنا هذا، وليس مجرد حجر منحوت لا قيمة له ولا مزية تعبدية كما يشير إليه بعض النَّاس، وأوجه التعظيم فيه كالآتي:
1- أن المقام ياقوتة من الجنة، فعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إِنَّ الرُّكن والمقام ياقوتتان من ياقوت الجنَّة، طمس اللَّه نورهما، ولو لم يطمس نورهما لأضاءتا ما بين المشرق والمغرب»([3]).
2- أنَّه الحجر الذي قام عليه إبراهيم عليه السلام عند بناء الكعبة، ونادى منه على النَّاس بالحج، قال ابن كثير رحمه الله: “لما ارتفع الجدار أتاه إسماعيل عليه السلام به؛ ليقوم فوقه ويناوله الحجارة فيضعها بيده لرفع الجدار، كلما كمل ناحية انتقل إلى الناحية الأخرى، يطوف حول الكعبة، وهو واقف عليه، كلما فرغ من جدار نقله إلى الناحية التي تليها وهكذا، حتى تم جدارات الكعبة… وكانت آثار قدميه ظاهرة فيه، ولم يزل هذا معروفًا تعرفه العرب في جاهليتها؛ ولهذا قال أبو طالب في قصيدته المعروفة اللامية:
وموطئ إبراهيم في الصخر رطبة على قدميه حافيا غير ناعل
وقد أدرك المسلمون ذلك فيه أيضًا”([4]).
وقال العجاج:
الحَمدُ للهِ العَلّيِ الأعْظَمِ بانِي السَماواتِ بغَيرِ سُلَّمِ
وَرَبِّ هَذا الأَثرِ المُقَسَّمِ منْ عَهدِ إبراهيمَ لَمْ يُطَسَّمِ([5])
3- أنَّ الله تعالى أمر المسلمين باتخاذه مصلى، وذلك في قوله تعالى: {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى} [البقرة: 125]، والنَّبيّ صلى الله عليه وسلَّم امتثل أمر الله تعالى وطبقه معلمًا أمته أن هذا هو المقام المقصود بالصلاة في الآية، وعلَّق بهذا المقام استحباب صلاة ركعتي الطواف خلفه.
4- أن حرمة المقام حرمة ذاتيَّة؛ فقد جعله الله تعالى آية قائمة بذاتها كما قال الله تعالى: {فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ} [آل عمران: 97]، قال مجاهد رحمه الله: “قدماه في المقام آية بينة”([6]).
وآثار السَّلف تدل على أنَّهم فهموا هذا المعنى؛ وهو أن حرمة المقام ذاتية مستقلة، ومنها: ما رواه مغيرة عن أبيه قال: “رأيت الحجَّاج أراد أن يضع رجله على المقام، فزجره عن ذلك ابن الحنفية رضي الله عنه ونهاه عن ذلك”([7]). وعن عطاء عن عبد الله بن عمرو رضي الله قال: “خير المسجد المقام، ثم ميامن المسجد”([8]).
وقد كان مقام إبراهيم محاطًا بالاهتمام من قبل الخلفاء والملوك والحكام والأمراء منذ القدم وإلى يومنا هذا.
5- مقام إبراهيم فيه دلالة عقدية: وهو آية ودلالة واضحة لليهود وللمشركين على صدق دعوة النبي صلى الله عليه وسلم؛ فهذا المقام أقام الحجة وأفحم اليهود الذين زعموا أن القدس هي قبلة الأنبياء أجمعين، وأنهم ورثة إبراهيم عليه السَّلام، فجعلوا تحويل القبلة إلى الكعبة محورًا لجدلهم؛ لتشكيك المسلمين، فدمغهم بالحقيقة التاريخية التي يتجاهلونها؛ فدحض الله شبهتهم بأمور لا يجهلونها، بل حتى عرب الجاهلية يعرفونها، وهي قداسة الكعبة وعظمة البيت الحرام، والتي فيها آيات بينات في غاية الظهور، ومنها: مقام إبراهيم الذي يعرفه حتى الجاهليون، ويعظمونه.
فالقرآن الكريم يلمس اليهود حقيقة الأمر بطريقة حسية لا تقبل الجدل والمراوغة، ويأمر محمدًا عليه الصلاة والسلام أن يصارحهم: {قُلْ صَدَقَ اللَّهُ فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ * إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِّلْعَالَمِينَ * فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَّقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا} [آل عمران: 95-97]، فهذه الآيات البينات العظيمة الظاهرة المحسوسة تدلهم على حقيقة دين إبراهيم، وأنه الميل عن كل شرك وهوى، وقد جرى تأكيد هذه الحقيقة مرارًا، وأوضحت هذه الآيات أن الاتجاه إلى الكعبة هو الأصل الأصيل؛ لكونها أول بيت وضع للناس قبل بيت المقدس، فلم يبق عند اليهود إلا العناد والاستكبار عن الحق، واستبداله بالباطل كما هي عادتهم([9])، “والمقام وأمن الداخل خصَّا بالذكر لعظمهما، وأنهما تقوم بهما الحجة على الكفار، إذ هم مدركون لهاتين الآيتين بحواسهم”([10]).
ثالثًا: مقام إبراهيم آية من الآيات البينات:
سنبيِّن في هذا المبحث مغالطتين من المغالطات التي يذهب إليها بعض من اغتر بعقله:
المغالطة الأولى: أن مقام إبراهيم ما هو إلا حجر منحوت، يمكن للنحاتين أن يأتوا بمثله!
قد سبق الرد على جزء من هذا الإيراد المنافي لتعظيم مقام إبراهيم في النقطة الثانية؛ حيث ذكرنا خمسة أوجه لتميز هذا الحجر، ومكانته العظيمة عبر التاريخ، وأنَّه معظم شرعًا.
ونستكمل بيان بطلان هذا الإيراد بما يلي:
أما ما أورده البعض من تشكيك في الأثر الذي في الحجر فلا قيمة له، فإن هذا الأثر موجود لا مرية فيه لثبوت ذلك بالآثار الصحيحة، ومنها ما أورده ابن كثير رحمه الله حيث قال: “وكانت آثار قدميه ظاهرة فيه، ولم يزل هذا معروفًا تعرفه العرب في جاهليتها؛ ولهذا قال أبو طالب في قصيدته المعروفة اللامية:
وموطئ إبراهيم في الصخر رطبة على قدميه حافيا غير ناعل
وقد أدرك المسلمون ذلك فيه أيضًا، وقال عبد الله بن وهب: أخبرني يونس بن يزيد، عن ابن شهاب أن أنس بن مالك حدثهم، قال: رأيت المقام فيه أثر أصابعه عليه السلام، وإخمص قدميه، غير أنه أذهبه مسح الناس بأيديهم… عن قتادة: {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى} [البقرة: 125]: إنما أمروا أن يصلوا عنده ولم يؤمروا بمسحه، ولقد تكلفت هذه الأمة شيئًا ما تكلفته الأمم قبلها، ولقد ذكر لنا من رأى أثر عقبه وأصابعه فيه، فما زالت هذه الأمة يمسحونه حتى اخلولق وانمحى”([11]).
وأما ليونة ما تحت قدمي إبراهيم عليه السلام وغوص قدميه إلى حد الكعبين فقد ذكره كبار علماء التفسير، قال ابن عطية رحمه الله: “لما أراد إبقاء ذلك آية للعالمين لين الحجر، فغرقت فيه قدما إبراهيم عليه السلام كأنها في طين، فذلك الأثر العظيم باق في الحجر إلى اليوم، وقد نقلت كافة العرب ذلك في الجاهلية على مرور الأعصار… فما حفظ أن أحدًا من الناس نازع في هذا القول”([12]).
وقال الجصاص رحمه الله: “وهذا المقام دلالة على توحيد الله ونبوة إبراهيم لأنه جعل للحجر رطوبة الطين حتى دخلت قدمه فيه، وذلك لا يقدر عليه إلا الله، وهو مع ذلك معجزة لإبراهيم عليه السلام، فدل على نبوته”([13]).
وقال الرازي رحمه الله: “أثر القدم في الصخرة الصماء آية، وغوصه فيها إلى الكعبين آية، وإلانة بعض الصخرة دون بعض آية، لأنه لان من الصخرة ما تحت قدميه فقط”([14]).
والمؤرخون المتقدمون والمتأخرون تطابق وصفهم للمقام، وأيضًا تطابق وصفهم لما هو موجود الآن مع اختلاف في وحدة القياس، قال الفاكهي رحمه الله: “والقدمان داخلتان في الحجر سبع أصابع، ودخولهما منحرفتان، وبين القدمين من الحجر أصبعان، ووسطه قد استدق من التمسح به فيما مضى”([15]).
فخلاصة القول: أنَّ أثر قدمي الخليل عليه السلام على الصخرة ثابت بلا شك، وذلك من قبل الإسلام، وأن الصدر الأول من الإسلام أدركه.
وأما غوص القدمين في الصخرة فتكاد تتفق جميع الأخبار من المؤرخين والمفسرين على ذلك، وإن سلمنا أن العمق من فعل نحات أو مِن تتابُع المسح عليه فإنه لا يلغي كونه هو المقام المعظم، ولا يلغي كونه آية بينة ومعجزة خالدة ما بقي هذا البيت الحرام.
المغالطة الثانية: أن الله تعالى بيَّن أن مقام إبراهيم آيات بينات، وأن هذا لا ينطبق على المقام الذي في المسجد الحرام؛ وإنما هو شيء واحد فكيف يستقيم هذا؟!
قد أورِد هذا الإشكال على المفسرين، فأجابوا من وجوه بما لا يدع مجالًا للشك أن المقام المقصود هو المقام الذي في المسجد الحرام:
التوجيه الأول: ذِكر المقام والأمان كان على سبيل المثال:
قال ابن عطية رحمه الله: “المقام وأمن الداخل جعلا مثالًا مما في حرم الله من الآيات، وخُصا بالذكر لعظمهما، وأنهما تقوم بهما الحجة على الكفار، إذ هم مدركون لهاتين الآيتين بحواسهم”([16]).
التوجيه الثاني: أن مقام إبراهيم بمنزلة آيات كثيرة:
قال الزمخشري رحمه الله: “فإن قلت: كيف صح بيان الجماعة بالواحد؟ قلت: فيه وجهان: أحدهما أن يجعل وحده بمنزلة آيات كثيرة؛ لظهور شأنه وقوة دلالته على قدرة اللَّه ونبوة إبراهيم من تأثير قدمه في حجر صلد، كقوله تعالى: {إِنَّ إِبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً} [النحل: 120]”([17]).
التوجيه الثالث: اشتمال المقام على آيات كثيرة:
قال الزمخشري رحمه الله: “فإن قلت: كيف صح بيان الجماعة بالواحد؟ قلت: فيه وجهان… والثاني: اشتماله على آيات؛ لأنّ أثر القدم في الصخرة الصماء آية، وغوصه فيها إلى الكعبين آية، وإلانة بعض الصخر دون بعض آية، وإبقاؤه دون سائر آيات الأنبياء عليهم السلام آية لإبراهيم خاصة، وحفظه مع كثرة أعدائه من المشركين وأهل الكتاب والملاحدة ألوف سنة آية”([18]).
التوجيه الرابع: أن الاثنين نوع من الجمع:
“يجوز أن يراد: فيه آيات بينات مقام إبراهيم، وأمن من دخله؛ لأنّ الاثنين نوع من الجمع كالثلاثة والأربعة”([19]).
قال الرازي رحمه الله: “ولفظ الجمع قد يستعمل في الاثنين، قال تعالى: {إِنْ تَتُوْبَا إِلَى اللهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوْبُكُمَا} [التحريم: 4]”([20]).
رابعًا: المراد بالمقام في قوله تعالى: {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى}:
سنبيِّن في هذا المبحث مغالطات واستدلالات زائفة، والتي ذهب إليها بعض من اغتر بعقله، وسفَّه رأي من أفنوا أعمارهم في مدارسة العلم الشرعي، وتتعلق هذه المغالطات بالمراد من “مقام إبراهيم” وبالمراد من “مصلى” في قوله تعالى: {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى} [البقرة: 125]:
المغالطة الأول: أن المراد بمقام إبراهيم مكان إقامته، أي: مكة، فمكة كلها مقام إبراهيم، فلا مسوّغ للتزاحم في صحن المطاف للصلاة خلف مقام إبراهيم المعروف اليوم؛ ففي مكة أقام إبراهيم مع ذريته، وفيها قام بدعوته، فهي مَقامه ومُقامه!
والجواب: أن أهل اللغة فرقوا بين “مَقام” بفتح الميم و”مُقام” بضم الميم، فمعناه بالفتح موضع القدم، ومعناه بالضم موضع الإقامة، قال القرطبي رحمه الله: “قوله تعالى: {مِن مَقام} المقام في اللغة: موضع القدمين، قال النحاس: مَقام من قام يقوم، يكون مصدرًا واسمًا للموضع، ومُقام من أقام”([21]).
فالمقام في اللغة على وزن “مَفْعَلُ” بفتح العين، من قام، كمَضرَب من ضرب، والمَقَام بفتح الميم من قام يقوم يكون مصدرًا واسمًا، فمقامات الناس بالفتح: مجالسهم، الواحد مَقَام ومَقَامة، وقيل: المَقام موضع قدم القائم، أو الموضع الذي تَقُوم فيه.
والمُقام بالضم: من الإقامة، مصدر أقمت بالمكان مُقامًا وإقامة، والجمع مُقامات([22]).
المغالطة الثانية: أن المخاطبين باتخاذ مقام إبراهيم مصلى هم اليهود، والمسلمون غير مخاطبين بهذه الآية، لأنها معطوفة على قوله تعالى: {يَا بَنِيْ إِسْرَائِيْلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِي} [البقرة: 122].
والجواب: أن هذا رأي شاذ وضعيف ذهب إليه بعض النحويين، فقد أبطل الإمام الطبري رحمه الله ما ذهبوا إليه فقال: “وقد زعم بعض نحويي البصرة أن قوله: {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى} معطوف على قوله: {يَا بَنِيْ إِسْرَائِيْلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِي} [البقرة: 122]، فكان الأمر بهذه الآية وباتخاذ المصلى من مقام إبراهيم -على قول هذا القائل- لليهود من بني إسرائيل الذين كانوا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم. والخبر الذي ذكرناه عن عمر بن الخطاب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل([23]) يدل على خلاف الذي قاله هؤلاء، وأنه أمرٌ من الله -تعالى ذكره- بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، والمؤمنين به وجميع الخلق المكلفين”([24]).
المغالطة الثالثة: أن المراد من كلمة {مُصَلًّى}: مكان تجمع للعبادة، وهذا ينطبق على جميع مكة ومشاعرها، فلماذا حجرنا واسعًا بأن خصصنا المصلى بالصلاة خلف المقام المعروف في المسجد الحرام؟!
والجواب: أنَّه لم يرد عند أهل التفسير إلا معنيان لا ثالث لهما، وخلاف العلماء على هذين التأويلين لكلمة {مُصَلًّى}، قال الطبري رحمه الله: “وأما قوله تعالى: {مُصَلًّى}: فإن أهل التأويل مختلفون في معناه، فقال بعضهم: هو المدعى. وقال آخرون: معنى ذلك: اتخذوا مصلى تصلون عنده… وتأويل القائلين القول الآخر فإنه: اتخذوا -أيها الناس- من مقام إبراهيم مصلى تصلون عنده، عبادةً منكم، وتكرمةً مني لإبراهيم. وهذا القول هو أولى بالصواب، لما ذكرنا من الخبر عن عمر بن الخطاب([25]) وجابر بن عبد الله([26])، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم”([27]).
وإن وُجد من ذهب إلى أن المراد من قوله تعالى: {مُصَلًّى} هو: مكان تجمع للعبادة؛ فهو قول باطل لمصادمته الدليل الصحيح الثابت من حديث عمر وجابر رضي الله عنهما.
المغالطة الرابعة: أن العلماء اختلفوا في المراد من قوله تعالى: {مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ}، وأن ترجيح القول بأنه الحجر الذي قام عليه إبراهيم عليه السلام لبناء الكعبة قول مرجوح تم ترجيحه بتعسُّف في الفهم! وأن سياق الآيات -حسب زعمه- تدل على أن المراد بالمقام مكة كلها.
والجواب من وجوه:
1- أنَّه من التعسُّف في الفهم والمغالطة تناول خلاف العلماء في المراد من معنى مقام إبراهيم، متناسيًا أو جاهلًا أن العلماء أيضًا متفقون على عِظم ومكانة مقام إبراهيم الذي في المسجد الحرام، وأنَّه هو المقصود؛ ولكن خلافهم في توسيع الدائرة لتشمل الآية غير المقام المعروف ولا تختص به، كما يدل عليه قول ابن عباس رضي الله عنه الذي يعمم الآية، فعن ابن جريج قال: سألت عطاء عن {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى}، فقال: سمعت ابن عباس قال: أما مقام إبراهيم الذي ذكر هاهنا فمقام إبراهيم هذا الذي في المسجد، ثم قال: و{مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ} يُعد كثير، مقام إبراهيم: الحج كله([28]).
2- “اختلف أهل التفسير في هذا المقام الذي أُمِرُوا باتخاذه مصلى على أربعة أقاويل:
أحدها: الحج كله، وهذا قول ابن عباس.
والثاني: أنه عرفة ومزدلفة والجمار، وهو قول عطاء والشعبي.
والثالث: أنه الحرم كله، وهو قول مجاهد.
والرابع: أنه الحجر الذي في المسجد، وهو مقامه المعروف، وهذا أصح”([29]).
والراجح: هو القول الرابع وهو أن المقام هو الحجر المعروف الذي في المسجد الحرام، وهو الذي رجحه ابن عباس كما تقدم، ورجحه الطبري([30]) والجصاص([31]) والبغوي([32]) وابن الجوزي([33]) والقرطبي([34])، ورجحه ابن حجر([35]) وغيرهم من العلماء، فهو قول جمهور العلماء والمفسرين المحققين([36]).
قال ابن كثير رحمه الله بعد أن استعرض الروايات: “فهذا كله مما يدل على أن المراد بالمقام إنَّما هو الحجر الذي كان إبراهيم عليه السلام يقوم عليه”([37])، ويتبيَّن من كلام ابن كثير رحمه الله أنَّ العلماء لم يكن ترجيحهم لهذا القول بلا دليل أو لتعسّف أو هوى نفس.
3- النصوص والتعليلات الصحيحة الدالة على أن المقام هو الحجر المعروف:
- قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: وافقت ربي في ثلاث: فقلت: يا رسول الله، لو اتخذنا من مقام إبراهيم مصلى، فنزلت: {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى}…”([38]).
- حديث جابر رضي الله عنه في صفة حجة النبي صلى الله عليه وسلم، وفيه: حتى إذا أتينا البيت معه استلم الركن، فرمل ثلاثًا ومشى أربعًا، ثم نفذ إلى مقام إبراهيم عليه السلام، فقرأ: {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى}، فجعل المقام بينه وبين البيت([39]). وفي رواية: قال: فقرأ فيهما بالتوحيد و{قل يا أيها الكافرون}([40]).
- “الأظهر أن يكون هو المراد؛ لأن الحرم لا يسمى على الإطلاق مقام إبراهيم، وكذلك سائر المواضع التي تأوله غيرهم عليها”([41]).
- لما نزل قول الله تعالى: {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى} لم يكن له من مفهوم في أذهان الناس إلا ذلك الحجر المعظم الذي يعرفونه، ولو كان المراد غيره لوجب بيان ذلك، ولم يرد دليل عن النبي صلى الله عليه وسلم أن المراد غير المعهود في الأذهان.
خامسًا: حكم نقل المقام عن مكانه:
هذه المسألة من المسائل التي تثار دومًا؛ وذلك لما يشهده المسجد الحرام من كثرة توافد المعتمرين والحجاج والزوار في أيام المواسم، ومن زحام في صحن المطاف؛ لرغبة الطائفين صلاة ركعتي الطواف خلف مقام إبراهيم عليه السلام، وقد كانت المسألة مثارة في عهد الملك سعود رحمه الله، وألف العلماء فيها رسائل، وخلاصة القول: أن العلماء اختلفوا في حكم نقل المقام على قولين:
القول الأول: جواز نقل المقام بشرطين:
1- أن يكون النقل إلى موضع موازٍ لمكانه، من الناحية الشرقيَّة فقط.
2- أن تكون هناك ضرورة لذلك.
القول الثاني: عدم جواز نقل المقام من مكانه مطلقًا.
أدلة الفريقين:
الخلاف في هذه المسألة مبني على مسألة أخرى؛ ألا وهي مسألة: هل المقام كان موضعه في الأصل ملاصقًا للكعبة وأُخِّر إلى المكان الحالي، أم أن موضعه الأصلي هو موضعه الحالي وإنما جُعل ملاصقًا للبيت بسبب السيل؟
وقد صدرت فتوى بالإجماع عن هيئة كبار العلماء في المملكة العربية السعودية، فيها تلخيص للأدلة وتعليل للحكم، وهذا نصها:
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، نبينا محمد، وعلى آله وصحبه،
وبعد: فبنـاء علـى خطـاب المقـام السـامـي رقـم (30560) وتـاريـخ 9/ 10/ 1394 هـ الموجه من جلالة الملك حفظه الله إلى فضيلة رئيس إدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد بخصوص عرض الرسالة التي هي من تأليف الشيخ/ علي الصالحي، الخاصة بنقل مقام إبراهيم – عليه السلام -… على هيئة كبار العلماء لدراسة المقترحات التي تضمنتها الرسالة، وبيان الرأي فيها. وفي الدورة السادسة لهيئة كبار العلماء المنعقدة في النصف الأول من شهر صفر عام 1395 هـ جرى من مجلس الهيئة استعراض الرسالة المذكورة، فوجدت تتلخص فيما يأتي:
اقتراح بنقل المقام من مكانه الحالي إلى مكان آخر؛ ليتسع المطاف للطائفين أيام الحج…. ثم جرى من المجلس مناقشة هذه المقترحات، ومداولة الرأي فيها، وتقرر ما يلي:
أولا: بالنسبة لموضوع نقل المقام، فمما لا شك فيه أن وضعه الحالي يعتبر من أقوى الأسباب فيما يلاقيه الطائفون في موسم الحج من المشقة العظيمة والكلفة البالغة التي قد تحصل بالبعض إلى الهلاك أو تقارب، وذلك بسبب الزحام والصلاة عنده، وقد سبق أن بحث موضوع نقله، وصدر من سماحة مفتي الديار السعودية الشيخ محمد بن إبراهيم – رحمه الله وأسكنه فسيح جناته- فتوى بجواز نقله شرعا، إلا أنه رؤي الاكتفاء بتجربة تتلخص في إزالة الزوائد المحيطة بالمقام، ويبقى في مكانه، فإن كان ذلك كافيا ومزيلا للمحذور استمر بقاؤه في مكانه، وإلا تعين النظر في أمر نقله. وحيث مضى على هذه التجربة عدة سنوات، واتضح أن بقاءه في مكانه الحالي لا يزال سببا في حصول الزحام والمشقة العظيمة به، ونظرا إلى أن من قواعد الشريعة الإسلامية: أن المشقة تجلب التيسير، وأن النصوص الشرعية قد تضافرت في رفع الحرج عن هذه الأمة، قال تعالى: قال تعالى ” وما جعل عليكم في الدين من حرج”، وقال تعالى ” يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر”، وقال تعالى” يريد الله أن يخفف عنكم وخلق الإنسان ضعيفاً”. وقد تتبعت الهيئة الآثار الواردة في تعيين مكان مقام إبراهيم عليه السلام في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وما ذكره بعض أهل التفسير والحديث والتاريخ أمثال: الحافظ ابن كثير، والحافظ ابن حجر، والشوكاني وغيرهم- فترجح لديها أن مكانه في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وعهد أبي بكر وبعض من خلافة عمر بن الخطاب رضي الله عنهما في سقع البيت، ثم أخره عمر أول مرة؛ مخافة التشويش على الطائفين، ورده المرة الثانية حين حمله السيل إلى ذلك الموضع الذي وضعه فيه أول مرة.
قال ابن كثير رحمه الله تعالى في تفسيره قوله تعالى ” واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى” بعد ذكره الأحاديث الواردة في الصلاة عنده- قال: قلت: وقد كان هذا المقام ملصقا بجدار الكعبة قديما، ومكانه معروف اليوم إلى جانب الباب مما يلي الحجر يمنة الداخل من الباب في البقعة المستقلة هناك، وكان الخليل – عليه السلام – لما فرغ من بناء البيت وضعه إلى جدار الكعبة، أو أنه انتهى عنده البناء فتركه هناك ؛ولهذا- والله أعلم- أمر بالصلاة هناك عند الفراغ من الطواف، وناسب أن يكون عند مقام إبراهيم حيث انتهى بناء الكعبة فيه، وإنما أخره عن جدار الكعبة أمير المؤمنين عمر بن الخطاب – رضي الله عنه -: أحد الأئمة المهديين، والخلفاء الراشدين الذين أمرنا باتباعهم، وهو أحد الرجلين اللذين قال فيهما رسول الله – صلى الله عليه وسلم – : اقتدوا باللذين من بعدي: أبي بكر، وعمر، وهو الذي نزل القرآن بوفاقه في الصلاة عنده؛ ولهذا لم ينكر ذلك أحد من الصحابة – رضي الله عنهم أجمعين -.
قال عبد الرزاق : عن ابن جريج، حدثني عطاء وغيره من أصحابنا، قال: أول من نقله عمر بن الخطاب – رضي الله عنه -، وقال عبد الرزاق أيضا: عن معمر، عن حميد الأعرج، عن مجاهد قال: أول من أخر المقام إلى موضعه الآن عمر بن الخطاب – رضي الله عنه -، وقال الحافظ أبو بكر أحمد بن الحسين بن علي البيهقي، أخبرنا أبو الحسن بن الفضل القطان، أخبرنا القاضي أبو بكر أحمد بن كامل ، حدثنا أبو إسماعيل محمد بن إسماعيل السلمي، حدثنا أبو ثابت، حدثنا الدراوردي، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة رضي الله عنها: أن المقام كان زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم وزمان أبي بكر رضي الله عنه ملتصقا بالبيت، ثم أخره عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وهذا إسناد صحيح مع ما تقدم، وقال ابن أبي حاتم : أخبرنا أبي، أخبرنا ابن أبي عمر العدني قال: قال سفيان- يعني: ابن عيينة – وهو إمام المكيين في زمانه: كان المقام في سقع البيت على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فحوله عمر إلى مكانه بعد النبي صلى الله عليه وسلم وبعد قوله: وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى قال: ذهب السيل به بعد تحويل عمر إياه من موضعه هذا فرده عمر إليه، وقال سفيان : لا أدري كم بينه وبين الكعبة قبل تحويله، وقال سفيان : لا أدري أكان لاصقا بها أم لا. فهذه الآثار متعاضدة على ما ذكرناه، والله أعلم.
وقد قال الحافظ أبو بكر بن مردويه: أخبرنا ابن عمر، وهو: أحمد بن محمد بن حكيم، أخبرنا محمد بن عبد الوهاب بن أبي تمام، أخبرنا آدم، هو: ابن أبي إياس في [تفسيره]، أخبرنا شريك عن إبراهيم بن المهاجر، عن مجاهد قال: قال عمر بن الخطاب : يا رسول الله، لو صلينا خلف المقام، فأنزل الله: (وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى) فكان المقام عند البيت فحوله رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى موضعه هذا، قال مجاهد : وكان عمر يرى الرأي، فينزل به القرآن، هذا مرسل عن مجاهد، وهو مخالف لما تقدم من رواية عبد الرزاق، عن معمر، عن حميد الأعرج، عن مجاهد : أن أول من أخر المقام إلى موضعه الآن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وهذا أصح من طريق ابن مردويه مع اعتضاد هذا بما تقدم، والله أعلم. اهـ.
وقال رحمه الله في معرض تفسيره قوله تعالى: (فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ) قد كان- أي المقام – ملتصقا بجدار البيت حتى أخره عمر بن الخطاب رضي الله عنه في إمارته إلى ناحية الشرق، بحيث يتمكن الطوّاف منه، ولا يشوشون على المصلين عنده بعد الطواف؛ لأن الله تعالى قد أمرنا بالصلاة عنده حيث قال: (وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى) اهـ.
وقال الحافظ ابن حجر في الجزء الثامن من [الفتح]، : كان عمر رأى أن إبقاءه- أي: مقام إبراهيم عليه السلام – يلزم منه التضييق على الطائفين، أو على المصلين فوضع في مكان يرتفع به الحرج. اهـ.
وقال الشوكاني في تفسيره [فتح القدير]، على قوله تعالى: وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى وهو- أي: المقام – الذي كان ملتصقا بجدار الكعبة، وأول من نقله عمر بن الخطاب رضي الله عنه، كما أخرجه عبد الرزاق والبيهقي بأسانيد صحيحة، وابن أبي حاتم وابن مردويه من طرق مختلفة. اهـ.
وبناء على ذلك كله : فإن الهيئة تقرر بالإجماع جواز نقله شرعا إلى موضع مسامت لمكانه من الناحية الشرقية؛ نظرا للضيق والازدحام الحاصل في المطاف، والضرورة إلى ذلك، ما لم ير ولي الأمر تأجيل ذلك لأمر مصلحي([42]).
سادسًا: الخاتمة
تبيَّن مما سبق الحديث فيه أنَّ النِّقاش في أصول الشريعة وفروعها يكون ممن تخصص في العلم الشرعي وتمكَّن من قواعدها، وأن غير المتخصص يجب عليه شرعًا الرجوع إلى أهل الاختصاص؛ لأن العلماء ورثة الأنبياء.
وبينَّا ضرورة التأدب مع الله تعالى في مناقشة المسائل المتعلقة بشعائر الدين ومدارستها، وعدم الخوض فيها بما ينافي تعظيم شعائر الله تعالى والبلد الحرام، فمقام إبراهيم عليه السلام شعيرة من شعائر الله، تعبدنا الله بالصلاة والدعاء عنده، وتعظيمه وتوقيره، وعرفنا أوجه عظمة هذا المقام.
ثم إن الله تعالى جعل في المقام آيات بينات وحجة دامغة للكفار، كما أن فيه تكريمًا للخليل إبراهيم عليه السلام، فاشتمل المقام على أوجه عديدة للإعجاز والبيان.
وتبين لنا جليًّا أن المراد بالمقام في قول الله تعالى: {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى} هو الحجر الذي قام عليه الخليل إبراهيم عليه السلام لبناء الكعبة، وعليه أذَّن في الناس بالحج، وأن الله تعالى أمر بالصلاة خلف هذا المقام وتعظيمه، وأن المسلمين هم المخاطبون في الآية.
وتبيَّن من خلال اختلاف العلماء في نقل المقام وتغيير مكانه أن الراجح جواز النقل، والحمد لله رب العالمين.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(المراجع)
([1]) أخرجه أبو داود (3641)، والترمذي (٢٦٨٢)، وابن ماجه (٢٢٣)، وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود.
([2]) أخرجه ابن خزيمة (2/ 132)، وابن حبان (١٦٣٩).
([3]) أخرجه الترمذي (٨٧٨)، وصحح إسناده ابن تيمية في شرح العمدة (2/ 434).
([4]) تفسير ابن كثير (1/ 417).
([5]) ينظر: أخبار مكة للفاكهي (1/ 452).
([6]) ينظر: جامع البيان لابن جرير (4/ 11).
([7]) ينظر: مصنف عبد الرزاق (5/ 49).
([8]) ينظر: مصنف ابن أبي شيبة (1/ 300).
([9]) ينظر: الحج أحكامه أسراره منافعه للعلامة عبد الرحمن الدوسري (ص: 38).
([10]) تفسير ابن عطية (1/ 475-476).
([11]) تفسير ابن كثير (1/ 417).
([12]) المحرر الوجيز (1/ 475-476).
([16]) المحرر الوجيز (1/ 475-476).
([19]) الكشاف للزمخشري (1/ 387-388).
([21]) تفسير القرطبي (2/ 112).
([22]) القاموس المحيط (ص: 1152)، لسان العرب (1/ 220، 12/ 506، 14/ 57).
([23]) المقصود حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: وافقت ربي في ثلاث… فقلت: يا رسول الله، لو اتخذنا من مقام إبراهيم مصلى، فأنزلت {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى}. أخرجه البخاري (402).
([25]) المقصود حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: وافقت ربي في ثلاث… فقلت: يا رسول الله، لو اتخذنا من مقام إبراهيم مصلى، فأنزلت {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى}. أخرجه البخاري (402).
([26]) المقصود حديث جابر رضي الله عنه في صفة الحج، وفيه: حتى إذا أتينا البيت معه استلم الركن، فرمل ثلاثا ومشى أربعا، ثم نفذ إلى مقام إبراهيم عليه السلام، فقرأ: {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى} فجعل المقام بينه وبين البيت… أخرجه مسلم (1218).
([27]) تفسير الطبري (2/ 37-38).
([28]) ينظر: تفسير ابن كثير (1/ 413).
([29]) تفسير الماوردي (1/ 187).
([33]) زاد المسير لابن الجوزي (1/ 122).
([34]) تفسير القرطبي (2/ 112).
([36]) ينظر: فضل الحجر الأسود ومقام إبراهيم، لسائد بكداش (ص: 91).
([37]) تفسير ابن كثير (1/ 416).
([40]) أخرجه أبو داود (1909)، وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود (1667).
([41]) أحكام القرآن للجصاص (1/ 92).
([42]) انظر في المسألة: مقام إبراهيم هل يجوز تأخيره عن موضعه، للمعلمي، ونقض المباني من فتوى اليماني، لسليمان الحمدان، ونقل مقام إبراهيم دراسة فقهية مقارنة، للمنيعي.