الشطح الصوفي .. عرض ونقد (الجزء الثاني)
للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة
تحدثنا في الجزء الأول عن تعريف الشطح عند الصوفية، وكيف يتصوّره الصوفية، وكيف يتعاملون معه، وفي هذا الجزء نحاول نقد هذه الظاهرة المعقدة والمشتبكة وتفكيكها، وذكر مواقف أهل العلم منها.
أولا: نقد تصوير الصوفية للشطح:
تصوير الصوفية للشطح بأنه عبارة عن حالة إيمانية عرفانية وجدانية شديدة، بحيث لا يمكن لصاحبها كتمانه، ولا تتّسع اللغة للتعبير عنها، فتفيض على لسانه هذه الكلمات المستشنعة كما يفيض النهر من حافتيه؛ فيه نظر؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه لم تؤثَر عنهم هذه الأحوال ولا مثل هذه الكلمات، وهم أكمل الناس إيمانًا وأصحّهم أحوالًا، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وما لم يكن يومئذ دينًا فليس اليوم دينًا، قال ابن مسعود رضي الله عنه: “مَنْ كَانَ مِنْكُمْ مُتَأَسِّيًا فَلْيَتَأَسَّ بِأَصْحَابِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ فَإِنَّهُمْ كَانُوا أَبَرَّ هَذِهِ الْأُمَّةِ قُلُوبًا وَأَعْمَقَهَا عِلْمًا وَأَقَلَّهَا تَكَلُّفًا وَأَقْوَمَهَا هَدْيًا وَأَحْسَنَهَا حَالًا، قَوْمًا اخْتَارَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى لِصُحْبَةِ نَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَاعْرِفُوا لَهُمْ فَضْلَهُمْ وَاتَّبِعُوهُمْ فِي آثَارِهِمْ؛ فَإِنَّهُمْ كَانُوا عَلَى الْهُدَى الْمُسْتَقِيمِ”([1]).
وقد وصف الله تعالى حال المؤمنين عند سماع الذكر والقرآن، فقال تعالى: ﴿وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَىٰ أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ﴾ [المائدة: 83]، وقال تعالى: ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَىٰ رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ﴾ [الأنفال: 2]، وقال تعالى: ﴿اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُّتَشَابِهًا مَّثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَىٰ ذِكْرِ اللَّهِ﴾ [الزمر: 23].
فهذا هو الحال الشرعي والوجد الإيماني، وهو وجل القلب ودمع العين واقشعرار الجلد ولين القلوب، ولم يذكر منها الغَيبة ولا السكر ولا الفناء عن شهود الحواسّ، ولا الغيبة بمذكوره عن ذكره ولا بمشهوده عن شهوده، ولا عدم الشعور بفعله أو بنفسه، بحيث تخرج منه الكلمات المنكرة القبيحة، فهذه بلا شك أحوال مخالفة للشريعة وليست من الولاية في شيء.
قال الذهبي -رحمه الله-: “ولا وجود لتلك الأحوال من الفناء والمحو والصحو والسكر إلا مجرد خطرات ووساوس، ما تفوّه بعباراتهم صِدِّيق، ولا صاحب، ولا إمام من التابعين. فإن طالبتهم بدعاويهم مقتوك، وقالوا: محجوب، وإن سلمتَ لهم قيادَك تخبّط ما معك من الإيمان، وهبط بك الحال على الحيرة والمحال، ورمقت العباد بعين المقت، وأهل القرآن والحديث بعين البُعد، وقلت: مساكين محجوبون! فلا حول ولا قوة إلا بالله. فإنما التصوّف والتأله والسلوك والسير والمحبة ما جاء عن أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم من الرضا عن الله، ولزوم تقوى الله، والجهاد في سبيل الله، والتأدب بآداب الشريعة من التلاوة بترتيل وتدبر، والقيام بخشية وخشوع، وصوم وقت، وإفطار وقت، وبذل المعروف، وكثرة الإيثار، وتعليم العوام، والتواضع للمؤمنين، والتعزّز على الكافرين، ومع هذا فالله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم”([2]).
ثانيا: تفسير الشطح:
إن قيل: فما تفسير الشطح إذن؟
فالجواب: أن الشطح لا يخرج عن ثلاث حالات:
الأولى: الكلام الناشئ عن اعتقاد الحلول ووحدة الوجود ولوازم هذه العقيدة من استباحة المحرمات والمساواة بين الأديان.
الثانية: الكلام الصادر في حال الغيبة والسكر وما يسمونه الفناء عن شهود السِّوى.
الثالثة: كلام صادر في حال الصحو واليقظة، ولكنه يحتمل حقًّا وباطلًا، ويمكن تأويله تأويلا سائغًا، فيحمل على المعنى الحسن؛ إحسانًا للظن بصاحبه، والتماسًا للأعذار، وعدم المسارعة بالتكفير أو التبديع بالأمور المحتملة.
ودونك التفصيل:
الحالة الأولى: الشطح المعبِّر عن عقيدة الحلول والاتحاد:
من المعروف أن بعض غلاة الصوفية اعتنقوا عقيدة وحدة الوجود، كابن عربي وابن الفارض والعفيف التلمساني وصدر الدين القونوي وابن سبعين، ومن قبلهم الحلاج القائل بالحلول والمقتول على ذلك.
وهؤلاء كلامهم في ذلك موثّق ومعروف، ولا يمكن وصفه بأنه خارج في حال الغيبة والسكر، بل هو كلام مكتوب ومنظّم، وأصرّ أصحابه عليه، ودعَوا الناس له، وبعضهم قُتِل على ذلك ولم يتراجع، معتبرًا أن ثباته على ذلك من باب الفتوَّة -كما سبق في كلام الحلاج-.
ثم إن هؤلاء التزموا بلوازم هذه العقيدة الباطلة، مثل القول بوحدة الأديان، باعتبار أن الجميع قد عبد الله تعالى، فما ثَمَّ إلا واحد، ومثل القول بصحة إيمان فرعون وإبليس، وقول بعضهم باستباحة المحرمات وترك الجهاد، فإذا كان الجميع واحدًا فلا معنى للحلال ولا الحرام حينئذ.
فمثلا الحلاج يقول في أبياته الشهيرة:
سبحان من أظهر ناسوته سر سنا لاهوته الثاقب
ثم بدا في خلقه ظاهرًا في صورة الآكل والشارب
حتى لقد عاينه خلقه كلحظة الحاجب بالحاجب([3])
وينقل في كتابه (الطواسين) -كما سبق بيان بعض ذلك- ما يدل على عقيدته في حلول اللاهوت في الناسوت، ولذلك أفتى جميع الفقهاء بل والصوفية بإباحة دمه لزندقته، بل وتبرأ منه جميع الصوفية، ولم يصحِّحوا حاله سوى ثلاثة -كما سبق-، وكذلك ابن عربي في كتابه (الفصوص) وغيره من الكتب التي شحنها بكلامه نظمًا ونثرًا بعقيدة وحدة الوجود، كقوله:
لقد صار قلبي قابلًا كلَّ صورةٍ فمرعى لغزلان ودِير لرهبانِ
وبيت لأوثان وكعبة طائفٍ وألواح توراة ومُصحَف قرآنِ
أدين بدين الحب أنَّى توجَّهت ركائبه فالحبُّ ديني وإيماني([4])
وكذلك عمر بن الفارض في قصيدته التائية الممتلئة بهذه الكلمات الكفرية، كقوله:
ولم أله باللاهوت عن حكم مظهري ولم أنس بالناسوت مظهر حكمتي
وقد جاءني مني رسول عليه ما عنت عزيز بي حريص لرأفة
ومن عهد عهدي قبل عصر عناصري إلى دار بعث قبل إنذار بعثة
إلي رسولا كنت مني مرسلا وذاتي بآياتي علي استدلّتِ([5])
وكلام هؤلاء الصوفية في عقيدة الاتحاد كثير جدًّا، ولا يمكن اعتباره صادرًا عن عدم شعور، وهو كذلك صريح في الكفر، بحيث لا يجوز تأويله إلا على طريقة التأويلات الباطنية، كالتأويلات الرمزية التي لا ضابط لها من لغة ولا من شرع. ولذلك صرح كثير من العلماء بكفر أصحاب هذه العقيدة، وأنه لا يجوز تأويل كلامهم، بعد أن عرِف مقصودهم؛ إذ لو صحّ ذلك لما وُجِد كافرٌ على وجه الأرض، ولأمكن تأويل كلام أكفر الكفار كفرعون وإبليس! ولكن إذا عرفت أن هؤلاء يصحّحون عقيدة فرعون وإبليس علمت حقيقة اعتقادهم.
قال الحافظ الذهبي -رحمه الله- عن عقيدة ابن الفارض وقصيدته التائية التي شحنها بالاتحاد: “فإن لم يكن في تلك العقيدة صريح الاتحاد الذي لا حيلة في وجوده فما في العالم زندقة ولا ضلال”([6]).
ويقول عنه أيضا: “ينعق بالاتحاد الصريح في شعره، وهذه بلية عظيمة، فتدبر نظمه ولا تستعجل، ولكنك حسن الظن بالصوفية، وما ثم إلا زي الصوفية وإشارات مجملة، وتحت الزي والعبارة فلسفة وأفاعي، فقد نصحتك. والله الموعد”([7]).
وقال الحافظ ابن حجر -رحمه الله- بعد أن ذكر شيئًا من أشعار ابن الفارض في الاتحاد: “وقد كنت سألت شيخنا الإمام سراج الدين البلقيني عن ابن عربي فبادر الجواب بأنه كافر، فسألته عن ابن الفارض فقال: لا أحبّ أن أتكلّم فيه. قلت: فما الفرق بينهما والموضع واحد؟ وأنشدته من التائية، فقطع عليّ بعد إنشادِ عدّة أبيات بقوله: هذا كفر، هذا كفر”([8]).
وممن أطال في بيان كفر هؤلاء الاتحادية، وعدم جواز الاعتذار عنهم، ونقل تحذير العلماء منهم، وبيان تكفير العلماء لهم: برهان الدين البقاعي (ت: 885هـ) في كتابه المشهور: (تنبيه الغبي إلى تكفير ابن عربي وتحذير العباد من أهل العناد ببدعة الاتحاد)، فمما قاله: “وسميتُ هذه الأوراق: تنبيه الغبي على تكفير ابن عربي، وإن شئت فسمِّها: النصوص من كفر الفصوص؛ لأني لم أستشهد على كفره وقبيح أمره إلا بما لا ينفع معه التأويل من كلامه، فإنه ليس كل كلام يقبل تأويله وصرفه عن ظاهره”([9]).
وقال في موضع آخر من كتابه: “والفيصل في قطع التأويل من أصله أن محقّق زمانه وصالحه علاء الدين محمد البخاري الحنفي ذكر عنده ابن عربي هذا، فقال قاضي المالكية إذ ذاك شمس الدين محمد البساطي: يمكن تأويل كلامه، فقال له البخاري: كفرتَ. وسلّم له أهلُ عصره ممن كان في مجلسه ومِنْ غيرهم، وما طَعَنَ أحدٌ منهم فيه بكلمة واحدة، وقد كان منهم حافظ العصر قاضي الشافعية بها شهاب الدين أحمد بن حجر، وقاضي القضاة زين الدين عبد الرحمن التفهني، وقاضي القضاة محمود العيني الحنفي، والشيخ يحيى السيرامي الحنفي، وقاضي القضاة محب الدين أحمد بن نصر الله البغدادي الحنبلي، وزين الدين أبو بكر القمني الشافعي، وبدر الدين محمد بن الأمانة الشافعي، وشهاب الدين أحمد بن تقي المالكي، وغيرهم من العلماء والرؤساء، وما خلص البساطي من ذلك إلا بالبراءة من اعتقاد الاتحاد، ومن طائفة الاتحادية، وتكفيره لمن يقول بقولهم”([10]).
وأما النقول عن شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- في ذلك فلا تحصى كثرة، ولا عجب فهو فارس هذا الميدان، أعني الحرب على الاتحادية، وكشف زيفهم وخداعهم الذي لبّسوا به على كثير من أهل زمانهم، ونشروا هذه العقيدة الكفرية تحت ستار التصوف، ولذلك اجتهد شيخ الإسلام -رحمه الله- في كشف حقيقة هؤلاء الزنادقة، وتحذير المسلمين -خاصّة متصوفة زمانه- من أن تتسرّب إليهم عقيدة الوحدة عبر غطاء التصوف والانتساب إليه.
ولذلك فَرّق ابنُ تيمية بين شيوخ التصوّف كالجنيد والبسطامي وأبي حمزة الصوفي وأمثالهم من أصحاب الشطحات، فتأول لهم، أو حمل كلامهم على أنه صادر في حال الغيبة والسكر الذي يعذَر صاحبه، والزنادقة الاتحاديين كالحلاج وابن عربي وابن الفارض وأمثالهم ممن عُرِفت عقائدهم وأحوالهم.
وقد لخص رحمه الله موقفه في ذلك بقوله: “وليس لهذه المقالات [أي: مقالات الحلولية والاتحادية] وجهٌ سائغ، ولو قُدِّر أن بعضها يحتمل في اللغة معنى صحيحًا فإنما يُحمل عليها إذا لم يُعْرف مقصودُ صاحبِها، وهؤلاء قد عُرِف مقصودهم كما عرف دين اليهود والنصارى والرافضة، ولهم في ذلك كتبٌ مصنفةٌ وأشعارٌ مؤلفة، وكلام يفسر بعضُه بعضًا. وقد عُلِم مقصودهم بالضرورة، فلا ينازِع في ذلك إلا جاهل لا يُلتفت إليه، ويجب بيان معناها وكشف مغزاها لمن أحسن الظن بها، وخيف عليه أن يحسن الظنّ بها، أو أن يضل”([11]). وسوف يأتي مزيد بيان لموقف شيخ الإسلام في آخر الورقة.
الحالة الثانية: الشطحات الصادرة عن حالة الغيبة والسكر:
ويقصد بالسكر في هذا المقام -كما سبق-: الغيبة لوارد قويّ مفرح.
والحقيقة أن العبادات والمجاهدات الشرعية لا توصل غالبًا صاحبَها إلى هذه الأحوال، وإنما الذي يوصل إلى ذلك هو الرياضات البدعية المنقولة عن الفلسفات الهندية والبوذية ونحوها من الديانات التي تقوم على الاستغراق في الشهود والتأمل، مع الحرمان الشديد من الشهوات المباحة، والجوع والسهر الشديدين حتى يذهل الإنسان عن شعوره بالكلية، ويفقد تمييزه، وهم يعتبرون أن هذه الحالة هي حالة عرفانية يستشعر فيها السالك قرب الله تعالى، والحقيقة أنها حالة مَرَضِيّة ناشئة عن الغلو والتنطّع الذي نهت عنه الشريعة.
ولذلك ما يصدر عن صاحب هذه الحالة من كلمات وشطحات فهو معذور فيها، بمعنى أننا لا نكفّره بذلك؛ لأن من شروط تكفير المعيّن العقل كما في الحديث: «رُفِع القَلمُ عن ثلاثةٍ: عن النَّائمِ حتَّى يستيقظَ، وعن الصَّبي حتَّى يحتلِمَ، وعن المجنونِ حتَّى يَعقِلَ»([12]). فما يصدر عن فاقد العقل لا يؤاخذ به.
وهل يؤاخذ على سكره والحالة التي وصل إليها؟
الجواب: أنه إن كان تعمَّد ذلك فهو مقصّر ومذنب، وإن كان بغير تعمّد فهو غير مذنب، وإن كان هذا من النقص، فثابت العقل أكمل منه.
ثم الأهم من ذلك أن ما يصدُر عنه من كلام في هذه الحالة يُطوَى ولا يروى، ولا يعتبر منقبة، ولا يروى كلامه على أنه كلام عظيم ولكن العامّة لا يفهمونه! بل غاية الأمر أنه معذور في ذلك، لا ثواب ولا عقاب.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- بعد أن نقل جملةً من شطحات الصوفية، مثل ما ذُكِر عن الشبلى أنه سُئِلَ: مَتى يستريح؟ قَالَ: إذا لم أر لَهُ ذَاكِرًا، وَسمع النوري رجلًا يُؤذن فَقَالَ: طعنة وسم الْمَوْت، وَسمع كَلْبًا ينبح فَقَالَ: لبيْك وَسَعْديك! فقال شيخ الإسلام في ذلك: “ومثل هذه الكلمات والحكايات لا تصلح أن تذكَر للاقتداء أو سلوك سبيل وطريقة؛ لما فيها من مخالفة أمر الله ورسوله، والذي يصدر عنه أمثال هذه الأمور إن كان معذورًا بقصور في اجتهاده أو غَيبة في عقله فليس منِ اتبعه بمعذور مع وضوح الحقّ والسبيل، وإن كانت سيئته مغفورة؛ لما اقترن بها من حسن قصد وعمل صالح، فيجب بيانُ المحمود والمذموم لئلا يكون لبسًا للحق بالباطل. وأبو الحسين النوري وأبو بكر الشبلي -رحمة الله عليهما- كانا معروفين بتغيير العقل في بعض الأوقات، حتى ذهب الشبلي إلى المارستان مرتين، والنوري -رحمه الله- كان فيه وَلَه وقد مات بأجْمة قصب؛ لما غلبه الوجد حتى أزال عقله، ومَن هذه حالُه لا يصلح أن يُتّبع في حال لا يوافِق أمر الله ورسوله، وإن كان صاحبها معذورًا أو مغفورًا له، وإن كان له من الإيمان والصلاح والصدق والمقامات المحمودة ما هو من أعظم الأمور، فليس هو في ذلك بأعظم من السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان؛ فإنهم يُتَّبعون في طاعة، ولا يذكرون إلا بالجميل الحسن، وما صدر منهم من ذنب أو تأويل وليس هو مما أمر الله به ورسوله لا يتَّبعون فيه، فهذا أصل يجب اتباعه”([13]).
وقال أيضا: “وقد تكلمنا على أقسام الفناء في اصطلاح السالكين، وبينا أنه يراد به ثلاثة معان، أحدها محمود، والثاني منقوص، والثالث إلحاد.
فالأول: أن يفنى بعبادته عن عبادة ما سواه، وبطاعته عن طاعة ما سواه، وبمحبته عن محبة ما سواه، وبخوفه عن خوف ما سواه، وبرجائه عن رجاء ما سواه، وبالتوكل عليه عن التوكل على ما سواه. وهذه حقيقة التوحيد الذي أرسل الله به الرسل وأنزل به الكتب، وهذا حال الأنبياء وأتباعهم. والفناء عن عبادة السِّوى يُقارنه البقاء بعبادته تعالى، فهذا الفناء يقارنه البقاء، وهو حقيقة قول: لا إله إلا الله.
وأما النوع الثاني: وهو الفناء عن شهود السّوى، ويسمى الاصطلام، ومنه الفناء في توحيد الربوبية، وهو أن يغيب بمشهوده عن شهوده، وبمعبوده عن عبادته، وبمذكوره عن ذكره، وبمعروفه عن معرفته، فيفنى بالمعروف عن المعرفة والعارف. وهذه الحال ليست واجبة ولا مستحبة، وليست حال الأنبياء ولا السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار، ولا أكابر المشايخ الصالحين، ولكن هو حالٌ يعْرِض لطائفةٍ من السالكين كما يُذْكر عن أبي يزيد -رحمه الله- وعن غيره أنه قال في هذا المشهد: سبحاني! أو: ما في الجبَّة إلا الله، ونحو ذلك. ويحكون أن شخصًا كان يحبّ آخر، فألقى المحبوب نفسه في اليمّ، فألقى المحبّ نفسه خلفه فقال: أنا وقعتُ فما أوقعك؟! فقال: غبتُ بك عني فظننتُ أنك أني.
وهذه الحال إذا زال معها عقل الإنسان الذي هو مناط التكليف بسببٍ غير محرَّم كان معذورًا، وإن كان بسبب محرَّم فقال مثل ذلك فهو مذموم على ذلك. وهل يكفر إذا زال بما تشتهيه النفس كالخمر؟ فيه نزاع معروف عند العلماء، وأما بما لا تشتهيه الطباع كالبنج فقيل: هو كالسكران بالخمر، وقيل: كالمجنون. ومن زال عقله بالسماع ونحوه فهو على هذا التفصيل. وأما في حال العقل فمن قال هذا كان كافرًا يجب قتله إن لم يتب.
وكثير من السالكين تعرض له هذه الحال في بعض الأوقات، فإذا حضرت فريضة قام إليها، ومنهم من يُحْفَظ عن المعاصي، وهذا لصدقهم في حال حضور العقل حُفِظوا في حال غَيبة العقل، لكن بكلّ حال ليس العبد مأمورًا بالمقام في هذه الحال وهي تُحمد من جهة انجذاب القلب إلى ربّه، ومن جهة توجُّهه إليه وتألُّهه إيَّاه، ويسميها بعضُ الناس: الجمع الأول”([14]).
وقال ابن القيم -رحمه الله- في شرح كلام الهروي: “الدرجة الثالثة: صيانة الانبساط أن تشوبه جرأة، وصيانة السرور أن يداخله أمن، وصيانة الشهود أن يعارضه سبب”.
فقال: “لما كانت هذه الدرجة عنده مختصّة بأهل المشاهدة -والغالب عليهم الانبساط والسرور- فإن صاحبها متعلّق باسمه الباسط، حذره من شائبة الجرأة. وهي ما يخرجه عن أدب العبودية، ويدخله في الشطح، كشطح من قال: سبحاني! ونحو ذلك من الشطحات المعروفة المخرجة عن أدب العبودية التي نهاية صاحبها أن يعذر بزوال عقله وغلبة سكر الحال عليه”([15]).
فشيخ الإسلام وتلميذه ابن القيم جعلا السكر هنا مانعًا من التمييز في الكلام الذي يصدر عنه، كحال من شرب الخمر فزال تمييزه وعقله، وزوال العقل من عوارض الأهلية التي يزول معها التكليف، فلا يحكم بكفر من نقل عنه ذلك.
وقد رفض هذا التأويل بعض العلماء والباحثين قديمًا وحديثًا، فابن الجوزي -رحمه الله- بعد أن نقل جملة من شطحات البسطامي، ومنها قوله: سبحاني سبحاني ما أعظم شاني! حسبي من نفسي حسبي، نقل تأويل الجنيد لها بقوله: “إن الرَّجُل مستهلك فِي شهود الجلال، فنطق بما استهلكه، أذهله الحق عَنْ رؤيته إياه، فلم يشهد إلا الحق فنعته”. ووصف ابن الجوزي هذا الكلام بقوله: “وهذا من الخرافات”([16]).
وابن الجوزي يرى أن غاية ما يمكن قبوله في ذلك -إن صحّ الكلام عن البسطامي- أنه ربما يكون الراوي لم يفهم؛ لأنه يحتمل أن يكون قد ذكر تمجيد الحقّ نفسه، فَقَالَ فيه: سبحاني! حكاية عَنِ الله، لا عَنْ نفسه. مع أنه بعد هذا الموضع بقليل بعد أن أورد أقوالا مستشنعة عن البسطامي فقال بعدها: “لولا أن هَذَا الرَّجُل قد نسب إِلَى التغيّر لكان ينبغي أن يرد عَلَيْهِ”([17]). فرجع الكلام إلى احتمال أن يكون صدر في حال غيبة العقل وزواله. وكلام ابن الجوزي أضبط؛ فإنه عذره بتغير عقله، ولم يجعل هذا ناشئًا عن كمال العرفان كما قد يُفْهم من كلام الجنيد.
وممن أنكر ذلك التفسير أيضا الدكتور عبد الرحمن بدوي -وهو ممن ينتصر لفكرة وحدة الوجود في كتابه (شطحات الصوفية)- حيث استنكر جدًّا تفسير شيخ الإسلام للسكر بما يفهم منه زوال التمييز والعقل الرافع للتكليف، وأنه تعمد الخلط بين السكر الروحاني والجسماني([18])، وذلك لأن بدوي ينتصر لكون هذه الشطحات هي تعبير عن عين الحقيقة وهي وحدة الوجود، وهي غاية التوحيد عند الصوفية.
ولا شك أن كلام بدوي ينطبق على فئة من الزنادقة من دعاة وحدة الوجود والحلول، وهذه حالة شيطانية ليست غاية التوحيد كما ذكر، ولكننا لا يمكننا تعميم كلامه على كل الشاطحين ممن ثبت عنهم الالتزام بالشريعة والتفريق بين الخالق والمخلوق، ونقل غير واحد ممن خالطهم أو قرب منهم أنهم كانوا في حالة تغير، فإعذار هؤلاء وعدم تكفيرهم بأعيانهم مع رد الباطل في كلامهم هو الأقرب والأحوط، وفيه حفاظ على جانب الشريعة مع إعذار الخلق، وهي طريقة أهل السنة والجماعة الذين جمعوا بين التمسك الحق ورحمة الخلق.
الحالة الثالثة: الكلام الصادر في حال الصحو واليقظة ولكنه يحتمل حقًّا وباطلًا:
وهي الكلمات المنقولة عن بعض الأفاضل، وظاهرها مخالف للشرع، ولكن يمكن تأويلها تأويلا سائغا محتملا، فالكلام هنا في مقامين:
المقام الأول: أن الأولى ترك الكلام المشتبه، والتكلم بالكلام المبين الذي لا يؤدي للبس الحق بالباطل، ومن تأمل كلام السلف والأئمة لم يجد فيه مثل هذا النوع الذي كثر وروده عن الصوفية، بحيث يصير كلام الواحد منهم حجة لأهل الحق وأهل الباطل.
المقام الثاني: أن الواجب رد المتشابه إلى المحكم من كلام أهل العلم، وتفسيره بأحسن الاحتمالات طالما كان ذلك سائغًا محتملا.
وأمثلة ذلك في صنيع العلماء كثيرة جدًّا، فمن ذلك تأويل ابن القيم لكلام الهروي الذي ظاهره استحلال المحرمات، وهو قوله: “إن مشاهدة العبد الحكم لم يدع له استحسان حسنة ولا استقباح سيئة؛ لصعوده من جميع المعاني إلى معنى الحكم”، قال ابن القيم رحمه الله: “فهذا الكلام الأخير ظاهره يبطل استحسان الحسن واستقباح القبيح، والشرائع كلها مبناها على استحسان هذا واستقباح هذا… وقد كان شيخ الإسلام [أي: الهروي] في ذلك موافقًا للأمر وغضبه لله ولحدوده ومحارمه، ومقاماته في ذلك شهيرة عند الخاصة والعامة، وكلامه المتقدم بيّن في رسوخ قدمه في استقباح ما قبحه الله واستحسان ما حسنه الله، وهو كالمحكم فيه وهذا متشابه، فيرد إلى محكم كلامه”([19]).
ومن ذلك تأويل شيخ الإسلام ابن تيمية لقول الشيخ عبد القادر الجيلاني: “قدمنا هذه على رقبة كلّ ولي”، فتأوله شيخ الإسلام بأن معناه: “أي: على كلِّ وليٍّ لله أن يتبع الأمر والنهي الإلهي النبويّ الشرعيّ المحمدي، ويحكِّم على نفسه الكتاب والسنة، ولا يخرج عن ذلك لا لذوقٍ يخالفه أو وجدٍ أو حالٍ أو مشهد أو غير ذلك، بل يزن أذواقه ومواجيده وأحواله وحقائقه بالكتاب والسنة”([20]).
وفي شرح شيخ الإسلام لرسالة القشيري المعروف بـ(الاستقامة) نماذج كثيرة لمثل هذا.
وقد سبق نقل جواب الحافظ ابن حجر العسقلاني -رحمه الله- على الشطحات المنقولة عن الشيخ عبد القادر، وأن ما كان منها محتملًا لموافقة الشريعة أو مخالفتها “فهذا ينبغي الجزم بحمله على المحمل الصحيح، ولو بالتأويل”([21]).
ثالثا: التفريق بين الحكم العام وبين الكلام في المعيَّنين:
مما ينبغي التنبّه له جيّدًا في هذا المقام قضية التفريق بين الحكم العام وبين الكلام في المعينين. فمن المعلوم أن هناك فرقًا بين كفر النوع وكفر العين.
وتكفير الأعيان متوقف على أمرين:
الأول: أن يصدر عنه كفر بواح لا يحتمِل غير ذلك، وأن يثبت ذلك عنه ثبوتًا يقينيًّا لا يحتمل الشكّ.
الثاني: استيفاء الشروط وانتفاء الموانع المانعة من التكفير، فالصغر والجنون وزوال العقل والإكراه والخطأ والنسيان وعدم قيام الحجة الرسالية ووجود التأويل المعتبر، كلها موانع من التكفير، كما هو معلوم من كلام أهل العلم في مواضعه.
ومن أسباب اللّبس في هذا المقام الخلطُ بين مقام الحكم على الأقوال والحكم على أصحابها، فكثير من هذه الشطحات المنقولة هي كفر صريح لا يجوز الاختلاف في ذلك، وإلا لما وجد كفر على وجه الأرض، ولكن تكفير أصحابها متوقّف على ما ذكرنا، وهو ثبوت الأمر عنه، ثم النظر في عوارض الأهلية.
فمن أمثلة ذلك قول شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: “وأما ما ذكر عن رابعة العدوية من قولها عن البيت: (إنه الصنم المعبود في الأرض) فهو كذب على رابعة، ولو قال هذا من قاله لكان كافرا يستتاب فإن تاب وإلا قتل… وكذلك ما نقل من قولها: (والله ما ولجه الله ولا خلا منه) كلام باطل عليها”([22]).
وكثير من الكلام المنقول عن البسطامي وغيره غير موثَّق بالأسانيد الصحيحة، وإنما هي حكايات منقولة بلا أسانيد تصلح للحكم على أصحابها بمقتضى هذا الكلام.
وهذا بخلاف أصحاب الكتب الموثَّقة والذين تواترت الأخبار عنهم بهذه العقائد والكلمات الكفرية، بل وحوكموا على ذلك ولم يتراجعوا، فهؤلاء لا يمكن الاعتذار عنهم كالحلاج وابن عربي وابن سبعين والتلمساني وابن الفارض وأمثالهم من أقطاب عقيدة الوحدة الكفرية الباطلة، بخلاف من قبلهم، فإن الأهم هو ردّ كلامهم الباطل، وبيان أنه منابذ للشريعة، وأن من اتبعهم على معناه الباطل فهو كافر غير معذور، وأما أعيان القائلين فإن ثبت عنهم فربما كانوا معذورين بغياب العقل ونحوه من الأعذار المانعة من التكفير.
رابعا: تنبيه حول موقف ابن تيمية من شطحات الصوفية:
يذكر كثير من المتصوفة أن ابن تيمية قد برَّر شطحات الصوفية ولم يكفّرهم بها، ويجعلون هذا حجّة على السلفيّين الذين يغلّظون على شطحات الصوفية، فهل هذا صحيح؟
والجواب يمكن استخلاصه مما سبق، ولكن لا مانع من بيانه بعضَ الشيء تجليةً لهذه الشبهة.
أولا: لم يعتذر ابن تيمية عن جميع ما يوصَف بأنه شطحات، بل بعض هذه الكلمات اعتبرها كفرًا وردّة صريحة، سواء كفّر أصحابها -كما فعل مع ابن عربي وأصحابه- أو توقف عن تكفير الأعيان إما لعدم الثبوت أو لاحتمال زوال العقل.
ثانيا: اعتذار ابن تيمية عن القائلين بأنها صادرة عن سكر وغَيبة ليس مدحًا لهذه الأحوال البِدعية، بل يراها أحوالَ نقص مذمومة كما سبق النقل عنه، بخلاف الصوفية الذين يرونها صادرة عن العرفان، ويرون السكر والغَيبة من الأحوال المحمودة، ويرون الفناء من مقامات الخواص.
ثالثا: لا بد من فهم السياق الذي عاشه شيخ الإسلام، فقد نشأ في بيئة ينتشر فيها التصوّف ويعظَّم رجاله، حتى إن شيخ الإسلام نفسه تأثر في مقتبل حياته بذلك، وكان يحسن الظنّ بابن عربي كما قال رحمه الله: “وإنما كنت قديمًا ممن يحسن الظن بابن عربي ويعظِّمه؛ لما رأيت في كتبه من الفوائد؛ مثل كلامه في كثير من (الفتوحات) و(الكنه) و(المحكم المربوط) و(الدرة الفاخرة) و(مطالع النجوم) ونحو ذلك، ولم نكن بعدُ اطلعنا على حقيقة مقصوده، ولم نطالع (الفصوص) ونحوه، وكنا نجتمع مع إخواننا في الله نطلب الحقَّ ونتَّبعه، ونكشف حقيقة الطريق، فلما تبين الأمرُ عرفنا نحن ما يجب علينا”([23]).
ولم تستمرّ حالةُ الإعجاب هذه كثيرًا، فقد انكشف له الأمر مبكّرًا، ونشط جدًّا في الرد على الاتحاديين، وكشف زيفهم، وبدأ يكاتب العلماء في الأمصار لكشف حقيقة الأمر.
ومن أسباب هذا الانكشاف أيضا شهادات كثير من العلماء الذين خالطوا هؤلاء الزنادقة وكشفوا أسرارهم، ففي عام (680هـ) قدم الشيخ كمال المراغى إلى دمشق، وكان قد جالس الخواجا الطوسي والعفيف التلمساني، وكَشَفَ حقيقةَ ما هم عليه، وحدّث في دمشق بذلك، وكانت هناك شهادات أخرى لغيره من المشايخ القادمين إلى دمشق من بلاد المشرق.
وهذا كله استدعى انتباهًا وتيقّظا وتعاونا بين شيخ الإسلام ومشايخ التصوّف المنضبطين كالشيخ عماد الدين الواسطي والشيخ الدباهي وغيرهما من مشايخ دمشق؛ لمقاومة خطر الاتحادية.
ففي عام (704هـ) عُقد مجلس في دار الحديث السّكّريّة بدمشق، حضَره بعض مشايخ دمشق للنظر في كلام ابن عربي، وعَرض فيها ابن تيمية حقيقةَ أقواله، واتَّفق الحاضرون أنها كفر وإلحاد([24]). وفي نفس العام راسل شيخُ الإسلام الشيخَ نصرَ المنبجي ليكشف له أمر ابن عربي([25]).
وكان أكثر ما يخشاه ابن تيمية هو تسرّب دعاوى الاتحاديين عبر غطاء التصوف، ولذا انصبّت جهود شيخ الإسلام على الفصل بين التصوف السني السلوكي -وإن كان له عليه ملاحظات ومؤاخذات كثيرة- والتصوف الفلسفي الاتحادي الإلحادي، وبيان أن شيوخ التصوف وأئمّته بريئون من مذهب الاتحاد، وبذل ابن تيمية وتلاميذه -خاصة ابن القيم- جهدًا كبيرا جدّا في تأويل كلام عامة المتصوفة وحمله على محامل بعيدة عن عقيدة الاتحاد.
ويمكننا القول أن ابن تيمية كان متخوّفا من تسرّب عقائد الاتحاديين للمتصوفة، ولذا كان مشروعه منصبّا على إصلاح التصوّف من الداخل، ونفي أيّ جذور داخل التصوف يمكن أن يتعلق بها الاتحاديون.
أما أصحاب الوحدة فوصفهم بأشد الألفاظ، فوصف ابن عربي بأنه إمام ضلالة([26])، وأنه ملحد زنديق([27]). ووصف أتباعَه بالملاحدة في مواضع كثيرة، وبين كفرهم وأن كلامهم شرّ من كلام اليهود والنصارى([28]).
ويرفض شيخ الإسلام تأويل كلامهم، أو الاعتذار عنهم، ويرى ذلك إما جهلًا بحقيقة القوم، أو صادرًا عن نفاق وزندقة، يقول: “وليس لهذه المقالات وجه سائغ، ولو قدر أن بعضها يحتمل في اللغة معنى صحيحا، فإنما يحمل عليها إذا لم يعرف مقصود صاحبها، وهؤلاء قد عرف مقصودهم كما عرف دين اليهود والنصارى والرافضة، ولهم في ذلك كتب مصنفة وأشعار مؤلّفة وكلام يفسّر بعضه بعضا، وقد علم مقصودهم بالضرورة، فلا ينازع في ذلك إلا جاهل لا يلتفت إليه”([29]).
ويقول: “ويجب عقوبة كل من انتسب إليهم، أو ذبّ عنهم، أو أثنى عليهم، أو عظّم كتبهم، أو عُرف بمساعدتهم ومعاونتهم، أو كره الكلام فيهم، أو أخذ يعتذر لهم بأن هذا الكلام لا يدري ما هو، أو من قال: إنه صنف هذا الكتاب، وأمثال هذه المعاذير التي لا يقولها إلا جاهل أو منافق، بل تجب عقوبة كل من عرف حالهم ولم يعاون على القيام عليهم؛ فإن القيام على هؤلاء من أعظم الواجبات؛ لأنهم أفسدوا العقول والأديان”([30]).
خاتمة البحث:
ملخص ما يمكننا الخروج به من هذا البحث هو أن شطحات الصوفية بعضها تعبير عن عقيدة يعتقدها أصحابها، وهي عقيدة الحلول أو وحدة الوجود، وهو الفناء الشركي الإلحادي.
وبعضها -في أحسن أحوالها- يكون تعبيرًا في حالة غياب للعقل والتمييز، وهي حالة نقص لا كمال، ومن اعتبرها من أحوال الصالحين والمؤمنين فقد ابتدع في الدين.
وأن من تكلّم بكلام ظاهره الكفر لا يحتمل غير ذلك لم يقبل منه إلا الرجوع عن ذلك والتوبة منه، وليس له أن يدّعي أنه أضمر معنى لا يطّلع عليه إلا الخواصّ، قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: “إنَّ أُنَاسًا كَانُوا يُؤْخَذُونَ بالوَحْيِ في عَهْدِ رَسولِ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، وإنَّ الوَحْيَ قَدِ انْقَطَعَ، وإنَّما نَأْخُذُكُمُ الآنَ بما ظَهَرَ لَنَا مِن أعْمَالِكُمْ، فمَن أظْهَرَ لَنَا خَيْرًا أمِنَّاهُ وقَرَّبْنَاهُ، وليسَ إلَيْنَا مِن سَرِيرَتِهِ شَيءٌ، اللَّهُ يُحَاسِبُهُ في سَرِيرَتِهِ، ومَن أظْهَرَ لَنَا سُوءًا لَمْ نَأْمَنْهُ ولَمْ نُصَدِّقْهُ وإنْ قالَ: إنَّ سَرِيرَتَهُ حَسَنَةٌ”([31]).
وأن من موانع التكفير التأويل المحتمل الموافق لوجه من وجوه اللغة، أو يحتمله الكلام، لا التأويلات الباطنية التي أجمع العلماء على عدم اعتبارها.
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(المراجع)
([1]) انظر: جامع بيان العلم وفضله (2/ 947).
([2]) سير أعلام النبلاء (15/ 410).
([4]) الذخائر الأعلاق في شرح ترجمان الأشواق، تحقيق: محمد عبد الرحمن الكردي، القاهرة، 1986م.
([5]) ديوان ابن الفارض، المسمى: نظم السلوك (ص: 89).
([7]) ميزان الاعتدال (3/ 215).
([11]) مجموع الفتاوى (2/ 360).
([12]) أخرجه الترمذي (1423)، والنسائي في الكبرى (7346)، وأحمد (956). وصحح إسناده أحمد شاكر في تحقيق المسند (2/ 197)، وصححه الألباني في صحيح سنن الترمذي (1423).
([14]) الرد على الشاذلي (ص: 100-104).
([15]) مدارج السالكين (2/ 87).
([17]) المصدر السابق (ص: 306).
([19]) شفاء العليل (ص: 16) باختصار.
([20]) الرد على الشاذلي (ص: 104).
([21]) مسائل أجاب عنها الحافظ ابن حجر (ص: 14).
([22]) مجموع الفتاوى (2/ 313) باختصار يسير.
([23]) مجموع الفتاوى (2/ 464).
([25]) مجموع الفتاوى (2/ 452).
([26]) بيان تلبيس الجهمية (7/ 21).
([28]) درء التعارض (1/ 11)، منهاج السنة (7/ 291)، وغيرهما كثير.
([29]) مجموع الفتاوى (2/ 360).