الأحد - 11 ذو القعدة 1445 هـ - 19 مايو 2024 م

وقفاتٌ شرعيّة حول التعدُّديّة العقائديّة

A A

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة

تمهيد:

الفكر الغربيّ في ظلّ الأحداث والصراعات المحتدمة التي مرت به تَغيَّرت نظرتُه في القيم والمبادئ التي كانت تقوم عليها شؤون الحياة وكيفيّة إدارتها، فظهرت قيم ومبادئُ ومفاهيم جديدة، ومنها فكرة “التَّعدُّديَّة العقائديّة”، وكان أول نشأتها من عندهم، ولما أصبحت الحضارة الغربية هي الغالبة والمتفوّقة على القوى العالمية فرضت مبادئها وفكرها وثقافتها على العالم قاطبة، وعلى البلدان الإسلاميّة خاصة، فقدَّمت نفسها أنموذجًا يُحتذى به في تطبيق فكرة “التَّعدُّديَّة العقائدية”، ودعت إلى تطبيقها وفرضها على الشعوب، ولا عجَب في أن تلقَى هذه الدعوة ترحيبًا من بعض المغترِّين بهم من المسلمين من أهل البدع والأهواء، حيث وجدوا في هذا النموذج تمكينًا لهم، وبوّابة لإظهار ضلالاتهم ونشر بدعهم بين المسلمين.

وأيضًا لاقت الدعوة ترحيبًا ممن يجهل حقيقة “التَّعدُّديَّة العقائدية” في ظل هيمنة الغرب على المسلمين، وفي ظلّ انبهار المسلمين بالغرب في تقدّمهم العسكري والمدني والتقنيّ وغيرها، وساعد الغربَ ومكَّنه في فرض ثقافاتهم وفكرهم ومبادئهم وقيمهم على البلدان الإسلامية انتشارُ الجهل وضعفُ شوكة المسلمين وصيرورةُ الأمة الإسلامية من القيادة والريادة إلى التَّبعية والانهزامية.

ولكون أغلب المفاهيم والمصطلحات الوافدة على البلدان الإسلامية من الحضارة الغربية تحتاج لبيانِ ما تحمل من معانٍ مشتبهة ومعان حقَّة وأيضًا معانٍ باطلة؛ كان من الواجب إخضاع المصطلحات الغربيةِ المنشأ للاستفسار والتفصيل، ومنها مصطلح التعددية العقائدية.

وموضوع ورقتنا هذه هو تسليط الضوء على مفهوم مصطلح التعددية العقائدية، وبيان حقيقتها وحكمها ومضارها على المجتمع المسلم، ولا سيّما أن لصدى هذا المصطلح قبولًا في أوساط المسلمين من غير دراية منهم بأضرار هذا التوجّه؛ فكان لزامًا علينا تبيينُ أضرار التعددية العقائدية، وفضح زيفها، ودحض الادعاءات المتعلقة بها.

الوقفة الأولى: تعريف التعددية العقائدية:

اختلفت تعريفات “التَّعدديَّة العقائدية”، وبالنظر إليها جميعًا يمكن تعريف التعددية من زاويتين مختلفتين:

الزاوية الأولى: والتي تعبر عن وجهة النظر الغربية ومن لفّ لفَّهم من الباحثين العرب والمسلمين:

فتعني عندهم: قبول التعدّد الديني والإيمان بصحّة الأديان جميعها؛ لأنها تعبر عن الحقيقة بصوَر ونسَبٍ مختلفة، دفعًا للصراع بين أتباعها، ونفيًا لادعاء حصرية النجاة في واحد منها.

ولعل القول بأحقيّة كل الأديان بنسَب مختلفة جعل من يرفضونها في المجتمعات الإسلامية يحكمون عليها بأنها دعوة كفرية؛ لإقرارها بصحة الأديان المنسوخة المحرفة، وأن لمعتنقيها المعرضين عن دين الإسلام نسبة من الحق؛ لأن الصواب عند أربابها نسبيّ؛ إذ الحق يتعدد، ومقتضاها أن لكل أحد الحرية في الكفر بالإسلام واعتناق سواه من الأديان.

والزاوية الثانية: تعريفها من وجهة نظر إسلامية:

فهي: الاعتراف بتعدد الأديان في المجتمع الواحد؛ مع إمكان التعايش السلمي بين أفراده، والحفاظ على هوية المجتمع وخصوصيته([1]).

وفي تعريف آخر هي: الاعتراف والسماح لأديان المجتمع وطوائفه ومذاهبه بإظهار عقائدهم وممارستها والدعوة إليها، عن طريق التجمعات السلميَّة، من غير إضرار بالآخرين([2]).

الوقفة الثانية: حكم التعددية العقائدية في الإسلام:

التعددية مفهوم عامّ يتعلّق الحكم بما تعلّق به التعدّد من مجالات، ويتغير الحكم على حسب متعلَّقها، فالحكم في التعددية السياسية غير الحكم في التعددية الفقهية، والحكم كذلك يختلف في التعددية العقائدية عن السياسية والفقهية وغيرها، فالحكم الذي سنبيّنه فيما يلي هو فيما يتعلق بالتعددية العقائدية، والنصوص الواردة في الكتاب والسنة تناولت التعددية العقائدية من جانبين:

1- نصوص جانب القضاء الكوني وتخبر بوقوع التعدد العقائدي في الأديان.

2- ونصوص جانب القضاء الشرعي، والتي تأمر بلزوم التوحيد، وتنهى عن الاختلاف، وتأمر بمفارقة الأديان، وعدم اعتقاد الحق في غير الإسلام.

ومعنى قضاء الله الكوني هو: قدره ومشيئته الشاملة لجميع الحوادث، فكل ما يقع في الكون من كفر أو إيمان أو طاعة أو معصية أو خير أو شر أو غير ذلك فهو من قضاء الله الكوني، وهو لا يستلزم محبة الله ورضاه.

وأما معنى قضاء الله الديني الشرعي فهو: خطاب الله الشرعي وأحكامه الدينية، وهو متضمن لمحبة الله ورضاه([3]).

وسنورد فيما يلي بعض النصوص الدالة على التعددية العقائدية من خطاب القضاء الكوني وأيضًا فب خطاب القضاء الشرعي:

1- النصوص التي تخبر بوقوع التعدد في الأديان والفرق:

أ- قال الله تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [التغابن: 2]، قال الشيخ السعدي رحمه الله: “ذكر أنه خلق العباد، وجعل منهم المؤمن والكافر، فإيمانهم وكفرهم كله بقضاء الله وقدره، وهو الذي شاء ذلك منهم، بأن جعل لهم قدرة وإرادة بها يتمكنون من كل ما يريدون من الأمر والنهي”([4]).

ب- وقال الله تعالى: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَمَنْ يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ} [آل عمران: 19]، قال السعدي رحمه الله: “أخبر تعالى أن أهل الكتاب يعلمون ذلك -أي: أن الإسلام حق- وإنما اختلفوا فانحرفوا عنه عنادًا وبغيًا، وإلا فقد جاءهم العلم المقتضي لعدم الاختلاف، الموجب للزوم الدين الحقيقي. ثم لما جاءهم محمد صلى الله عليه وسلم عرفوه حق المعرفة، ولكن الحسد والبغي والكفر بآيات الله هي التي صدتهم عن اتباع الحق”([5]).

ج- وعن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «افترَقَتِ اليهودُ على إحدى –أو: ثِنْتَيْنِ- وسبعينَ فِرْقةً، وتفرَّقَتِ النَّصارى على إحدى –أو: ثِنْتَيْنِ- وسبعينَ فِرْقةً، وتفترِقُ أُمَّتي على ثلاثٍ وسبعينَ فِرْقةً»([6]).

قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: “وهذا محفوظ عن النبي صلى الله عليه وسلم من غير وجه، يشير إلى أن التفرقة والاختلاف لا بد من وقوعهما في الأمة، وكان يحذر أمته لينجو منه من شاء الله له السلامة”([7]).

د- وعن ثوبان رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله زوى لي الأرض… وإنما أخاف على أمتي الأئمة المضلين، وإذا وقع عليهم السيف لم يرفع إلى يوم القيامة، ولا تقوم الساعة حتى يلحق حي من أمتي بالمشركين، وحتى يعبد فئام من أمتي الأوثان، وإنه سيكون في أمتي كذابون ثلاثون، كلهم يزعم أنه نبي، وأنا خاتم النبيين، لا نبي بعدي»([8]).

2- النصوص المحذِّرة من التعدّد في الأديان والفرق:

أ- قال الله تعالى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا} [آل عمران: 103].

ب- وقال الله تعالى: {وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [آل عمران: 105].

ج- وقال تعالى: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} [الأنعام: 153].

د- وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: خطَّ لنا رسولُ اللهِ صلّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ خطًّا ثم قال: «هذا سبيلُ اللهِ»، ثم خطَّ خطوطًا عن يمينِهِ وعن شمالِهِ ثم قال: «هذه سُبُلٌ، على كلِّ سبيلٍ منها شيطانٌ يدعو إليهِ»، ثم قرأ: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} [الأنعام: 153]([9]).

فهذه الآيات والأحاديث وغيرها كثير تدلّ على أن فكرة التعددية العقائدية تتعارض مع ما جاء في الدين الإسلامي من نصوص واضحة لا تقبل التأويل على أن الحقَّ هو في الإسلام وأن غيره باطل، مثل قول الله تعالى: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ} [آل عمران: 19]، وقوله تعالى: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [آل عمران: 85].

وحين أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن أمته ستفترق كما افترقت اليهود والنصارى لم يجعل الحقَّ إلا في فرقة واحدة، وهذا يتعارض مع ما اعتمدت عليه فكرة “التعددية العقائدية” وهي: “نسبية الحق في كل الأديان والطوائف والفرق”، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: «والذي نفسي بيدهِ، لتفتَرِقنّ أمّتي على ثلاثٍ وسبعينَ فرقةً؛ فواحدةٌ في الجنةِ وثنتانِ وسبعونَ في النارِ»، قيلَ: يا رسولَ اللهِ من هم؟ قال: «همُ الجماعَة»([10]).

الوقفة الثالثة: أضرار التعددية العقائدية:

إن التعددية العقائدية كما تبيّن لنا تتعارض مع الإسلام علميًّا وعمليًّا؛ فمن لم يدن بدين الإسلام فهو على الكفر والضلال، وكذلك تنكَّب الحق من انتسب إلى الإسلام ولم يلتزم سنة النبي صلى الله عليه وسلم وجماعة المسلمين الأولى، ومع هذا فالشريعة الإسلامية كفلت حقوق الجميع للتعايش في بلاد المسلمين؛ فجمعت بين منعهم من إظهار باطلهم والدعوة إليه وبين العدل معهم وحفظ حقوقهم.

وبعد أن عرفنا حكم التعددية العقائدية في الإسلام ومعارضها لدين الإسلام، ننتقل إلى الحديث عن الأضرار العظيمة في الأخذ بهذه الفكرة، فمن تلك الأضرار:

1- تضييعُ صراطِ الله المستقيم، ومخالفةُ أمر الله تعالى بلزومه، قال الله تعالى: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [الأنعام: 153].

وهذا أمر للوجوب بلا شكّ، والنهي عن اتباع غير الصراط المستقيم يلزم منه النهي عن السماح بظهور هذه السبل في المجتمع المسلم والبلاد الإسلامية، ولهذا أمر الله عز وجل بمفارقة مجالس الخوض في آيات الله سبحانه بالاستهزاء والسخرية، وجعل الراضي والمقرَّ كالمقارف لهذا الكفر، فقال تعالى: {وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ} [النساء: 140].

والمجالسة والرضا بالكفر تدعو إلى المجانسة مع مرور الوقت، وهذا بيِّن وظاهر وواقع في تهديد إيمان المسلم وزعزعته، قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: “فمن تدبّر هذا علم يقينًا ما في حشو البدع من السموم المضعِفة للإيمان، ولهذا قيل: إن البدع مشتقّة من الكفر”([11]).

“فاستعمارهم لأفكار ضعاف العقول أشدُّ منِ استعمار كل طوائف المستعمرين”([12]).

2- أن التعددية العقائدية دعوة للفرقة بين المسلمين، وتشتّتهم واختلاف قلوبهم، فتذهب شوكتهم، وتصير لقمة سائغة لعدوهم، والانشقاقات تكثر في صفوف الفرقة المبتدعة الواحدة، كلّ إمام من أئمّتهم يريد ما يهواه عقله، وما تتطلّبه نفسه لملء شهواته، “والبدعة مقرونة بالفرقة، كما أن السنة مقرونة بالجماعة، فيقال: أهل السنة والجماعة، كما يقال: أهل البدعة والفرقة”([13]).

قال إبراهيم النخعي رحمه الله في قول الله تعالى: {وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ} [المائدة: 64]: “هم أصحاب الأهواء”([14]).

3- التعددية العقائدية من أهم الوسائل التي تمكِّن ملل الكفر ودُوَلَها من السيطرة على البلدان الإسلامية، فهم على دراية وعلم بأن التعددية العقائدية تفكِّك تماسكَ المجتمع الإسلامي، فهم عبر التاريخ لم يستطيعوا اختراقَ صفوف الدول الإسلامية إلا بتوظيف بعض الفرق البدعية المحسوبة على الإسلام، وأسوأ الحقب في التاريخ الإسلامي كلها ما كان إلا حين ظهرت الفرق البدعية ووصولها إلى مراكز السلطة، فلما تمكنت المعتزلة من الدولة ألزمت الناس بالقول بخلق القرآن، وفتنت الناس، وسلّطت قوتها على علماء المسلمين، فامتحنتهم وعرضتهم للسيف والسجن والإهانة بدلًا من التوجّه لأعداء الملة.

ولما تمكنت دويلات الرافضة والباطنية كالبويهية والعبيدية والقرامطة قمعَت السنة والحديث، وأظهرت البدع والإلحاد والزندقة والكفر، وقتلوا الحجاجَ، وأخذوا الحجر الأسود، وعاثوا في الأرض فسادًا، وأباحوا المحرمات، ومكّنوا للنصارى من دخول ديار المسلمين، ولما تمكّن بعض الرافضة من الوزارة في آخر عهد الدولة العباسية والدويلات التي تلتها خانوا الأمة، وأدخلوا التتار والنصارى ديار المسلمين ومكّنوهم فيها.

ولما تمكّنت الطرق الصوفية من الدولة العثمانية في آخر عهدها ضعُفت الأمة وذلّت، وعلَّقت أقدارها بغير الله، وتعلَّقت بالأضرحة والمشاهد والشيوخ، فأصابها الذلّ والتشتّت، وسلّط عليها الأعداء فمزقوها وفرقوا شملها([15]). يقول أحد الحكام الفرنسيين: “إن أفضل وسيلة للسيطرة على الشعب الجزائري هي التقرّب من شيخ زاوية أو طريقة بمنصب أو مال”([16]).

4- تعطيل شعيرة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهذه الشعيرة من أصول الإسلام، قال الله تعالى: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [آل عمران: 104]، وهذه الشعيرة تعارض فكرة “التعددية العقائدية” التي تعني أن أهل الكفر والبدع والضلالة لا يحقّ لأحد منهم الدعوة إلى ضلالاته بحجة الحرية والتعددية العقائدية.

ولبيان أهمية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يقول النبي صلى الله عليه وسلم: «والذي نفسي بيدِه، لتَأمرُنَّ بالمعروفِ ولتَنهوُنَّ عن المنكرِ أو ليُوشِكَنَّ اللهُ أن يَبعثَ عليكمْ عقابًا منهُ، فتدعونهُ فلا يَستجيبُ لكمْ»([17]).

5- تساوي الأدنى شرعًا بالأعلى؛ فلا فرق بين مسلم وكافر، وقد جعل الله تعالى لأهل الإيمان المرتبة الأعلى، فقال تعالى: {وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [آل عمران: 139]، فالتعددية العقائدية إلغاء لهذه الميزة التي خصّ الله تعالى بها عباده المؤمنين، وهذا ضرب من التحريف والتبديل والتشويه لهوية الأمة الإسلامية، والله تعالى يقول في كتابه منكرًا: {أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ (35) مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ} [القلم: 35، 36].

6- التعددية العقائدية طمسٌ لمعالم الحقّ في الإسلام، وتشويه لصورته الناصعة التي هي سبب لمعرفة الناس الحقَّ والهدى، فالمفارقة لأهل الكفر وعدم التشبّه بهم والتميّز عنهم من الأسُس المتينة للدين، وبالمفارقة يتجلّي الحق ويتميّز عن الباطل، وبها دخل الناس في دين الله أفواجًا، والله تعالى يأمرنا بأن يبقى الحقّ متمايزًا عن الباطل: {وَلَا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة: 42].

7- من لوازم العمل بالتعددية العقائدية اعتقاد الحقّ في غير الإسلام؛ وهذا كفر صريح بالنصوص التي تدلّ بكلّ وضوح ومن غير أن يطرأ أيّ احتمال بأنّ الحق واحد، وهو في الدين الإسلامي فقط، وأن ما سواه من الأديان باطلة، ومن ذلك قول الله تعالى: {فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ} [آل عمران: 20]، وقول الله تعالى: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [آل عمران: 85]، وعن أبي بن كعب رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: «إنَّ اللهَ أمَرني أن أقرَأَ عليكَ القُرْآنَ»، فقرَأ عليه: {لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا} [البينة: ١]، وقرَأ فيها: (إنَّ الدِّينَ عندَ اللهِ الحَنِيفيَّةُ المُسلِمةُ، لا اليهوديَّةُ ولا النَّصرانيَّةُ ولا المَجُوسيَّةُ، مَن يعمَلْ خيرًا فلن يُكفَرَه…)([18]).

8- من مضارّ التعددية العقائدية تسويغ الخلاف فيما لا يسوغ فيه الخلاف من المسائل القطعية والمعلومة من الدين بالضرورة، وهو نقضٌ لإجماع الأمة.

فالتعدديّة العقائدية تعني أن نسوّغ الخلاف في القضايا الكبرى المتعلّقة بالله وتوحيده، وخلق الإنسان وغاية وجوده، وأمور البعث واليوم الآخر، والأديان والشرائع والمبادئ والقيم من حيث صوابها أو بطلانها.

9- من مضار التعددية العقائدية: اختلال مصادر التلقّي عند المسلم، واشتباهها عندهم؛ مما يجعله يعتقد نسبية الحق والحقيقة، ويدبّ الشك إليه في الإسلام وشرائعه، وقد بيَّن الله تعالى مصدر تلقي المسلم فقال تعالى: {فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الزخرف: 43].

10- من مضار التعددية العقائدية: أن تصير مسألة التديّن مثل مسائل الآداب والفن؛ تخضع للذوق والمزاج.

11- من مضار التعددية العقائدية: أنها مبنية على القول بنسبية الحقيقة، ونسبية الحقيقة متضمّنة للقول بتطوير الدين، أي: يمكن تغييره وتبديله حتى يتوافق مع النظم والمبادئ العالمية المفروضة من القوى الغربية، وهذا باطل لا شكّ فيه، ولكن بسبب فشوّ الجهل وتصدّر أئمة الضلال أصبح المسلم في حيرة من عقيدته وقيَمه وأخلاقه ومبادئه، ويعتقد عدم اكتمال الدين ما دام أنه قابل للتغير والتبدل، ويناقض قول الله تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} [المائدة: 3]، وعليه فإن في هذا اتهامًا لنبي الأمة صلى الله عليه وسلم بأنه لم يبلغ الرسالة كاملة، وأنه قصر في تبيين الحقيقة.

12- من مضار التعدية العقائدية: أنها مخالفة صريحة لقول الله تعالى: {وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا} [الإسراء: 81]، فهذا إخبار من الله تعالى بأن الحق والباطل لا يجتمعان، وهذا خلاف ما يحمله “التعددية العقائدية” من معنى إمكانية الجمع بينهما، بل وجعل الباطل حقًّا والحقّ باطلًا، فأيّ حيرة سيقع فيها المسلمون؟!

13- من مضار التعددية العقائدية: أنه يلزم من القول بجوازه عبثيةُ إرسال الرسل، وعبثية ما جاؤوا به من الشرائع، وعبثية الدين، وهذا ما وصل إليه بعض الفرق المبتدعة والمذاهب الضالة، قال الخطابي رحمه الله: “الافتراق في الآراء والأديان محظور في العقول، محرَّم في قضايا الأصول؛ لأنه داعية الضلال وسبب التعطيل والإهمال، ولو ترك الناس متفرقين لتفرقت الآراء والنحل، ولكثرت الأديان والملل، ولم تكن فائدة في بعثة الرسول”([19]).

14- من مضار التعددية العقائدية: حرية الاعتقاد، وحرية تبديل الدين، فتمكنهم التعددية العقائدية من الخروج من الإسلام واعتناق أي ملة ودين آخر، وتلك هي الردة بعينها، قال الله تعالى: {وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [البقرة: 217]، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: «من بدَّلَ دينَهُ فاقتلوهُ»([20]).

15- من مضار التعددية العقائدية: إلغاء جميع الأحكام التي شرعت من قبل الله تعالى لحفظ الدين وإظهار علوه وعلوّ دعوته، وإظهار تميّز المسلمين، وكذلك من مضارها: إلغاء جميع الأحكام التي تتعلّق بمنع أهل الباطل من الكفار وأهل الأهواء والبدع من إظهار باطلهم والدعوة إليه في أوساط المسلمين.

فأراد الله لهذا الدين أن يستعلي ويظهر على غيره من الأديان، وهذا العلو والظهور يجب على أهل الإسلام تحقيقُه ما استطاعوا إلى ذلك سبيلًا، ولهذا كانت هناك أحكام تختصّ بأهل الذمة إذا أرادوا العيش بين المسلمين، فيعطَون عقد الذمة وهو: “إقرارهم على كفرهم في بلادهم الخاضِعة لحكم المسلمين بشرط بذل الجزية والتزام أحكام الملة”([21]).

ولما دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم مكّة فاتحًا وحول البيت ستون وثلاثمائة نصب، فجعل يطعُنها بعود في يده ويقول: {جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا} [الإسراء: 81]، {جَاءَ الْحَقُّ وَمَا يُبْدِئُ الْبَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ} [سبأ: 49]([22]).

فالواجب إظهار شعائر الإسلام، وإزالة مظاهر الشرك والكفر والفسوق.

وأهل الذمة يمنَعون من إظهار شعائرهم، أما فعلهم لها في دُورِهم وأماكن عبادتهم فلا يمنعون منه([23]).

وليس في هذا ظلم أو حَجر عليهم، ولا هو منافٍ للتعايش السلمي؛ لأن هذه الأحكام هي من شريعة محكمة من رب العالمين، والمنع إنما هو من إظهار شعائرهم والدعوة إليها، ورضا الله وحقّه مقدّم على حقوقهم ورضاهم، ودولة الإسلام تضمَن لهم سلامتهم وتحميهم مما تحمي به منه المسلمين. ولعظيم خطر إظهار الباطل والدعوة إليه فُرضت الأحكام الرادعة لهم حماية للدين والمجتمع المسلم.

فخلاصة الحديث أن في تشريع “التعددية العقائدية” تعطيلًا لأحكام شرعية محكمَة شرعت لحماية الدين، ولحماية المجتمع المسلم من السموم.

الوقفة الرابعة: رفض التعددية العقائدية لا يعني انتفاء التعايش السلمي:

العدل والإنصاف وأداء الحقوق وعدم الظلم والجور والاعتداء كل هذا من تعاليم الإسلام العظيمة التي أكد الشارع الحكيم على وجوبها في التعامل مع المخالف، فقال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} [المائدة: 8].

ولم يعرف التاريخ أمةً صانت حقوق مخالفيها كما فعل المسلمون، فمع أن البغض في الله حاضر في قلوب المسلمين إلا أنهم لا يحيفون ولا يجورون، حتى قال الله تعالى فيهم: {وَمِمَّنْ خَلَقْنَا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ} [الأعراف: 181].

فمِن حِفظِ حقوق المخالفين من أهل الذمة: أنهم يأمنون على حريتهم الدينيّة، إلا أنهم لا يظهرون دينهم ولا يدعون إليها، ويأمنون على أنفسهم وأعراضهم وأموالهم، حتى قال النبي صلى الله عليه وسلم: «مَن قَتَلَ مُعاهَدًا لَمْ يَرِحْ رائِحَةَ الجَنَّةِ»([24])، وتُحفظ لهم حقوقهم كاملة غير منقوصة، ولا يُكرهون على الدخول في الإسلام، فقد قال تعالى: {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} [البقرة: 256]، ويأمرنا الله عز وجل أن نتصدّق على محتاجيهم ونحسن إليهم ونبرّهم، قال تعالى: {لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} [الممتحنة: 8].

وأوصى الله تعالى بحسن الجوار ولو كان الجار كافرًا، قال تعالى: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا} [النساء: 36]، “الجار الجنب: الغريب البعيد، مسلمًا كان أو مشركًا، أو يهوديًّا كان أو نصرانيًّا”([25]).

إلى غير ذلك من الأحكام والآداب المتعلقة بالتعامل مع المخالف، فالناظر يرى مدى اهتمام الشرع بسلوك المسلم مع المخالف، وأن تتّسم بالرقِيِّ الذي يعكس سماحة الإسلام وجماله، فالأمة الإسلامية لن تحتاج إلى أن تستورد من الغرب المنحلِّ أخلاقيًّا ما تنظِّم به شؤون الحياة الاجتماعية، وتأخذ منهج التعايش السلمي المزعوم، ومنه فكرة “التعددية العقائدية”.

الوقفة الخامسة: شبهات دعاة التعددية العقائدية:

مما سبق إيراده من نقاط وأدلة وبراهين يتبيّن للقارئ الكريم بطلان التعددية العقائدية، وزيادةً في التبيين، ولاحتمالية ورود الشكوك وبعض الشبهات التي يوردها دعاة التعددية؛ سنتناول في الأسطر التالية الشبهات التي يردّدها البعض:

الشبهة الأولى: التعدد الديني حقيقة واقعية:

يرى دعاة التعدّد أن وقوع الاختلاف في الأديان وتعدّدها دليل جوازه والرضا به وإقراره، وأن الله تعالى أخبر عن هذا الواقع، وأنه أراد هذا الاختلاف والتعدّد، كقول الله تعالى: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ (118) إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ} [هود: 118، 119].

والجواب: أن دعاة التعدد أخطؤوا في الاستدلال؛ لعدم تفريقهم بين إرادة الله الكونية وبين إرادة الله الشرعية، ولو علموا الفرق لما استدلوا بهذا الدليل، والفرق أن الإرادة الكونية لا تستلزم الرضا والحب، وأما الإرادة الشرعية فتستلزم رضا الله وحبه، فالكفر واقع بإرادة الله الكونية، ولا يعني أن الله يرضى لعباده الكفر ويحبّه منهم، أما الإيمان فهو مراد لله تعالى شرعا، يحبه سبحانه ويرضاه.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: “إن الإرادة في كتاب الله نوعان: إرادة شرعية دينية تتضمن محبته ورضاه، وإرادة كونية قدرية تتضمن خلقه وتقديره”([26]).

فالتعدد الحاصل إذًا داخل تحت الإرادة الكونية التي لا تستلزم رضا الله سبحانه، بل الله تعالى يريد للناس الاجتماع على الصراط المستقيم إرادة شرعية، ولم يقع الاختلاف منذ أن خلق الله آدم عليه السلام، بل خلقهم الله جميعًا أمّة واحدة يعبدون الله تعالى، ويدينون بدين واحد ويعتقدون عقيدة واحدة، ولم يقع التعدد العقدي إلا بعد آدم عليه السلام بقرون عدة، في عهد نوح عليه السلام.

الشبهة الثانية: أن التعددية العقائدية تحقق العدالة الاجتماعية والوحدة الوطنية والمساواة، وتضمن التعايش السلمي، ومنعها ظلم ومصادرة للحقوق وحجر للعقول.

والجواب: أن القرآن يخبرنا بعكس ما ذكروا، فالله تعالى أخبر أن سبب الاختلاف والعداوات هو ظهور الكفر والبدع والانحرافات والضلالات، فقال تعالى: {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ} [النحل: 112].

والعدالة الاجتماعية تكون بالقيام لله بالقسط، وقد تكفّل الشارع الحكيم بحفظ حقوق المخالف، وليس من العدالة السماح لهم بإظهار معتقداتهم الباطلة التي منشؤها الأهواء، وليس الوحي المطهر.

وأيضًا: المفسدة والبلاء والفتنة الحاصلة من التعددية العقائدية أعظم أثرًا وخطرًا من منع التعددية العقائدية؛ وهذا على فرض وجود المفسدة في منعهم، فلا تعدو كونها مفاسد دنيوية، وإن وجدت فلا تقارن بالمفاسد العظيمة للتعددية العقائدية في الدين، ويتبعها مفاسد في الدنيا، وحفظ الدين في أعلى مراتب الضروريات الخمس التي جاء الإسلام بحفظها.

الشبهة الثالثة: استدلالهم بقول الله تعالى: {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} [البقرة: 256]، وأن هذه الآية تقرر مبدأ حرية الاعتقاد، وهو بدوره يقرر مبدأ التعددية الاعتقادية، وكذلك استدلوا بقول الله تعالى: {وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} [الكهف: 29].

والجواب: أن هذا تحريف لمعاني نصوص الوحيين، والمعنى لا يتناسب مع بقية الآيات والأحاديث الواردة في هذا الباب، فمعنى قول الله تعالى: {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} [البقرة: 256]، أي: “لا تكرِهوا أحدًا على الدخول في دين الإسلام؛ فإنَّه بيِّن واضح جليٌّ دلائله وبراهينه، لا يحتاج إلى أن يُكره أحدٌ على الدخول فيه”([27]).

يقول ابن تيمية رحمه الله في قوله تعالى: {لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ} [الكافرون: 6]: “وليس في هذه الآية أنه رضي بدين المشركين، ولا أهل الكتاب، كما يظنه بعض الملحدين، ولا أنه نهى عن جهادهم كما ظنه بعض الغالطين، وجعلها منسوخة، بل فيها براءته من دينهم، وبراءتهم من دينه، وأنه لا تضره أعمالهم، ولا يجزون بعمله ولا ينفعهم، وهذا أمر محكم لا يقبل النسخ، ولم يرض الرسول بدين المشركين ولا أهل الكتاب طرفة عين قط”([28]).

الشبهة الرابعة: أن المسلمين الذين يعيشون في الغرب ينعمون ويستفيدون من فوائد التعددية العقائدية هناك، ويظهرون شعائر دينهم، ويدعون إليه.

والجواب: أن منع التعددية العقائدية قائم على التسليم لله تعالى والخضوع له وتطبيق شرعه، ولا مجال للمساومة فيه لأن الله تعالى يقول: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا} [الأحزاب: 36].

وأمر آخر: أن السِّلم المزعوم عند الغرب لو نظرنا فيه نظرة فاحصة فإننا نكتشف الحقيقة المخبأة خلف الصورة الملمَّعة عن الديمقراطية التي يزعمونها، فهي في الحقيقة غير منصفة، خاصة مع الأقليات المسلمة التي تعاني من الاضطهاد باسم النظام والحرية، وتتفاوت البلاد الغربية في موقفها من بعض حقوق الأقليات الدينية مثل حقّ التعليم الديني ونحو ذلك.

بل إن المسلمين في الغرب يُضطهدون ويؤذون أحيانًا من السلطات لمجرد أنهم مسلمون، فهم محلّ اتهام وشكّ غير مبرّر، ثم إنهم يمنعون من إظهار بعض شعائر دينهم مثل الحجاب في المدارس، بل إن الأقليات المسلمة تعاني من الإهمال أكثر من الاضطهاد، فهناك تمييز عرقي ديني في ممارسات سلطاتها فضلًا عن أفراد الشعب([29]).

يتبين لنا من خلال استعراض الشبهات التي أوردها دعاة التعددية العقائدية أنهم على عدم دراية بحقيقة هذه الفكرة المستوردة من الغرب، وأيضًا لم يقفوا على حقيقة المنهج الشرعي للتعايش السلمي بين الأديان في المجتمع المسلم، هذا المنهج الرباني المنزه من النقص والهوى، المنزل من الله العليم الخبير بما يصلح الفرد والمجتمع.

وقد قدّمت الأمة الإسلامية نموذجًا عمليًّا لحفظ الحقوق، وإقامة العدل في البلاد وبين العباد وبين جميع الطوائف والأديان؛ وذلك في أوج ازدهارها وقوتها، وقد شهد بذلك الأعداء، وخلّد التاريخ تلك الحقبة من الزمن.

وختامًا:

إن التعددية العقائدية تتناقض مع التعاليم والأحكام الإسلامية التي جاءت في الكتاب والسنة، وتلغي كثيرًا من أصول الدين الإسلامي الحنيف وأحكامه، ولها أضرار جسيمة على البلدان الإسلامية، والتي هي من أسباب الويلات وتسلّط الأعداء وهيمنتهم على الأمة الإسلامية.

والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه أجمعين.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(المراجع)

([1]) بحث منشور في مجلة جامعة طيبة للآداب والعلوم الإنسانية، السنة السادسة، العدد 12، 1438هـ، بعنوان: “التعددية الدينية رؤية نقدية”، د. محروس بسيوني (ص: 425).

([2]) التعددية العقائدية وموقف الإسلام منها، يوسف القحطاني (ص: 23).

([3]) شرح العقيدة الطحاوية (1/ 79).

([4]) تفسير السعدي (ص: 809).

([5]) تفسير السعدي (ص: 97).

([6]) أخرجه أبو داود (٤٥٩٦)، وصححه الألباني في صحيح الجامع (١٠٨٣).

([7]) اقتضاء الصراط المستقيم (1/ 127).

([8]) أخرجه الترمذي (2219)، وقال: “حديث حسن صحيح”.

([9]) أخرجه أحمد (٦‏/ ٨٩) وقال أحمد شاكر: “إسناده صحيح”.

([10]) أخرجه ابن ماجه (٣٩٩٢)، وقال الألباني في الصحيحة (١٤٩٢): “إسناده جيد رجاله ثقات”.

([11]) اقتضاء الصراط المستقيم (2/ 116).

([12]) أضواء البيان للشنقيطي (4/ 546).

([13]) الاستقامة لابن تيمية (1/ 42).

([14]) ينظر: الشرح والإبانة لابن بطة (ص: 141).

([15]) رسائل ودراسات في الأهواء والافتراق والبدع لناصر العقل (1/ 539-540).

([16]) مسائل شرعية وقضايا فكرية معاصرة لخالد الغليقة (2/ 90).

([17]) أخرجه الترمذي (٢١٦٩) وحسنه.

([18]) أخرجه الترمذي (٣٨٩٨)، وحسنه الألباني في صحيح سنن الترمذي.

([19]) العزلة (ص: 57-58).

([20]) أخرجه البخاري (٣٠١٧).

([21]) حاشية الروض المربع شرح زاد المستقنع لابن قاسم (4/ 302).

([22]) أخرجه البخاري (4720).

([23]) أحكام أهل الذمة (2/ 151-154).

([24]) أخرجه البخاري (٣١٦٦).

([25]) جامع البيان (5/ 80).

([26]) منهاج الإسلام (7/ 72).

([27]) تفسير ابن كثير (1/ 318).

([28]) الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح (2/ 30-31).

([29]) ينظر: مجلة البيان، العدد (216) (ص: 10-11)، دعوة التقريب بين الأديان (4/ 1539).

التعليقات مغلقة.

جديد سلف

محنة الإمام شهاب الدين ابن مري البعلبكي في مسألة الاستغاثة

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد: فإن فصول نزاع شيخ الإسلام ابن تيمية مع خصومه طويلة، امتدت إلى سنوات كثيرة، وتنوَّعَت مجالاتها ما بين مسائل اعتقادية وفقهية وسلوكية، وتعددت أساليب خصومه في مواجهته، وسعى خصومه في حياته – سيما في آخرها […]

العناية ودلالتها على وحدانيّة الخالق

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة مقدمة: إنَّ وجودَ الله تبارك وتعالى أعظمُ وجود، وربوبيّته أظهر مدلول، ودلائل ربوبيته متنوِّعة كثيرة، قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (إن دلائل الربوبية وآياتها أعظم وأكثر من كلّ دليل على كل مدلول) ([1]). فلقد دلَّت الآيات على تفرد الله تعالى بالربوبية على خلقه أجمعين، وقد جعل الله لخلقه أمورًا […]

مخالفات من واقع الرقى المعاصرة

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة   مقدمة: الرقية مشروعة بالكتاب والسنة الصحيحة من فعل النبي صلى الله عليه وسلم وقوله وإقراره، وفعلها السلف من الصحابة والتابعين ومن تبعهم بإحسان. وهي من الأمور المستحبّة التي شرعها الشارع الكريم؛ لدفع شرور جميع المخلوقات كالجن والإنس والسباع والهوام وغيرها. والرقية الشرعية تكون بالقرآن والأدعية والتعويذات الثابتة في […]

ألـَمْ يذكر القرآنُ عقوبةً لتارك الصلاة؟

  خرج بعضُ أهل الجدَل في مقطع مصوَّر يزعم فيه أن القرآنَ لم يذكر عقوبة -لا أخروية ولا دنيوية- لتارك الصلاة، وأن العقوبة الأخروية المذكورة في القرآن لتارك الصلاة هي في حقِّ الكفار لا المسلمين، وأنه لا توجد عقوبة دنيوية لتارك الصلاة، مدَّعيًا أنّ الله تعالى يريد من العباد أن يصلّوا بحبٍّ، والعقوبة ستجعلهم منافقين! […]

حديث: «جئتكم بالذبح» بين تشنيع الملاحدة واستغلال المتطرفين

الطعنُ في السنة النبوية بتحريفها عن معانيها الصحيحة وباتِّباع ما تشابه منها طعنٌ في النبي صلى الله عليه وسلم وفي سماحة الإسلام وعدله، وخروجٌ عن التسليم الكامل لنصوص الشريعة، وانحرافٌ عن الصراط المستقيم. والطعن في السنة لا يكون فقط بالتشكيك في بعض الأحاديث، أو نفي حجيتها، وإنما أيضا بتحريف معناها إما للطعن أو للاستغلال. ومن […]

تذكير المسلمين بخطورة القتال في جيوش الكافرين

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة   مقدمة: من المعلومِ أنّ موالاة المؤمنين والبراءة من الكافرين من أعظم أصول الإيمان ولوازمه، كما قال تعالى: ﴿إِنَّمَا ‌وَلِيُّكُمُ ‌ٱللَّهُ ‌وَرَسُولُهُۥ وَٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ﴾ [المائدة: 55]، وقال تعالى: (لَّا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ ۖ وَمَن يَفْعَلْ ذَٰلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلَّا أَن تَتَّقُوا مِنْهُمْ […]

ابن سعود والوهابيّون.. بقلم الأب هنري لامنس اليسوعي

 للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة   بسم الله الرحمن الرحيم هنري لامنس اليَسوعيّ مستشرقٌ بلجيكيٌّ فرنسيُّ الجنسيّة، قدِم لبنان وعاش في الشرق إلى وقت هلاكه سنة ١٩٣٧م، وله كتبٌ عديدة يعمَل من خلالها على الطعن في الإسلام بنحوٍ مما يطعن به بعضُ المنتسبين إليه؛ كطعنه في أبي بكر وعمر رضي الله عنهما، وله ترجمةٌ […]

الإباضــــية.. نشأتهم – صفاتهم – أبرز عقائدهم

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة مقدمة: من الأصول المقرَّرة في مذهب السلف التحذيرُ من أهل البدع، وذلك ببيان بدعتهم والرد عليهم بالحجة والبرهان. ومن هذه الفرق الخوارج؛ الذين خرجوا على الأمة بالسيف وكفَّروا عموم المسلمين؛ فالفتنة بهم أشدّ، لما عندهم من الزهد والعبادة، وزعمهم رفع راية الجهاد، وفوق ذلك هم ليسوا مجرد فرقة كلامية، […]

دعوى أن الخلاف بين الأشاعرة وأهل الحديث لفظي وقريب

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة مقدمة: يعتمِد بعض الأشاعرة المعاصرين بشكلٍ رئيس على التصريحات الدعائية التي يجذبون بها طلاب العلم إلى مذهبهم، كأن يقال: مذهب الأشاعرة هو مذهب جمهور العلماء من شراح كتب الحديث وأئمة المذاهب وعلماء اللغة والتفسير، ثم يبدؤون بعدِّ أسماء غير المتكلِّمين -كالنووي وابن حجر والقرطبي وابن دقيق العيد والسيوطي وغيرهم- […]

التداخل العقدي بين الفرق المنحرفة (الأثر النصراني على الصوفية)

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة مقدمة: بدأ التصوُّف الإسلامي حركة زهدية، ولجأ إليه جماعة من المسلمين تاركين ملذات الدنيا؛ سعيًا للفوز بالجنة، واقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم، ثم تطور وأصبح نظامًا له اتجاهاتٌ عقائدية وعقلية ونفسية وسلوكية. ومن مظاهر الزهد الإكثار من الصوم والتقشّف في المأكل والملبس، ونبذ ملذات الحياة، إلا أن الزهد […]

فقه النبوءات والتبشير عند الملِمّات

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة مقدمة: منَ الملاحَظ أنه عند نزول المصائب الكبرى بالمسلمين يفزع كثير من الناس للحديث عن أشراط الساعة، والتنبّؤ بأحداث المستقبَل، ومحاولة تنزيل ما جاء في النصوص عن أحداث نهاية العالم وملاحم آخر الزمان وظهور المسلمين على عدوّهم من اليهود والنصارى على وقائع بعينها معاصرة أو متوقَّعة في القريب، وربما […]

كيف أحبَّ المغاربةُ السلفيةَ؟ وشيء من أثرها في استقلال المغرب

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة   مقدّمة المعلِّق في كتابِ (الحركات الاستقلاليَّة في المغرب) الذي ألَّفه الشيخ علَّال الفاسي رحمه الله كان هذا المقال الذي يُطلِعنا فيه علَّالٌ على شيءٍ من الصراع الذي جرى في العمل على استقلال بلاد المغرب عنِ الاسِتعمارَين الفرنسيِّ والإسبانيِّ، ولا شكَّ أن القصةَ في هذا المقال غيرُ كاملة، ولكنها […]

التوازن بين الأسباب والتوكّل “سرّ تحقيق النجاح وتعزيز الإيمان”

توطئة: إن الحياةَ مليئة بالتحدِّيات والصعوبات التي تتطلَّب منا اتخاذَ القرارات والعمل بجدّ لتحقيق النجاح في مختلِف مجالات الحياة. وفي هذا السياق يأتي دورُ التوازن بين الأخذ بالأسباب والتوكل على الله كمفتاح رئيس لتحقيق النجاح وتعزيز الإيمان. إن الأخذ بالأسباب يعني اتخاذ الخطوات اللازمة والعمل بجدية واجتهاد لتحقيق الأهداف والأمنيات. فالشخص الناجح هو من يعمل […]

الانتقادات الموجَّهة للخطاب السلفي المناهض للقبورية (مناقشة نقدية)

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة مقدمة: ينعمُ كثير من المسلمين في زماننا بفكرٍ دينيٍّ متحرِّر من أغلال القبورية والخرافة، وما ذاك إلا من ثمار دعوة الإصلاح السلفيّ التي تهتمُّ بالدرجة الأولى بالتأكيد على أهمية التوحيد وخطورة الشرك وبيان مداخِله إلى عقائد المسلمين. وبدلًا من تأييد الدعوة الإصلاحية في نضالها ضدّ الشرك والخرافة سلك بعض […]

تغاريد سلف

جميع الحقوق محفوظة لمركز سلف للبحوث والدراسات © 2017