إيجاب النَّظر عند المتكلمين من خلال الآيات القرآنيَّة (مناقشةٌ وبيان)
للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة
المقدمة:
كلّ مسألة تتعلّق بالله سبحانه وتعالى في وجوده أو وحدانيته أو مجمل صفاته لا شكَّ أنها مسألة عظيمةُ القدر، وأنها من ثوابتِ الدين، وأن النبي صلى الله عليه وسلم قد جاء ببيانها أتمَّ بيان، ومن هنا كان النزاع بين أهل السُّنة والجماعة وبين المتكلمين في قضيَّة وجود الله سبحانه وتعالى، هل هي فطرية يقرّ بها الناس في الأصل، ولا يشذّ عنها إلا القليل ممن يحتاج إلى نظر واستدلال، أم أنّ معرفة الله نظرية غير فطرية، ويجب الاهتداء إليها بالنظر والاستدلال؟
فأهل السنة والجماعة يقرون بفطرية المعرفة، وأنَّ معرفة وجود الله مركوز في الفطر، بينما المتكلمون يرون أنَّ معرفة الله نظرية لا يمكن معرفة وجود الله إلا بنظر واستدلال، ومن هنا جاءت المسألة الشهيرة، وهي: وجوب النظر على المكلف.
فإن أهل السنة والجماعة لا يوجبونه ولا يمنعونه، وإنما يقولون: إن معرفة الله فطرية، ولكن من انتكست فطرته، أو تغيرت وتبدلت، فإنه يحتاج إلى نظر، ثم هذا النظر له شروط وضوابط حتى يصل الإنسان إلى الإقرار بوجود الله، أما جملة المتكلّمين فإنهم يرون وجوب النظر على كل أحد من الناس، وأن معرفة الله لا تكون إلا عن طريقه، وقد استدلّوا على وجوبه بأصول عديدة، وقابلهم أهل السنة والجماعة بأصول تدلّ على أن النظر ليس بواجب، وبينوا أن الأصول التي اعتمَد عليها المتكلمون إما أنها غير صحيحة، أو أنها ليست عامّة كما يقرّرونها هم، فكان مذهب أهل السنة والجماعة هو المتّسق مع الأدلة الشرعية، ومع الواقعِ العمليّ لتطبيق تلك الأدلة من النبي صلى الله عليه وسلم وصحابته الكرام.
تمهيد:
اعتمد أهل السنة والجماعة في تقرير وجود الله سبحانه وتعالى على أدلة عقلية كثيرة، وهي أدلة اعتمد عليها القرآن الكريم وبينها، وهذه الأدلة العقلية القرآنية لا شكّ أنها تؤسّس لمعرفة وجود الله والاعتراف بوحدانيته، رغم أن أهل السنة والجماعة يعتمدون في الإقرار بوجود الله على المعرفة، ويبينون أن أصل الاعتراف بوجود الله مركوز في فطر الناس، ومن حاد عن هذه الفطرة احتاج إلى النظر والتدبّر والتفكر كما بينَّا، وقد حثَّ الله كثيرًا على ذلك في كتابه في آيات عديدة، ومدح المفكرين وأصحاب العقول والألباب.
فجاء المتكلمون إلى هذه الآيات ليؤسسوا لنظريتهم في الاستدلال على وجود الله، فإن المتكلمين -كما هو معلوم- قد أوجبوا النظر على كلّ أحد، وحصروا طريق الوصول إلى الله في النظر الكلامي الذي قرّروه، وقد استدلوا على إيجاب النظر بعدة أدلة من أهمها: الآيات التي جاءت في الأمر بالنظر، أو الحثّ عليه، يقول الآمدي: “أجمع أكثر أصحابنا والمعتزلة وكثير من أهل الحقّ من المسلمين على أن النظر المؤدي إلى معرفة الله تعالى واجب، غير أن مدرك وجوبه عندنا الشرع، خلافا للمعتزلة في قولهم: إن مدرك وجوبه العقل دون الشرع. وقد احتج أصحابنا على وجوبه من جهة الشرع بمسلكين:
المسلك الأول: التمسك بظواهر النّصوص الدّالة على وجوب النظر، منها قوله تعالى: {قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الْآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ} [يونس: 101]، ومنها قوله تعالى: {فَانْظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَتِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ ذَلِكَ لَمُحْيِ الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [الروم: 50]. أمر بالنظر، والأمر ظاهر في الوجوب”([1]).
فهل لهم حظٌّ صحيح في التمسّك بهذه الآيات القرآنية في الدلالة على وجوب النظر، أم أنَّ تلك الآيات لا تفيد ما يرومون تأصيله في هذا الباب؟ هذا ما سنناقشه في هذه الورقة بعون الله.
آيات النظر في القرآن الكريم:
بعد جمع الآيات التي استدلوا بها في باب إيجاب النظر يمكننا أن نقسّمها إلى أقسام، ونضمّ إليها مثيلاتها مما لم ينصّوا على الاستدلال بها، ذلك أنَّ الباب واحد، وحتى نبين أن الآيات في الباب الواحد لا تختلف ولا تتناقض، ثم ننظر في كل قسم من هذه الآيات هل يدلُّ على ما يقررونه من وجوب النظر أو لا، ويمكن تقسيم تلك الآيات إلى الآتي:
أولا: الآيات التي تمدح النَّظر والتَّفكر:
فقد وردت عدة آيات في القرآن الكريم تمدح النظر والتفكر والتدبر، وتمسك بها المتكلمون في إيجاب النظر
1- فمن قوله تعالى: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} [البقرة: 164].
بيَّن الله سبحانه وتعالى فيها أن في الكون آيات تدلّ عليه سبحانه وتعالى، سواء قلنا آيات على وجوده، أو على وحدانيته، وإن كان كثير من المفسرين قد تواردوا على أنَّ هذه الآية إنما هي دالة على الوحدانية لا على أصل الوجود، ذلك أنها جاءت بعد قوله تعالى: {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ} [البقرة: 163]، وكان كفار قريش يقرون بوجود الله، وينكرون وحدانيته، فكانوا يعبدون معه غيره، فأنزل الله هذه الآية بيانًا لهم بأن من تأمل وتدبر في هذا الكون الفسيح عرف أن هذه الأصنام لا يمكن أن تخلق وترزق، كيف وهي عاجزة في نفسها؟!
وقد روي عن عطاء رحمه الله هذا الرأي، وأن كفار قريش طلبوا الدليل على أن الله واحد؛ لأنَّ لهم آلهة كثيرة غير الله، يقول عطاء: “نزل على النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة: {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ}، فقال كفار قريش بمكة: كيف يسع الناس إله واحد؟! فأنزل الله تعالى ذكره: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ}، إلى قوله: {لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ}، فبهذا تعلمون أنه إله واحد، وأنه إله كل شيء، وخالق كل شيء“([2]).
ويقول القرطبي رحمه الله مؤكّدًا على أنَّها نزلت لتأكيد الوحدانية: “{لَآيَاتٍ} أي: دلالات تدل على وحدانيته وقدرته، ولذلك ذكر هذه الأمور عقيب قوله: {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ} ليدلّ بها على صدق الخبر عما ذكره قبلها من وحدانيته سبحانه، وذكر رحمته ورأفته بخلقه”([3]).
أما قول الله تعالى: {لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} ففيه دلالة على أن هذه الآيات وضعت لأهل العقول والتمييز؛ إذ إنهم هم المكلّفون، يقول الطبري: “{لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ}: لمن عقل مواضع الحجج، وفهم عن الله أدلته على وحدانيته. فأَعلم -تعالى ذكره- عباده بأن الأدلة والحجج إنما وضعت معتبرًا لذوي العقول والتمييز دون غيرهم من الخلق؛ إذ كانوا هم المخصوصين بالأمر والنهي، والمكلَّفين بالطاعة والعبادة، ولهم الثواب، وعليهم العقاب”([4]).
فهذه الآية إذن دالة على وحدانية الله سبحانه وتعالى؛ ولذا ذكّرهم بهذه الآيات للاستدلال بانفراده بخلقها وتدبيرها على استحقاقه وحده للعبادة.
وسواء كانت دليلا على الواحدانية أو وجود الله فإنه ليس فيها دليل على وجوب النظر، وإنما على بيان أن في هذا الكون دلائل كثيرة تدلّ على الله سبحانه وتعالى، فالدليل إذن أخصّ من المدلول، وهو دليل على شيء غير متنازع فيه، فإننا لا ننكر أن النظر في الكون الفسيح والتأمل في مخلوقات الله يزيد الإنسان إيمانا وتعلقا بالله، لكن القضية المتنازع فيها هي أن هذه الآية تدلُّ على وجوب النظر، وليس فيها ذلك.
2- ومن أدلة هذا النوع مما استدلوا به قوله تعالى: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ} [آل عمران: 190].
وهذه الآية تشبه في الدلالة ما قبلها؛ لذا لا نطيل فيها، وقد ذكر الطبري معنى مجملا للآية فقال: “وهذا احتجاج من الله -تعالى ذكره- على قائل ذلك، وعلى سائر خلقه، بأنه المدبر المصرّف الأشياء والمسخِّر ما أحب، وأن الإغناء والإفقار إليه وبيده، فقال جل ثناؤه: تدبروا -أيها الناس- واعتبروا، ففيما أنشأته فخلقته من السموات والأرض لمعاشكم وأقواتكم وأرزاقكم، وفيما عقَّبت بينه من الليل والنهار فجعلتهما يختلفان ويعتقبان عليكم، تتصرفون في هذا لمعاشكم وتسكنون في هذا راحة لأجسادكم معتبر ومدَّكر وآيات وعظات. فمن كان منكم ذا لُبٍّ وعقل يعلم أن من نسبني إلى أنّي فقير وهو غني كاذب مفتر، فإنَّ ذلك كله بيدي، أقلِّبه وأصرِّفه، ولو أبطلت ذلك لهلكتم”([5]).
وقد ذكر المتكلّمون هذه الآية للاستدلال بها على أن الله قد جعل في الكون آيات دالة عليه، ونحن لم نخالف في هذا القدر، لكن الاستدلال على وجوب النظر غير ظاهر ولا واضح، بل ولا تدل الآية على ذلك.
وقد حاول بعض المفسرين تخصيصَ الآية بالتفكر في دليل الحدوث كما يقول النسفي في تفسير قوله: {لِأُولِي الأَلْبَابِ}: “لمن خلص عقله عن الهوى خلوص اللبّ عن القشر، فيرى أن العرَض المحدَث في الجواهر يدل على حدوث الجواهر: لأن جوهرًا ما لا ينفكّ عن عرض حادث، وما لا يخلو عن الحادث فهو حادث، ثم حدوثها يدل على محدثها، وذا قديم وإلا لاحتاج إلى محدث آخر إلى ما لا يتناهى، وحسن صنعه يدل على علمه، وإتقانه يدل على حكمته، وبقاؤه يدل على قدرته”([6]).
لكن ترى أن الآية لا تدل إلا على القدر الذي اتفقنا عليه وهو أن الله سبحانه وتعالى قد جعل في الكون آيات بينات باهرات، لا يجد المتأمل فيها متجردا عن هوى النفس إلا أن يعترف بوجود الله وبوحدانيته، يقول الشوكاني: “فإن مجرد التفكر فيما قصّه الله في هذه الآية يكفي العاقل، ويوصله إلى الإيمان الذي لا تزلزله الشبه، ولا تدفعه التشكيكات”([7])، لكنها لا تدل على أكثر من ذلك من النظر في دليل الحدوث أو وجوب النظر.
3- ومن الآيات في هذا النوع قوله تعالى: {الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [آل عمران: 191]. وقد جاءت في سياق الآية السابقة في الحثّ على التدبر والتفكر في خلق الله، يقول الطبري رحمه الله: “وأما قوله: {وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} فإنه يعني بذلك أنهم يعتبرون بصنعة صانع ذلك، فيعلمون أنه لا يصنع ذلك إلا مَن ليس كمثله شيء، ومن هو مالك كل شيء ورازقه، وخالق كل شيء ومدبّره، ومن هو على كل شيء قدير، وبيده الإغناء والإفقار، والإعزاز والإذلال، والإحياء والإماتة، والشقاء والسعادة”([8]).
والآية فيها حضٌّ على التفكر والتدبر والتأمل كما في الآية الأولى، ليؤدّي ذلك الكافرَ إلى الإيمان بالله، وليزداد بذلك المؤمنُ بصيرة في دينه، يقول القرطبي: “عطف تعالى عبادة أخرى على إحداهما بعبادة أخرى، وهي التفكر في قدرة الله تعالى ومخلوقاته والعبر الذي بث ليكون ذلك أزيد في بصائرهم”([9]). وهذا الدليل أخص من المدلول كما مر بنا في الآيتين السابقتين.
والمتأمل في هذا النوع من الأدلة وفي هذه الآيات يجد أنها لا تدلّ على إيجاب النظر، وإنما غاية ما فيها أنها تدلّ على التفكر والتأمل في مخلوقات الله، والنظر فيها للتوصل إلى وحدانيته واستحقاقه للعبادة، ومدحُ صفةٍ ما لا يعني إيجابها، بل وإيجابُها لا يعني عمومَها وإيجابَها على الكل، فالدليل أخصّ من المدلول، وليس في هذه الآيات متعلَّق صحيح للمتكلّمين في إيجاب النظر على كل أحد.
ثانيا: الآيات التي فيها حثٌّ على التفكر والنظر:
كان النوع الأول في الأمر بالتفكر، أمَّا هذا النوع من الآيات ففيه دلالة على الحث، وليس فيه أمر مباشر بالنظر، وقد وردت في القرآن آيات عديدة تحث على النظر والتفكر في خلق الله.
1- من ذلك قوله تعالى: {أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ} [الأعراف: 185].
وهذه الآية فيها توبيخ للكفار الذين كذبوا بالله ورسوله، ولم يفكروا في ملكوت السموات والأرض، لأن تفكيرهم فيها يدلهم على أن الله سبحانه وتعالى هو المستحق للعبادة، فهي متوجهة على الكفار الذين لم يوحدوا الله سبحانه وتعالى، وقد ذكرهم الله قبل هذه الآية فقال: {وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ (182) وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ (183) أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ} [الأعراف: 182-184].
يقول الطبري رحمه الله مبينا أن الآية موجهة للمكذبين بالله ورسوله: “يقول تعالى ذكره: أولم ينظر هؤلاء المكذبون بآيات الله في ملك الله وسلطانه في السموات وفي الأرض، وفيما خلق -جل ثناؤه- من شيء فيهما، فيتدبروا ذلك، ويعتبروا به، ويعلموا أن ذلك لمن لا نظير له ولا شبيه، ومِن فِعلِ مَن لا ينبغي أن تكون العبادة والدين الخالص إلا له، فيؤمنوا به، ويصدقوا رسوله، وينيبوا إلى طاعته، ويخلعوا الأنداد والأوثان، ويحذروا أن تكون آجالهم قد اقتربت، فيهلكوا على كفرهم، ويصيروا إلى عذاب الله وأليم عقابه”([10]).
وهذا الاستفهام في الآية للتوبيخ والتعجّب من عدم تفكّرهم ونظرهم، يقول الشوكاني: “والاستفهام في {أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ واَلأَرْضِ} للإنكار والتقريع والتوبيخ، ولقصد التعجيب من إعراضهم عن النظر في الآيات البينة الدالة على كمال قدرته وتفرده بالإلهية. والملكوت من أبنية المبالغة، ومعناه: الملك العظيم… والمعنى: إن هؤلاء لم يتفكّروا حتى ينتفعوا بالتفكر، ولا نظروا في مخلوقات الله حتى يهتدوا بذلك إلى الإيمان به، بل هم سادرون في ضلالتهم، خائضون في غوايتهم، لا يعمِلون فكرا، ولا يمعِنون نظرا”([11]).
وحتى إن قلنا: إن الآية لا يراد بها الوحدانية، وإنما الحثّ على النظر المؤدّي إلى معرفة وجود الله، فإن الآية ليس فيها إيجابُ للنظر، وقد بين القرطبي أنَّ من الناس من استدل بهذه الآية ومثيلاتها على وجوب النظر، إلا أنَّه رجّح عدم وجوبه، وبين أن التقليدَ جائز، وليس ذاك إلا لأن هذه الآيات عنده لا تدلّ على وجوب النظر، وإلا لما جاز الانتقال عنه إلى جواز التقليد، يقول رحمه الله: “قوله تعالى: {أَوَلَمْ يَنْظُرُوا} عَجب من إعراضهم عن النظر في آياته؛ ليعرفوا كمال قدرته، حسب ما بيناه في سورة البقرة… استدل بهذه الآية وما كان مثلها من قوله تعالى: {قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} وقوله تعالى: {أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا} وقوله تعالى: {أَفَلَا يَنْظُرُونَ إِلَى الإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ} الآية وقوله تعالى: {وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ} من قال بوجوب النظر في آياته والاعتبار بمخلوقاته”([12])، ثم قال: “فلو كان الإيمان لا يصحّ إلا بعد النظر والاستدلال لجاز للكفار إذا غلب عليهم المسلمون أن يقولوا لهم: لا يحلّ لكم قتلنا؛ لأن من دينكم أن الإيمان لا يصح إلا بعد النظر والاستدلال، فأخّرونا حتى ننظر ونستدلّ. قال: وهذا يؤدّي إلى تركهم على كفرهم، وأن لا يقتلوا حتى ينظروا ويستدلوا. قلت: هذا هو الصحيح في الباب”([13]).
2- ومن أدلة هذا النوع قوله تعالى: {قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ} [سبأ: 46].
وهذه من أصرح الأدلة الدالة على أن النظر والتفكّر مطلوب، فإنَّ الله سبحانه وتعالى قد حضَّ عليه، وأمر كفار قريش بأن يتفكّروا في محمَّد صلى الله عليه وسلم وصفاته، سواء كان هذا النظر فرديًّا أو مشاركة مع الغير، وكل ذلك حتى يؤدّي التَّفكير السليم إلى التسليم بصدق النبي صلى الله عليه وسلم فيما ادعاه.
وسواء كان الوقف على كلمة {تَتَفَكَّرُوا} فيكون التفكير شاملًا لكل ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم والجملة من بعده مستأنفة تنفي الجنون عن النبي صلى الله عليه وسلم، أو لا يكون الوقف على كلمة تَتَفَكَّرُوا} فيكون المعنى أن تتفكروا في محمد صلى الله عليه وسلم هل به جنون أو لا. سواء كان هذا أو هذا فإن هذا نظر وتفكر في أصل من أصول الدين، وهو وحدانية الله أو عدم جنون محمد صلى الله عليه وسلم.
يقول الطبري رحمه الله في معنى الآية: “يقوم الرجل منكم مع آخر قيتصادقان على المناظرة: هل علمتم بمحمد صلى الله عليه وسلم جنونًا قط؟ ثم ينفرد كل واحد منكم، فيتفكر ويعتبر فردًا هل كان ذلك به؟ فتعلموا حينئذ أنه نذير لكم”([14]).
ويقول البغوي رحمه الله: “{ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا} جميعًا أي: تجتمعون فتنظرون وتتحاورون، وتنفردون فتفكرون في حال محمد صلى الله عليه وسلم، فتعلموا {مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ}، أي: جنون، وليس المراد من القيام: القيام الذي هو ضدّ الجلوس، وإنما هو قيامه بالأمر الذي هو في طلب الحق”([15]).
وقد كان الحثّ على التفكر والنظر اثنين اثنين حتى يعرض كلّ واحد منهما حجته ورأيه للآخر، يقول الزمخشري: “والمعنى: {إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ} إن فعلتموها أصبتم الحق وتخلصتم، وهي: {أَنْ تَقُومُو}ا لوجه الله خالصا؛ متفرقين اثنين اثنين، وواحدا واحدا، {ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا} في أمر محمد صلى الله عليه وسلم وما جاء به، أما الاثنان: فيتفكران ويعرض كل واحد منهما محصول فكره على صاحبه، وينظران فيه متصادقين متناصفين، لا يميل بهما اتباع هوى ولا ينبض لهما عرق عصبية، حتى يهجم بهما الفكر الصالح والنظر الصحيح على جادّة الحق وسننه، وكذلك الفرد: يفكر في نفسه بعدل ونصفة، من غير أن يكابرها، ويعرض فكره على عقله وذهنه وما استقر عنده من عادات العقلاء ومجاري أحوالهم، والذي أوجب تفرقهم مثنى وفرادى أن الاجتماع مما يشوش الخواطر، ويعمي البصائر، ويمنع من الرؤية، ويخلط القول، ومع ذلك يقلّ الإنصاف، ويكثر الاعتساف، ويثور عُجاج التعصب، ولا يسمع إلا نصرة المذهب”([16]).
وهذه الآية يقال فيها: إنَّها جاءت في تقرير نبوة محمد صلى الله عليه وسلم، والتفكر في ذلك، وليس في قضية وجود الله، ومع ذلك فإن نبوة محمد صلى الله عليه وسلم من أصول الدين، فهل يعني ذلك أن استدلال المتكلمين بها صحيح في إيجاب النظر؟
والجواب: إن استدلال المتكلمين بهذه الآية غير صحيح؛ لأن المتكلمين إنما يوجبون النظر على كل أحد من الناس، ولا يقبلون بغيره في المجمل، ونحن ليس خلافنا في أن النظر قد يطلب من الإنسان، لكننا نخالف في أنه هو المطلوب في كل حين ومن كل أحد، فالآية حين تحثُّ على النظر والتفكر فإن هذا مطلوب، لكن ليس من كلِّ أحد، فمن سلمت فطرته وآمن قبل إسلامه لم يطلب منه النظر، إضافة إلى الاختلاف في ماهية النظر، وكون النظر القرآني مختلف عن النظر الذي يقرره كثير من المتكلمين.
3- ومن أدلة هذا النوع قوله تعالى: {أَفَلَا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ} [الغاشية: 17] وما بعدها من الآيات، ومثلها قوله تعالى: {فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ} [عبس: 24].
هذه الآيات فيها الحث على التفكر في مخلوقات الله والتأمل فيها؛ حتى يؤدي ذلك إلى الإقرار بوحدانية الله سبحانه وتعالى، وكلها فيها دلالة على أن النظر القرآني مطلوب ويحث عليه القرآن؛ فأما الآية الأولى وهي قوله تعالى: {أَفَلَا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ} وما بعدها من الآيات، يخبر الله سبحانه فيها عن خلقه، وقدرته البالغة التي يقر بها صاحب أدنى نظر، وكل ذلك ليؤدي إلى الاعتراف بوحدانيته سبحانه، وبيان عجز الأصنام التي يعبدها المشركون، يقول الطبري: “يقول جل ثناؤه: {أَفَلَا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ} فيعتبرون بها، ويعلمون أن القدرة التي قدر بها على خلقها لن يعجزه خلق ما شابهها”([17]).
وأما الآية الثانية فقد ذكر الله قبلها: {قُتِلَ الْإِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ} [عبس: 17]، أي: من العجيب أن يكفر الإنسان مع توالي نعم الله، كما يقول الطبري رحمه الله: “التعجب من كفره مع إحسان الله إليه وأياديه عنده”([18])، فالمراد به التعجب، يقول البغوي: “ما أشد كفره مع كثرة إحسانه إليه وأياديه عنده! على طريق التعجب”([19]). ثم ذكّره ببعض هذه النعم فقال: {مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ (18) مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ (19) ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ (20) ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ (21) ثُمَّ إِذَا شَاءَ أَنْشَرَهُ} [عبس: 18-22]، ومن ضمن ما ذكره من النعم قوله: {فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ} [عبس: 24]، فهو حثٌّ على النظر في نعم الله سبحانه وتعالى، ليعترف الإنسان بذلك بوحدانيته، أو بوجوده لمن ينكر ذلك، لكن ليس للمتكلمين فيها استدلال على إيجاب النظر لكل الناس.
فكل هذه الآيات واضحة بينة الدلالة على أن النظر القرآني مطلوب، وأن الله سبحانه وتعالى يستدلّ بالمشاهد على الغائب كما في الأمر بالنظر إلى الإبل والسماء والأرض والجبال، لكن ليس في الآيات وجوب النظر على كل أحد، بله أن يكون هناك وجوب لنوع من النظر وهو النظر الكلامي بالطرق التي يذكرها المتكلمون.
ثالثًا: الأدلة التي فيها أمر صريح بالنظر والتفكر:
هذا النوع من الأدلة هو أكثر ما يتمسّك به المتكلمون، فإنهم قالوا: إن هذا أمر، والأمر للوجوب، فوجب النظر على كل أحد كما يقررونه، وبالطريقة التي يقررونها.
1- ومن أدلة هذا النوع قوله تعالى: {قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الْآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ} [يونس: 101].
هذه الآية موجّهة إلى المشركين، يقول تعالى قبل هذه الآية: {وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ} [يونس: 100]، وهؤلاء المشركون قد طلبوا آية من النبي صلى الله عليه وسلم على وحدانية الله، فأمرهم الله أن ينظروا في خلق السموات والأرض حتى يستدلّوا به على وحدانية الله، يقول الطبري: “يقول تعالى ذكره: {قُلْ} -يا محمد- لهؤلاء المشركين من قومك، السائلين الآيات على صحة ما تدعوهم إليه من توحيد الله وخلع الأنداد والأوثان: {انْظُرُوا} أيها القوم {مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ} من الآيات الدالة على حقيقة ما أدعوكم إليه من توحيد الله، من شمسها وقمرها، واختلاف ليلها ونهارها، ونزول الغيث بأرزاق العباد من سحابها، وفي الأرض من جبالها، وتصدعها بنباتها، وأقوات أهلها، وسائر صنوف عجائبها، فإن في ذلك لكم إن عقلتم وتدبرتم موعظة ومعتبرا ودلالة على أن ذلك من فعل من لا يجوز أن يكون له في ملكه شريك، ولا له على تدبيره وحفظه ظهير، يغنيكم عما سواه من الآيات”([20]).
فالآية إذن لفئة معيّنة لم تؤمن بالله، وطلبت آية من النبي صلى الله عليه وسلم، فجاء الأمر بالنظر لمعرفة وحدانية الله، يقول السعدي: “يدعو تعالى عباده إلى النظر لما في السماوات والأرض، والمراد بذلك: نظر الفكر والاعتبار والتأمل لما فيها، وما تحتوي عليه، والاستبصار، فإن في ذلك لآيات لقوم يؤمنون، وعبرا لقوم يوقنون، تدل على أن الله وحده، المعبود المحمود، ذو الجلال والإكرام والأسماء والصفات العظام”([21]).
فالآية دلالتها واضحة على الحثّ على النظر، بل والأمر به لفئة من الناس حتى يصلوا من خلال النظر إلى توحيد الله، وليس هذا محلّ خلافنا، فليس في الآية دلالة على وجوب النظر على جميع الناس، وهو الخطأ الأبرز الذي وقع فيه المتكلمون في الاستدلال بكثير من هذه الآيات.
2- ومن هذا النو: كل الآيات التي فيها الأمر المفرد بالنظر، كقوله: {فَانْظُرْ}، وقد وردت هذه الكلمة ثلاث عشرة مرة في القرآن، منها ما يدل على النظر الذي بمعنى التفكر، وهي في اثني عشر موضعًا، ولسنا نطيل الحديث بإيراد المواضع كلها، فإن معظمها في الأمر بالنظر فيما فعله الله بالمجرمين والمفسدين والظالمين، فهو نظر اعتبار، أما النظر المؤدي إلى معرفة الله والإيمان به فقد ورد بهذا اللفظ في آية واحدة وهي قوله تعالى: {أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عَامٍ فَانْظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانْظُرْ إِلَى حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ وَانْظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنْشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [البقرة: 259].
وهذه الآية جاءت للدلالة على قدرة الله تعالى على إحياء الأموات بعد سؤاله: {أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللهُ بَعْدَ مَوْتِهَا}، فقد أحياه وأراه كيف يحيي الموتى، كما أن النظر هنا يراد به في الأساس النظر الحسي بالبصر لأنه يراه أمامه، ثم النظر المعنوي بالتفكير في ذلك، ويتضح من خلال الآية أنها لم تأت للدلالة على وجوب النظر على الناس كلهم.
3- ومن آيات النظر: الآيات التي فيها أمر بالنظر مضافًا إلى الجمع وليس إلى الفرد، وهي لفظة: {فَانْظُرُوا}، وقد جاءت في خمسة مواضع، منها أربعة مواضع تتحدث عن النظر في ما فعله الله بالمجرمين والظالمين للاعتبار والتذكر، وآية واحدة يستفاد منها النظر في خلق الله للدلالة على مسألة عقدية وهي قوله تعالى: {قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [العنكبوت: 20].
ولا شكّ أن هذه الآية نزلت للمكذبين يطلب الله منهم أن يسيروا في الأرض فينظروا ويتفكّروا في بداية الخلق وإعادته للدلالة على قدرة الله.
يقول الطبري: “وقوله: {قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ} يقول -تعالى ذكره- لمحمد صلى الله عليه وسلم: {قُلْ} -يا محمد- للمنكرين للبعث بعد الممات الجاحدين الثواب والعقاب: {سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ} الله الأشياء، وكيف أنشأها وأحدثها؛ وكما أوجدها وأحدثها ابتداء، فلم يتعذّر عليه إحداثها مبدِئا، فكذلك لا يتعذر عليه إنشاؤها معيدا، {ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ} يقول: ثم الله يبدئ تلك البدأة الآخرة بعد الفناء”([22]).
فهذه الآية إذن متوجهة إلى منكري البعث، فقرر الله عليهم أنه هو من ابتدأهم فبالتالي يسهل عليه إعادتهم، يقول الزمخشري: “الكلام معهم كان واقعا في الإعادة، وفيها كانت تصطكّ الركب، فلما قررهم في الإبداء بأنه من الله، احتج عليهم بأن الإعادة إنشاء مثل الإبداء، فإذا كان الله الذي لا يعجزه شيء هو الذي لم يعجزه الإبداء، فهو الذي وجب أن لا تعجزه الإعادة، فكأنه قال: ثم ذاك الذي أنشأ النشأة الأولى هو الذي ينشئ النشأة الآخرة”([23]). فمقصود الآية إذن بيان هوان الإعادة، يقول البيضاوي: “والإفصاح باسم الله مع إيقاعه مبتدأ بعد إضماره في {بَدَأَ} والقياس الاقتصار عليه للدلالة على أن المقصود بيان الإعادة، وأن من عرف بالقدرة على الإبداء ينبغي أن يحكم له بالقدرة على الإعادة لأنها أهون”([24]).
فهي إذن متّجهة أيضًا لفئة معينة من الناس، وللحثّ على النظر، وليس فيها إيجاب للنظر على الجميع، ويدلّ على أنها لفئة خاصة قوله تعالى قبلها: {وَإِنْ تُكَذِّبُوا فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (18) أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} [العنكبوت: 18، 19].
فليس في الآية دليل للمتكلمين على ما يقررونه من إيجاب النظر عل كلّ أحد.
أوجه خطأ المتكلمين في هذه المسألة:
بعد العرض السريع لبعض هذه الآيات يمكننا أن نعرف أن المتكلمين قد أخطؤوا في الاستدلال بهذه الآيات من جهات:
الجهة الأولى: أنهم استدلوا بآيات ليس فيها دلالة على وجوب النظر، وإنما فيها مطلق مدح النظر، وهذا الدليل أعم من المدلول، فلا يصح الاستدلال به، ومجرد مدح أمرٍ ما لا يعني إيجابه.
الجهة الثانية: أنهم استدلوا بآيات جاءت في تقرير الوحدانية، لا في تقرير وجود الله، وهم يستدلون بها على إيجاب النظر في وجود الله سبحانه وتعالى، ذلك أن الخلاف بين المتكلمين وأهل السنة في هذا الباب هو أن معرفة الله عند أهل السنة فطرية، ومعرفة الله عند المتكلمين نظرية، ومن هنا أوجبوا النظر على كل الناس.
الجهة الثالثة: أنهم أوجبوا النظر على كل المكلفين، بينما الآيات القرآنية تدل على أن النظر مطلوب من فئات معينة من الناس، فالنظر مثل الدواء الذي يحتاج إليه المريض، أما الصحيح المقر بوجود الله فطرة فإنه لا يحتاج إليه.
الجهة الرابعة: أن مجمل المتكلمين حين يقررون النظر فإنهم يقررون نظرًا خاصًّا له مقدماته وطرقه، وفرق كبير بينه وبين النظر القرآني، فإن جاءت آيات تدل على النظر والأمر به فإنه لا يصح نقل هذا الوجوب إلى وجوب النظر على الطريقة الكلامية التي يقررونها.
وأخيرًا: فإن مسألة وجود الله والمعرفة مسألة عظيمة، والخطأ فيها خطأ عظيم له آثار وخيمة كبيرة، فإيجاب النظر على كل أحد فيه مصادمة لنصوص كثيرة تبين أن الغاية هي معرفة الله وعبادته وحده، بأي طريق تم الوصول إلى هذه المعرفة، فحصرها بالنظر أمر خطير إذ إنه لا يستطيعه كل الناس، ومن هنا نشأت مسألة عدم قبول إيمان المقلد، والتي اشتهر بها كثير من المتكلمين، ولا شك أنها مسألة خطيرة تمس كثيرا من الأمة، إذ إن معظمهم من العوام، ولا يستطيعون النظر بالطريقة التي يقررها المتكلمون، كما أنَّ إيجابهم للنظر على كل أحد مصادم لفعل النبي صلى الله عليه وسلم وصحابته الكرام حين كانوا يقبلون إسلام الناس دون طلب للنظر أو إيجابه عليهم.
فإيجاب النظر مصادم للنصوص الكثيرة من الكتاب والسنة، ومصادم للحالة الواقعية التي عاشها النبي صلى الله عليه وسلم وصحابته الكرام، وتمسكهم بهذه الآيات من القرآن تمسك غير صحيح، فالدين كله محكم لا يناقض بعضه بعضًا، ومجموع النصوص يدل على أن النظر غير واجب على كل أحد من الناس.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(المراجع)
([1]) أبكار الأفكار في أصول الدين (1/ 155). وانظر: المنهج السديد في شرح كفاية المريد لسنوسي (ص: 48)، والعقيدة الوسطى له (ص: 42).
([2]) تفسير الطبري (3/ 268). وانظر: تفسير البغوي (1/ 195).
([5]) تفسير الطبري (7/ 473). وانظر: تفسير أبي السعود (2/ 127).
([8]) تفسير الطبري (7/ 475). وانظر: تفسير البغوي (1/ 556)، وتفسير النسفي (1/ 321)، وتفسير ابن كثير (2/ 184)، وتفسير أبي السعود (2/ 129).
([10]) تفسير الطبري (13/ 290).
([13]) تفسير القرطبي (7/ 330-331).
([16]) تفسير الزمخشري (3/ 590).
([17]) تفسير الطبري (24/ 388).
([18]) تفسير الطبري (24/ 222).
([20]) تفسير الطبري (15/ 214-215).
([23]) تفسير الزمخشري (3/ 449). وانظر: تفسير النسفي (2/ 671).