الأحد - 24 شعبان 1446 هـ - 23 فبراير 2025 م

الأشهر الحرم.. حقيقتها وتعظيمها والأعمال المحرمة فيها

A A

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة

المقدّمة:

مِن أجَلِّ نِعَم الله تعالى على المسلم أن شرَع له دينًا متنوِّع العبادات؛ فهو يتنقّل بين العبادات البدنيّة كالصلاة، والعبادات المالية كالصدقة والزكاة، والعبادات البدنية المالية كالحجّ والعمرة، والعبادات القلبية كالخشوع والتوكل والخشية والإنابة، ثم شرع له مواسم للطاعات وخصَّص أوقاتًا للقربات، يزداد فيها المؤمن إيمانًا، ويتزوَّد فيها من العبادات، ويجتنب فيها المعاصيَ والموبقات، ويبتعد عن الظلم والمفسِّقات، فجعل ليلةَ القدر خيرًا من ألف شهر، وجعل صومَ الستّ من شوال كصوم الدّهر، وعمل عرفة مباهًى به الملائكة، وعظَّم أجر العمل في عشر ذي الحجة.

ومن تلك المواسم الأشهر الحرم التي نحن بصدد الحديث عنها في هذه الورقة؛ فنبيّن المقصود بها وأدلتها وحِكمها وأحكامها.

ما الأشهر الحرم؟

الأشهر الحرم: هي الأشهر التي خصَّها الله بالتحريم من شهور السنة، حيث قال: {إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ} [التوبة: 36]، وهي أربعة أشهر: واحد فرد وهو: شهر رجب، وثلاثة سرد وهي: وذو القعدة، وذو الحجة، والمحرم.

أدلة حرمتها:

الدليل على تحريمها واضح صريح في كتاب الله تعالى، وهي قول الله تعالى: {إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ} [التوبة: 36]، والمقصود بمطلع هذه الآية “أن الله سبحانه وتعالى لما ابتدأ خلق السماوات والأرض جعل السنة اثني عشر شهرًا”([1]).

يقول الإمام الطبري (310هـ) رحمه الله في تفسيرها: “يقول تعالى ذكره: إن عدة شهور السنة {اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ}، الذي كتبَ فيه كل ما هو كائن في قضائه الذي قضى {يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ}، فهذه الشهور الاثنا عشر منها أربعة أشهر حرم، كانت الجاهلية تعظمهن وتحرِّمهن، وتحرِّم القتال فيهن، حتى لو لقي الرجل منهم فيهن قاتل أبيه لم يَهِجْهُ، وهن: رجب مُضر، وثلاثة متواليات: ذو القعدة، وذو الحجة، والمحرم. وبذلك تظاهرت الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم”([2]).

وكذلك وردت الأحاديث النبوية الصحيحة الصريحة في بيان حرمة هذه الأشهر، فقد ورد في المتفق عليه من حديث أبي بكرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض، السنة اثنا عشر شهرًا، منها أربعة حرم، ثلاثة متواليات: ذو القعدة وذو الحجة والمحرم، ورجب مضر، الذي بين جمادى وشعبان»([3]).

وفي بيان معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم: «إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض»، يقول ابن كثير (774هـ) رحمه الله: “تقرير منه -صلوات الله وسلامه عليه- وتثبيت للأمر على ما جعله الله تعالى في أول الأمر من غير تقديم ولا تأخير، ولا زيادة ولا نقص، ولا نسيء ولا تبديل، كما قال في تحريم مكة: «إن هذا البلد حرمه الله يوم خلق السموات والأرض، فهو حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة»([4])، وهكذا قال هاهنا: «إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض» أي: الأمر اليوم شرعًا كما ابتدأ الله ذلك في كتابه يوم خلق السموات والأرض”([5]).

وقد أبطل النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: «متواليات» ما كان عليه أهل الجاهلية من النسيء، “وما النَّسيء إلا زيادة في الكفر”([6]) كما أخبر الله سبحانه وتعالى فقال: {إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا لِيُوَاطِئُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ فَيُحِلُّوا مَا حَرَّمَ اللَّهُ زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمَالِهِمْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ} [التوبة: 37]، فقد زُيّن لهم وحُسِّن لهم ما كانوا يفعلونه من تأخير بعض الأشهر الحرم، فعلى سبيل المثال كانوا يجعلون المحرم صفرًا ويجعلون صفرًا المحرم؛ لئلا يتوالى عليهم ثلاثة أشهر لا يتعاطَون فيها القتال؛ فلذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: «متواليات»، وقد ورد في صفة هذا التأخير أقوال، وهي:

  1. منهم من يسمّي المحرم صفرًا فيحلّ فيه القتال ويحرم القتال في صفر ويسميه المحرم.
  2. ومنهم من كان يجعل ذلك سنة هكذا وسنة هكذا.
  3. ومنهم من يجعله سنتين هكذا وسنتين هكذا.
  4. ومنهم من يؤخّر صفرًا إلى ربيع الأول وربيعًا إلى ما يليه، وهكذا إلى أن يصير شوال ذا القعدة، وذو القعدة ذا الحجة، ثم يعود فيعيد العدد على الأصل([7]).

وأما سبب إضافة النبي صلى الله عليه وسلم لشهر رجب إلى قبيلة مضر فقد بيَّن العلماء أن سبب ذلك أنه كان هناك خلاف بين مضر وربيعة في تحديد هذا الشهر، فبينما كانت قبيلة مضر تحدّده بالشهر الذي بين جمادى وشعبان كما هو المعروف اليوم، كانت ربيعة تخالفهم وتظنّ أن رجب المحرم هو الشهر الذي بين شعبان وشوال، وهو رمضانُ اليوم؛ فأكد النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث أن القول الصحيح هو قول قبيلة مضر واعتقادها هو الاعتقاد الصحيح، يقول الحافظ ابن حجر (852هـ) رحمه الله: “يقال: إن ربيعة كانوا يجعلون بدله رمضان، وكان من العرب من يجعل في رجب وشعبان ما ذكر في المحرم وصفر، فيحلون رجبًا ويحرمون شعبان، ووصفه بكونه بين جمادى وشعبان تأكيدًا، وكان أهل الجاهلية قد نسئوا بعض الأشهر الحرم أي: أخروها، فيحلون شهرا حراما ويحرمون مكانه آخر بدله، حتى رفض تخصيص الأربعة بالتحريم أحيانا، ووقع تحريم أربعة مطلقة من السنة، فمعنى الحديث أن الأشهر رجعت إلى ما كانت عليه وبطل النسيء”([8]).

سبب تسميتها بالأشهر الحرم:

وقد سمِّيت الأشهر الحرم بهذا الاسم لآكدية حرمة الظلم والقتل فيها مع كونه محرمًا في غيرها، ولا يعني ذلك جواز القتال في غيرها كما كان الأمر في الجاهلية.

بل إن تسمية غالب أشهر السنة عند العرب التُفت فيها إلى حرمة الأشهر الحرم، فأول شهور السنة سمِّي المحرَّم؛ لكونه من الأشهر الحرم، يقول ابن كثير (774هـ) رحمه الله: “وعندي أنه سمي بذلك تأكيدًا لتحريمه؛ لأن العرب كانت تتقلب به، فتحله عامًا وتحرمه عامًا”([9])، وثاني شهور السنة سمِّي بصفر؛ لأنهم ينطلقون فيه للقتال والأسفار، فتخلو بيوتهم من الناس، فصفر بمعنى الخلوّ، وكذلك سمِّي شهر رجب بهذا الاسم من الترجيب وهو التعظيم؛ تعظيمًا لحرمة هذا الشهر، فهو من الأشهر الأربعة الحرم، وسمِّي الشهر الذي يليه بشهر شعبان؛ لأن القبائل كانت تتفرق فيه وتتشعب للقتال بعد أن حُبست شهرًا كاملًا عنه أعني شهر رجب، وكذلك سمِّي شهر ذي القعدة بهذا الاسم لقعودهم عن القتال والترحال فيه؛ لأنه من الأشهر الحرم؛ وبهذا يظهر ارتباط الأشهر الإسلامية بهذا الأمر العظيم، وهو تعظيمُ الأشهر الحرم التي حرمها الله واحترامُها([10]).

حِكَم وأحكام في الأشهر الحرم:

  1. أول ما أمر الله به حين تكلم عن الأشهر الحرم هو النهي عن الظلم فيها، فقال سبحانه: {فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ} [التوبة: 36]، أي: “فلا تعصوا الله فيها، ولا تحلُّوا فيهن ما حرَّم الله عليكم، فتكسبوا أنفسكم ما لا قِبَل لها به من سخط الله وعقابه”([11])، فينبغي للمسلم تعظيم هذه الأشهر التي عظَّمها الله سبحانه وتعالى باجتناب المعاصي والابتعاد عن المحرمات وعن الظلم بكل أنواعه.
  2. أن الظلم فيها أشدّ من الظلم في غيرها؛ لأن الله سبحانه وتعالى أكَّد على حرمة الظلم فيها وخصَّها بذلك، وهو الراجح من أقوال العلماء أن هاء الضمير في قوله تعالى: {فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ} [التوبة: 36] عائد إلى الأشهر الأربعة الحرم، ولا يُفهم من كون الضمير عائدًا إليها وتخصيصها بالنهي عن الظلم أن الظلم في غيرها جائز، “بل ذلك حرام علينا في كل وقتٍ وزمانٍ، ولكن الله عظَّم حرمة هؤلاء الأشهر وشرَّفهن على سائر شهور السنة، فخصّ الذنب فيهن بالتعظيم، كما خصّهن بالتشريف”([12]).
  3. أن الأشهر الحرم يفتتح بها العام الهجري بالمحرَّم ويختتم بها بشهري ذي القعدة وذي الحجة، كما أنها كذلك حاضرة في وسط العام وهو شهر رجب؛ لتذكِّر المسلم بتعظيم الله جل وعلا وتردعه عن الظلم بشتى أنواعه في السنة كلها، وهذا من النكات اللطيفة كما نبَّه على ذلك الحافظ ابن حجر: “للأشهر الحرم مزية على ما عداها، فناسب أن يبدأ بها العام وأن تتوسطه وأن تختم به، وإنما كان الختم بشهرين لوقوع الحج ختام الأركان الأربع؛ لأنها تشتمل على عمل مال محض وهو الزكاة، وعمل بدن محض؛ وذلك تارة يكون بالجوارح وهو الصلاة، وتارة بالقلب وهو الصوم؛ لأنه كفٌّ عن المفطرات، وتارة عمل مركب من مال وبدن وهو الحج، فلما جمعهما ناسب أن يكون له ضعف ما لواحد منهما، فكان له من الأربعة الحرم شهران”([13]).
  4. أن الأشهر الهلالية هي الأشهر الإسلامية المعتدّ بها شرعًا، خاصة في الأعياد والصيام والحج، وغالب المسلمين اليوم وللأسف يعتدّون بالأشهر الميلادية، يقول القرطبي (671هـ) رحمه الله: “هذه الآية تدل على أن الواجب تعليق الأحكام من العبادات وغيرها إنما يكون بالشهور والسنين التي تعرفها العرب، دون الشهور التي تعتبرها العجم والروم والقبط وإن لم تزد على اثني عشر شهرا؛ لأنها مختلفة الأعداد، منها ما يزيد على ثلاثين ومنها ما ينقص، وشهور العرب لا تزيد على ثلاثين وإن كان منها ما ينقص، والذي ينقص ليس يتعين له شهر، وإنما تفاوتها في النقصان والتمام على حسب اختلاف سير القمر في البروج”([14]).
  5. الإكثار من الأعمال الصالحة فيها تعظيمًا لهذه الأشهر؛ لأن الله سبحانه وتعالى عظَّمها وحرَّمها، ﴿‌وَمَنْ ‌يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ﴾ [الحج: 32]، قال الإمام الطبري (310هـ) رحمه الله: “وأولى الأقوال في ذلك بالصواب أن يقال: إن الله -تعالى ذكره- أخبر أن تعظيم شعائره، وهي ما جعله أعلاما لخلقه فيما تعبّدهم به من مناسك حجهم، من الأماكن التي أمرهم بأداء ما افترض عليهم منها عندها، والأعمال التي ألزمهم عملها في حجهم: من تقوى قلوبهم، لم يخصّص من ذلك شيئا، فتعظيم كل ذلك من تقوى القلوب، كما قال جل ثناؤه، وحق على عباده المؤمنين به تعظيم جميع ذلك”([15])، وبالإضافة إلى ذلك فإن العمل الصالح مانع للإنسان من الانزلاق في مهاوي الظلم والظلمات ومساوئ الشهوات والشبهات، أعاذنا الله منها.
  6. استحباب الصوم فيها، وقد استدلّ أهل العلم على ذلك بما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم باستحباب صيام شهر الله المحرم حيث جاء في صحيح مسلم من حديث أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «أفضل الصيام بعد رمضان شهر الله المحرم، وأفضل الصلاة بعد الفريضة صلاة الليل»([16])، يقول الإمام النووي (676هـ) رحمه الله: “ومن الصوم المستحبّ صوم الأشهر الحرم، وهي ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ورجب، وأفضلها المحرم”([17]).
  7. ورد في الآية النهي عن القتال في الأشهر الحرم، ولقد اختلف العلماء في هذه المسألة، فبعضهم يقول بأن النهي منسوخ، وبعضهم يقول بأن ذلك من المحكم لا المنسوخ، والأول أرجح؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم غزا هوازن فيها، يقول الألوسي: “الجمهور على أن حرمة المقاتلة فيهن منسوخة، وأن الظلم مؤول بارتكاب المعاصي، وتخصيصها بالنهي عن ارتكاب ذلك فيها، مع أن الارتكاب منهي عنه مطلقًا لتعظيمها، ولله سبحانه أن يميز بعض الأوقات على بعض، فارتكاب المعصية فيهن أعظم وزرا كارتكابها في الحرم وحال الإحرام”([18]).
  8. الأشهر الحرم تتضمن أيامًا عظيمة ومواسم جليلة للطاعة والعبادة، وينبغي للمسلم تعظيمها ومن ذلك:
  • خير أيام الدنيا، وهي أيام عشر ذي الحجة؛ حيث أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنها أفضل الأيام، قال عليه الصلاة والسلام: «ما العمل في أيام أفضل منها في هذه؟» قالوا: ولا الجهاد؟ قال: «ولا الجهاد، إلا رجل خرج يخاطر بنفسه وماله، فلم يرجع بشيء»([19])، فمن تعظيم الأشهر الحرم تعظيم هذه الأيام واستغلالها بالصيام والصدقة والصلاة وقراءة القرآن وإعمار للأوقات الفاضلة بالطاعات.
  • يوم عاشوراء؛ ومن تعظيمه العمل بما أمر الله ورسوله صلى الله عليه وسلم فيه، ففي المتفق عليه من حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة فرأى اليهود تصوم يوم عاشوراء، فقال: «ما هذا؟»، قالوا: هذا يوم صالح هذا يوم نجى الله بني إسرائيل من عدوهم، فصامه موسى، قال: «فأنا أحق بموسى منكم»، فصامه، وأمر بصيامه([20]). يقول ابن عباس رضي الله عنهما: (ما رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يتحرى صيام يوم فضله على غيره إلا هذا اليوم يوم عاشوراء، وهذا الشهر) يعني شهر رمضان([21]).
  • يوم عرفة، وقد عظمه المولى سبحانه وتعالى وجعله يومًا من الأيام المشهودة التي يباهي بعباده ملائكته، ويعتق فيه خلقًا كثيرًا من النار، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما من يوم أكثر من أن يعتق الله فيه عبدا من النار من يوم عرفة، وإنه ليدنو ثم يباهي بهم الملائكة، فيقول: ما أراد هؤلاء؟»([22])، وعلى المسلم تعظيم ما عظَّم الله بالوسيلة التي أمر بها؛ فأما الحجاج فيعظمون هذا اليوم بالانطلاق إلى مشعر عرفات فجرًا ثم الجمع بين صلاتي الظهر والعصر جمع تقديم والتفرغ للدعاء والابتهال إلى الله وسؤاله المغفرة والتوبة، وهو ما أرشد إليه النبي صلى الله عليه وسلم حيث قال: «خير الدعاء دعاء يوم عرفة، وخير ما قلت أنا والنبيون من قبلي: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير»([23])، وأما غير الحاج فبالإضافة إلى الدعاء يشرع له تعظيم هذا اليوم وصيامه لقول النبي صلى الله عليه وسلم حين سئل عن صوم يوم عرفة: «يكفر السنة الماضية والباقية»، وفي لفظ: «صيام يوم عرفة أحتسب على الله أن يكفر السنة التي قبله والسنة التي بعده»([24]).
  • يوم النحر، وهو العيد الثاني من أعياد المسلمين، وفيه يقوم الحاج بمجموعة من أعمال الحج من رمي جمرة العقبة والطواف بالبيت والحلق أو التقصير وذبح الهدي؛ كما أن غير الحاج يسنّ له فيها أن يضحِّي، وهذا من أوجه تعظيم هذا اليوم بالانشغال فيه بطاعة الله سبحانه وتعالى كل بحسبه، ومن ذلك استحباب التوسع في الأكل فيه؛ لأنه يوم أكل وشرب وذكر لله([25]).
  • أيام التشريق: وتعظيمها يكون بذكر الله تعالى فيها وشكره وتعظيمه وتكبيره.

الخاتمة:

في هذه الجولة الماتعة مع الأشهر الحرم عرفنا ما يلي:

  1. الأشهر الحرم: هي الأشهر التي خصَّها الله بالتحريم من شهور السنة، وهي أربعة أشهر: رجب، وذو القعدة، وذو الحجة، والمحرم.
  2. الدليل على تحريمها ما ورد في الكتاب والسنة، وهو قول الله تعالى: {إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ} [التوبة: 36]، وقوله عليه الصلاة والسلام: «الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض، السنة اثنا عشر شهرًا، منها أربعة حرم، ثلاثة متواليات: ذو القعدة وذو الحجة والمحرم، ورجب مضر، الذي بين جمادى وشعبان»([26]).
  3. سمِّيت الأشهر الحرم بهذا الاسم لآكدية حرمة الظلم والقتل فيها مع كونه محرمًا في غيرها.
  4. أول ما ذكر الله الأشهر الحرم في كتابه نهى عن الظلم فيها.
  5. الأشهر الهلالية هي الأشهر الإسلامية المعتد بها.
  6. يشرع الإكثار من الأعمال الصالحة فيها تعظيمًا لهذه الأشهر.
  7. أن من تعظيمها تعظيمَ ما فيها من مواسم جليلة كيوم عاشوراء ويوم عرفة وعشر ذي الحجة وغيرها.

فاللهم ما عبدناك حق عبادتك ولا شكرناك حق شكرك، سبحانك اجعلنا من المقبولين المعظِّمين لشعائرك الوقافين عند حدودك الأوابين إليك.

وصلَّى الله وسلم على نبيِّنا محمَّد وعلى آله وصحبه أجمعين.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(المراجع)

([1]) فتح الباري لابن حجر (8/ 324).

([2]) جامع البيان (14/ 234).

([3]) أخرجه البخاري (3197)، ومسلم (1679).

([4]) أخرجه البخاري (1587)، ومسلم (1353).

([5]) تفسير ابن كثير (4/ 146). وينظر: فتح الباري لابن حجر (8/ 324).

([6]) جامع البيان (14/ 243).

([7]) ينظر: جامع البيان (14/ 243 وما بعدها)، فتح الباري لابن حجر (8/ 325).

([8]) فتح الباري (8/ 325). وينظر: الجامع لأحكام القرآن للقرطبي (8/ 133)، تفسير ابن كثير (4/ 148).

([9]) تفسير ابن كثير (4/ 146 وما بعدها).

([10]) ينظر: تفسير ابن كثير (4/ 146 وما بعدها).

([11]) جامع البيان (14/ 237)، وقد رجح أن الضمير في قوله تعالى: {فِيهِنَّ} عائد على الأشهر الحرم الأربعة والمسألة محل خلاف.

([12]) جامع البيان (14/ 241).

([13]) فتح الباري (8/ 325).

([14]) الجامع لأحكام القرآن (8/ 133).

([15]) جامع البيان (16/ 541).

([16]) أخرجه مسلم (1163).

([17]) المجموع شرح المهذب (6/ 386).

([18]) روح المعاني (10/ 91).

([19]) أخرجه البخاري (969).

([20]) أخرجه البخاري (2004)، ومسلم (1130).

([21]) أخرجه البخاري (2004)، ومسلم (1132).

([22]) أخرجه مسلم (1348).

([23]) أخرجه الترمذي (3585) وحسنه الألباني.

([24]) أخرجه مسلم (1162).

([25]) وقد بوب الإمام البخاري: باب الأكل يوم النحر، وأورد فيه مجموعة من الأحاديث، ينظر: صحيح البخاري (2/ 17).

([26]) أخرجه البخاري (3197)، ومسلم (1679).

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

جديد سلف

موقف الإمامية الاثني عشرية من خالد بن الوليد -قراءة نقدية-

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة  مقدمة: إن الله أعزّ الأمة، ووجّهها نحو الطريق المستقيم، وفتح لها أبواب الخير بدين الإسلام، هذا الدين العظيم اصطفى الله له محمدَ بن عبد الله صلى الله عليه وسلم، واصطفى له من بين أهل الأرض رجالًا عظماء صحبوه فأحسنوا الصحبة، وسخروا كل طاقاتهم في نشر دين الله مع نبي […]

التلازم بين العقيدة والشريعة

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة  مقدمة: من تأمل وتتبَّع أسفار العهدين القديم والحديث يدرك أنهما لا يتَّسمان بالشمول والكمال الذي يتَّسم به الوحي الإسلامي؛ ذلك أن الدين الإسلامي جاء كاملا شاملا للفكر والسلوك، وشاملا للعقيدة والشريعة والأخلاق، وإن شئت فقل: لأعمال القلوب وأعمال الجوارح واللسان، كما جاء شاملا لقول القلب واللسان، وهذا بخلاف غيره […]

إنكار ابن مسعود للمعوذتين لا طعن فيه في القرآن ولا في الصحابة

يعمد كثير من الملاحدة إلى إثارة التشكيك في الإسلام ومصادره، ليس تقويةً لإلحاده، ولكن محاولة لتضعيف الإسلام نفسه، ولا شك أن مثل هذا التشكيك فيه الكثير من النقاش حول قبوله من الملاحدة، أعني: أن الملحد لا يؤمن أساسًا بالنص القرآني ولا بالسنة النبوية، ومع ذلك فإنه في سبيل زرع التشكيك بالإسلام يستخدم هذه النصوص ضد […]

دعاوى المناوئين لفتاوى ابن باز وابن عثيمين

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة  مقدمة: تُثار بين الحين والآخر نقاشات حول فتاوى علماء العصر الحديث، ومن أبرز هؤلاء العلماء الشيخ عبد العزيز بن عبد الله ابن باز والشيخ محمد بن صالح العثيمين. ويطغى على هذه النقاشات اتهام المخالف لهما بالتشدد والتطرف بل والتكفير، لا سيما فيما يتعلق بمواقفهما من المخالفين لهما في العقيدة […]

شبهات العقلانيين حول حديث “الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم” ومناقشتها

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة    مقدمة: لا يزال العقلانيون يحكِّمون كلامَ الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم إلى عقولهم القاصرة، فينكِرون بذلك السنةَ النبوية ويردُّونها، ومن جملة تشغيباتهم في ذلك شبهاتُهم المثارَة حول حديث: «الشيطان يجري في ابن آدم مجرى الدم» الذي يعتبرونه مجردَ مجاز أو رمزية للإشارة إلى سُرعة وقوع الإنسان في […]

البهائية.. عرض ونقد

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة  مقدمة: إن النبي صلى الله عليه وسلم قد مات بعد أن أتم الله تعالى عليه النعمة وأكمل له الملة، وأنزل عليه وهو قائم بعرفة يوم عرفة: {اليومَ أكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وأَتْمَمْتُ علَيْكُم نِعْمَتي ورَضِيتُ لَكُمُ الإسْلَامَ دِينًا} [المائدة: 3]، وهي الآية التي حسدتنا عليها اليهود كما في الصحيحين أنَّ […]

الصمت في التصوف: عبادة مبتدعة أم سلوك مشروع؟

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة  مقدمة: الصوفية: جماعةٌ دينية لهم طريقةٌ مُعيَّنة تُعرف بالتصوّف، وقد مَرَّ التصوّف بمراحل، فأوَّل ما نشأ كان زُهدًا في الدنيا وانقطاعًا للعبادة، ثم تطوَّر شيئًا فشيئًا حتى صار إلحادًا وضلالًا، وقال أصحابه بالحلول ووحدة الوجود وإباحة المحرمات([1])، وبين هذا وذاك بدعٌ كثيرة في الاعتقاد والعمل والسلوك. وفي إطار تصدِّي […]

دفع مزاعم القبورية حول حديث: «اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد»

مقدمة: من الفِرى ردُّ الأحاديث الصحيحة المتلقّاة بالقبول انتصارًا للأهواء والضلالات البدعية، وما من نصّ صحيح يسُدُّ ضلالًا إلا رُمِي بسهام النكارة أو الشذوذ ودعوى البطلان والوضع، فإن سلم منها سلّطت عليه سهام التأويل أو التحريف، لتسلم المزاعم وتنتفي معارضة الآراء المزعومة والمعتقدات. وليس هذا ببعيد عن حديث «‌اتخذوا ‌قبور ‌أنبيائهم»، فقد أثار أحدهم إشكالًا […]

استباحة المحرَّمات.. معناها وروافدها

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة  مقدمة: من أعظم البدع التي تهدم الإسلام بدعة استباحةُ الشريعة، واعتقاد جواز الخروج عنها، وقد ظهرت هذه البدعة قديمًا وحديثًا في أثواب شتى وعبر روافد ومصادر متعدِّدة، وكلها تؤدّي في نهايتها للتحلّل من الشريعة وعدم الخضوع لها. وانطلاقًا من واجب الدفاع عن أصول الإسلام وتقرير قواعده العظام الذي أخذه […]

الحالة السلفية في فكر الإمام أبي المعالي الجويني إمام الحرمين -أصول ومعالم-

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة  مقدمة: من الأمور المحقَّقة عند الباحثين صحةُ حصول مراجعات فكرية حقيقية عند كبار المتكلمين المنسوبين إلى الأشعرية وغيرها، وقد وثِّقت تلك المراجعات في كتب التراجم والتاريخ، ونُقِلت عنهم في ذلك عبارات صريحة، بل قامت شواهد الواقع على ذلك عند ملاحظة ما ألَّفوه من مصنفات ومقارنتها، وتحقيق المتأخر منها والمتقدم، […]

أحوال السلف في شهر رجب

 مقدمة: إن الله تعالى خَلَقَ الخلق، واصطفى من خلقه ما يشاء، ففضّله على غيره، قال تعالى: ﴿وَرَبُّكَ يَخۡلُقُ مَا يَشَآءُ ‌وَيَخۡتَارُ﴾ [القصص: 68]. والمقصود بالاختيار: الاصطفاء بعد الخلق، فالخلق عامّ، والاصطفاء خاصّ[1]. ومن هذا تفضيله تعالى بعض الأزمان على بعض، كالأشهر الحرم، ورمضان، ويوم الجمعة، والعشر الأواخر من رمضان، وعشر ذي الحجة، وغير ذلك مما […]

هل يُمكِن الاستغناءُ عن النُّبوات ببدائلَ أُخرى كالعقل والضمير؟

مقدمة: هذه شبهة من الشبهات المثارة على النبوّات، وهي مَبنيَّة على سوء فَهمٍ لطبيعة النُّبوة، ولوظيفتها الأساسية، وكشف هذه الشُّبهة يحتاج إلى تَجْلية أوجه الاحتياج إلى النُّبوة والوحي. وحاصل هذه الشبهة: أنَّ البَشَر ليسوا في حاجة إلى النُّبوة في إصلاح حالهم وعَلاقتهم مع الله، ويُمكِن تحقيقُ أعلى مراتب الصلاح والاستقامة من غير أنْ يَنزِل إليهم […]

الصوفية وعجز الإفصاح ..الغموض والكتمان نموذجا

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة  توطئة: تتجلى ظاهرة الغموض والكتمان في الفكر الصوفي من خلال مفهوم الظاهر والباطن، ويرى الصوفية أن علم الباطن هو أرقى مراتب المعرفة، إذ يستند إلى تأويلات عميقة -فيما يزعمون- للنصوص الدينية، مما يتيح لهم تفسير القرآن والحديث بطرق تتناغم مع معتقداتهم الفاسدة، حيث يدّعون أن الأئمة والأولياء هم الوحيدون […]

القيادة والتنمية عند أتباع السلف الصالح الأمير عبد الله بن طاهر أمير خراسان وما وراء النهر أنموذجا (182-230ه/ 798-845م)

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة  المقدمة: كنتُ أقرأ قصةَ الإمام إسحاق بن راهويه -رحمه الله- عندما عرض كتاب (التاريخ الكبير) للإمام البخاري -رحمه الله- على الأمير عبد الله بن طاهر، وقال له: (ألا أريك سحرًا؟!)، وكنت أتساءل: لماذا يعرض كتابًا متخصِّصًا في علم الرجال على الأمير؟ وهل عند الأمير من الوقت للاطّلاع على الكتب، […]

دعوى غلو النجديين وخروجهم عن سنن العلماء

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة  مقدمة: تكثر الدعاوى حول الدعوة النجدية، وتكثر الأوهام حول طريقتهم سواء من المخالفين أو حتى من بعض الموافقين الذين دخلت عليهم بعض شُبه الخصوم، وزاد الطين بلة انتسابُ كثير من الجهال والغلاة إلى طريقة الدعوة النجدية، ووظفوا بعض عباراتهم -والتي لا يحفظون غيرها- فشطوا في التكفير بغير حق، وأساؤوا […]

تغاريد سلف

جميع الحقوق محفوظة لمركز سلف للبحوث والدراسات © 2017