الثلاثاء - 19 ربيع الآخر 1446 هـ - 22 أكتوبر 2024 م

دفع الشبهات الغوية عن حديث الجونية

A A

نص الحديث ورواياته:

قال الإمام البخاري رحمه الله في صحيحه:

بَابُ مَنْ طَلَّقَ، وَهَلْ يُوَاجِهُ الرَّجُلُ امْرَأَتَهُ بِالطَّلَاقِ؟

حَدَّثَنَا الحُمَيْدِيُّ، حَدَّثَنَا الوَلِيدُ، حَدَّثَنَا الأَوْزَاعِيُّ، قَالَ: سَأَلْتُ الزُّهْرِيَّ: أَيُّ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اسْتَعَاذَتْ مِنْهُ؟ قَالَ: أَخْبَرَنِي عُرْوَةُ، عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ ابْنَةَ الجَوْنِ لَمَّا أُدْخِلَتْ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَدَنَا مِنْهَا قَالَتْ: أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْكَ، فَقَالَ لَهَا: «لَقَدْ عُذْتِ بِعَظِيمٍ، الحَقِي بِأَهْلِكِ».

حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ غَسِيلٍ، عَنْ حَمْزَةَ بْنِ أَبِي أُسَيْدٍ، عَنْ أَبِي أُسَيْدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: خَرَجْنَا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى انْطَلَقْنَا إِلَى حَائِطٍ يُقَالُ لَهُ: الشَّوْطُ، حَتَّى انْتَهَيْنَا إِلَى حَائِطَيْنِ، فَجَلَسْنَا بَيْنَهُمَا، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اجْلِسُوا هَا هُنَا» وَدَخَلَ وَقَدْ أُتِيَ بِالْجَوْنِيَّةِ، فَأُنْزِلَتْ فِي بَيْتٍ فِي نَخْلٍ فِي بَيْتِ أُمَيْمَةَ بِنْتِ النُّعْمَانِ بْنِ شَرَاحِيلَ وَمَعَهَا دَايَتُهَا حَاضِنَةٌ لَهَا، فَلَمَّا دَخَلَ عَلَيْهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «هَبِي نَفْسَكِ لِي»، قَالَتْ: وَهَلْ تَهَبُ المَلِكَةُ نَفْسَهَا لِلسُّوقَةِ؟! قَالَ: فَأَهْوَى بِيَدِهِ يَضَعُ يَدَهُ عَلَيْهَا لِتَسْكُنَ، فَقَالَتْ: أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْكَ، فَقَالَ: «قَدْ عُذْتِ بِمَعَاذٍ»، ثُمَّ خَرَجَ عَلَيْنَا فَقَالَ: «يَا أَبَا أُسَيْدٍ، اكْسُهَا رَازِقِيَّتَيْنِ، وَأَلْحِقْهَا بِأَهْلِهَا».

وَقَالَ الحُسَيْنُ بْنُ الوَلِيدِ النَّيْسَابُورِيُّ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ عَبَّاسِ بْنِ سَهْلٍ، عَنْ أَبِيهِ وَأَبِي أُسَيْدٍ قَالَا: تَزَوَّجَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُمَيْمَةَ بِنْتَ شَرَاحِيلَ، فَلَمَّا أُدْخِلَتْ عَلَيْهِ بَسَطَ يَدَهُ إِلَيْهَا، فَكَأَنَّهَا كَرِهَتْ ذَلِكَ، فَأَمَرَ أَبَا أُسَيْدٍ أَنْ يُجَهِّزَهَا وَيَكْسُوَهَا ثَوْبَيْنِ رَازِقِيَّيْنِ.

ورواه البخاري أيضا في كتاب الأشربة، ‌‌بَابُ الشُّرْبِ مِنْ قَدَحِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَآنِيَتِهِ:

عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ رضي الله عنه قَالَ: ذُكِرَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم امْرَأَةٌ مِنَ الْعَرَبِ، فَأَمَرَ أَبَا أُسَيْدٍ السَّاعِدِيَّ أَنْ يُرْسِلَ إِلَيْهَا، فَأَرْسَلَ إِلَيْهَا، فَقَدِمَتْ فَنَزَلَتْ فِي أُجُمِ بَنِي سَاعِدَةَ، فَخَرَجَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم حَتَّى جَاءَهَا، فَدَخَلَ عَلَيْهَا، فَإِذَا امْرَأَةٌ مُنَكِّسَةٌ رَأْسَهَا، فَلَمَّا كَلَّمَهَا النَّبِيُ صلى الله عليه وسلم قَالَتْ: أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْكَ، فَقَالَ: «قَدْ أَعَذْتُكِ مِنِّي». فَقَالُوا لَهَا: أَتَدْرِينَ مَنْ هَذَا؟ قَالَتْ: لا، قَالُوا: هَذَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم جَاءَ لِيَخْطُبَكِ، قَالَتْ: كُنْتُ أَنَا أَشْقَى مِنْ ذَلِكَ([1]).

الشبهات الواردة على الحديث:

أورد على هذا الحديث جملة من الشبهات، منها:

1- أن روايات الحديث متناقضة، ففي بعضها أن النبي صلى الله عليه وسلم طلَّقها، وهذا يعني أنه تزوجها، مع أنه قال لها: «هبي نفسك لي»، وهذا يعني أنه لم يتزوجها بعدُ. وفي رواية أخرى: أنه جاء ليخطبها فأبت.

ومن صور التناقض كذلك: الاختلاف في اسم المرأة، ففي بعضها أنها أميمة بنت شراحيل، وفي رواية البخاري: أنها نزلت في بيت أميمة بنت شراحيل، وهذا يعني أنها غيرها.

2- قالوا: إذا كان النبي صلى الله عليه وسلم تزوجها، فكيف يتزوج امرأة بغير رضاها؟! وإذا كان لم يتزوجها فكيف يخلو بامرأة أجنبية، ويريد أن يقبلها ويضع يده عليها؟!

3- وقالوا: كيف تقبَّل النبي صلى الله عليه وسلم قول المرأة: وهل تهب الملكة نفسها للسوقة وما تضمنه من التنقيص؟!

4- ولماذا رفضته المرأة مع أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم؟!

5- وقالوا: كيف يسافر أبو أسيد بالمرأة دون محرم في مجيئها وإيابها؟!

فهذا مجمل الطعون على هذا الحديث، وفيما يلي الجوتاب عنها:

1- أما دعوى التناقض فجوابها من وجوه:

أولا: أن الاختلاف بين روايات الحديث لا يعدّ بذاته مطعنًا عند العقلاء؛ إذ غايته أن يكون خطأً من الراوي، وهو ما يستخرجه أهلُ العلم والخبرة بالحديث، بمقارنة الروايات بعضها ببعض، والترجيح بينها وفق أسس علمية رصينة.

هذا لو كانت الروايات متناقضة فعلًا، فما بالنا أنها في كثير من الأحيان يمكن الجمع بينها بأحد وجوه الجمع المعتبرة؟!

ثانيا: للعلماء قولان في الجواب عن اختلاف الروايات:

القول الأول: من يرى تعدد القصة، وأن المرأة التي تزوجها وطلقها غير المرأة التي أراد خطبتها ولم يتزوجها، وقد بوَّب ابنُ سعد في طبقاته بابًا في (‌‌ذكر من تزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم مِنَ النِّسَاءِ فلم يجمعهن، ومن فارق منهن وسبب مفارقته إياهن)، وأورد فيه (الكِلابية) التي ورد في بعض الروايات أنها استعاذت من النبي صلى الله عليه وسلم ثم طلقها وذكر الاختلاف في اسمها، ثم قال: “قال بعضهم: لم تكن إلا كلابية واحدة واختلفوا في اسمها. وقال بعضهم: بل كنّ جميعًا، ولكل واحدة منهن قصة غير قصة صاحبتها، وقد بينا ذلك وكتبنا كل ما سمعناه من ذلك”([2]). ثم أورد الروايات الواردة في الباب.

ثم ذكر بعدها ترجمة (أسماء بنت النعمان بن أبي الجون الكندي)، وروى قصة استعاذتها من النبي صلى الله عليه وسلم من طريق سَعِيدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبْزَى قَالَ: الْجونِيَّةُ اسْتَعَاذَتْ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقِيلَ لَهَا: هُوَ أَحْظَى لَكِ عِنْدَهُ. وَلَمْ تَسْتَعِذْ منه امرأة غيرها، وإنما خدعت لما رئي مِنْ جَمَالِهَا وَهَيْئَتِهَا. وَلَقَدْ ذُكِرَ لِرَسُولِ اللَّهِ مَنْ حَمَلَهَا عَلَى مَا قَالَتْ لِرَسُولِ اللَّهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «إِنَّهُنَّ صَوَاحِبُ يُوسُفَ وَكَيْدُهُنَّ عَظِيمٌ». قَالَ: وَهِيَ أَسْمَاءُ بِنْتُ النُّعْمَانِ بْنِ أبي الجون([3]).

قال الحافظ ابن حجر رحمه الله بعد أن أورد رواية ابن أبزى هذه: “فهذه تتنزل قصتها على حديث أبي حازم عن سهل بن سعد، وأما القصة التي في حديث الباب من رواية عائشة فيمكن أن تنزل على هذه أيضا؛ فإنه ليس فيها إلا الاستعاذة، والقصة التي في حديث أبي أسيد فيها أشياء مغايرة لهذه القصة، فيقوى التعدّد، ويقوى أن التي في حديث أبي أسيد اسمها أميمة، والتي في حديث سهل اسمها أسماء. وأميمة كان قد عقد عليها ثم فارقها، وهذه لم يعقد عليها بل جاء ليخطبها فقط”([4]).

القول الثاني: القول بأن القصة واحدة، وأنه لم تستعذ منه إلا امرأة واحدة. وعلى هذا الوجه فإنه يصار إلى الترجيح بين الروايات، فيقال: هي امرأة واحدة تزوجها النبي صلى الله عليه وسلم وعقد عليها ولم يدخل بها، وتكون لفظة (جاء ليخطبك) التي في رواية أبي حازم عن سهل بن سعد غير محفوظة.

وممن قال بهذا القول ابن حزم رحمه الله فقال: “فهذه ‌كلها ‌أخبار ‌عن ‌قصة واحدة، في امرأة واحدة، في مقام واحد، فلاح أنه عليه الصلاة والسلام لم يكن تزوجها بعد، وإنما دخل عليها ليخطبها”([5]).

وقال ابن القيم رحمه الله: “فالقصة واحدة، دارت على عائشة رضي الله عنها وأبي أسيد وسهل، وكل منهم رواها، وألفاظهم فيها متقاربة، ويبقى التعارض بين قوله: (جاء ليخطبك)، وبين قوله: (فلما دخل عليها ودنا منها)، فإما أن يكون أحد اللفظين وهما، أو الدخول ليس دخول الرجل على امرأته، بل الدخول العام، وهذا محتمل”([6]).

والظاهر من مجموع الروايات -والله أعلم- أن النبي صلى الله عليه وسلم عقد على الجونية، فإنه جاء مصرحًا به في رواية عبد الرحمن بن سهل بن سعد عن أبيه، وفي بعض الروايات التي أوردها ابن سعد أنه أهوى ليقبلها، وأنه وضع يده عليها ليسكنها، وفي بعضها أن أباها زوجها إياه، بل نقل ابن عبد البر الإجماع على أن النبي صلى الله عليه وسلم تزوج الجونية ولكن اختلفوا في سبب فراقها([7]).

فإن كانت القصة واحدة فالوهم في كلمة (جاء ليخطبك) أو يقال بالتعدد كما سبق. والله أعلم.

وأما التناقض في اسم المرأة:

وهو الذي اتخذه بعض الجهال شناعة على البخاري بدعوى التناقض الواضح، حيث زعم أن البخاري رواه من طريق عبد الرحمن بن غسيل عن حمزة بن أبي أسيد عن أبي أسيد رضي الله عنه وفيه: “وقد أتي بالجونية، فأنزلت في بيت في نخل في بيت أميمة بنت النعمان بن شراحيل”، ثم رواه البخاري أيضا عن سهل بن سعد وأبي أسيد من طريق عبد الرحمن بن سهل بن سعد وفيه: “تزوج النبي صلى الله عليه وسلم أميمة بنت شراحيل، فلما أدخلت عليه…”، ثم جعل هذا الجاهل يطعن في البخاري وأئمة الحديث بأنهم يروون المتناقضات دون تمييز.

وقوله في الحديث: (في بيتِ أميمةَ بنتِ النعمان بن شراحيل) كذا هو بإضافة بيت لأميمة في اليونينية وفي كثير من الأصول، إلا أن الحافظ ابن حجر وتبعه العيني كالكرماني([8]) ذكروا أنه بالتنوين، وأميمة بالرفع إما بدلًا من الجونية وإما عطف بيان، فقال ابن حجر رحمه الله في شرح الحديث: “(وَقَدْ أُتِيَ بِالْجَوْنِيَّةِ، فَأُنْزِلَتْ فِي بَيْتٍ فِي نَخْلٍ فِي بَيْتٍ أُمَيْمَةُ بِنْتُ النُّعْمَانِ بْنِ شَرَاحِيلَ) هو بالتنوين في الكل، وأميمةُ بالرفع إما بدلا عن الجونية، وإما عطف بيان، وظن بعض الشراح أنه بالإضافة، فقال في الكلام على الرواية التي بعدها (تزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم أميمة بنت شراحيل): ولعل التي نزلت في بيتها بنت أخيها، وهو مردود؛ فإن مخرج الطريقين واحد، وإنما جاء الوهم من إعادة لفظ (في بيتٍ) وقد رواه أبو بكر بن أبي شيبة في مسنده عن أبي نعيم شيخ البخاري فيه فقال: (في بيتٍ في النخل أميمة..) إلخ”([9]).

وأما تسميتها في بعض الروايات بأسماء -كما جزم به ابن عبد البر ومحمد بن إسحق وغيره- فأجاب عنه الحافظ بقوله: “لعل اسمها أسماء ولقبها أميمة”، وأما ما وقع في بعض كتب المغازي في نسبها: أسماء بنت كعب الجونية فقال ابن حجر: “لعل في نسبها مَن اسمه كعب نسبها إليه”([10]).

وأما قولهم: إذا كان قد تزوجها فلماذا قال لها: «هبي نفسك لي»؟! ثم كيف يتزوج امرأة بغير رضاها؟! وإذا كان لم يتزوجها فكيف يخلو بها ويريد أن يقبلها؟!

فالجواب: أن المرأة التي وضع يده عليها لتسكن كان قد تزوجها وعقد عليها، كما جاء مصرحًا به في رواية عبد الرحمن بن عباس بن سهل بن سعد عن أبيه وأبي أسيد قالا: “تزوج النبي صلى الله عليه وسلم أميمة بنت شراحيل، فلما أدخلت عليه بسط يده إليها…” إلخ.

فهذا صريح في أن النبي صلى الله عليه وسلم تزوجها.

وأما كيف يتزوج امرأة دون رضاها؟

فالجواب: أنه ليس هناك دليل أنها وقت العقد لم تكن راضية، بل روى ابن سعد في الطبقات ما يدل على أنها هي من رغبت في النبي صلى الله عليه وسلم، وعرضها أبوها النعمان بن أبي الجون على النبي صلى الله عليه وسلم وقال له: يا رسول الله، ألا أزوجك أَجْمَلَ أَيِّمٍ فِي الْعَرَبِ كَانَتْ تَحْتَ ابْنِ عَمٍّ لَهَا فَتُوُفِّيَ عَنْهَا فَتَأَيَّمَتْ وَقَدْ رَغِبَتْ فِيكَ وَحَطَّتْ إِلَيْكَ؟ فَتَزَوَّجَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أُوقِيَّةً وَنَشٍّ. فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، لا تُقَصِّرْ بِهَا فِي الْمَهْرِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «مَا أَصْدَقْتُ أَحَدًا مِنْ نِسَائِي فَوْقَ هَذَا، وَلا أُصْدِقُ أَحَدًا مِنْ بَنَاتِي فَوْقَ هَذَا». فَقَالَ نعمان: فَفِيكَ الأَسَى. قَالَ: فَابْعَثْ -يَا رَسُولَ اللَّهِ- إِلَى أَهْلِكَ مَنْ يَحْمِلُهُمْ إِلَيْكَ فَأَنَا خَارِجٌ مَعَ رَسُولِكَ فَمُرْسِلٌ أَهْلَكَ مَعَهُ. فَبَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ مَعَهُ أَبَا أُسَيْدٍ السَّاعِدِيَّ([11]).

ثم يحتمل بعد ذلك أنها خُدِعت وظنّت أن النبي صلى الله عليه وسلم يعجبه ذلك، كما جاء في تكملة الرواية السابقة، أو غير ذلك مما جعلها تتقلب وتتغير -كما سنذكر-.

وأما قوله لها: «هبي نفسك لي» فكان على سبيل تطييب خاطرها، وتسليم الدخول لا العقد، إذ العقد قد سبق.

قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: “واعترض بعضهم بأنه لم يتزوجها؛ إذ لم يجر ذكرُ صورة العقد، وامتنعت أن تهبَ له نفسها، فكيف يطلقها؟! والجواب: أنه صلى الله عليه وسلم كان له أن يزوج من نفسه بغير إذن المرأة وبغير إذن وليها، فكان مجرد إرساله إليها وإحضارها ورغبته فيها كافيًا في ذلك، ويكون قوله: «هبي لي نفسك» تطييبًا لخاطرها واستمالة لقلبها. ويؤيده قوله في رواية لابن سعد: إنه اتفق مع أبيها على مقدار صداقها، وأن أباها قال له: إنها رغبت فيك وخطبت إليك”([12]).

وقال ابن القيم رحمه الله في قوله «هبي لي نفسك»: “وهذا لا يدل على أنه لم يتقدم نكاحه لها، وجاز أن يكون هذا استدعاء منه صلى الله عليه وسلم للدخول لا للعقد“([13]).

وقال الطحاوي رحمه الله: “إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن دخوله على تلك المرأة إلا وهي له زوجة قبل ذلك، وعلى ذلك كان أبو أسيد جاء بها، وكان قوله بعد ذلك: «هبي لي نفسك» على معنى: ‌مكنيني ‌من ‌نفسك، لا على استئناف تزويج يعقده له على نفسها، وكيف يجوز أن يظن برسول الله صلى الله عليه وسلم ومن شريعتنا أن لا يخلو رجل بامرأة ليس منها بمحرم؟!”([14]).

وأما قولهم: كيف تقبَّل النبي صلى الله عليه وسلم قولها: “وهل تهب الملكة نفسها للسوقة”؟!

فهذا من حسن خلقه وكريم شمائله صلى الله عليه وسلم، إذ عفا عنها، ولم يؤاخذها بما صدر منها من بقايا الجاهلية فيها.

قال الحافظ ابن حجر رحمه الله : “قال ابن المنير: هذا من بقية ما كان فيها من الجاهلية، والسوقة عندهم من ليس بملِك كائنا من كان، فكأنها استبعدت أن يتزوج الملكة من ليس بملك، وكان صلى الله عليه وسلم قد خير أن يكون ملكا نبيّا فاختار أن يكون عبدا نبيا تواضعا منه صلى الله عليه وسلم لربه، ولم يؤاخذها النبي صلى الله عليه وسلم بكلامها معذرة لها لقرب عهدها بجاهليتها”([15]).

فهذا من حلمه وتواضعه وكرمه صلى الله عليه وسلم أن عفا عنها ولم يؤاخذها بجهلها، بل أحسن إليها وقابل الإساءة بالإحسان، صلوات الله وسلامه عليه.

وأما لماذا أبت أن تهب نفسها للرسول صلى الله عليه وسلم؟

فقد اختلف العلماء في سبب ذلك كثيرًا، فمنهم من قال: إنها خُدِعت من بعض النسوة لما رأينه من جمالها، كما سبق من رواية ابن سعد السابقة.

ومنهم من قال: إنها لم تكن تعرفه، كما جاء مصرحًا به في رواية سهل بن سعد الأخرى، وأنهم قالوا لها: أتدرين من هذا؟ قالت: لا، فقالوا لها: هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم جاء ليخطبك، فقالت: كنت أنا أشقى من ذلك؛ تتحسر على فوات زواجها من النبي صلى الله عليه وسلم، فهذا صريح في أنها لم تكن تعرفه، لو كانت القصة واحدة.

والظاهر أنها متعدّدة، وأن هذه ليست التي قالت: وهل تهب الملكة نفسها للسوقة؟! فالمرأة في رواية سهل بن سعد كانت امرأة منكّسة الرأس، بخلاف هذه المرأة التي ترى نفسها في منزلة عالية لا تتزوج إلا من الملوك.

وهذا هو السبب الأقرب -والله أعلم- أنها كانت عندها بقايا من الجاهلية، فلعلها كانت ترغب في الزواج من النبي صلى الله عليه وسلم لأنها كانت تظنه كالملوك في معيشتهم، فلما رأت النبي صلى الله عليه وسلم وما اختاره من أن يكون عبدًا نبيًّا أبت أن تهب نفسها للنبي صلى الله عليه وسلم.

وليس في إعراضها عن النبي صلى الله عليه وسلم أيّ غض من قدره الشريف صلى الله عليه وسلم، وإذا كان الإعراض عن دعوته ورسالته من الكفار والمشركين لا يتضمن غضًّا من مقامه، فهذا من باب أولى، والمحروم من حرم مثل هذا الشرف العظيم، والله يختص برحمته من يشاء، والله ذو الفضل العظيم.

وأما القول: كيف سافر معها أبو أسيد وهو ليس بمحرم لها؟

فقد أجاب الطحاوي رحمه الله على ذلك فقال: “وكان الذي أطلق له ذلك عندنا -والله أعلم- فيها أن النبي صلى الله عليه وسلم لما تزوجها ‌صارت ‌بذلك ‌للمسلمين ‌أمّا، وصارت بذلك عليهم حراما، فحل لأبي أسيد ذلك فيها إذ كان قد عاد بما ذكرنا محرما بها”([16]).

ويحتمل -والله اعلم- أنه كان معها من محارمها من لم يذكر، ويحتمل غير ذلك، والله أعلم.

ومن عجيب ما قاله بعض الطاعنين في السنة أن قال بعضهم: ما فائدة ذكر هذا الحديث؟

وهذا من جهلهم، فالحديث مليء بالفوائد الفقهية والسلوكية، فالحديث كما قال ابن عبد البر رحمه الله: “أصل في باب الكناية عن الطلاق”([17]). وما زال العلماء يستدلون به على أن لفظة (الحقي بأهلك) من كنايات الطلاق التي يقع بها الطلاق مع النية.

وفي الحديث بيان لشمائل النبي صلى الله عليه وسلم العظيمة، وأنه ليس كالملوك والجبابرة، فإن النبي صلى الله عليه وسلم عقد عليها، إما برغبة منها وعرض أبيها الزواج كما سبق، أو يكون النبي صلى الله عليه وسلم زوجها لنفسه -وهذا من خصائصه- ثم لما ظهر من المرأة التمنع طلقها، ولم يرغمها على ما تكره، مع قدرته على ذلك، بل طلقها ومتعها وأرسلها إلى أهلها معزّزة مكرّمة ومعها ثياب حسنة تمتيعًا لها.

وفي الحديث أيضا: حلمه وعفوه صلى الله عليه وسلم، فاحتمل منها جهلها، ولم يؤاخذها بكلامها.

وهذا كله عكس ما عليه الجبابرة والملوك. فالحديث دليل على كرم أخلاقه وحسن شمائله صلى الله عليه وسلم، خلافًا لما يظنّ كثير من المنافقين من الملاحدة أو أعداء السنة، ممن دأبوا على التشبيه على المسلمين بهذا الحديث وغيره، يظنون أنه يتضمن نقصا في حق النبي، وحاشاه صلى الله عليه وسلم، فهو أكمل الخلقِ إيمانًا وخُلُقًا.

والحمد لله رب العالمين.

 

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(المراجع)

([1]) رواه البخاري (5254، 5255، 5256)، ومسلم (2007).

([2]) الطبقات الكبرى (8/ 112).

([3]) المصدر السابق (8/ 115) من رواية محمد بن عمر الواقدي، وهو متفق على ضعفه.

([4]) فتح الباري (9/ 359).

([5]) المحلى (9/ 440).

([6]) زاد المعاد (5/ 290).

([7]) الاستيعاب (4/ 1785) في ترجمة أسماء بنت النعمان بن الجون.

([8]) ينظر: إرشاد الساري للقسطلاني (8/ 131).

([9]) فتح الباري (9/ 358).

([10]) المرجع السابق.

([11]) الطبقات الكبرى (8/ 113) والأثر ضعيف جدًّا؛ لضعف رواته والإرسال، فيه محمد بن عمر الواقدي متروك، وعبد الواحد بن أبي عون من أتباع التابعين.

([12]) فتح الباري (9/ 360).

([13]) زاد المعاد (5/ 290).

([14]) شرح مشكل الآثار (15/ 342).

([15]) فتح الباري (9/ 358).

([16]) شرح مشكل الآثار (2/ 102).

([17]) الاستذكار (6/ 23).

التعليقات مغلقة.

جديد سلف

إرث الجهم والجهميّة .. قراءة في الإعلاء المعاصر للفكر الجهمي ومحاولات توظيفه

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة مقدمة: إذا كان لكلِّ ساقطة لاقطة، ولكل سلعة كاسدة يومًا سوقٌ؛ فإن ريح (الجهم) ساقطة وجدت لها لاقطة، مستفيدة منها ومستمدّة، ورافعة لها ومُعليَة، وفي زماننا الحاضر نجد محاولاتِ بعثٍ لأفكارٍ منبوذة ضالّة تواترت جهود السلف على ذمّها وقدحها، والحط منها ومن معتنقها وناشرها([1]). وقد يتعجَّب البعض أَنَّى لهذا […]

شبهات العقلانيين حول حديث: (إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم)

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة مقدمة: لا يزال العقلانيون يحكِّمون كلامَ الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم إلى عقولهم القاصرة، فينكِرون بذلك السنةَ النبوية ويردُّونها، ومن جملة تشغيباتهم في ذلك شبهاتُهم المثارَة حول حديث: «الشيطان يجري في ابن آدم مجرى الدم» الذي يعتبرونه مجردَ مجاز أو رمزية للإشارة إلى سُرعة وقوع الإنسان في الهوى […]

شُبهة في فهم حديث الثقلين.. وهل ترك أهل السنة العترة واتَّبعوا الأئمة الأربعة؟

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة حديث الثقلين يعتبر من أهمّ سرديات الخطاب الديني عند الشيعة بكافّة طوائفهم، وهو حديث معروف عند أهل العلم، تمسَّك بها طوائف الشيعة وفق عادة تلك الطوائف من الاجتزاء في فهم الإسلام، وعدم قراءة الإسلام قراءة صحيحة وفق منظورٍ شمولي. ولقد ورد الحديث بعدد من الألفاظ، أصحها ما رواه مسلم […]

المهدي بين الحقيقة والخرافة والرد على دعاوى المشككين

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة   مقدمة: صحّ عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «قَدْ تَرَكْتُكُمْ عَلَى الْبَيْضَاءِ لَيْلُهَا كَنَهَارِهَا، لَا يَزِيغُ عَنْهَا بَعْدِي إِلَّا هَالِكٌ»([1]). ومن رحمته صلى الله عليه وسلم بالأمه أنه أخبر بأمور كثيرة واقعة بعده، وهي من الغيب الذي أطلعه الله عليه، وهو صلى الله عليه وسلم لا […]

قول النبي صلى الله عليه وسلم: (لو كان الإيمان منوطًا بالثريا، لتناوله رجال من فارس) شبهة وجواب

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة  يقول بعض المنتصرين لإيران: لا إشكالَ عند أحدٍ من أهل العلم أنّ العربَ وغيرَهم من المسلمين في عصرنا قد أعرَضوا وتولَّوا عن الإسلام، وبذلك يكون وقع فعلُ الشرط: {وَإِن تَتَوَلَّوْاْ}، ويبقى جوابه، وهو الوعد الإلهيُّ باستبدال الفرس بهم، كما لا إشكال عند المنصفين أن هذا الوعدَ الإلهيَّ بدأ يتحقَّق([1]). […]

دعوى العلمانيين أن علماء الإسلام يكفرون العباقرة والمفكرين

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة عرفت الحضارة الإسلامية ازدهارًا كبيرًا في كافة الأصعدة العلمية والاجتماعية والثقافية والفكرية، ولقد كان للإسلام اللبنة الأولى لهذه الانطلاقة من خلال مبادئه التي تحثّ على العلم والمعرفة والتفكر في الكون، والعمل إلى آخر نفَسٍ للإنسان، حتى أوصى الإنسان أنَّه إذا قامت عليه الساعة وفي يده فسيلة فليغرسها. ولقد كان […]

حديث: «إِنَّ أَحَدَكُمْ لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ الجَنَّةِ» شبهة ونقاش

من أكثر الإشكالات التي يمكن أن تؤثِّرَ على الشباب وتفكيرهم: الشبهات المتعلِّقة بالغيب والقدر، فهما بابان مهمّان يحرص أعداء الدين على الدخول منهما إلى قلوب المسلمين وعقولهم لزرع الشبهات التي كثيرًا ما تصادف هوى في النفس، فيتبعها فئام من المسلمين. وفي هذا المقال عرضٌ ونقاشٌ لشبهة واردة على حديثٍ من أحاديث النبي صلى الله عليه […]

آثار الحداثة على العقيدة والأخلاق

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة مقدمة: الفكر الحداثي مذهبٌ غربيّ معاصر دخيل على الإسلام، والحداثة تعني: (محاولة الإنسان المعاصر رفض النَّمطِ الحضاري القائم، والنظامِ المعرفي الموروث، واستبدال نمطٍ جديد مُعَلْمَن تصوغه حصيلةٌ من المذاهب والفلسفات الأوروبية المادية الحديثة به على كافة الأصعدة؛ الفنية والأدبية والاقتصادية والسياسية والاجتماعية والفكرية…)([1]). ومما جاء أيضا في تعريفه: (محاولة […]

الإيمان بالغيب عاصم من وحل المادية (أهمية الإيمان بالغيب في العصر المادي)

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة مقدمة: يعيش إنسان اليوم بين أحد رجلين: رجل تغمره الطمأنينة واليقين، ورجل ترهقه الحيرة والقلق والشكّ؛ نعم هذا هو الحال، ولا يكاد يخرج عن هذا أحد؛ فالأول هو الذي آمن بالغيب وآمن بالله ربا؛ فعرف الحقائق الوجوديّة الكبرى، وأدرك من أين جاء؟ ومن أوجده؟ ولماذا؟ وإلى أين المنتهى؟ بينما […]

مناقشة دعوى الإجماع على منع الخروج عن المذاهب الأربعة

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة مقدمة: الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على من بعث رحمةً للعالمين، وعلى آله وصحبه أجمعين. وبعد: فإن طريقة التعامل مع اختلاف أهل العلم بَيَّنَها الله تعالى بقوله: {يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ ‌أَطِيعُواْ ‌ٱللَّهَ وَأَطِيعُواْ ٱلرَّسُولَ وَأُوْلِي ٱلۡأَمۡرِ مِنكُمۡۖ فَإِن تَنَٰزَعۡتُمۡ فِي شَيۡءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى ٱللَّهِ وَٱلرَّسُولِ إِن كُنتُمۡ تُؤۡمِنُونَ […]

بدعية المولد .. بين الصوفية والوهابية

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة مقدّمة: من الأمور المقرَّرة في دين الإسلام أن العبادات مبناها على الشرع والاتباع، لا على الهوى والابتداع، فإنَّ الإسلام مبني على أصلين: أحدهما: أن نعبد الله وحده لا شريك له، والثاني أن نعبده بما شرعه على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم، فالأصل في العبادات المنع والتوقيف. عَنْ عَلِيٍّ […]

الخرافات وأبواب الابتداع 

[ليس معقولاً، لا نقلاً، ولا عقلاً، إطلاق لفظ «السُّنَّة» على كل شيء لم يذكر فيه نص صريح من القرآن أو السنة، أو سار عليه إجماع الأمة كلها، في مشارق الأرض ومغاربها]. ومصيبة كبرى أن تستمر التهم المعلبة،كوهابي ، وأحد النابتة ، وضال، ومنحرف، ومبتدع وما هو أشنع من ذلك، على كل من ينادي بالتزام سنة […]

ترجمة الشَّيخ د. علي ناصر فقيهي

‏‏للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة ترجمة الشَّيخ د. علي ناصر فقيهي([1]) اسمه ونسبه: هو الشَّيخ الأستاذ الدكتور علي بن محمد بن ناصر آل حامض الفقيهي. مولده: كان مسقط رأسه في جنوب المملكة العربية السعودية، وتحديدا بقرية المنجارة التابعة لمحافظة أحد المسارحة، إحدى محافظات منطقة جيزان، عام 1354هـ. نشأته العلمية: نشأ الشيخ في مدينة جيزان […]

مناقشة دعوَى أنّ مشركِي العرب جحدوا الربوبية

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة مقدمة: اعتَمَد بعضُ الأشاعرةِ في العصور الحديثةِ على مخالفة البدهيات الشرعية، وتوصَّلوا إلى نتائج لم يقل بها سلفُهم من علماء الأشعرية؛ وذلك لأنهم لما نظروا في أدلة ابن تيمية ومنطلقاته الفكرية وعرفوا قوتها وصلابتها، وأن طرد هذه الأصول والتزامَها تهدم ما لديهم من بدعٍ، لم يكن هناك بُدّ من […]

تغاريد سلف

جميع الحقوق محفوظة لمركز سلف للبحوث والدراسات © 2017