علمانيو العرب ومشروع الدفاع الخاطئ
يعتمد علمانيو العرب سياسة الأرض المحروقة؛ ببث طوفان الشبهات للإجهاز على من ألقى إليهم سمعه واقترب من ناديهم، ومع أي فرصة حالية أو قادمة يغتنمون الفرصة لمحاولة التشكيك في العقائد والثوابت الدينية.
حتى وصل الأمر إلى أن المتابِع يتنبّأ بموعد هجمتهم التالية وموسم الإنكار على المنكرين وتسفيه الثابتين! مستغلين أيّ مشهد ديني أو حدثٍ، كحادثة مقتل الصحفية الفلسطينية شيرين أبو عاقلة على أيدي الصهاينة.
وفي أدبيّات حالة الهجوم على الثوابت وتسفيه الثابتين تجد غِلظة متناهية على من يحاول إبداء رأيه الشرعيِّ المخالف لأهوائهم، فتراهم يتركون صنمَ العجوة، وعلمانيتهم، والرأي والرأي الآخر جانبًا! وتنقلب سماحتهم المزعومة مِطرقة في وجه مَن يتمسَّك بثوابته، بل ويرفعون عقيرتهم بسماجة حول حرية إبداء الرأي! وكأن المسلم الثابت على الوحي شيطان رجيم، ليس رأيه رأيًا كسائر الآراء، ولا من حقه القول والتعبير عما يعتقده دينًا!
فما إن يجد حديثًا أو حادثة إلا ويتبعها صياح بالحط على الدين وفهمه، ومحاولة تحميله المسؤولية والنقائص كاملة.. يحرقون ما يقدرون عليه، وبكل طريق متاح.
وفي مقابل ذلك نجد دعاةً يتبرّعون بمشروع مشوَّه وصورة ناقصة عن الإسلام لكسب الجموع.. فلا هم أرضوا الجموع، ولا هم أبرؤوا ذمته وبلغوا شرع الله كما أنزله الله، بل كتموا بعض ما أنزل الله تعالى.
أصول مسلكهم في تطبيق سياسة الأرض المحروقة:
تعود أصول مسالكهم في تطبيق هذه السياسة التي تؤول إلى حرق الأرض وتجفيف منابع الوحي والهدى إلى عدة أمور:
1- المناداة بالإسلام البسيط:
وذلك إيهامًا وخداعًا بأن الإسلام يتجزأ، فتأخذ منه جانبًا مشتركًا كالإنسانية وتترك منه جوانبه، أو أن بإمكانك أن تكون مسلمًا إسلام الأعمال الخيرية -إن صح التعبير- وتتخلى عن شرائع الإسلام وعقائده وولائه وبرائه وأركانه.
2- إسقاط الرموز الراشدة وصناعة رموز بديلة فاسدة:
وهذه طريقة قديمة؛ إذا أردت إسقاط فكرة أو كيان أو دولة أسقط رجالها والمنادين بها، حينها ستسقط الفكرة أو الكيان، وهذا عين ما يصنعونه، بإسقاط الرموز قديمًا كالكلام والطعن فيمن نقل الوحي وأئمة السنة ورجال العلم عبر القرون، ومن ذلك تحقير مسالك الفقهاء وتصوير الدين كأنه صنعة الفقهاء، وأن الشريعة فهمٌ بشريّ من قبل جماعة تسلَّطوا بأفهامهم على الخلق وفرضوه بقوة الدولة، ثم تتوالى القرون ويكون الإسقاط في عصرنا عبر آلة إعلامية تضخّ صباح مساء مثالب مزعومة ونقائص مُدَّعاة على أهل الاستقامة، بما في ذلك تحقير أفهام العلماء والمؤسسات العلمية الشرعية والكليات الشرعية ومناصب الفتوى، وفي المقابل إبراز محاسن مُدَّعاة للتيار المناهض وأصحاب الإنتاج الفني والملاهي الليلية ونجوم الكرة والرياضة، وطلب آرائهم في الواقع وبعض المسائل الدينية.
فكان عماد مسلكهم هذا إسقاط الشرفاء، وتخوين الأمناء، وتنصيب خائنين أو عديمي الشرف لتبوُّؤ ذروة القيادة العلمية والدينية والروحية، مع طعن مستمر مدعوم في اتجاه هدمي للثوابت.
3- جعل مواقيت العبادات ومواسمها نواقيس للدعارة:
ولا يخفاك ما يحصل في كثير من بلدان المسلمين بربط شهر رمضان بسهرات الدعارة وتعاطي الخمور، وكذلك ربط الأعياد الإسلامية بسهرات تعاطي الخمور والرقص والحفلات الماجنة.
4- بثّ المصطلحات المسوِّغة للمنكَر والمحسِّنة لسُمعته؛ كاستعمال لفظ المثلية بدل الشذوذ، والمشروبات الروحية بديلًا عن لفظ الخمر، قال النبي r عن الخمر: «يسمونها بغير اسمها»([1]).
والسؤال: هل قدّمت التنازلات الدينية مشروعًا دفاعيًّا لتصحيح صورة الإسلام البيضاء؟
وُجدت مشاريع دفاع تجاه هذه الحروب على الدين وأهله، لكنها أخطأت الطريق، فكان قوامها على التنازلات؛ تنازل وتخلٍّ عن حكم شرعيّ لاحتمالية كونه منفّرًا من الدين.
وهذا التنازل يشمل التأويل أو الترك بالكلية، فإن الحمل على المعاني المرجوحة أو الباطلة إنما هو في حقيقته تعطيل للمعنى الظاهر الراجح المراد من النص، فمآله حينئذ إلى ترك المراد إلى معنى غير مراد.
وأما سؤال: هل قدمت مشروعًا دفاعيًّا أو صححت الصورة؟ فجوابه:
لا لم تقدم ولا هي صححت الصورة.. بل تسلط العلمانيون أكثر من ذي قبل برؤية أفراد من المنتسبين إلى العلماء قد سعوا في إرضائهم بكتم بعض ما أنزل الله.
وإننا في الحقيقة إذ نترك بعض ما جاء به الوحي فإننا نقدّم صورة ناقصة مشوِّهة لما جاء به الوحي، ولا ننصر الوحي، والله عز وجل يقول: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} [المائدة: 67]، ويقول سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ} [البقرة: 208]، وقال تعالى: {وَلَا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة: 42]، وقال سبحانه: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ} [آل عمران: 187].
وعليه فإن ما يقدّمه بعضُ الدعاة العصريين من تنازلات في معرض الدفاع عن الإسلام بلا علم راسخ أو منهج شرعي ثابت، فيقدمون بهذا مشاريع الدفاع الخاطئة؛ وهي حتى ولو رئي بعض الخير منها، كإسهامها في رد بعض باطل الكفار وبعض شبههم، لكنها بلا شك تضر الحق وأهله؛ لأن قناعتهم حينها بإسلام مشوه.
كما حكى شيخ الإسلام تسلُّط القرامطة والفلاسفة والمعتزلة على متكلمي الأشاعرة بسبب هذا القصور، فقال: «ومن هنا تسلَّط عليكم القرامطة والفلاسفة والمعتزلة ونحوهم من النفاة، وكلام أئمتكم معهم كلام قاصر، يظهر قصوره لمن كان خبيرًا بالعقليات، وسبب ذلك تقصيرهم في مناظرتهم، حيث سلموا لهم مقدمات عقلية ظنوها صحيحة وهي فاسدة، فاحتاجوا إلى إثبات لوازمها، فاضطروا إما إلى موافقتهم على الباطل، وإما على التناقض الذي يظهر به فساد قولهم، وإما إلى العجز الذي يظهر به قصورهم وانقطاعهم»([2]).
ولا يُشكل على هذا تغيّر الفتوى بتغير مناط الحكم أو محله، أو لتغير العوائد والأعراف، فإن صورة المسألة إذا تغيرت حقيقتها فإن الفتوى تتغير تبعًا لذلك، ليكون حكم الله ورسوله r ملائمًا ومناسبًا لحال المسألة.
الحلول الدعوية:
1- شرح أصول الإسلام والعناية بها:
بدءًا من مبانيه العظام وأركانه الكبار، مع تعميق ذلك وترسيخه لدى الناس. ففي الواقع نجد كثيرًا من الناس قد يكونون من أهل التوحيد والمسجد والصلاة، ولكنهم إذا وقعوا في أمر مخوف قد تظهر في ألفاظهم وعباراتهم إيحاءات شركية أو توجهات مخالفة، تدل على خدشٍ أو ربما قدح في تحقيق التوحيد، فلا تغتر بعبارة أن التوحيد عرفناه، فعند المحكّ لا يثبت إلا من حقَّق التوحيد وفهمه، وشاء الله عز وجل ثباته واستقامته.
2- إبراز المعنى الحقيقي لـ “عبادة الله” وأنها ارتباط بكل مناحي الحياة:
فالعبادة هي غاية الوجود الإنساني، بل الكون كله ما وجد إلا لذلك، فحريٌّ بنا أن نبذل وسعنا في إبراز هذا المفهوم.
والناظر في نصوص الكتاب والسنة يجد أن مدلول العبادة فيهما شامل لا يقتصر على الفرائض، فالحياة في منهج الله وِحْدَة، كل ما فيها لله، والإسلام لا يفصل بين طريق الدنيا وطريق الآخرة، ولا يفرق بين الفرائض والسلوك، ويجعل كل حركة في حياة المسلم وثيقة الصلة بعقيدته، كي يتوجه بها إلى ربه، منفِّذا أمره، ومحقِّقا رسالته، قال تعالى: {قل إنَّ صَلاتِي وَنسُكي وَمَحيايَ وَمَمَاتِي لله رب العَالَمِيْنَ * لا شَرِيْكَ لَهُ وَبذَلِك أمِرْت وأَنَا أولُ الْمسلِمينَ} [الأنعام: 162، 163].
فالعبادة كما يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: «اسم جامع لكلِّ ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الباطنة والظاهرة. فالصلاة والزكاة والصيام والحجّ، وصدق الحديث وأداء الأمانة، وبر الوالدين وصلة الأرحام والوفاء بالعهود، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والجهاد للكفار والمنافقين، والإحسان للجار واليتيم والمسكين وابن السبيل والمملوك من الآدميين والبهائم، والدعاء والذكر والقراءة وأمثال ذلك من العبادة.
وكذلك حب الله ورسوله r، وخشية الله والإنابة إليه، وإخلاص الدّين له، والصبر لحكمه، والشكر لنعمه، والرضا بقضائه، والتوكل عليه، والرجاء لرحمته، والخوف من عذابه، وأمثال ذلك هي من العبادة لله»([3]).
فالدّين والعبادة منهج الله، جاء ليسع الحياة كلَّها، وينظم جميع أمورها، من أدب الأكل والشرب وقضاء الحاجة، إلى بناء الدولة، وسياسة الحكم، وسياسة المال، وشؤون المعاملات والعقوبات، وأصول العلاقات الدولية في السلم والحرب، ولهذا نجد كتاب الله الكريم يخاطب عباده المؤمنين بأوامر تكليفية وأحكام شرعية تتناول جوانب شتى من الحياة.
وبهذا فنحن في حاجة ماسة لكشف هذه الحقائق في خطابنا؛ لأنه ما زال كثير من المسلمين يجهلها، فبعض الناس لا يفهم من كلمة العبادة إذا ذكرت إلا الصلاة والصيام والصدقة والحج والعمرة ونحو ذلك من الأدعية والأذكار، ولا يحسب أنَّ لها علاقة بالأخلاق والآداب أو النظم أو القوانين أو العادات والتقاليد.
إنَّ الشعائر التعبدية من صلاة وصوم وزكاة لها أهميتها ومكانتها، ولكنها ليست العبادة كلها، بل هي جزء من العبادة التي يريدها الله تعالى([4]).
3- بث التسليم للوحي:
وجعل ذلك قيمة كبرى في حياة الناس، وإعطاؤه أولوية في مجالس التعليم والخطب، ويقرِّب ذلك ذكر النماذج الحية التي عاش فيها جيل الصحابة رضي الله عنهم حقيقة التسليم لله ورسوله r، يقول الله تعالى: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا} [النساء: 65]، ويقول تعالى: {وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِّمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ واتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا} [النساء: 125].
هذا والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(المراجع)
([1]) أخرجه أبو داود (3688)، وابن ماجه (4020)، وأحمد (22900)، من حديث أبي مالك الأشعري رضي الله عنه، وصحّحه ابن حبان (6758)، وحسن إسناده ابن تيمية كما في الفتاوى الكبرى (6/ 37)، وصححه ابن القيم في إغاثة اللهفان (1/ 459).