العلمانيّون ودِثارُ الحداثة الإسلاميّة
ما حقيقةُ حاملي شِعار الحداثة في البلاد الإسلاميّة؟ هل يصحُّ ما يفعله بعضُهم من حشرِ رموز الحداثة ضمنَ قائمة المفكِّرين الإسلاميّين؟ إلامَ يهدِف هؤلاء بهذا الصَّنيع؟ وكيف تتمَّ مواجتهم؟
هذه جملةٌ منَ التساؤلات التي نحاول معالجتها في هذا المقال بالوصفِ والتحليل الذي عنوانه: “العلمانيون ودِثار الحداثة الإسلامية”.
فأقول مفتتِحًا بحمد الإله جلّ وعلا، ومستعينًا به سبحانه وتعالى:
1- مفهوم العلمانية وعلاقتها بمفهوم الحداثة:
إنَّ الإجابةَ عن هذه التساؤلات يستدعِي أوّلا التذكيرَ بمفهوم العلمانية وبيانَ علاقتها بمفهوم الحداثة التي صارت تُنسب إلى الإسلام أو ينتسِب أصحابها إلى الإسلام، فخلاصة مفهوم العلمانية هو فصل الدّين عن جميع مجالات الحياة وشؤونها الفرديّة والجماعية، وجعل معايير الممارسات الحياتيّة خاضِعةً لقوانين العلوم الدنيويّة، منقطعةً عن القوانين الإلهية؛ سواء كان ذلك متعلّقًا بالأخلاق والاجتماع أو الاقتصاد أو السياسة أو غيرها من المجالات.
ولما كانت نشأةُ العلمانية في الغرب النصرانيّ الذي كان يحجر على العقل وجعَل لرجال الدين وصايةً تامة على حياة الناس؛ فإنها حاربت ذلك التّحجير ورفضَت تلك الوصاية بالدعوة إلى تحرير الفِكر واستعمال العقل باعتباره مصدرًا للعلم ولتلك المعايير الجديدة، وهذا ما سمِّي تنويرًا في تلك الحِقبة، وقد قال إيمانويل كانط: “إنّ مبدأ التنوير هو امتلاكُ الشجاعة على استخدام عقولنا”. وهذا التنويرُ سيتبعه مصطلحُ الحداثة الذي يعني استحداثَ مناهجَ علميةٍ جديدة تضمَن التقدُّم والتجدُّد المستمرّ، ومن هذا يظهر أن الحداثةَ تعتبر مرحلةً من مراحل العَلمنة، أو هي الطريق التنظيريّ الفلسفيّ لعرض البدائل المنهجيّة والعلمية التي تجعل من العلمانية حقيقةً واقعة.
2- أثر الاستعمار الغربي:
بعد انقِشاع مدّة الظلام التي فرضها الغرب الاستعماري على البلاد الإسلامية وانسحاب جيوشه؛ ترك وراءه أمَّةً منَ الناس أشربوا ثقافتَه بعدَما سَلبَت هويَّتَهم، قد احتُلَّت قلوبهم كما احتُلَّت أراضيهم؛ إذ تربَّوا في مدارس البلاد المستعمِرة، فصاروا أبناءً لها وسفراءَ ممثِّلين لها في بلادِ الإسلام، بل إنهم خُلفاء الاستعمار وحُرّاس مصالحِه الثقافيّة والاقتصاديّة والسياسيّة في أرضِ الإسلام، ومِن هؤلاء من تبنى العلمانيّة باعتبارها مشروعًا سياسيًّا، فجاهر بالدعوة إليها عَلَنًا، مُصادِمًا المجتمعاتِ الإسلاميةَ عقيدةً وشريعةً وأخلاقًا، ومنهم من تجنَّب التسمِّي بالعلمانية للتَّخفيف من ضغط المجتمع عليه، فسمَّى نفسَه ليبراليًّا أو ديمقراطيًّا، ثم اجتهد في إيهام المجتمعاتِ التي هو فيها أنّ هذه انتماءات لا تضادُّ الدين، ومنهم فئة ثالثةٌ أكثرُ وعيًا أو مكرا تتبنى العلمانية باعتبارها مشروعًا متكاملًا؛ يبدأ من تغيير العقائد والأفكار والتقاليد الموجودة في بلاد الإسلام، ولا تتعجّل المواجهةَ السياسيةَ قبل تكوين النخبةِ التي تؤمن بالمشروع العلمانيّ؛ فرأت هذه الفئة أنَّ تبني الفكر الحداثي ونشرَه في الأجيال الناشئة هو الطريقُ الأمثل لتحقيق مشروعها، ومثل هذا التغيير من شأنه التمهيدُ للتغيير الاجتماعي الشامل نحو العلمانية وضمان استقرارها وشمولها لجميع مناحي الحياة.
3- الحداثة الإسلاميّة:
فهذه الفئة تجنَّبت الصدامَ المباشر مع الدين، وتبنَّت الفكرَ الحداثيَّ، وحرصت على نسبته إلى الإسلام، فظهر ما يُسمَّى بالحداثة الإسلامية، وصار هؤلاء العلمانيّون يدَّعون في خطاباتهم التوفيقَ بين التعاليم الإسلامية والقيَم الغربية، أو إعادة قراءة التراثِ الإسلامي بالآليات الغربيّة الحديثة، ثم نشأ جيلٌ من أفراخهم صار يصِفهم بالمفكِّرين الإسلاميّين، وهكذا تحوَّل هذا المنتوج الجديدُ -المسمّى حداثة إسلامية- إلى عَباءة يتدثّر بها كثيرٌ من العلمانيّين الليبراليين أو اليساريّين، وقد يفعل ذلك بعضُهم خوفًا من سيف الشريعة، أو حتى لا ينفر الناس عن قراءة كتاباتهم، ولكنّهم جميعًا جعلوا من هذا الانتماء المحدَث مطيّةً لتحويل خصومَتهم التي هي ضدَّ الإسلام إلى خصومةٍ ضدّ من يصفونهم بالأصوليّين أو السلفيّين أو الأرثوذكس، مع إلباس هذه التسميات -التي يحرصون على إحاطتها بنوع من الضبابية- لباسَ التعصّب والجهل والتكفير والانغلاق والرجعية ومعاداة التحضُّر والعيش في الماضي، فإذا ما انتشرت هذه التّسميات التي يخيِّلون لقارئهم من خلالها أنها طوائفُ دخيلة على الإسلام، انتقلوا إلى مناقشةِ هذه الطوائف المزعومة في المفاهيم الإسلامية التي تعدُّ ركائز العقيدة الإسلامية؛ كمصدرية القرآن الإلهيّة، وحجية السنة النبويّة، وحاكمية الله تعالى، وربما ناقش بعضُهم الشرائعَ المعلومةَ من الدّين بالضرورة؛ من واجبات أو محرمات، فتجد أحدهم يقول: إنَّ الأصوليين يقولون بالمصدر الإلهي للقرآن ويحرّمون الخمر ولحم الخنزير! وإن السلفيّين يَزعمون حجِّيّة السنة ويوجبون الصلاةَ والصيامَ! وإن الأرثوذكس يدَّعون حاكميةَ الله تعالى على الإنسان والطبيعة ويوجبون على المرأة الحجاب!
4- أهداف خطاب الحداثة الإسلامية:
وبمثل هذا الخطاب يحققون عدة أهداف متكاملة:
أولها: تشويهُ صورة علماءِ الشريعة حماةِ الدين الذين يلمِزونهم بتلك الأوصاف في ظلِّ تلك التصنيفات، حيث إنّ القارئ المحايِد وغيرَ المتبصّر في البلاد الإسلامية -التي أُبعد أولادها عن التعليم الإسلاميّ أكثرَ من قرن- لن يبقى محايِدًا، فهو لجهله بحقيقة الحداثي وحقيقة الشريعة يُصبح كلَّما سمع عالما يتحدَّث عن تحكيم الشريعة وقداسة القرآن وقطعيّات الدّين والحكم على مخالفها بالكفر والزندقة؛ انقدح في نفسه انتماءُ هذا العالم إلى تلك الطوائف المتخلِّفة والرجعيّة الإرهابية المسماة: أصولية وسلفية.
ثانيها: أنّ الحداثيَّ يمارس بذلك حربًا نفسيّة على العلماء والدعاة والمفكّرين الإسلاميّين أنفسهم؛ فترى كثيرًا من المنهزمين في خطابِه مع هؤلاء أو حديثه عنهم يمهِّد بتبرئةِ نفسه من الأصوليّة والسلفيّة والتطرُّف، ويسعى للبرهنة على أنه رجلٌ معتدِل، ومحاوِر لا يُقصي الآخَر ولا يكفِّر ولا يبدّع، متناسيًا ومتغافلًا عن الحقائق التي جعلها العلمانيُّ ملازمةً للأصولية والسلفيّة التي يتبرّأ منها، وربما يتنازل البعضُ بفِعل هذا الإرهاب النفسيِّ إلى قبول تنزيل القطعياتِ الشرعيّة إلى منزلة الظنيّات وجَعلها خلافيّة؛ خوفا فقط من أن يقال له: أنت أصوليّ أو إسلاميّ أو متطرِّفٌ أو دوغمائي؛ فضلا عن أن يقال له: أنت سلفيٌّ أو تكفيريٌّ.
ثالثها: أنَّ الحداثيَّ يحجز لنفسِه مكانًا بين المفكّرين الإسلاميّين، وليس مبتغاه قاصرًا فقط على نفي تهمة الإلحاد والعلمانية ووصف الجهل عن نفسه، وربما تجِده يستغني عن الدفاع عن نفسه بدفاع مَن صدَّقه في تلك المقدِّمات؛ إذ غِلمانه وبعض هؤلاء الضّحايا هم من سيتبرَّع بإعطائه تلك المكانةَ ورفعه إلى تلك المنزلة؛ رغم كونه عاريًا عن العلم بالوحي أو العربية أو بهما، وجاهلًا بتفاصيل العقيدة والفقه أو كليهما؛ إلا عناوين ومفاهيم تلقّاها مترجمةً عن المستشرقين، أو لُقّنها مشوَّهةً عن تلاميذ المستشرقين، وعلى رأس هؤلاء أركون الذي يُصرُّ على تقديم نفسِه على أنه مفكّر إسلاميّ مع تفريقه بين الإسلام الثقافي والشعائري، وكذا الجابري الذي صدَّق هذا الانتساب إلى درجة تُجرِّئه على تأليف تفسير لكتاب الله تعالى.
5- واجب حماة الدين وحُرّاس الشريعة:
وإنّ مِن واجب حماة الدين وحُراس العقيدة الإسلامية أن يواجهوا هذا الصنيع وكشف هذا الستار الذي صار يتدثَّر به هؤلاء العلمانيّون، وذلك بالعناية بضبط الاصطلاحات والاهتمام بتصحيح المفاهيم، فلا بد مِن كشف هذا التلبيسِ الذي يروَّج له في وسائل الإعلام المرئية والمسموعة والمكتوبة، وحتى في البحوث العلمية الأكاديمية، بتسمية الأشياء بمسمياتها وعدم التساهل في ذلك.
وأوَّل ذلك رفض مصطلح الحداثة الإسلامية -الذي قد يُدخَل فيه بعض علماء النهضة في القرن الماضي تلبيسًا وتعميةً-، والتمسُّك بمصطلح التّجديد الذي ورد في الحديث النبوي مع توضيح معناه المختلِف عن معنى التطوير والتبدِيل، والذي يجمع معاني إحياء ما اندَرسَ من السُّنَن، ومحاربة البدع والرواسِب التي أُلحقت بالدين وليست منه، مع تنزيل الأحكام الشرعية على ما يجدُّ في حياة الناس.
ومن ذلك أيضًا التأكيد على كمال الدّين، وأنَّ عناصر تجدُّده ذاتيّة فيه، فهو غير محتاج إلى ما يكمِّله من خارجه؛ لأنّ مروِّج مصطلح الحداثة الإسلامية يدَّعي أنها ليست مضادّة للشريعة، ولكنها منهج توفيقيّ بين الشريعة وعلوم العصر، كما قام الفلاسفة الإسلاميون قديمًا بمحاولة التوفيق بين العقيدة الإسلامية والفلسفة اليونانية، وقد كتب في ذلك ابن رشد الحفيد كتابَه المشهور “فصل المقال في ما بين الشريعة والحكمة من الاتصال”، والمسلم يعتقد أنَّ كتابه مهيمِن على كلِّ كتاب سابِق، وعلى كلِّ فكر وضعيٍّ سابق أو لاحق؛ فكلّ هذه الأفكار القديمة والغربيّة الحديثة ينبغي أن يحاكمها المسلمُ إلى كتاب ربّه تعالى؛ ليميّز بين الصالح وغيره، وإنما يزعم التوفيقَ بين كتاب ربّه وغيره من ظنَّ القرآن ناقصًا، أو جعل له ظاهرًا وباطنًا؛ ظاهر موجَّه للعامة، وباطن لا يعقله إلا الفلاسفة قديمًا والحداثيون حديثًا.
ومما يتفرّع على تحديد مفهوم التجديد في الإسلام بالمعاني المذكورةِ أنه لا يستحقّ الوصف بالمفكِّر الإسلاميّ إلا عالمٌ بنصوص الوحي ومعانيها، عالمٌ بالعقيدة والفقه الإسلامي، عالمٌ بالعلوم المعيارية التي تفهم بها نصوص الوحي؛ لأنه لا يتمكّن من تمييز السنن من البدع ولا من تنزيل الأحكام على المستجدَّات إلا فقيه، والناس وإن كانوا في هذا الفقه المطلوب على درجاتٍ، لكن ثمة حدّ أدنى يحصّله من سلك طريق أهل العلم، يميّزه عن هؤلاء المدَّعين الذين لم يسلكوا سبيلَ تحصيلِ العلوم الشرعية، ولا درايةَ لهم بنصوص الوحي ولا عقائد الإسلام بالتفصيل، ولا قدرةَ لهم على الإفتاء في المسائل القديمة، بل ربما بعضُهم لا يحسن الوضوء والصلاة؛ فكيف يُستجاز وصفُه بالمفكّر الإسلاميّ، ويُدْعى لتقديم الحلول في النوازل الجديدة سياسية كانت أو اقتصادية أو اجتماعية؟! وإنَّ من عجز عن حلّ المسائل البسيطة فهو عن حلِّ المسائل المركَّبة أعجز، والجاهل بجزئيات الشريعة محالٌ أن يكون له تصوُّر صحيح لكليّاتها، فضلا عن أن يمكنه التفريع عليها.
ومن هذا نخلُص إلى أنه لا يوجد شيءٌ اسمه: حداثة إسلامية، كما لا توجد علمانية إسلامية أو اشتراكية إسلامية؛ لأنّ الإسلامَ عقيدة وشريعة كامِلة، منافية كلَّ المنافاة للحداثة التي تستبعد مصدرية الوحي، وللعلمانية التي تعزل الدين عن حياة الناس.
وبعد ضبط المصطلحات وتحديدِ المفاهيم ننتقل للحديث عما يسعَى الحداثيّ وأنصاره إلى بثّه؛ من وهن في نفوس المسلمين، ومن هزيمة نفسيّة في قلوب المدافعين عن الإسلام، فنقول: إن ذلك لن يؤثِّر إلا في ضعيفٍ في تكوينه العقديّ، والواجبُ على من يتصدَّى للدفاع عن الإسلام أن يتحلَّى بما يتحلَّى به المجاهدون من القوّة والثبات، وليس المجاهدُ من يتأثر بالدّعاية المغرِضة، أو تثني عزيمتَه الاتهاماتُ الباطلة، أو يغيّر طريقَه تحت وطأة السهام التي تستهدفه؛ لذلك كان واجبا على من يدخُل هذه المعتركات أن يستعدَّ الاستعداد الكامل، وأن يعدَّ العدَّة العلميّة والنفسية لمثل هذه المعارك العقديَّة، حتى يتمكَّن من الثبات ولا يسقطَ صريعًا في هذا الطريق الطويل والشاقّ، وليكونَ هو المثبِّت لغيره من العامّة الذين يسمعون تلك الكلمات التي يُنبز بها علماءُ الشريعة والاتهامات التي تنالهم، والله الموقف وهو الهادي إلى الصراط المستقيم.