الثلاثاء - 19 ربيع الآخر 1446 هـ - 22 أكتوبر 2024 م

التهوين من مسألة القول بخلق القرآن ومآلاته عند المعاصرين

A A

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة

أولًا: التمهيد:

الحقيقة التي قد يغفل عنها المصلِحون من أهل الإسلام أنَّ أعداءهم قد بذَلوا جهودًا كبيرة لاكتشاف مواطن قوّة أهل الإسلام ومواطن ضعفهم، وما زالوا يعملون بلا كلَل ولا ملَل، ويسبرون أغوار التاريخ للاستفادة من فتنٍ لطالما ظنّ بعض المسلمين أنها خمدت ولم يعد لها أي أثر، ولكن الحقيقة أن كثيرًا من أهل الباطل والفساد يقرؤون التاريخ بحثًا عن أحداث يدرسون آثارها وأبعادها، ثم يحيونها بشكلٍ جديد، ويجعلون لها منطلقات قيمية مزعومة، مثل الإنسانية والتطور ومواكبة العصر… إلخ.

وجلُّ تركيزهم هو التشويشُ والتشكيك في مكمن قوَّة الإسلام ومصدر عزِّ المسلمين، والمرجع لتنظيم شؤون حياتهم؛ وهو القرآن.

هم لا يعلنون الحربَ على الدين والقرآن، بل إنهم يتصنّعون مواقفَ الدفاع عنه، وفوق هذا هم أناس مِن جلدتنا، ويتكلمون بألسنتنا، وينتسبون للإسلام، فيمهِّدون في الخفاء بخطا مدروسة لإشاعة ثقافة الفصل بين القرآن والحياة.

وسنتناول فيما يلي من سطور فتنةً لطالما ظنّ الكثيرون من المصلحين أنها ماتت، فتهاونوا في الاستمرار من دراستها وتوعية الناس عنها والتحذير منها، وهوَّنوا كذلك من خطورتها، وسيتبين للقارئ في السطور القليلة القادمة أن هناك من يعمل على بعث هذه الفتنة وغيرها من جديد.

ثانيًا: أرخنة القرآن الكريم منهج مستورد من الحداثة الغربية:

من المعلوم أنّ الكتب السماوية التي سبقت القرآن الكريم تعرّضت لتحريف الفاسدين من رجال تلك الأديان، اتِّباعًا منهم للهوى، وجريًا وراء الشهوات، وهذا ما اشتركوا فيه مع رجال السياسة والاقتصاد، فتآمرا على الدين باسم الدين لتحقيق مصالحهم المشتركة، فاحتكروا العلمَ بالنص، وقمعوا كل من خالفهم، واضطهدوا الناس، وشرعوا أحكامًا ما أنزل الله بها من سلطان، واستمروا في طغيانهم، وزادوا في الظلم باسم الدين؛ حتى بدأت تنكشف ألاعيبهم مع مرور الوقت؛ فبدأت المساعي من مناوئيهم للظفر بما يكون سببًا في إسقاط قداسة الكتاب المقدّس وتجاوزه، وإحلال توجهاتهم وآرائهم وفلسفاتهم محلَّ الكتاب المقدس وتعاليمه في تنظيم شؤون الحياة، وتحكيمه عند الاختلاف، فتناولوا الكتاب المقدس بمختلف المناهج النقدية، إلى أن توصّلت مساعيهم إلى منهج التاريخاني للكتاب المقدس، مما مكّنهم أخيرًا من إسقاط قداسة الكتاب المقدس، وتجاوز النصّ المقدس، وإلغاء تحكيم الدين من جميع جوانب الحياة.

ومع انفتاح الشرق على الحداثة الغربية، وانبهار الحداثيين الشرقيين المعاصرين بمناهجها الفكرية؛ ظنوا أنهم قد وجدوا وسيلةَ خلاصهم من قداسة النصّ القرآني، فبدؤوا في دراسة القرآن الكريم دراسة تاريخانيّة، وتطبيق ما طبَّقه الغرب المسيحيّ على الكتاب المقدس، وشتان بين الكتابين في جمعهما وتدوينهما، وفوق هذا قد تكفّل الله عز وجل بحفظ القرآن الكريم من التبديل والتحريف.

وصرح علي حرب وهو أحد روّاد العلمانية والحداثة العربية أنّ من أهداف القراءة التاريخية: نزعَ القداسة عن النص، فقال: “فكيف نقرأ النصوص قراءة نقدية تاريخية، ونزعم أننا لا ننزع عنها صفة التعالي والقداسة؟! لا مجال إذًا للمداورة والالتفات، بل الأحرى والأولى مجابهة المشكلة بدلًا من الدوران حولها”([1]).

والقراءة التاريخية للقرآن معناها: اعتبار النص القرآني ظاهرة تاريخية، فيدرسون النص على أنه نتاج ثقافيّ مرتبط بالزمان والمكان الذي حدَث فيهما، ويدرسون خصائص البيئة الجغرافية والثقافية التي ظهر فيها، وأيضًا الأشخاص الذين كانوا وراء تلك الحادثة التاريخية.

وإن شئت فقل: إن معنى “تاريخانية القرآن” أنه عمل بشريّ أفرزته وقائع تاريخية بما يناسب زمان ومكان تلك الأحداث.

“والقول بتاريخية القرآن أو تاريخية النصوص لها بعدان:

1- تاريخية القرآن من حيث بنيته وكونه إفرازًا ثقافيًّا لمجتمع معين، أو بعبارة أوضح: كونه منتجًا بشريًّا بعيدًا عن التعالي والتقديس.

2- تاريخية القرآن من حيث أحكامه وتشريعاته، كونه استجابة لظروف وملابسات اجتماعية واقتصادية وسياسية معينة، ومع تغيرها لم تعد هناك حاجة لها”([2]).

وهاتان النتيجتان تعيدنا إلى بدعة وفتنة ظهرت قديمًا، وهي فتنة القول بخلق القرآن، وتشترك معها في مآلات القول بهذه الفتنة، والتي ظنّ الناس أنها قد ماتت، وأنها باتت من التاريخ الذي يُحكى، وأنها لم يعد لها وجود في هذا العصر؛ ولكن الحقيقة أنها ما زالت حاضرة إلى يومنا هذا.

 

ثالثًا: فتنة القول بخلق القرآن ما زالت حاضرة:

تقدَّم الكلام عن محاولة الحداثيين أرخنة نصوص القرآن الكريم، وبيان ما ينبني على قراءة القرآن قراءة تاريخانية، وأنها تلتقي مع بدعة المعتزلة في قولهم بخلق القرآن؛ مما يؤدّي لنفس نتيجة “أرخنة النصوص” وهي: نزع قداسة النص القرآني، مما يعني إسقاطه وتجاوزه.

ومريدو الأرخنة بعثوا فتنة المعتزلة في قولهم بخلق القرآن من مرقدها من جديد، وصارت حية تعيث بالعقيدة الصحيحة فسادًا، ويدل على هذه الحقيقة: أن الحداثيين المعاصرين يبنون آراءهم في القرآن ويدللون لها بما ذهبت إليه المعتزلة من القول بخلق القرآن، ولكن اختلفت المنطلقات، وقد ظهر هذا الارتباط جليًّا في كتابات رواد هذا الفكر؛ ومنهم على سبيل المثال: محمد أركون، ونصر أبو زيد، ومحمد عابد الجابري، وعلي حرب، والنيهوم، وغيرهم؛ صرحوا في كتاباتهم أنهم بنوا نظرياتهم في القدح في القرآن والشريعة على رأي المعتزلة في القرآن وأنه مخلوق وليس كلام الله.

ومنهم من كان غير صريح كالجابري الذي يمتدح ويثني على المعتزلة، وأيضًا قرر في كتاباته ما يكون مؤداها إلى القول بخلق القرآن، مثل تقريره بأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن أميًّا؛ بل كان يعرف القراءة والكتابة، مخالفًا بذلك الكتاب والسنة وإجماع الأمة، وموافقا ما قرره المستشرقون؛ ليرفع بذلك احتمالية كون القرآن من كلام النبي صلى الله عليه وسلم؛ ليمهد للطعن في القرآن الكريم([3]).

ومنهم من كان يصرّح ببناء نظرياتهم في القدح في القرآن والشريعة على رأي المعتزلة في القرآن كنصر حامد أبو زيد، فيقول: “وإذا كنا هنا نتبنى القول ببشرية النصوص الدينية، فإن هذا الشيء لا يقوم على أساس أيدلوجي يواجه الفكر الديني السائد والمسيطر، بل يقوم على أساس موضوعي يستند إلى حقائق التاريخ وإلى حقائق النصوص ذاتها، وفي مثل هذا الطرح يكون الاستناد إلى الموقف الاعتزالي التراثي وما يطرحه من حدوث النص وخلقه، ليس استنادًا تأسيسيًّا بمعنى أن الموقف الاعتزالي -رغم أهميته التاريخية- يظلّ موقفًا تراثيًّا لا يؤسّس وحده وعيَنا العلمي بطبيعة النصوص، الموقف الاعتزالي شاهد تاريخي دالّ على بواكير وإرهاصات ذات مغزى تقدمي علمي، والمغزى لا الشاهد التاريخي هو الذي يهمنا لتأسيس الوعي بطبيعة النصوص الدينية”([4]).

وممن كان جريئًا في تصريحه في تبني الرأي الاعتزالي في القرآن محمد أركون، فيقول: “من أجل أن نفتح ثغرة في الجدار المسدود للتاريخ… نعني بكل بساطة أن القرآن بحاجة إلى وساطة بشرية، أن نقول بأن القرآن مخلوق؛ فهذا يعني أنه متجسّد في لغة بشرية هي هنا اللغة العربية”([5]).

بل إن أركون يصرح بأن المعتزلة هم من فتحوا لهم الطريق ومهّدوا في نزع القداسة عن القرآن والقدح فيه، فقال: “إن الموقف الأصوليّ المتشدد في الأديان يحيلنا إلى ذلك الخيار الفلسفي المتعلّق بمنشأ المعنى من خلال التفاعل بين اللغة والفكر، فالفضاء الواسع والغني الذي فتح من قبل كلام الله الوحي من أجل (مفكّر فيه) متجدّد باستمرار، كان قد أغلق واختزل إلى ما ندعوه بـ(المستحيل التفكير فيه)، وهذا ما حصل بالضبط مع المناقشة التي فتحها مفكرو المعتزلة”([6]).

حيث أشاد أركون بالمعتزلة معتبرًا إياها بمثابة محاولة واعدة، وُئدت في مهدها من أهل السنة والجماعة من السلف الصالح والذين وصفهم بالأصوليين المتشدّدين.

وكذلك أشاد الجابري بمحاولة المعتزلة ووصفها بالواعدة فقال: “ينبغي الاعتراف بأن منهجية المعتزلة كانت تحتوي إمكان نظرية كامنة وواعدة”([7]).

بل يرى أركون بأنه لا بد على المسلمين من إعادة الاعتبار لفكر المعتزلة وتبنّي آرائهم، وإلا لن يخرجوا من تخلّفهم ولن يتقدّموا([8]).

بل يمجّدون مسألة خلق القرآن خاصة، كما فعل أدونيس وغيره، يقول أدونيس بعد عرضه لقول المعتزلة بخلق القرآن: “هكذا تتجلّى أهمية التحوّل الذي نتج عن الاعتزال”([9]).

ولا يغرّنّك تهافت الحداثيين ومغالاتهم في الإشادة بالمعتزلة، فهم يُشيدون حتى بالزنادقة والمرتدين كابن الراوندي وابن عربي والحلاج وكل منحرف عن الإسلام؛ لاتباعهم منهج الانتقائية المقيتة، فهم يبحثون عن أيّ شيء في تراث الطوائف المنحرفة بما يخدم مشروعهم، بغضّ النظر عن أدلتهم وتحري الحق والصواب.

وما نقلته قبلًا ما هو إلا غيض من فيض، ولو استطردنا في جمع الشواهد لطال بنا المقام، ولخرجنا عن مقصود المقال، فمما تم سرده يتبين لك أن من قراءات الحداثيين العرب هي إحياءٌ لقراءات المتكلمين والفلاسفة والمتصوفة للقرآن الكريم في مقابل نقد القراءات المعارضة لها.

رابعًا: خطورة تهوين مسألة القول بخلق القرآن:

مما سبق من التقريرات يتبيّن لنا خطورة تهوين فتنة القول بخلق القرآن، وفيما يلي بيان مآلات هذا القول، وإلى أيّ مدى تصل خطورة التهاون فيه أو التهوين منه.

إن هذه المسألة موجَة جديدة تحمل في طياتها الإلحاد والزندقة إلى الأجيال القادمة، فكان لا بد من الوقوف على مآلات هذا القول البدعيّ في القرآن الكريم؛ ليتبيّن لمن يتهاون أو يهوِّن من فتنة القول بخلق القرآن أن خطورة الفتنة ما زالت قائمة، وأن الفتنة لم تمت.

1- اعتقاد أن الله مخلوق أو صفاته مخلوقة:

القرآن كلام الله تعالى، فإن القول بأن القرآن مخلوق يلزم منه أن كلام الله مخلوق، فإن كان كلام الله مخلوقًا فيلزم منه أن يكون الله مخلوقًا -تعالى الله عما يقولون علوا كبيرًا-، وإن كان الله مخلوقًا فكيف يكون الله عز وجل إله العالمين ورب الناس أجمعين؟!

وقد تنبّه العلماء إلى لوازم هذا القول، وكيف أنه يجرّ إلى الإلحاد والزندقة بالتدرّج وليس مرة واحدة، قال الإمام مالك رحمه الله: “القرآن كلام الله عز وجل، وكلام الله تعالى من الله سبحانه، وليس من الله جل وعلا شيء مخلوق”([10])، وقال الإمام الشافعي رحمه الله في قول الله تعالى: {إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَن نَّقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [يس: 82[ قال: “إنما خلق الله كل شيء بـ(كن)، فإن كانت (كن) مخلوقة فمخلوق خلق مخلوقًا”([11])، وقال الإمام أحمد رحمه الله: “من زعم أن القرآن مخلوق فقد زعم أن الله مخلوق”([12]).

ويقول الإمام السجزي رحمه الله: “لأن من قال: إنه مخلوق صار منكرًا لصفة من صفات ذات الله عز وجل، ومنكر الصفة كمنكر الذات، فكفره كفر جحود لا غير”([13]).

وسئل الإمام عبد الله بن إدريس رحمه الله عمن يقول: القرآن مخلوق، قال: من اليهود؟ قال السائل: لا، قال: من النصارى؟ قال: لا، قال: من المجوس؟ قال: لا، قال: ممن؟ قال: من أهل التوحيد، قال: معاذ الله أن يكون هذا من أهل التوحيد! هذا زنديق؛ من زعم أن القرآن مخلوق فقد زعم أن الله عز وجل مخلوق، يقول الله عز وجل: {بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ}، فالرحمن لا يكون مخلوقًا، والرحيم لا يكون مخلوقًا، والله لا يكون مخلوقًا، فهذا أصل الزندقة([14]).

2- نقض أصول الدين (الشهادتين):

من مآلات القول بخلق القرآن نقضه لأصول الإسلام في مسائله: فهي تنقض أصلَي شهادة لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فالقول بخلق القرآن تعطيل لرب العالمين عز وجل وطعن في الرسالة وإبطال للشرائع، قال الإمام عبد الله بن إدريس: “من قال: القرآن مخلوق فقد أمات من الله شيئًا”([15]).

وقد بين شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله الطعن في الشهادتين لدى القائلين بخلق القرآن أحسن بيان فقال: “وكان أهل العلم والإيمان قد عرفوا باطن زندقتهم ونفاقَهم، وأن المقصود بقولهم: إن القرآن مخلوق أن الله لا يكلّم ولا يتكلَّم، ولا قال ولا يقول، وبهذا تتعطل سائر الصفات من العلم والسمع والبصر وسائر ما جاءتْ به الكتب الإلهية، وفيه أيضًا قدح في نفس الرسالة؛ فإن الرسل إنما جاءت بتبليغ كلام الله، فإذا قُدِح في أن الله يتكلم كان ذلك قدحًا في رسالة المرسلين، فعلموا أن في باطن ما جاؤوا به قدحًا عظيمًا في كثير من أصلَي الإسلام: شهادة أن لا إله إلا الله، وشهادة أن محمدًا رسول الله”([16]).

فالاختلاف في مسألة القول بخلق القرآن ليس خلافًا في فروع الدين كما يزعم بعض المنتسبين للإسلام؛ بل هو خلاف في أصل الدين، والذي ليس بعد بيانه لمن يقول به إلا الكفر والردة، فالقول بخلق القرآن كفر ظاهر؛ إذ تندرج تحته كثير من المحاذير الشرعية المخرجة من الملة، كتكذيب نصوص الوحيين، والإلحاد في أسماء الله وصفاته، وتعطيل أصل الشهادتين، أفيقال بعد هذا: إن هذه المسألة ليست من أصول الدين؟!

3- تجويز الشرك بالله تعالى:

من مآلات القول بخلق القرآن أنه يلزم منه تجويز الشرك بالله تعالى؛ لأنه قد تقرر سابقًا أن من قال بأن كلام الله مخلوق يلزم منه أن يكون الله مخلوقًا، ومن المعلوم أن من استعان واستعاذ بالمخلوقين فقد أشرك مع الله تعالى، فيلزم من القول بخلق القرآن أن لا ننكر على من أشرك مع الله تعالى غيره من مخلوقاته سواء باستعانة أو استعاذة أو رجاء أو أي شكل من أشكال العبادة؛ وهذا مزلق خطير مفض إلى الخروج من الملة.

سأل رجل النضر بن محمد عن القرآن، فقال النضر: من قال بأن هذه الآية: {إِنَّنِي أَنَا اللهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي} [طه: 14] مخلوقة فقد كفر، فلقيت عبد الله بن المبارك فأخبرته فقال: صدق أبو محمد عافاه الله، ما كان الله ليأمرنا أن نعبد مخلوقًا([17]).

وقال الإمام البخاري رحمه الله: “باب ما كان النبي صلى الله عليه وسلم يستعيذ بكلمات الله لا بكلام غيره، وقال نعيم: لا يستعاذ بالمخلوق ولا بكلام العباد والجن والإنس والملائكة”، قال البخاري: “وفي هذا دليل أن كلام الله غير مخلوق، وأن سواه خلق”([18]).

فاستعاذة النبي صلى الله عليه وسلم بكلمات الله يدل على أن كلام الله غير مخلوق، فلو كان مخلوقًا لما استعاذ بها النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن الله تعالى نهى عن الشرك فقال تعالى: {وَاعْبُدُوا اللهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا} [النساء: 36].

4- إلغاء مرجعية الشريعة الإسلامية جملة وتفصيلًا:

من المآلات الخطيرة التي تكون نهايتها الإلحادَ والكفرَ بالله تعالى ما يلزمُ من القول بخلق القرآن من إلغاء صفة الكلام تنزيهًا بزعمهم، فيقعون في ما هو أشنع وهو إبطال وجود الله تعالى؛ ما يعني إبطال الدين كلّه، بيَّن هذا المآل الإمام الهروي رحمه الله فقال: “وأما الذين قالوا بإنكار الكلام لله عز وجل فأرادوا إبطال الكل؛ لأن الله تعالى إذا لم يكن متكلِّمًا بطل الوحي، وارتفع الأمر والنهي، وذهبت الملة على أن تكونَ سمعية، فلا يكون جبريل عليه السلام سمع ما بلَّغ، ولا الرسول صلى الله عليه وسلم أخذ ما أنفذ؛ فيبطل التسليم والسمع والتقليد، ويبقى المعقول الذي قاموا به”([19]).

وقد عمل القائلون بخلق القرآن قديمًا على إلغاء التسليم والانقياد لكتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، وقول الحداثيين العرب ببشرية القرآن أوصلهم إلى المآل نفسه الذي وصل إليه القائلون بخلق القرآن، بل إن الحداثيين كانوا أشنع وأجرأَ في إلغاء الدين كلّه، فنادوا وطالبوا صراحةً بإسقاط مرجعية النص القرآني.

يقول نصر أبو زيد: “آن أوان المراجعة والانتقال إلى مرحلة التحرّر، لا من سلطة النصوص وحدها، بل من كلّ سلطة تعوق مسيرة الإنسان في عالمنا، علينا أن نقوم بها الآن وفورًا قبل أن يجرفنا الطوفان”([20]).

ويقول أيضًا: “إن حلّ كل مشكلات الواقع إذا ظلَّ معتمدًا على مرجعية النصوص الإسلامية يؤدّي إلى تعقيد المشاكل”([21]).

ويقول حسن حنفي: “مهمة التراث والتجديد التحرّر من السلطة بكلّ أنواعها: سلطة الماضي، وسلطة الموروث، فلا سلطان إلا للعقل، ولا سلطة إلا لضرورة الواقع”([22]).

ويقول: “الألفاظ الشرعية عاجزة عن أداء مهمَّتها في التعبير عن المضامين المتجدّدة؛ لذا يجب التخلص منها”([23]).

5- يفضي إلى اعتقاد أن جزءًا من ذات الله أو صفةً من صفاته معرَّض للفناء:

المخلوق له أمَد وله نهاية، فلازم القول بأن كلام الله مخلوق أن تكون صفات الله وذاته معرضةً للفناء، تعالى الله عما يقولون علوًّا كبيرًا.

قال الإمام التيمي رحمه الله: “وقال في كتابه: {قُلْ لَّوْ كَانَ البَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي} الآية [الكهف: 109]، يفسِّره قوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّمَا فِي الأَرْضِ مِن شَجَرَةٍ أَقْلُامٌ} الآية [لقمان: 27] يعني: يكتب بها كلمات الله، وكان البحر مدادًا، لم ينفد كلمات ربنا، ولم يرد بالبحر بحرًا واحدًا، أعلم الله تعالى أنه لو جيء بمثل البحر مدادًا وزيد على مائه سبعة أبحر لم تنفد كلمات الله، فدل بهذه الأشياء أن كلمات ربنا ليست بمخلوقة”([24]).

6- القول بأن القرآن كلام بشر:

القول ببشرية القرآن تندرج تحتها أربعة مآلات:

  • مشابهة كفار قريش في رفضهم القرآن:

من مآلات القول بخلق القرآن أن يكون من كلام البشر، فالقائلون بخلق القرآن قد وافقوا كفار قريش في ردِّهم وإنكارهم بأن يكون هذا القرآن من عند الله تعالى، فقالوا: {إِنْ هَذَا إِلَّا اخْتِلَاقٌ} [ص: 7]، وقالوا: {إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ البَشَرِ} [المدثر: 25].

وهذا ما يريد أن يصل إليه الحداثيون العرب والمستشرقون وأعداء الإسلام، فمحاولاتهم قراءة القرآن قراءةً تاريخية، ودعمهم لكلّ الفِرَق التي قالت في القرآن بأنه مخلوق، والإشادة بهم، ما هو إلا سعي لإثبات أن القرآن من عمَلِ البشر، وكل ذلك لإسقاط قدسية القرآن الكريم، وأنى لهم ذلك؟! خابوا وخسروا.

فالحداثيون المعاصرون لم يأتوا بجديد، وإنما ساروا على خطا كفار قريش، وإنما غايروا في الطرح فقالوا: إن القرآن تأثر بالبيئة المحيطة والواقع الذي صاحبه؛ مشيرين إلى أنه ليس بوحي من عند الله تعالى.

يقول نصر أبو زيد: “لقد كان ارتباط ظاهرتي (الشعر والكهانة) بالجن في العقل العربي، وما ارتبط بهما من اعتقاد العربي بإمكانية الاتصال بين البشر والجن هو الأساس الثقافي لظاهرة الوحي الديني ذاتها. ولو تصوّرنا خلو الثقافة العربية قبل الإسلام من هذه التصورات لكان استيعاب ظاهرة الوحي أمرًا مستحيلًا من الواجهة الثقافية، فكيف كان يمكن للعربي أن يتقبل فكرة نزول ملَك من السماء على بشر مثله ما لم يكن لهذا التصور جذور في تكوينه العقلي والفكري؟! وهذا كله يؤكّد أن ظاهرة الوحي القرآني لم تكن ظاهرةً مفارقة للواقع، أو تمثل وثبًا عليه وتجاوزًا لقوانينه، بل كانت جزءًا من مفاهيم الثقافة، ونابعة من مواضعاتها وتصوراتها”.

ويقول أيضًا: “لم يكن القرآن في صياغته للواقع الثقافي بمعزل عن هذه التصوّرات، فقد ذكر الجنّ في مواضع كثيرة، وخصص سورة كاملة تنبئ عن تحوّل في طبيعة الجنّ، وإيمانهم بالإسلام والقرآن بعد أن استمعوا له، والسورة من ناحية أخرى تؤكِّد ما كان مستقرًّا في العقل العربي من اتصال الجن بالسماء، ومن إمكانية اتصال بعض البشر بالجن”([25]).

وهذا تصريح من نصر أبو زيد ببشرية القرآن، وأنه يمكن أن يكون تلقَّاه من الجن ونحوهم.

ويقول: “ففي مرحلة تشكيل النص في الثقافة تكون الثقافة فاعلًا والنص منفعلًا”([26]).

وقوله: “الثقافة هي الفاعلة” زعمٌ بأن النبي صلى الله عليه وسلم هو من شكَّل النص، وليس وحيًا من الله تعالى، والعياذ بالله.

  • نفي الإعجار:

وينتجُ عن القول ببشرية القرآن أو بخلق القرآن القولُ بنفي الإعجاز عن القرآن بمعناه الشمولي، فإن الإعجاز يكون حين نقول: هو كلام الله حقيقة لفظًا ومعنى، وهو غير مخلوق؛ لأن كلام المخلوق ليس بمعجز.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله عن إعجاز القرآن: “بل هو آية بيّنة معجزة من وجوه متعدّدة، من جهة اللفظ، ومن جهة النظم، ومن جهة البلاغة، وفي دلالة اللفظ على المعنى، ومن جهة معانيه التي أخبر بها عن الله تعالى وأسمائه وصفاته وملائكته وغير ذلك، ومن جهة معانيه التي أخبر بها عن الغيب الماضي، وعن الغيب المستقبل، ومن جهة ما أخبر به عن المعاد، ومن جهة ما بين فيه من الدلائل اليقينية والأقيسة العقلية التي هي الأمثال المضروبة، كما قال تعالى: {وَلَقَدْ صَرَّفْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ، فَأَبى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُورًا} [الإسراء: 89]، وقال تعالى: {وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَٰذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِن كُلِّ مَثَلٍ وَكَانَ الْإِنسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا} [الكهف: 54]”([27]).

وقد تحدّى الله تعالى الإنس والجن بأن يأتوا بمثله، وأخبر بالنتيجة مسبقًا بأنهم سيعجزون؛ لأنّ القرآن كلام الله المعجز، فقال تعالى: {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الإنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا} [الإسراء: 88].

وحصل التحدّي بعشر سوَر مثله، فقال تعالى: {قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِّثْلِهِ} [هود: 13].

وحصل التحدّي بسورة مثله، فقال تعالى: {قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّثْلِهِ} [يونس: 38].

وأتى من قال بخلق القرآن ونفى الإعجازَ عنه بردٍّ عجيب على عدم قدرة أحد بالإتيان بأقصر سورة من القرآن، فقالوا بـ”الصَّرفة”، ومعناها: أن الله صرف الناس عن تحدّي القرآن، فلا يمكنهم الإتيانُ بمثله لهذا السبب، لا لأنه معجز.

وأول من قال بها هم المعتزلة مبرّرين إخفاقَهم، ولئلا يقعوا في التناقض بقولهم: إن القرآن مخلوق.

وبهذا التبرير الضعيف الباطل نفسه الحداثيون إخفاقَهم أمام القرآن المعجِز، فقالوا هم أيضًا بالصَّرفة، فهذا نصر أبو زيد يقول: “إذا توقّفنا قليلًا عند مفهوم (الصرفة)، وهو المصطلح الذي شاع بعد ذلك وصفًا لتفسير النظّام، قلنا: إن النظّام يجعل المعجزة أمرًا واقعًا خارج النص، ويرتبط بصفة من صفات قائل النص وهو الله… وإذا كانت قدرة الله تعالى لا تغالبها قدرة البشر ولا تستطيع الوقوف إزاءها، فإن (العجز) الذي يشير إليه النصّ في تحديه للعرب أن يأتوا بمثله كان عجزًا ناتجًا عن تدخّل القدرة الإلهية لمنع العرب من قبول التحدّي ومن محاولته، وليس في هذا الرأي إنكارٌ للإعجاز، بل هو تفسير له خارج إطار علاقة النص بغيره من النصوص الأخرى، إنه (العجز) البشريّ الذي سبّبته قدرة الله وليس (الإعجاز) أو التفوق القائم في بنية النصّ من حيث مقارنته بالنصوص الأخرى“([28]).

فيريد نصر أبو زيد بهذا التقرير -وإن شئت فقل: التبرير الضعيف الباطل- أن النص القرآني لم يتفوّق على غيره، وليس فيه أي إعجاز، فيجوز لنا أن نتدخّل لنقد القرآن لإمكان الناس أن يأتوا بمثله لكونه نصًّا بشريًّا لا إلهيًّا.

  • احتمالية وقوع التحريف في القرآن:

وهذه دعواهم، وهي مبنية على أن القرآن كلام بشريّ، واستهدفوا الصحابة وقدحوا فيهم؛ لأنهم نقلة الوحي، فهم من نقلوا القرآن لمن بعدَهم، فهم يريدون القدح في القرآن بالقدح في نقلته، وقالوا بأن القرآن في الحقيقة لم يعد موجودًا، وأن الموجود في المصاحف إنما هو من اجتهاد الصحابة، وأنه دخله الزيادة والنقصان.

فهذا طيب تيزيني يزعم أن هناك قراءتين للمتن القرآني: تقليدية، وحديثة، ويقول في بيان كل واحدة من القرائتين: “القراءة الأولى: ترفض كلَّ ما من شأنه المسُّ بفكرة تمامية المتن القرآني حفاظًا على الوحدة الإسلامية، القراءة الثانية: أن المتن المذكور تعرض عفوًا أو بنيّة سيئة لتغيير معيّن، إما بسبب نزاعات سلطوية أخضعت القرآن وظيفيًّا لاحتياجاتها، مثال عثمان وابن مسعود، وإما لأن الكلام القرآني ليس كلام الله، مثال المعتزلة والأشعري”([29]).

ويقول الجابري: “ومع أن لنا رأيًا خاصًّا في معنى (الآية) في بعض هذه الآيات، فإن جملتها تؤكّد حصول التغيير في القرآن، وأن ذلك حدث بعلم الله ومشيئته”([30]).

ويقول شحرور: “وعلينا أن نعلم أن هذه الآيات (أم الكتاب) قابلة للتزوير وقابلة للتقليد، ولا يوجد فيها أيّ إعجاز، بل صيغت قمة الصياغة الأدبية العربية”([31]).

  • القول بتاريخية النص القرآني:

سبق الكلام عن القراءة التاريخية للقرآن، وبيّنا أن هذه القراءة التاريخية تتعامل مع القرآن بأنه نصّ بشريّ، عالج أحداثًا في زمان صدوره من محمد صلى الله عليه وسلم، وأنه لا يصلح لهذا الزمان.

وإن من مآلات القول بخلق القرآن: تقرير تاريخية النصّ القرآني، وعلاقة هذا التقرير الحداثي بالقول بخلق القرآن هي أن القول بخلق القرآن كان بوابةً ولج منها الحداثيون للقول ببشرية القرآن وقراءته قراءة تاريخية.

يقول نصر أبو زيد بكلام صريح في أنه وصل لنزع القداسة عن القرآن بتبنيه قول المعتزلة في خلق القرآن، فيقول: “إن مسألة خلق القرآن كما طرحها المعتزلة تعني بالتحليل الفلسفي أن الوحي واقعة تاريخية ترتبط أساسًا بالبعد الإنساني، من ثنائية الله والإنسان أو المطلق والمحدود، الوحي في هذا الفهم تحقيق لمصالح الإنسان على الأرض؛ لأنه خطاب للإنسان بلغته، وإذا مضينا في التحليل الفلسفي إلى غايته التي ربما غابت عن المعتزلة نصل إلى أن الخطاب الإلهي خطاب تاريخي، وبما هو تاريخي فإن معناه لا يتحقَّق إلا من خلال التأويل الإنساني أنه لا يتضمن معنى مفارقًا جوهريًا ثابتًا له إطلاقية المطلق وقداسة الإله”([32]).

ويقول طيب تيزيني: “من هنا كانت الأهمية الملفتة لمحاولة التيار الاعتزالي في ذلك المجتمع النظر في الكلام (النص القرآني) على أنه مخلوق، ذلك لأن مثل هذا النظر يتيح للباحث والفقيه والمؤمن العادي جميعًا وكل من موقعه وفي ضوء إملاءاته الاجتماعية والاقتصادية والثقافية وغيرها أن يتصرفوا بالكلام المذكور بمثابة بنية تاريخية مفتوحة، تخضع لاتجاهات التغير والتبدل التي تطرأ على تلك الوضعيات الاجتماعية المشخصة”([33]).

ويقول أركون: “عملي يقوم على إخضاع القرآن لمحكّ النقد التاريخي المقارن”([34]).

فما يسمى: “تاريخية النص” و”التفسير التاريخي للنص” ينطوي في الحقيقة على عدة مضامين منها:

أ- نفي حقيقة الوحي.

ب – جعل الوحي أسطورة من الأساطير.

ج – التحرر من سلطة الوحي وأحكامه.

د – إلغاء أسبقية المعنى، وهذا يعني القضاء على النصّ تمامًا.

هـ – أنه لا حقيقة ثابتة للنصّ، بل إن كان فيه حقيقة فهي نسبية زمنية.

و- نفي القداسة عن النصّ، ونقله إلى حقل المناقشة والنقد الهادم والدراسات اللغوية البنيوية والاجتماعية المادية المختلفة.

ز- ‌القول ‌ببشرية ‌النص وأنه ليس من وحي الله تعالى، فلا عصمة له، ولا حقيقة لعصمة المبلِّغ([35]).

إن الهدف من محاولة أرخنة القرآن الكريم هو وضعه في سياقه التاريخي والزمكاني، وفي ظروفه البيئية والثقافية وحدوده الجغرافية؛ من أجل تجاوز مفاهيمه وأحكامه وتشريعاته.

و”المراد بتاريخية الأحكام: أن أحكام القرآن كانت استجابة لواقع معين، وبالتالي فهي صالحة لذلك العصر بشروطه التاريخية والمعرفية والثقافية، لكن التطور التاريخي نسخ هذه الصلاحية، ولم تعد أحكام القرآن صالحة لهذا الزمان، ويتعين تجاوزها وإهمالها”([36]).

7- إسقاط قدسية القرآن الكريم:

إسقاط قدسية القرآن والاستخفاف والاستهانة به من المآلات الخطيرة التي وصل إليها أتباع القائلين بخلق القرآن، فأسلافهم كانوا يوجبون احترام القرآن مع قولهم بأنه مخلوق.

وقد بيَّن ابن تيمية رحمه الله سبب ما وصل إليه أتباع الأشاعرة والكلابية من عدم احترام القرآن، فقال: إنهم يقولون: “إنه معنى قائم بذات الله فقط، وأن الحروف ليست من كلام الله، بل خلقها الله في الهواء، أو صنفها جبريل، أو محمد، فضموا إلى ذلك أن المصحف ليس فيه إلا مداد وورق، وأعرضوا عما قاله سلفهم من أن ذلك دليل على كلام الله فيجب احترامه؛ لما رأوا أن مجرد كونه دليلًا لا يوجب الاحترام، كالدليل على الخالق المتكلم بالكلام، فإن الموجودات كلها أدلة عليه، ولا يجب احترامها، فصار هؤلاء يمتهنون المصحف حتى يدوسوه بأرجلهم، ومنهم من يكتب أسماء الله بالعذرة؛ إسقاطًا لحرمة ما في المصاحف والورق من أسماء الله وآياته، وقد اتفق المسلمون على أن من استخف بالمصحف، مثل أن يلقيه في الحش أو يركضه برجله إهانة له، أنه كافر مباح الدم، فالبدع في أولها تكون شبرًا، ثم تكثر في الأتباع حتى تصير ذراعًا وأميالًا وفراسخ”([37]).

والقصص الواردة في إهانتهم للقرآن الكريم كثيرة مستفيضة، وبسبب انتشار هذا الاعتقاد في ذلك الوقت ضعف تعظيم قدر القرآن الكريم في قلوب العوامّ، بل ذكر ابن الجوزي رحمه الله أن أهل البدع كانوا يرتقون المنابر لتذكير العوام أنه ليس لله في الأرض كلام، وهل المصحف إلا ورق؟!… وقالوا: أين الحروفية الذين يزعمون أن القرآن حرف وصوت؟ هذا عبارة جبريل، فما زالوا كذلك حتى هان تعظيم القرآن في صدور كثير من العوام، وصار أحدهم يسمع فيقول: هذا هو الصحيح، وإلا فالقرآن شيء يجيء به جبريل في كيس([38]).

فنزعُ هيبة القرآن وقداسته من قلوب المسلمين أثرُ الإفك العظيم على القرآن بأنه مخلوق، وهو الإفك نفسه الذي يريد نشره الحداثيون العلمانيون ليمرروا مشروع تجاوز التعاليم الإسلامية التي جاءت في الكتاب والسنة.

ختامًا:

نختتم بحثنا هذا بمجموعة من النتائج التي توصلنا إليها، وهي:

1- أرخنة القرآن الكريم منهجٌ مستورَد من الفلسفة الغربية، والقول بتاريخية نصوص القرآن هو نفسه القول بخلق القرآن، وتشتركان معًا في مآلات القول بهذه الفتنة.

2- أن قراءات الحداثيين -وخاصة القراءة التاريخانية للقرآن- تلتقي مع بدعة المعتزلة في قولهم بخلق القرآن؛ مما يؤدي للنتيجة نفسها وهي: نزع قداسة النص القرآني، ما يعني إسقاطه وتجاوزه.

3- أن الحداثيين المعاصرين يبنون آراءهم في القرآن ويدللون لها بما ذهبت إليه المعتزلة من القول بخلق القرآن، ولكن اختلفت المنطلقات، وقد ظهر هذا الارتباط جليًّا في كتابات رواد هذا الفكر.

4- أن فتنة القول بخلق القرآن عادت بموجة جديدة تحمل في طياتها الإلحادَ والزندقة على الأجيال القادمة، فلا بد على العلماء والمصلحين من توعية الناس بمآلات هذا القول، وإلى أي مدى تصل خطورة التهاون فيه أو التهوين منه.

والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(المراجع)

([1]) نقد النص (ص: 77).

([2]) العلمانيون العرب وموقفهم من الإسلام لمصطفى باحو (ص: 145).

([3]) للوقوف على تقريراته المضللة انظر: المدخل لدراسة القرآن الكريم للجابري (ص: 82، 84، 93، 214).

([4]) نقد الخطاب الديني (ص: 139).

([5]) قضايا في نقد العقل الديني (ص: 279).

([6]) القرآن من التفسير الموروث إلى تحليل الخطاب الديني (ص: 24).

([7]) العقل العربي بنية وبناء دراسة نقدية لمشروع الجابري، لزهرة أحمد علي (ص: 130).

([8]) الفكر الإسلامي قراءة علمية (ص: 82).

([9]) الثابت والمتحول (ص: 63-96).

([10]) الشريعة للآجري (1/ 501) برقم (165).

([11]) شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة لللالكائي (1/ 243) برقم (356).

([12]) الإبانة الكبرى لابن بطة (2/ 67) برقم (286).

([13]) رسالة السجزي إلى أهل زبيد (ص: 106).

([14]) خلق أفعال العباد للبخاري (2/ 11) برقم (5).

([15]) الإبانة لابن بطة (2/ 44).

([16]) بيان تلبيس الجهمية (3/ 518-519).

([17]) أخرجه عبد الله في السنة (1/ 110) برقم (20) وصحح إسناده الألباني في مختصر العلو (ص: 174).

([18]) خلق أفعال العباد للبخاري (2/ 232) برقم (453).

([19]) ذم الكلام للهروي (5/ 126).

([20]) الإمام الشافعي وتأسيس الإيدلوجية الوسطية (ص: 190).

([21]) النص السلطة الحقيقة (ص: 144).

([22]) التراث والتجديد (ص: 45).

([23]) التراث والتجديد (ص: 110).

([24]) الحجة في بيان المحجة (1/ 221).

([25]) مفهوم النص دراسة في علوم القرآن (ص: 34).

([26]) مفهوم النص (ص: 200).

([27]) الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح لابن تيمية (5/ 428).

([28]) مفهوم النص دراسة في علوم القرآن (ص: 146).

([29]) النص القرآني (ص: 412).

([30]) مدخل إلى القرآن الكريم (ص: 232).

([31]) الكتاب والقرآن قراءة معاصرة (ص: 160).

([32]) النص السلطة الحقيقة (ص: 33).

([33]) النص القرآني (ص: 298-299).

([34]) ينظر: الممنوع والممتنع لعلى حرب (ص: 11).

([35]) الانحراف العقدي في أدب الحداثة وفكرها (2/ 1098).

([36]) الشريعة الإسلامية والعلمانية الغربية، محمد عمارة (ص: 60).

([37]) ينظر: مختصر الصواعق (4/ 1383).

([38]) صيد الخاطر (ص: 316).

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

جديد سلف

إرث الجهم والجهميّة .. قراءة في الإعلاء المعاصر للفكر الجهمي ومحاولات توظيفه

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة مقدمة: إذا كان لكلِّ ساقطة لاقطة، ولكل سلعة كاسدة يومًا سوقٌ؛ فإن ريح (الجهم) ساقطة وجدت لها لاقطة، مستفيدة منها ومستمدّة، ورافعة لها ومُعليَة، وفي زماننا الحاضر نجد محاولاتِ بعثٍ لأفكارٍ منبوذة ضالّة تواترت جهود السلف على ذمّها وقدحها، والحط منها ومن معتنقها وناشرها([1]). وقد يتعجَّب البعض أَنَّى لهذا […]

شبهات العقلانيين حول حديث: (إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم)

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة مقدمة: لا يزال العقلانيون يحكِّمون كلامَ الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم إلى عقولهم القاصرة، فينكِرون بذلك السنةَ النبوية ويردُّونها، ومن جملة تشغيباتهم في ذلك شبهاتُهم المثارَة حول حديث: «الشيطان يجري في ابن آدم مجرى الدم» الذي يعتبرونه مجردَ مجاز أو رمزية للإشارة إلى سُرعة وقوع الإنسان في الهوى […]

شُبهة في فهم حديث الثقلين.. وهل ترك أهل السنة العترة واتَّبعوا الأئمة الأربعة؟

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة حديث الثقلين يعتبر من أهمّ سرديات الخطاب الديني عند الشيعة بكافّة طوائفهم، وهو حديث معروف عند أهل العلم، تمسَّك بها طوائف الشيعة وفق عادة تلك الطوائف من الاجتزاء في فهم الإسلام، وعدم قراءة الإسلام قراءة صحيحة وفق منظورٍ شمولي. ولقد ورد الحديث بعدد من الألفاظ، أصحها ما رواه مسلم […]

المهدي بين الحقيقة والخرافة والرد على دعاوى المشككين

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة   مقدمة: صحّ عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «قَدْ تَرَكْتُكُمْ عَلَى الْبَيْضَاءِ لَيْلُهَا كَنَهَارِهَا، لَا يَزِيغُ عَنْهَا بَعْدِي إِلَّا هَالِكٌ»([1]). ومن رحمته صلى الله عليه وسلم بالأمه أنه أخبر بأمور كثيرة واقعة بعده، وهي من الغيب الذي أطلعه الله عليه، وهو صلى الله عليه وسلم لا […]

قول النبي صلى الله عليه وسلم: (لو كان الإيمان منوطًا بالثريا، لتناوله رجال من فارس) شبهة وجواب

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة  يقول بعض المنتصرين لإيران: لا إشكالَ عند أحدٍ من أهل العلم أنّ العربَ وغيرَهم من المسلمين في عصرنا قد أعرَضوا وتولَّوا عن الإسلام، وبذلك يكون وقع فعلُ الشرط: {وَإِن تَتَوَلَّوْاْ}، ويبقى جوابه، وهو الوعد الإلهيُّ باستبدال الفرس بهم، كما لا إشكال عند المنصفين أن هذا الوعدَ الإلهيَّ بدأ يتحقَّق([1]). […]

دعوى العلمانيين أن علماء الإسلام يكفرون العباقرة والمفكرين

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة عرفت الحضارة الإسلامية ازدهارًا كبيرًا في كافة الأصعدة العلمية والاجتماعية والثقافية والفكرية، ولقد كان للإسلام اللبنة الأولى لهذه الانطلاقة من خلال مبادئه التي تحثّ على العلم والمعرفة والتفكر في الكون، والعمل إلى آخر نفَسٍ للإنسان، حتى أوصى الإنسان أنَّه إذا قامت عليه الساعة وفي يده فسيلة فليغرسها. ولقد كان […]

حديث: «إِنَّ أَحَدَكُمْ لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ الجَنَّةِ» شبهة ونقاش

من أكثر الإشكالات التي يمكن أن تؤثِّرَ على الشباب وتفكيرهم: الشبهات المتعلِّقة بالغيب والقدر، فهما بابان مهمّان يحرص أعداء الدين على الدخول منهما إلى قلوب المسلمين وعقولهم لزرع الشبهات التي كثيرًا ما تصادف هوى في النفس، فيتبعها فئام من المسلمين. وفي هذا المقال عرضٌ ونقاشٌ لشبهة واردة على حديثٍ من أحاديث النبي صلى الله عليه […]

آثار الحداثة على العقيدة والأخلاق

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة مقدمة: الفكر الحداثي مذهبٌ غربيّ معاصر دخيل على الإسلام، والحداثة تعني: (محاولة الإنسان المعاصر رفض النَّمطِ الحضاري القائم، والنظامِ المعرفي الموروث، واستبدال نمطٍ جديد مُعَلْمَن تصوغه حصيلةٌ من المذاهب والفلسفات الأوروبية المادية الحديثة به على كافة الأصعدة؛ الفنية والأدبية والاقتصادية والسياسية والاجتماعية والفكرية…)([1]). ومما جاء أيضا في تعريفه: (محاولة […]

الإيمان بالغيب عاصم من وحل المادية (أهمية الإيمان بالغيب في العصر المادي)

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة مقدمة: يعيش إنسان اليوم بين أحد رجلين: رجل تغمره الطمأنينة واليقين، ورجل ترهقه الحيرة والقلق والشكّ؛ نعم هذا هو الحال، ولا يكاد يخرج عن هذا أحد؛ فالأول هو الذي آمن بالغيب وآمن بالله ربا؛ فعرف الحقائق الوجوديّة الكبرى، وأدرك من أين جاء؟ ومن أوجده؟ ولماذا؟ وإلى أين المنتهى؟ بينما […]

مناقشة دعوى الإجماع على منع الخروج عن المذاهب الأربعة

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة مقدمة: الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على من بعث رحمةً للعالمين، وعلى آله وصحبه أجمعين. وبعد: فإن طريقة التعامل مع اختلاف أهل العلم بَيَّنَها الله تعالى بقوله: {يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ ‌أَطِيعُواْ ‌ٱللَّهَ وَأَطِيعُواْ ٱلرَّسُولَ وَأُوْلِي ٱلۡأَمۡرِ مِنكُمۡۖ فَإِن تَنَٰزَعۡتُمۡ فِي شَيۡءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى ٱللَّهِ وَٱلرَّسُولِ إِن كُنتُمۡ تُؤۡمِنُونَ […]

بدعية المولد .. بين الصوفية والوهابية

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة مقدّمة: من الأمور المقرَّرة في دين الإسلام أن العبادات مبناها على الشرع والاتباع، لا على الهوى والابتداع، فإنَّ الإسلام مبني على أصلين: أحدهما: أن نعبد الله وحده لا شريك له، والثاني أن نعبده بما شرعه على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم، فالأصل في العبادات المنع والتوقيف. عَنْ عَلِيٍّ […]

الخرافات وأبواب الابتداع 

[ليس معقولاً، لا نقلاً، ولا عقلاً، إطلاق لفظ «السُّنَّة» على كل شيء لم يذكر فيه نص صريح من القرآن أو السنة، أو سار عليه إجماع الأمة كلها، في مشارق الأرض ومغاربها]. ومصيبة كبرى أن تستمر التهم المعلبة،كوهابي ، وأحد النابتة ، وضال، ومنحرف، ومبتدع وما هو أشنع من ذلك، على كل من ينادي بالتزام سنة […]

ترجمة الشَّيخ د. علي ناصر فقيهي

‏‏للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة ترجمة الشَّيخ د. علي ناصر فقيهي([1]) اسمه ونسبه: هو الشَّيخ الأستاذ الدكتور علي بن محمد بن ناصر آل حامض الفقيهي. مولده: كان مسقط رأسه في جنوب المملكة العربية السعودية، وتحديدا بقرية المنجارة التابعة لمحافظة أحد المسارحة، إحدى محافظات منطقة جيزان، عام 1354هـ. نشأته العلمية: نشأ الشيخ في مدينة جيزان […]

مناقشة دعوَى أنّ مشركِي العرب جحدوا الربوبية

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة مقدمة: اعتَمَد بعضُ الأشاعرةِ في العصور الحديثةِ على مخالفة البدهيات الشرعية، وتوصَّلوا إلى نتائج لم يقل بها سلفُهم من علماء الأشعرية؛ وذلك لأنهم لما نظروا في أدلة ابن تيمية ومنطلقاته الفكرية وعرفوا قوتها وصلابتها، وأن طرد هذه الأصول والتزامَها تهدم ما لديهم من بدعٍ، لم يكن هناك بُدّ من […]

تغاريد سلف

جميع الحقوق محفوظة لمركز سلف للبحوث والدراسات © 2017