قراءة نقديّة في كتاب (الصواعق والرعود) لابن داود الحنبلي (الجزء الثاني)
للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة
المبحث الثاني: مناقشة دعوى مباينة دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب لدعوة شيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم:
مِنَ المعلوم والمشتهِر أن دعوة الشيخ المجدِّد محمد بن عبد الوهاب رحمه الله كانت امتدادًا للدعوة السلفية الإصلاحية التي جدَّدها وأحياها شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، وأنهما حلقتان في سلسلة واحدة ممتدَّة لأئمة السلف الصالح رضي الله عنهم أجمعين.
ومن المقرَّر كذلك أنَّ دعوة الشيخ الإمام كانت في جُلِّها ومعظمِها تطبيقًا عمليًّا لما دعا إليه شيخ الإسلام وتلامذته الأبرار وعلى رأسهم ابن القيم، رحمهم الله جميعًا.
ولا عجَب، فقد عُني الشيخ بتراث شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم عناية فائقة، قال الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن آل الشيخ: “وأكبَّ معهما([1]) على مطالعة مؤلفات شيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم بن تيمية ومؤلفات تلميذه محمد ابن قيم الجوزية، فازداد بهما علمًا وتحقيقًا وعرفانًا، وقد كتب بخطّ يده رحمة الله كثيرا من مؤلفات شيخ الإسلام ابن تيمية، لا يزال بعضها موجودًا بالمتحف البريطاني بلندن”([2]).
وهذا التأثّر كان في أصول المنهج وقواعد الاستدلال، والأصول الكبار التي أجمع عليها السلف، مثل الاستدلال بالكتاب والسنة والإجماع والقياس، والتمسك بفهم السلف ومنهجهم، ورفض المناهج الكلامية والفلسفية، ونبذ البدع والمحدثات في العلم والعمل والسلوك، والاهتمام بالدعوة للتوحيد وخاصَّة توحيد العبادة الذي هو حقيقة دعوة الأنبياء والمرسلين، والتحذير من شرك القبور والافتتان بها والغلو فيها. ولا يخفى على من طالع تراث الشيخين أنَّ كتبهما ناطقةُ بهذه الأصول ومجلِّية لها أعظمَ جلاء، وهو ما تأثّر به بشكلٍ كبير الشيخ المجدِّد رحمه الله، فدعا إليه وجاهد في سبيل تحقيقه وتطبيقه بكلّ صور الجهاد المشروع، حتى آتت دعوته أكلَها وأثمرت ثمارها الطيبة في كلّ بقاع الأرض.
وهذا لا يعني أن الشيخ محمدًا رحمه الله وأئمة الدعوة كانوا مقلِّدين لشيخ الإسلام في كلّ شيء، فالمعروف أنهم كانوا في الفروع على مذهب الإمام أحمد، ووفق مذهبه كانت الفتوى والقضاء والتعليم، حتى في المسائل المشهورة كالطلاق ثلاثا، فقد كانوا فيها على مذهب الجمهور؛ يقول الشيخ عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب: “ونحن في الفروع على مذهب الإمام أحمد بن حنبل، ولا ننكِر على من قلَّد أحدَ الأئمة الأربعة دون غيرهم… ولا نستحقّ مرتبة الاجتهاد المطلق، ولا أحدَ منا يدّعيها، إلا أنا في بعض المسائل إذا صح لنا نصّ جليّ من كتاب أو سنة غير منسوخ ولا مخصص ولا معارض بأقوى منه، وقال به أحد الأئمة الأربعة، أخذنا به وتركنا المذهب. وعندنا أن الإمام ابن القيم وشيخه: إماما حقّ، من أهل السنة، وكتبهم من أعزّ الكتب، إلا أنا غير مقلّدِين لهم في كلّ مسألة، فإن كلَّ أحد يؤخذ من قوله ويترك إلا نبينا صلى الله عليه وسلم”([3]).
والغرض المقصود: أن موافقة دعوة الشيخ المجدّد لمنهج الشيخين ابن تيمية وابن القيم أمرٌ مشهور ومقرَّر، ولا يجحده إلا جاهل أو مكابر، وشهد به الكثيرون من محبّي الدعوة وغيرهم.
يقول عبد المتعال الصعيدي متحدّثًا عن الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله ضمن قائمة المجدّدين: “أخذ دراسته الأولى على فقهاء الحنابلة، وهم معروفون من قديم بتمسّكهم بالسنة، ونفرتهم من البدعة، فتأثر بهم في نشأته.. وكان ابن تيمية من سلف الحنابلة هو الذي سيجعله قدوته.. فلما عاد الشيخ إلى بلده لم يرض بما رضي به علماء نجد من السكوت على تلك البدع، وأراد أن يعيد في محاربتها عهد أسلافه من الحنابلة، ولا سيّما ابن تيمية، وكان قد درس كتبه ورسائله الإصلاحية فيما درسه في نشأته، ويوجد في المتحف البريطاني بلندن بعض رسائل لابن تيمية بخطّه، وهذا مما يؤيد دراسته لها… ثم أخذ يدعو إلى مثل ما دعا إليه ابن تيمية قبله من التوجه بالعبادة لله وحده، وإنكار التوجه إلى أصحاب القباب والقبور، وإنكار التوسل بالأولياء والأنبياء إلى الله تعالى في قضاء الحاجات، وما إلى هذا من البدع التي سبقه ابن تيمية إلى إنكارها”([4]).
وقال الأستاذ حافظ وهبة في كتابه (جزيرة العرب) بعد أن ذكر نبذةً يسيرةً من تاريخ الشيخ: “لم يكن الشيخ محمد بن عبد الوهاب نبيًّا كما ادَّعى نيبهر الدانمركي، ولكنه مصلح مجدّد، داع إلى الرجوع إلى الدين الحق، فليس للشيخ محمد تعاليم خاصة، ولا آراء خاصة، وكل ما يطبّق في نجد هو طبق مذهب الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله. وأما في العقائد فهم يتبعون السلف الصالح، ويخالفون من عداهم. وتكاد تكون تعاليمهم مطابقة تمام المطابقة لما كتبه ابن تيمية وتلاميذه في كتبهم، وإن كانوا يخالفونهم في مسائل معدودة في فروع الدين”([5]).
وقال الأستاذ محمد ضياء الدين الريس -أستاذ التاريخ الإسلامي بجامعة فؤاد الأول-: “والوهابيون يتّبعون في فروع الأحكام حيث الفقه مذهب الإمام أحمد بن حنبل، وفي العقائد مذهب أهل السنة، وبخاصة كما قرّرها وفسرها الإمام السني العلامة ابن تيمية. وابن تيمية هو الأستاذ المباشر لابن عبد الوهاب، وإن فصل بينهما أربعة قرون؛ فقد قرأ كتبه وتأثر كل التأثر بتعاليمه”([6]).
ويقول المستشرق بروكلمان في كتابه (تاريخ الشعوب الإسلامية) عن الشيخ محمد رحمه الله: “فنشأ محمد محبًّا للعلم، واقفًا نفسه على دراسة الفقه والشريعة، وقصد وفقًا للعادة القديمة إلى عواصم الشرق الإسلامي طلبًا للعلم في مدارسها. وفي بغداد درس محمد فقه أحمد بن حنبل مؤسس آخر المذاهب السنية الأربعة. ثم إنه درس مؤلفات أحمد بن تيمية الذي كان قد أحيا في القرآن الرابع عشر تعاليم ابن حنبل. والواقع أن دراسته لآراء هذين الإمامين انتهت به إلى الإيقان من أن الإسلام في شكله السائد في عصره -وبخاصة بين الأتراك- مُشرَب بالمساوي التي لا تمت إلى الدين الصحيح بنسب”([7]).
ويقول المستشرق الإنجليزي جب في كتابه (المحمدية): “وفي جزيرة العرب قام حوالي 1744م/ 1157هـ محمد بن عبد الوهاب مع أمراء الدرعية آل سعود بتحقيق الدعوة إلى المدرسة –المذهب- الحنبلية، التي دعا إليها ابن تيمية في القرن الرابع عشر”([8]).
خطّة المناوئين:
ولعلوّ منزلة شيخ الإسلام ابن تيمية عند الحنابلة خصوصًا والعلماء عمومًا، بحيث لا يجحد علمه موافق أو مخالف، أراد خصوم الدعوة السلفية قطع هذه الصلة بين الدعوتين، خاصة أن كثيرًا منهم كان منتسبًا للحنابلة مقلّدًا لهم كابن فيروز وعثمان بن منصور وسليمان بن عبد الوهاب وابن داود الزبيريّ الذي نحن بصدد الردّ عليه، وغيرهم من غير الحنابلة كابن عفالق وزيني دحلان وداود بن جرجيس الذي كتب في ذلك كتابًا مخصوصًا سماه: (صلح الإخوان من أهل الإيمان وبيان الدين القيم في تبرئة ابن تيمية وابن القيم)، وأورد فيه قرابة خمسين نقلا عن الشيخين؛ ليثبت أنهما لا يُكفِّران بدعاء غير الله تعالى. وقد ردَّ عليه غير واحد من أئمّة الدعوة، وأتوا بنيانه من القواعد، منهم الشيخ عبد الرحمن بن حسن في كتابه (كشف البهرج والتلبيس)، والشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن في كتابه (منهاج التأسيس والتقديس)، والشيخ عبد الله أبابطين في كتابه (الانتصار)، وبينوا سوء فهمه لكلام شيخ الإسلام ابن تيمية، وما في كلامه من التلبيس والجهل والكذب على أهل العلم.
وكلام ابن داود لم يخرج عن ذلك أيضا، كما سنبين إن شاء الله، يقول ابن داود: “أما كون هذا المغرور اغترَّ بشيء من كلام ابن تيمية وابن القيم، فهذا من فرط جهله ونقصان عقله، وإلا فهما في واد وهو في واد… ومن أنصف وجد غالب كلامهما رادًّا عليه”([9]).
وهذا كلام باطل؛ فأما السبّ والشتم في كلامه فلا نَتلفت إليه، فهذه عادتُه في كتابه، لا تكاد تخلو صفحة منه، شأنه في ذلك شأن شيخه ابن فيروز وابن عفالق وغيرهما من خصوم الدعوة، وقد ذكرنا في الجزء الأول كثيرًا من مثل هذا.
وأما ما استدلَّ به على دعواه فهي أمور واهية، وهي:
1- قوله: “أما ابن تيمية وابن القيم فهما من بلد مبارك فيها -أي: الشام-، وشهد لها رسول الله صلى الله عليه وسلم بالإيمان، والدين لا يزال ظاهرًا فيها إلى يوم القيامة… وأما ابن عبد الوهاب: فهو عنهما بمعزل، وذلك لأنه من بلد لا بركة فيه ولا إيمان، بل هو مَقَرّ الفسوق والعصيان”([10]).
وهذا الذمّ والتعيير بالبلد وكون الشيخ من نجد كثير في كلام خصوم الدعوة، وهو من الذمّ بالباطل، وإلا فأين في كتاب الله أو سنة رسوله صلى الله عليه وسلم الذم والمدح بذلك؟! وهل عاب الله ورسوله أحدًا لكونه مصريًّا موطن الفراعنة أو فارسيًّا موطن الأكاسرة؟! بل لو كان هذا ذمًّا لكان منسحبًا على أهل مكة والمدينة، فقد كان فيها أئمة الكفر والنفاق قبل إسلام بعضهم أو إسلام أبنائهم، وإذا كان ذمّ أبي جهل فرعون هذه الأمة لا يلحق ولده عكرمة رضي الله عنه من بعده، فكيف يصير وجود مسيلمة ذمًّا للنجديين في كل زمان ومكان؟!
وأما الاستدلال بالأحاديث الواردة في أن الفتن تأتي من قبل المشرق، مثل قوله صلى الله عليه وسلم: «إنَّ الفِتْنَةَ تَجِيءُ مِن هاهُنا -وأَوْمَأَ بيَدِهِ نَحْوَ المشْرِقِ- مِن حَيْثُ يَطْلُعُ قَرْنا الشَّيْطانِ»([11])، وإسقاطها على بلاد نجد، وجعلها دليلا على ذمّ دعوة الشيخ، وأنهم المقصودون في الأحاديث، فهذا مبني على مقدمتين فاسدتين:
الأولى: حملُه المشرق على إقليم نجد المعروف.
الثانية: جعلُه الذمَّ لها مطلقًا.
وكلا المقدمتين فاسدة، وبيان ذلك من الوجوه الآتية:
أولا: أنه ليس المقصود بذلك نجد اليمامة، فإنّ نجدًا هي المرتفع من الأرض، ولا يختصّ ذلك بالإقليم المعروف، بل حمله أكثر أهل العلم على العراق، فإنها شرق المدينة، والواقع يؤكّد ذلك؛ فإن عامة الفتن جرت ببلاد العراق. قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: “وقال الخطابي: نجد من جهة المشرق، ومن كان بالمدينة كان نجده بادية العراق ونواحيها، وهي شرق أهل المدينة، وأصل النجد: ما ارتفع من الأرض، وهي خلاف الغور فإنه ما انخفض من الأرض، وتهامة كلها من الغور، ومكة من تهامة. انتهى. وعُرف بهذا وهاءُ ما قاله الداودي: إن نجدًا من ناحية العراق، كأنه توهّم أن نجدًا موضع مخصوص، وليس كذلك، بل كل شيء ارتفع بالنسبة إلى ما يليه يسمّى نجدًا، والمنخفض غورًا”([12]).
قال الشيخ أحمد بن حجر آل بوطامي: “واتَّفقت كلمة شرّاح الحديث وأئمة اللّغة أن نجدًا ليس اسمًا لبلد خاصّ، ولا اسمًا لبلدة بعينها، بل يقال لكل قطعة من الأرض المرتفعة عما حواليها. ونجود العرب كثيرة، منها نجد البرق، نجد أجاء، نجد العقاب بدمشق، نجد اليمن، نجد الحجاز، نجد العراق، وهو يقع جهة الشرق من المدينة المنورة. قال صاحب تاج العروس: كل ما وراء الخندق على سواد العراق هو نجد. قال الكرماني في شرح حديث: «يطلع منها قرن الشيطان»: هو الأرض المرتفعة من تهامة إلى العراق، وأصرح من هذا قوله: ومن كان بالمدينة المنورة -على ساكنها أفضل الصلاة وأزكى السلام- كان نجد بادية العراق وهي مشرق أهلها. وقال الخطابي: نجد من جهة المشرق، ومن كان بالمدينة كان نجده بادية العراق ونواحيها. ومما أوردناه تعلم -أيها الواقف- أنّ الذمّ الوارد في نجد في قوله صلى الله عليه وسلم: «هنالك الزلازل والفتن، وبها يطلع قرن الشيطان»، فليس المراد نجد اليمامة، بل نجد العراق”([13]).
وقال الشيخ عبد الرحمن بن حسن: “قيل: إنه أراد نجد العراق؛ لأن في بعض ألفاظه ذكر المشرق، والعراق شرقيّ المدينة، والواقع يشهد له، لا نجد الحجاز، ذكره العلماء في شرح هذا الحديث، فقد جرى في العراق من الملاحم والفتن ما لم يجر في نجد الحجاز، يعرف ذلك من له اطّلاع على السير والتاريخ، كخروج الخوارج بها الذين قاتلهم أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، وكمقتل الحسين، وفتنة ابن الأشعث، وفتنة المختار وقد ادعى النبوة، وقتال بني أمية لمصعب بن الزبير وقتله، وما جرى في ولاية الحجاج بن يوسف من القتل والسفك وغير ذلك مما يطول عدّه”([14]).
ومما يدلّ على ذلك ما رواه مسلم عن سالم بن عبد الله بن عمر أنه قال: يَا أَهْلَ الْعِرَاقِ، مَا أَسْأَلَكُمْ عَنِ الصَّغِيرَةِ وَأَرْكَبَكُمْ لِلْكَبِيرَةِ! سَمِعْتُ أَبِي عَبْدَ اللهِ بْنَ عُمَرَ يَقُولُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «إِنَّ الْفِتْنَةَ تَجِيءُ مِنْ هَاهُنَا -وَأَوْمَأَ بِيَدِهِ نَحْوَ الْمَشْرِقِ- مِنْ حَيْثُ يَطْلُعُ قَرْنَا الشَّيْطَانِ»([15])، فهو ظاهر في أن المقصودَ نجد العراق وما تلاها من ناحية المشرق.
ويدل عليه أيضا قول النووي رحمه الله: “والمراد بذلك اختصاص المشرق بمزيد من تسلّط الشيطان ومن الكفر كما قال في الحديث الآخر: «رأس الكفر نحو المشرق»، وكان ذلك في عهده صلى الله عليه وسلم حين قال ذلك، ويكون حين يخرج الدجال من المشرق، وهو فيما بين ذلك منشأ الفتن العظيمة ومثار الكفرة الترك الغاشمة العاتية الشديدة البأس”([16]).
الثاني: أنه لو كان المقصود نجد اليمامة فالذم ليس مطلقًا، بل هو مختصّ بما كانت عليه في زمنه صلى الله عليه وسلم قبل أن يسلِم أهلها، كما أنّ مدح اليمن بالإيمان محمول على ما كان في عهده صلى الله عليه وسلم، وقد سبق قول النووي، وأن هذا الذم لأهلها حينما قال النبي صلى الله عليه وسلم ذلك، ولظهور الدجال من قبل المشرق في آخر الزمان، وليس أنه ذمّ مطلق في كل زمان وحال.
وكذا نقل النووي عن القاضي عياض قوله في مدح النبي صلى الله عليه وسلم أهلَ اليمن بالإيمان، فقال: “ثم المراد بذلك الموجودون منهم حينئذ، لا كل أهل اليمن في كل زمان، فإن اللفظ لا يقتضيه”([17]).
وإذا كانت مكّة وهي خير البقاع يسكنها البر والفاجر، وكذلك الشام ونجد والعراق وغيرها من بلاد المسلمين يسكنها البر والفاجر، فكيف يجعل الانتساب لبلد معيّن قدحًا في ذاته؟! قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: “كون الأرض دارَ كفر أو دار إسلام أو إيمان، أو دار سلم أو حرب، أو دار طاعة أو معصية، أو دار المؤمنين أو الفاسقين، أوصافٌ عارضةٌ لا لازمة، فقد تنتقل من وصف إلى وصف، كما ينتقل الرجل بنفسه من الكفر إلى الإيمان والعلم، وكذلك بالعكس. وأما الفضيلة الدائمة فى كلّ وقت ومكان ففي الإيمان والعمل الصالح”([18]).
وما أحسن ما رواه مالك في عن يحيى بن سعيد أن أبا الدرداء كتب إلى سلمان الفارسي أن هَلُمَّ إلى الأرض المقدّسة -يعني بلاد الشام-، فكتب إليه سلمان: “إنّ الأرض لا تقدّس أحدًا، وإنما يُقدِّسُ الإنسانَ عملُهُ”([19]).
الثالث: أن ذمّ بلاد نجد بظهور مسيلمة فيها يقتضي ذمَّ مكة والمدينة لظهور رؤوس الكفر والشرك والنفاق فيها، وهذا باطل بلا شك، قال الشيخ عبد اللطيف في كتابه: “ولا يعيب شيخَنا بدار مسيلمة إلا من عاب أئمّةَ الهدى ومصابيح الدجى بما سبق في بلادهم من الشرك والكفر المبين، وطردُ هذا القول جرأة على النبيين وأكابر المؤمنين”([20]).
الرابع: أن ذم النجديين بمسيلمة هو كمن يذمّ الصحابة لآبائهم الكفار! يقول الشيخ عبد اللطيف رحمه الله: “وهل عاب الله ورسولُه أحدًا من المسلمين أو غيرهم ببلده ووطنه، وكونه فارسيّا أو زنجيّا أو مصريّا من بلاد فرعون، ومحل كفره وسلطته؟! وعكرمة بن أبي جهل من أفاضل الصحابة، وأبوه فرعون هذه الأمة”([21]).
الخامس: أنه قد ظهر في بلاد اليمن الأسودُ العنسي، فهل يقتضي هذا ذمَّ جميع بلاد اليمن ووصف أهلها بالسوء؟! وكذلك هل يُذمّ أهل مصر بسبب فرعون؟! فلماذا جعل ظهور مسيلمة في بلاد نجد منقصةً لأهل نجد مطلقًا في كل زمان؟! يقول الشيخ عبد الرحمن بن حسن رحمه الله: “فلو ذمّ نجد بمسيلمة بعد زواله وزوال من يصدقه، لذُمّ اليمن بخروج الأسود العنسي ودعواه النبوة… وما ضرّ المدينة سكنى اليهود بها، وقد صارت مهاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه ومعقل الإسلام، وما ذمّت مكة بتكذيب أهلها لرسول الله صلى الله عليه وسلم وشدّة عداوتهم له، بل هي أحب أرض الله إليه”([22]).
السادس: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال عن المدينة وأهلها: «إنِّي لَأَرَى الفِتَنَ تَقَعُ خِلالَ بُيُوتِكُمْ كَوَقْعِ القَطْرِ»([23]). قال الشيخ بشير السهسواني: “وهذه الأحاديث وغيرها مما ورد في هذا الباب دالّة على وقوع الفتن في المدينة النبوية، فلو كان وقوع الفتن في موضع مستلزمًا لذمّ ساكنيه، لزم ذمّ سكّان المدينة كلّهم أجمعين، وهذا لا يقول به أحد”([24]).
2- وأما قول ابن داود: “ومنها ما سبق من ذم اليمامة، وشهادة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه لها بشرّ، ودعائهم عليها وعلى أهلها، وأنهم لا يزالون من كذابهم في بلية، وفي لفظ: «لم تزالوا منهم في بلية» فتناولهم شؤم البلد وشؤم صاحب البلد، وشؤم ذي الخويصرة التميمي، ومن المعلوم أن دعاءه عليه السلام ودعاء أصحابه مجاب”([25]).
فقد أجاب عليه الشيخ عبد الرحمن بن حسن رحمه الله فقال: “وأما قول المعترض: منها قوله صلى الله عليه وسلم: «لا يزالون في شر من كذبهم»، فالجواب: أن هذا من جملة كذبه على رسول الله صلى الله عليه وسلم وجهله بالعلم، لا يميز بين الحديث وغيره، وهذا الكلام ورد عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه في نفر من بني حنيفة سكنوا الكوفة في ولاية ابن مسعود عليها، وكانوا في مسجد من مساجدها، فسمع منهم كلمة تُشْعر بتصديق مسيلمة؛ فأخذهم عبد الله بن مسعود، وقتل كبيرهم ابن النواح، وقال في الباقين: لا يزالون في بلية من كذابهم، يعني ذلك النفر، فلا يُذمّ نجد بنفر أحدثوا حدثًا في العراق”([26]).
وقال ابن داود مستدلا على دعواه بجملة من الدلائل الباطلة والحكايات الكاذبة فقال: “وقد ذكر أهل السير وغيرهم أن النبي صلى الله عليه وسلم أوصى أبا بكر رضي الله عنه بقتال بني حنيفة أتباع مسيلمة الكذاب، وقال: «اعلم بأن واديهم لا يزال وادي فتن إلى آخر الدهر، قوم ربا وحيل وقتال وحسد وبغي وقطيعة رحم، يقتل أحدهم عمدًا أخاه وابن عمه»، وفي الحديث المشهور: «أنهم لا يزالون في شر من كذابهم إلى يوم القيامة»“([27]).
وقوله: “ونقل لي المحقّق الضابط الصدوق المشرف علي بن حسين بن مشرف أنه رأى تاريخًا في الهند -الظاهر أنه مروج الذهب للمسعودي أو غيره- فإنه ذكر فيه في قتال بني حنيفة، قال: ويخرج في آخر الزمان في بلد مسيلمة رجل يغيّر دين الإسلام ولا يتعدّى ملكه نجد”([28]).
وقال أيضا: “ومن ذلك ما أسنده بعض الناس عن العباس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم: «سيخرج في ثاني عشر قرنًا في وادي حنيفة رجل كهيئة الثور، لا يزال يلعق براطمه، به قوباء، ويكثر في زمانه الهرج والمرج، يستحلّون أموال المسلمين، ويتخذونها بينهم متجرًا، ويستحلون دماء المسلمين ويتخذونها بينهم مفخرًا، وهي فتنة يغتر فيها الأرذلون والسفل..» ثم قال: وهذا وإن لم نقف له على مخرج فله شواهد كثيرة تقوي معناه”([29]).
فإذا لم يقف له على مخرج ولا سند ولا مصدر، فكيف يعتمد عليه؟! وهذه الأحاديث الباطلة التي ذكرها إنما أوردتها ليعلم القارئ حجمَ الكذب والتلبيس الذي فعله هؤلاء المشايخ من أجل تشويه الدعوة والتنفير عنها ولو بالكذب على النبي صلى الله عليه وسلم، وغالب الظن أن هذه الأحاديث اختلقها بعض الكذابين، وتلقّفها الخصوم وأشاعوها، فإنها موجودة في عامة كتبهم.
3- الرد على ابن داود في ما أورده من النقول عن شيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم رحمهما الله:
شحن ابن داود كتابه بالنقول عن الشيخين؛ ليوهم القارئ أنهما بريئان من دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله.
وما نقله عنهما لا يخرج عن ثلاثة أمور:
الأول: نقول في عدم تكفير أهل البدع، والثاني: نقول في التفريق بين النوع والعين في التكفير، وعدم تكفير المعين إلا بعد إقامة الحجة الرسالية عليه، والثالث: نقول يسيء فهمها أو يحرّف معناها بالبتر والكذب على الشيخين. فهذا هو الجواب الإجمالي عن كل هذه النقول: أن بعضها خارج محل النزاع، والبعض الآخر كذب وسوء فهم.
وقبل أن نبين ذلك بالتفصيل([30]) نورد بعضَ الأقوال الثابتة عن الشيخين، والتي هي بمثابة المحكَم المبين، والتي منها يعرف مذهب الشيخين في المسألة:
1- قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في بيان الشرك الذي يكفر به صاحبه: “وهو نوعان: شرك في الإلهية وشرك في الربوبية. فأما الشرك في الإلهية فهو: أن يجعل لله ندا أي: مثلا في عبادته أو محبته أو خوفه أو رجائه أو إنابته، فهذا هو الشرك الذي لا يغفره الله إلا بالتوبة منه، قال تعالى: {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ}.
وهذا هو الذي قاتل عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم مشركي العرب؛ لأنهم أشركوا في الإلهية، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ} الْآيَةَ، {مَا نَعْبُدُهُمْ إلَّا لِيُقَرِّبُونَا إلَى اللَّهِ زُلْفَى} الْآيَةَ… وأما الربوبية فكانوا مقرين بها، قال الله تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ}، وَقَالَ: {قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ} إلَى قَوْلِهِ: {فَأَنَّى تُسْحَرُونَ}، وما اعتقد أحدٌ منهم قطّ أن الأصنام هي التي تنزل الغيث وترزق العالم وتدبره، وإنما كان شركهم -كما ذكرنا- أن اتخذوا من دون الله أندادًا يحبونهم كحب الله”([31]).
ففي هذا الكلام إثبات لأنواع التوحيد، وإثبات الشرك المستقلّ في الألوهية وإن لم يقترن به الشرك في الربوبية، وبيان أن من دعا غير الله تعالى فقد أشرك في الألوهية، وإن لم يعتقد في من دعاه الربوبية، والاستدلال على ذلك ببيان شرك الجاهلية، وأنهم أقروا بالربوبية، وإنما كان شركهم في الألوهية، وكل هذا هو ما أنكره هؤلاء المخالفون على الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله.
2- وقال رحمه الله: “فمن جعل الملائكة والأنبياء وسائط يدعوهم ويتوكل عليهم ويسألهم جلب المنافع ودفع المضار مثل أن يسألهم غفران الذنب وهداية القلوب وتفريج الكروب وسدّ الفاقات، فهو كافر بإجماع المسلمين”([32]).
وهذا هو محلّ النزاع والخصومة بين الشيخ محمد ومخالفيه، وشيخ الإسلام رحمه الله ينقل إجماع المسلمين على كفر من دعا واستغاث بغير الله تعالى.
وهذا الإجماع نقله عن شيخ الإسلام دون تعقّب أو اعتراض كثيرٌ من الحنابلة، كابن مفلح([33])، والمرداوي([34])، والحجاوي([35])، ومرعي كرمي([36])، ومنصور البهوتي([37])، وقال بعدها: “لأن ذلك كفعل عابدي الأصنام قائلين: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر: 3]”، والرحيباني([38])، رحمهم الله جميعًا.
3- وقال أيضا: “ولو جاء إنسان إلى سرير الميت يدعوه من دون الله ويستغيث به، كان هذا شركًا محرمًا بإجماع المسلمين”([39]).
4- وقال أيضا: “وإن أثبتهم وسائط بين الله وبين خلقه -كالحُجَّاب الذين بين الملك ورعيته- بحيث يكونون هم يرفعون إلى الله حوائج خلقه؛ فالله إنما يهدي عباده ويرزقهم بتوسطهم؛ فالخلق يسألونهم وهم يسألون الله كما أن الوسائط عند الملوك يسألون الملوك الحوائج للناس لقربهم منهم والناس يسألونهم أدبًا منهم أن يباشروا سؤال الملك، أو لأن طلبهم من الوسائط أنفع لهم من طلبهم من الملك؛ لكونهم أقرب إلى الملك من الطالب للحوائج، فمن أثبتهم وسائط على هذا الوجه، فهو كافر مشرك يجب أن يستتاب، فإن تاب وإلا قتل”([40]).
5- وقال ابن القيم رحمه الله: “ومن أنواعه -أي: الشرك الأكبر- طلب الحوائج من الموتى، والاستغاثة بهم، والتوجه إليهم. وهذا أصل شرك العالم؛ فإن الميت قد انقطع عمله، وهو لا يملك لنفسه ضرًّا ولا نفعًا، فضلا عمن استغاث به وسأله قضاء حاجته، أو سأله أن يشفع له إلى الله فيها، وهذا من جهله بالشافع والمشفوع له عنده، كما تقدم، فإنه لا يقدر أن يشفع له عند الله إلا بإذنه، والله لم يجعل استغاثته وسؤاله سببا لإذنه، وإنما السبب لإذنه كمال التوحيد، فجاء هذا المشرك بسبب يمنع الإذن، وهو بمنزلة من استعان في حاجة بما يمنع حصولها، وهذه حالة كل مشرك”([41]).
6- وقال رحمه الله: “ومن أعظم مكايده التي كاد بها أكثر الناس، وما نجا منها إلا من لم يرد الله تعالى فتنته: ما أوحاه قديما وحديثا إلى حزبه وأوليائه من الفتنة بالقبور، حتى آل الأمر فيها إلى أن عُبد أربابُها من دون الله، وعبدت قبورهم، واتُّخذت أوثانا، وبنِيت عليها الهياكل، وصوِّرت صور أربابها فيها، ثم جعلت تلك الصور أجسادًا لها ظلّ، ثم جعلت أصناما، وعبدت مع الله تعالى”([42])
7- وقال أيضا: “فتنة الشرك بالصلاة فى القبور ومشابهة عباد الأوثان أعظم بكثير من مفسدة الصلاة بعد العصر والفجر، فإذا نُهي عن ذلك سدًّا لذريعة التشبه التى لا تكاد تخطر ببال المصلى، فكيف بهذه الذريعة القريبة التى كثيرا ما تدعو صاحبها إلى الشرك ودعاء الموتى واستغاثتهم وطلب الحوائج منهم؟!”([43]).
8- وقال أيضا: “ورأيت لأبي الوفاء بن عقيل في ذلك فصلًا حسنًا، فذكرته بلفظه، قال: لما صعبت التكاليف على الجهال والطغام، عدلوا عن أوضاع الشرع إلى تعظيم أوضاع وضعوها لأنفسهم، فسهلت عليهم، إذ لم يدخلوا بها تحت أمر غيرهم. قال: وهم عندى كفار بهذه الأوضاع، مثل تعظيم القبور وإكرامها بما نهى عنه الشرع من إيقاد النيران وتقبيلها وتخليقها، وخطاب الموتى بالحوائج، وكتب الرقاع فيها: يا مولاي افعل بي كذا وكذا، وأخذ تربتها تبركا، وإفاضة الطيب على القبور، وشد الرحال إليها، وإلقاء الخرق على الشجر، اقتداء بمن عبد اللات والعزى”([44]).
ومن تأمّل كتب هذين الشيخين خصوصًا علم بالقطع براءتهما من مذهب القبوريين أمثال ابن فيروز، وابن عفالق، وابن داود، وزيني دحلان، وأمثالهم ممن حاولوا قطع الصلة بين دعوة الشيخ الإمام، فموهوا على العامة ببعض النقولات المبتورة عن الشيخين؛ لإيهام العامة أن الشيخ الإمام لا سلَف له من أهل العلم، وأن الشيخين -ابن تيمية وابن القيم- على طريقتهم الفاسدة الكاسدة.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(المراجع)
([1]) أي: مع دراسة التفسير والحديث.
([2]) مشاهير علماء نجد وغيرهم -الطبعة الأولى- (ص: 18).
([3]) الدرر السنية في الأجوبة النجدية (4/ 15).
([4]) المجددون في الإسلام -طبعة مكتبة الآداب القاهرة- (ص: 300).
([5]) ينظر: الشيخ محمد بن عبد الوهاب عقيدته السلفية ودعوته الإصلاحية، لأحمد بن حجر آل بوطامي (ص: 94-121). والنقول التي بعده منقولة من هذا الكتاب.
([9]) الصواعق والرعود (ص: 105).
([10]) الصواعق والرعود (ص: 105-107) باختصار.
([11]) رواه البخاري (3511)، ومسلم (2905) واللفظ له.
([13]) الشيخ محمد بن عبد الوهاب (ص: 114).
([14]) الدرر السنية في الأجوبة النجدية (11/ 181).
([16]) شرح النووي على صحيح مسلم (2/ 34).
([18]) مجموع الفتاوى (27/ 45).
([22]) الدرر السنية في الأجوبة النجدية (11/ 182).
([23]) رواه البخاري (1878)، ومسلم (2885).
([24]) صيانة الإنسان (ص: 500).
([25]) الصواعق والرعود (ص: 89).
([26]) المطلب الحميد في بيان مقاصد التوحيد (ص: 78).
([27]) الصواعق والرعود (ص: 70).
([28]) الصواعق والرعود (ص: 71).
([29]) الصواعق والرعود (ص: 83).
([30]) وهو الجزء الثالث من هذه الورقة.
([31]) مجموع الفتاوى (1/ 91) باختصار يسير.
([32]) مجموع الفتاوى (1/ 124).
([38]) مطالب أولي النهى (6/ 279).
([39]) مجموع الفتاوى (23/ 3379).