الخميس - 19 جمادى الأول 1446 هـ - 21 نوفمبر 2024 م

هل هناكَ وحيٌ آخر غير الكُتبِ المنزَّلة؟ حجةٌ أخرى على منكري السُّنة

A A

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة

تمهيد:

جاء النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم من عند ربِّه بالقرآن الكريم، فيه إجاباتُ الأسئلة الوجوديّة الكبرى، وفيه هداية الإنسان لما يصلِحه ويصلح شؤونَه ويعرِّفه بغاية وجودِه ووجود الكون ومآله ومآل الكون، وجاء النبيُّ صلى الله عليه وسلم أيضًا بما يفسِّر القرآنَ الكريم ويبيِّنه ويوضِّحه، ويذكر عباداتٍ شرعها الله سبحانه وتعالى في غير القرآن وذلك في سنته عليه الصلاة والسلام، فالقرآن والسنة مصدرا التَّشريع في الإسلام، لا يُغني أحدهما عن الآخر، بل لا يمكن الفصل بينهما من هذه الجهة، فهما يمثِّلان منظومةً واحدة وهي الوحي من الله سبحانه وتعالى، والسنة النبوية تأتي بعد القرآن الكريم فيما يتعلَّق بالمنزلة والفضل وما إلى ذلك، أما من حيث الحجِّيَّة فإنَّ السنة حجَّة يؤخذ بها كما يؤخذ بالقرآن الكريم.

وقد اتَّفق علماء المسلمين على وجوب الأخذ بالسُّنة كما يجِب الأخذ بالقرآن الكريم، يقول ابن تيمية رحمه الله: “وليعلم أنَّه ليس أحدٌ من الأئمة المقبولين عند الأمَّة قبولًا عامًّا يتعمَّد مخالفةَ رسول الله صلى الله عليه وسلم في شيءٍ من سنَّته؛ دقيق ولا جليل، فإنَّهم متَّفقون اتفاقًا يقينيًّا على وجوب اتباع الرسول صلى الله عليه وسلم، وعلى أن كلَّ أحد من النَّاس يُؤخذ من قوله ويترك إلَّا رسول الله صلى الله عليه وسلم”([1]).

وقد خرم هذه القاعدةَ بعضُ الخوارج، لكن بقي المسلمون في العموم على الأخذ بالسنة النبوية والاعتداد بها والأخذ بأحكامها وتشريعاتها إلى أن نبتت نابتةٌ زعمت عدمَ الحاجة إلى السنة النبوية، بل دَعَت إلى نبذها ورميِها خلف الظهور، بل ادَّعت أن الأخذ بها نوع من الشرك بالله؛ ذلك أننا -بزعمهم- نجعل النَّبي صلى الله عليه وسلم مشرِّعًا مع الله سبحانه وتعالى، وليس هذا الادِّعاء بأول هراءاتِهم ولا آخرها.

وقد قطع الله سبحانه وتعالى عليهم هذا الطريقَ، فأبان بما لا يدع مجالًا للشَّك حجيَّة السنة ووجوبَ الأخذ بها، ووجوب طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم فيما جاء به، ووجوب اتباعه والاقتداء به، ورغم ذلك كان الأريكييون([2]) صمًّا بكمًا تجاه هذه الآيات رغم ادِّعائهم الأخذَ بالقرآن، وتلك دعوى يكذِّبها الواقع وتفضحُها مواقعهم ومناقشاتهم وجدالاتهم، فهم أبعدُ الناس عن القرآن الكريم ومنهجه ونورِه.

وقد ألِّفت كتبٌ كثيرةٌ في بيان حجيَّة السنة([3])، وكُتب فيها من طرق عدّة، من أهمها: بيان الآيات الدالة على وجوب الأخذ بأقواله صلى الله عليه وسلم وأفعاله ووجوب طاعته، ومنها: الأدلة التي وردت في السنة نفسها وهي غير ملزمة لمنكري السنة بالكلية، وفي القرآن ما يقطع قولهم، ومن الأدلة: أخذ المسلمين للسنة جيلًا بعد جيل، ومنها: الأدلة العقلية والواقعية وغير ذلك، ومن الأدلة التي تبين حجية السنَّة وتُظهر دورها في حياة الأنبياء وأممهم: كون ما يقوم مقامَ السنة موجودًا عند الأنبياء قبل النَّبي صلى الله عليه وسلم، فإنَّ النَّبي صلى الله عليه وسلم لم يكن بدعًا من الرسل كما قال تعالى: {قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ} [الأحقاف: 9]، فإذا ثبت أنَّ للأنبياء وحيًا آخر غير كتبهم التي أنزلَت عليهم وكان يجب الأخذ بها دلَّ ذلك على أن لنبيِّنا محمَّد صلى الله عليه وسلم وحيًا أنزل عليه غير القرآن الكريم، وهو ما أثبته القرآن الكريم أيضًا، أعني: أنه أثبت أن للنبي صلى الله عليه وسلم وحيًا من الله غير القرآن الكريم، وكفى بذلك دلالةً، فليس الأمر كما يزعم الأريكيون أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم لم ينزل عليه غير القرآن الكريم، وأنَّ مهمته مجردُ تبليغ القرآن لا تفسيره ولا بيانه، بل الصحيح أنه قد أُنزل عليه غير القرآن كما توضِّحه آيات القرآن نفسه التي سنوردها.

فهذه حجَّة أخرى على المنكرين تضاف إلى الحُجج الراسيات في تثبيت حجية السنة وإبطال القول بإنكارها، بل تعدّ هذه الحجة محوريةً في النقاش مع الأريكيّين، وتعدّ الأرضيةَ الصلبة التي يقف عليها المثبِت؛ لأن واحدًا من أعظم أدلة المنكرين: القول بأنَّ النبي صلى الله عليه وسلم لم يوحَ إليه شيءٌ غير القرآن الكريم.

وفي هذه الورقة المختصرة يمكن الحديث عن هذا الأمر في مسارين:

المسار الأول: هل أوحى الله إلى الأنبياء قبل النبي صلى الله عليه وسلم شيئًا غير كُتبهم؟

يأتي بعض المنكرين ليستدلّوا بقول الله تعالى: {إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا} [النساء: 163]، فيفهمونها على أنَّ الله سبحانه وتعالى لم يوحِ إلى الأنبياء السابقين إلا كتبَهم، وأن الله قد أوحى إلى النَّبي صلى الله عليه وسلم كما أوحى إلى الأنبياء من قبلِه، وأنَّنا مأمورون باتباع ذلك الوحي وهو القرآن الكريم فقط.

وإنَّك ترى في هذا الفهم اختزالًا عجيبًا لمعنى الآية، وهو عادتهم مع الآيات التي فيها ذكرٌ للوحي، فإنَّهم يقصُرون معناها على القرآن الكريم، ثم يلزِمون النَّاسَ بفهمهم هم، مع أنه لا مخصِّص للآيات الكريمات، ففعلهم مجردُ مصادرة على المطلوب، ومع ذلك فإن هذه الآية من أبيَن الآيات الدالة على تثبيت حجيَّة السنة؛ ذلك أنَّ الله سبحانه وتعالى قد بيَّن أنَّ الوحيَ للنبي صلى الله عليه وسلم هو من جنس الوحي للأنبياء السابقين، وقد ثبت في القرآن الكريم أنَّ الأنبياء قبل النَّبي صلى الله عليه وسلم قد أوحى الله إليهم بما ليس في كتبهم، فإذا ثبت وجودُ وحيٍ غير الكتب للأنبياء عليهم السلام فكذلك كان للنبي صلى الله عليه وحي غير القرآن الكريم، وهو ما نراه بيِّنًا في المسار الثاني.

أما عن وحي الله للأنبياء عليهم السلام فمن ذلك ما أوحى الله إلى نبيِّه إبراهيم عليه السلام بذبح ابنه، وكان ذلك الوحي رؤيا رآها، ورؤيا الأنبياء حقّ، وهي جزء من الوحي، يقول تعالى حاكيًا ذلك: {فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَابُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ} [الصافات: 102]، فعن عبيد بن عمير قال: “رؤيا الأنبياء وحي، ثم تلا هذه الآية: {إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ}”([4]). وبغضِّ النظر عن تفسير السلف رحمهم الله -فإنَّ الأريكيين المنكرين لا يرفعون بها رأسًا- فإنَّ السياق يدلّ على أنَّ ذلك وحي ملزِم من الله، ولذلك أخذ إبراهيم عليه السلام ابنه ليذبحَه، وليس ذلك إلا لأنه يعلم أنَّ ذلك وحي، وأنه وحيٌ مُلزِم، فهذا وحيٌ أثبته الله لإبراهيم عليه السلام، وهو في المنام وليس في كتاب.

ومن الأدلة على ذلك أيضًا: أنَّ الله سبحانه وتعالى قد نصَّ على أنه علَّم عيسى عليه السلام التوراة والإنجيل، وهذا طبيعي، فقد بُعث عليه السلام متمِّمًا لشريعة موسى عليه السلام، فالنصارى يأخذون بالتوراة والإنجيل -العهد القديم والجديد-، إلا أنَّ الله سبحانه وتعالى قد نصَّ على شيء زائد وهو: الحكمة، ومن اللطيف أنَّ هذه الكلمة تحديدًا تكررت مع النَّبي صلى الله عليه وسلم، يقول تعالى عن عيسى عليه السلام: {وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ} [آل عمران: 48]، ويقول تعالى: {إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلَى وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ} [المائدة: 110]، ففرَّق الله سبحانه وتعالى هنا بوضوحٍ بين التَّوراة والإنجيل والحكمة، فما هذه الحكمة؟ مهما كان تفسيرنا للحكمة إلا أنَّه لا شكَّ أنَّها زائدة على التوراة والإنجيل، وأنها غيرها؛ لأن العطف يقتضي المغايرة، فثبت أنَّ عيسى عليه السلام له وحيٌ غير الكتاب، فإذا كانت الحكمة عند عيسى عليه السلام تعني وحيًا غير الكتاب فإنَّ الحكمة في الآيات التي تتعلَّق بالنبي صلى الله عليه وسلم هي غير القرآن الكريم، وإلا أصبح تفسير الكلمة في موضع بمعنى وتفسيرها بمعنى آخر لمجرد اختلاف الرسول تفسيرًا عبثيًّا! يقول الطبري رحمه الله في الآية التي تخصّ عيسى عليه السلام: “فـ{يُعَلِّمُهُ الكِتَابَ} وهو الخطّ الذي يخطّه بيده، {وَالحِكْمَةَ} وهي السنة التي يوحيها إليه في غير كتاب”([5])، ويقول البغوي رحمه الله: “قوله: {الكِتَابَ} أي: الكتابة والخطّ، {والحِكْمَةَ}: العلم والفقه، {وَالتَّوْرَاةَ وَالإِنْجِيلَ} علَّمه الله التوراة والإنجيل”([6])، فهي إذن شيء آخر غير التوراة والإنجيل. وإني لأعلم أن المنكِر يضرب بتفاسير السلف عُرض الحائط، إلا أنَّ سياقَ الآية وعطفَ الكلمات بعضها على بعض شاهدٌ واضح على وجودِ وحيٍ غير التوراة والإنجيل.

ومن عجيبِ ما وقفتُ عليه في الاحتجاج بهذه الآية أنَّه حين احتُجَّ بها على منكرٍ للسنة قال: لا شكَّ أنَّه ليس المراد من الحكمة السنة، وإنما المراد تعليم الدين. وكيف يكون تعليم الدين إلا بالوحي من الله سبحانه وتعالى سواء كان بالكتاب أو بدونه، فتعليم الدين ليس هو شيئا غير السنة، فثبت وجود وحيٍ غير الكتاب وهو المطلوب، سواء سماه سنة أو حكمة أو أي شيئًا آخر.

المسار الثاني: هل أوحى الله إلى نبينا محمد صلى الله عليه وسلم شيئًا غير القرآن الكريم؟

المنكرون كثيرًا ما يردِّدون بعضَ الآيات التي فيها بيانٌ أنَّ الله سبحانه وتعالى قد أوحى القرآن إلى نبيِّنا محمد صلى الله عليه وسلم، ويستدلون بها على أنَّ القرآن وحدَه كاف في التشريع ولسنا بحاجة إلى السنة؛ ذلك لأن الله سبحانه وتعالى لم يوحِ إلى نبيِّه شيئًا غير القرآن الكريم، ورغم تجاوز أصحاب هذا القول لعددٍ كبير من الآيات التي تثبت وجوب الأخذ بالسنة، فإنه مع ذلك: استدلالهم غير صحيح، فليس في تلك الآيات حصر للوحي وأنَّه لا وحي إلا القرآن الكريم، ومع ذلك فإن هناك آيات عديدة تنبئنا عن وحيٍ إلى النبي صلى الله عليه وسلم غير القرآن الكريم، وبتأمل هذه الآيات وجمعها يمكن أن نقول: إن الآيات الدالة على وجود وحي غير القرآن الكريم تتبين في الآتي:

أولًا: أنَّ القرآن الكريم قد تحدَّث عن أمرٍ زائد أنزل الله على النَّبي صلى الله عليه وسلم، فالقرآن الكريم حينما يتحدَّث عن نزول الوحي على النبي صلى الله عليه وسلم فإنه يتحدث عن الكتاب وغيره، فما هذا الذي جاء مع القرآن الكريم؟ والآيات في إثبات هذا كثيرة، منها:

1- أنَّ الله سبحانه وتعالى قد أخبر عن نزول ما يبيّن به النبي صلى الله عليه وسلم القرآن، يقول تعالى: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [النحل: 44]، فهنا شيئان أوحِي بهما إلى النبي صلى الله عليه وسلم: القرآن الكريم والذي بين الله سبحانه وتعالى أنه أُنزل على الناس، وما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم ليبين هذا الذي نزِّل على الناس، ولا شك أن ما أوحي إليه هو غير القرآن الكريم، فالمبيِّن غير المبيَّن، يقول البغوي رحمه الله: “{وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} أراد بالذكر الوحي، وكان النَّبي صلى الله عليه وسلم مبينًا للوحي، وبيان الكتاب يطلب من السنة”([7]).

2- أنَّ الله سبحانه وتعالى قد ذكر في آيات كثيرة الحكمةَ، وأنَّه أنزلها مع الكتاب، والعطف يقتضي المغايرة، وليس ذلك في آية أو آيتين، وإنما في آيات كثيرة؛ مما يسترعي الانتباه إلى معنى هذه الكلمة ووجودها مع الكتاب والمراد منها، ومن العجيب أن تجد الأريكيين يمرّون على تلك الآيات مرورًا رغم تشدُّقهم بأنهم وحدَهم المتدبِّرون لكتاب الله، إلا أن تلك الكلمة لا تعنيهم، أو أنهم يفسرونها بطريقة ساذجة ولو أدى ذلك إلى الطعن في القرآن وبلاغته، فإنهم يدَّعون أن الحكمة هي القرآن.

أمَّا الآيات التي جاءت ببيان إنزال الحكمة فعديدة، منها قوله تعالى: {رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [البقرة: 129]، وقوله تعالى: {كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ} [البقرة: 151]، وقوله تعالى: {وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ} [البقرة: 231]، وقوله تعالى: {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} [آل عمران: 164]، وقوله تعالى: {وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا} [النساء: 113]، وقوله تعالى: {وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ} [الأحزاب: 34]، وقوله تعالى: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} [الجمعة: 2].

وإنَّك تجِد التنوعَ في هذه الآيات؛ فمرة يخبر الله بأن النبيَّ صلى الله عليه وسلم يتلو الآيات والحكمةَ، وتارة بأنَّه يعلِّم الكتاب والحكمة، والمهمُّ في هذه الآيات كلِّها هو عطف أحدهما على الآخر، والعطف يقتضي المغايرة، والسياق يدلُّ على ذلك، وتؤكِّد عليه بلاغة القرآن الكريم، ولا يمكن فهمُ هذه الآيات وحمل الحكمة فيها على القرآن الكريم كما يقدِّمه الأريكيون، فإنَّ الله سبحانه وتعالى مرة بعد مرة يؤكِّد أن رسولنا محمدًا صلى الله عليه وسلم قد أُنزل عليه الكتاب وكذلك الحكمة، وأمره بتعليمهما وتلاوتهما، وعلى قول الأريكيين سيكون المعنى: ويعلِّمهم الكتاب والكتاب، ويتلو عليهم الكتاب والكتاب، وأنزل عليكم الكتاب والكتاب، وأنزل الله عليك يا محمَّد الكتاب والكتاب! فهل مثل هذا يتناسب مع بلاغة القرآن الكريم ويتماشى معه؟! إذن فما معنى الحكمة في هذه الآيات؟ وما الحكمة مِن ذكر الحكمة مع ذكر الكتاب؟ ولو كان المعنى هو القرآن الكريم لكان ذكر الكتاب كافيًا. ومن اللطائف أنَّ ذكر الحكمة لم يقتصر على بيان ما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم، بل أثبته الله لغيره من الأنبياء فقال: {وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ} [آل عمران: 48]، وقال: {فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكًا عَظِيمًا} [النساء: 54]، وقال: {إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلَى وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ} [المائدة: 110]، ولستُ أريد التبحُّر في معنى الحكمة، فليس الغرض تثبيت حجية السنة من هذه الجهة، وإنما بيان أن الحكمة غير القرآن الكريم، وقد أثبت الله سبحانه وتعالى إنزالها مع الكتاب، فتبين أن الله سبحانه وتعالى قد أوحى إلى نبيه صلى الله عليه وسلم بغير القرآن الكريم.

ثانيًا: إخبارُ القرآن بأنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قد أخبر أصحابَه بأشياء لم تكن في القرآن الكريم، وهي أمور لا يمكن أن تكونَ من اجتهاده صلى الله عليه وسلم، ومن ذلك قوله تعالى: {إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلَاثَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُنْزَلِينَ} [آل عمران: 124]، فهذه الآية تخبرنا بأنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قد أخبر أصحابه بأن الله سبحانه وتعالى يمدّ المسلمين بثلاثة آلاف من الملائكة، وهو أمر غيبيّ ورقم محدَّد لا يمكِن للنبي صلى الله عليه وسلم أن يجتهِد فيه، ثم إن هذا العدَد لا نجِده في كتاب الله، وإنما نجد أن النبي صلى الله عليه وسلم أخبرهم، فبم أخبرهم؟ أبِاجتهاده أم بوحي منزَّل من الله؟ لا ريب أنَّه بوحي منزَّل من عند الله سبحانه وتعالى؛ لأنه أمرٌ غيبيّ، وهو وحي غير موجود في القرآن الكريم.

ومن ذلك أيضًا قوله تعالى: {وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} [آل عمران: 152]، فقد أخبر الله سبحانه وتعالى أنَّه أنجز وعدَه للمؤمنين في بداية غزوة أحد حتى خالفوا أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأين نجد هذا الوعد في القرآن الكريم؟ فثبت من هذا أنَّه وعدٌ من الله سبحانه وتعالى، إنَّما جاء عن طريق النبي محمد صلى الله عليه وسلم بوحي من عنده، وهو وحي غير القرآن الكريم.

ومثل هذا الوعدِ ما أخبر الله سبحانه وتعالى في غزوة الأحزاب فقال: {وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا} [الأحزاب: 22]، فأخبر الله سبحانه وتعالى أن المؤمنين حين رأوا الأحزابَ قالوا: هذا وعدُ الله، فهل نجد هذا الوعد منه سبحانه في القرآن الكريم، أم أنَّه أتى بالوحي الآخر إلى نبينا محمد صلى الله عليه وسلم؟ لا شك أنَّه الثاني، وأنه إنما جاء في السنة.

ومن الآيات التي تدلُّ على وجود ما هو زائد عن القرآن الكريم في وحي الله لرسوله أنَّ الله سبحانه وتعالى قال: {وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثًا فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِ قَالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هَذَا قَالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ} [التحريم: 3]، فقد بيَّن الله أنَّ نبيَّه محمَّدًا صلى الله عليه وسلم قد أسرَّ إلى إحدى زوجاته بسرٍّ فأفشته، فأخبره الله سبحانه وتعالى بوحيٍ من عنده، فقال: {نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ} [التحريم: 3]، فهل هذا الإنباءُ في القرآن الكريم أم هو في الوحي الآخر الذي جاء من عند الله إلى نبيه محمد صلى الله عليه وسلم؟ والجواب: الثاني.

فهذه الأمور التي أخبر بها النَّبي صلى الله عليه وسلم ممَّا لا يوجد في القرآن الكريم دليلٌ على أنَّ هناك وحيًا آخر غير القرآن الكريم، ولا يتعلَّق هذا الوحي بالأمور الحياتيَّة للنبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين فحسب، بل فيه تشريعات وعبادات، وهو ما يتَّضح في النقطة التالية:

ثالثًا: تشريعات غير موجودة في القرآن الكريم أخبر القرآنُ عنها: فقد ذكر القرآن الكريم عدَّة تشريعات تعبديَّة لم يَرِدِ الأمر بها في القرآن الكريم، ولا يمكن للنَّبي صلى الله عليه وسلم أن يجتهدَ من تلقاء نفسه في تشريع عبادات للأمة؛ إذ إنَّ المشرع هو الله سبحانه وتعالى، فلا ريب أنَّها إذن شُرعَت بوحيٍ من الله سبحانه وتعالى.

ومن ذلك قوله تعالى: {وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ اتَّخَذُوهَا هُزُوًا وَلَعِبًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْقِلُونَ} [المائدة: 58]، فالآية تخبرنا عن النِّداء للصلاة، وهو تشريعٌ موجود بلا ريب، سواء قلنا: إنَّه الأذان وهو الصَّحيح، أو حاول الأريكيون أن يلووا معنى النَّص فيقولوا: لا أذان عندنا في الإسلام! وعلى كل احتمال فإنَّ هناك نداء للصلاة، ومن سوء حظِّ المنكرين أنَّ هذا النداءَ غير مبيَّن في القرآن الكريم، فما هذا النداء؟ وكيف كان المسلمون ينادون بعضَم في الصَّلاة؟ وأين هذا الأمر بالنداء فالآية لا تأمر وإنما تخبر عن أمرٍ واقع؟ ولا جواب إلا بأن نقول: هناك وحيٌ آخر غير القرآن الكريم جاء هذا النِّداء فيه تشريعًا من عند الله سبحانه وتعالى.

ومن الأدلة في هذا الجانب قوله تعالى: {وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ} [البقرة: 143]، فالله سبحانه وتعالى يخبرنا عن قبلةٍ سابقةٍ كان المسلمون يتوجَّهون إليها، والآية ليست أمرًا بالتَّوجه وإنما وصفًا لواقع، ولا ريب أنَّ التوجه عبادة وشريعة، فمن أين أخذ المسلمون هذا التَّشريع؟ وممَّا يؤكد على أن هذا التشريع إنما كان من عند الله أنه نسبه إلى نفسه فقال: {جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ}، ولنترك الأمر للأريكيين أن يستخرجوا لنا آية واحدةً أو نصف آية يأمرنا الله فيها بالتوجه إلى تلك القبلة غير البيت الحرام.

ومن الأدلة في هذا الجانب أيضًا قوله تعالى: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ} [البقرة: 187]، تخبر الآية الكريمة أنَّ الرَّفث إلى النِّساء كان محرمًا، وليس في الآية تحريم ذلك، وإنما هو إخبارٌ عن حال وواقع سابق جاءت هذه الآية لتنسخه إلى الحلّ، فأين نجد هذا التَّحريم في كتاب الله سبحانه وتعالى؟ والتَّحريم أمرٌ شرعي لا يمكن أن يكون عليه المسلمون دون وحي، فهل يمكن للأريكيين أن يأتونا بآية في تحريم ذلك؟! فإن لم يجدوا آية في كتاب الله فلا شكَّ أنَّ ذلك التحريم كان بوحي، وأن ذلك الوحي كان غير القرآن الكريم.

يتلخَّص من هذا أنَّ الله سبحانه وتعالى قد أوحى إلى النَّبي صلى الله عليه وسلم وحيًا غير القرآن الكريم، وكان سبيل معرفتنا لذلك هو القرآن نفسه، فالقرآن يثبت وجود السنة النبويَّة، وليس هذا خاصًّا بالنبي صلى الله عليه وسلم، بل ثبت أن الله سبحانه وتعالى أوحى إلى الأنبياء السابقين أشياء لم تكن ضمن كتبهم المنزلة، وليس النبي صلى الله عليه وسلم ببدع من الرسل في ذلك، ولا يملك الأريكيون في مثل هذه النصوص التي أوردناها إلا أن يضربوا بالبلاغة عُرض الحائط فيقرِّروا أنَّ المراد من الحكمة والنور وما إلى ذلك هو القرآن الكريم حتى وإن أدى هذا القول إلى الطعن في بلاغة القرآن الكريم للتكرار الحاصل، ويلوون النصوص الأخرى الواضحة أيضًا في وجود وحيٍ غير القرآن الكريم، إلا أنَّ لبعضهم اعتراضًا شهيرًا يظنون أنهم به يتخلَّصون من هذه الإلزامات فيقولون: إننا لا ننكر أن هناك أشياء أخرى أوحى الله بها إلى نبيه محمَّد صلى الله عليه وسلم، لكن التشريع مقتصرٌ على القرآن الكريم، وكل ذلك الوحي إلى النبي صلى الله عليه وسلم إنَّما هو في الأمور الدنيوية، ثم يستدلون على مثل ذلك بآيات سورة التحريم وهي قوله تعالى: {وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثًا فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِ قَالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هَذَا قَالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ} [التحريم: 3].

والجواب أن يقال: إنَّ المنكرين حتى في خضمِّ اعتراضهم على هذه النصوص الواضحة المعنى يقعون في نفس ما يقعون فيه دائمًا، وهو أخذ بعض القرآن دون بعض، فإنَّهم حين يستدلّون بآية التحريم وغيرها على أن الله سبحانه وتعالى لم يوحِ إلى النبي صلى الله عليه وسلم بتشريع في غير القرآن فإنَّهم يغضّون الطرف عن الآيات التي تثبت التَّشريع.

فنقول لهم في الجواب: بل الله سبحانه وتعالى قد أثبت في كتابه وحيًا غير القرآن، وأثبته وحيًا ملزِما شريعةً من عند الله، وقد مرَّ بنا قوله تعالى: {وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ} [آل عمران: 152]، فبيَّن الله سبحانه وتعالى أنَّ هناك وعدًا واردًا في غير القرآن الكريم، ثم أخبر أنَّ المسلمين قد تنازعوا في الأمر وعصَوا، فما هذا الأمر الذي تنازعوا فيه؟ لا شكّ أنَّ تلك المعصية التي وردت هي عصيان الرماة لأمر النبي صلى الله عليه وسلم بأن يثبتوا في أماكنهم ولا يتزحزحوا، وقد سمى الله نزولهم من جبل الرماة معصيةً للرسول صلى الله عليه وسلم، ولا يكون ذلك إلا لأنَّ أمره أمر تشريع، فدلت هذه الآية على أن هناك وحيًا غير القرآن الكريم وهو وحي تشريع، وذلك من وجهين:

1- أن الله أثبت لنبيه أمرًا، وذلك الأمر غير موجود في القرآن الكريم.

2- أن الله سبحانه وتعالى أثبت أن مخالفة هذا الأمر معصية، فدل أنه أمر تشريع.

ومما يؤكد الوحي التشريعي في غير القرآن الكريم: ما أوردناه من آيات صريحة تدل على وجود تشريع من غير القرآن مثل الأذان، والتوجّه إلى بيت المقدس، وتحريم الرفث للصائم، فهذه أمور كانت مشروعةً بالوحي التشريعي؛ إذ إنَّها أحكام شرعية، ولا نجد تلك التشريعات في القرآن الكريم.

بل ممَّا يدل على وجود وحي تشريعي: ذلك السؤال الاعتياديّ الذي يُسأله المنكرون في كل حين، وفي كل مرة لهم جواب مختلف، وإلى هذه اللحظة لم يجدوا جوابًا متسقًا صحيحًا مضبوطًا يتفقون عليه، وهو: كيف نعرف تفاصيل الأحكام الشرعية من صلاة وزكاة وصيام وحج وغيرها من العبادات؟ ونرى أن بعض المنكرين يهرب من هذا السؤال إلى أنَّنا عرفنا هذه الأمور بالتواتر العملي، لكن السؤال الذي ينبغي طرحه في هذا الإطار الذي نحن بصدده ليس هو: كيف عرفنا تفاصيل الصلاة والزكاة وغير ذلك؟ لكن: كيف عرف النبي صلى الله عليه وسلم نفسُه بهذه التفصيلات؟ فممَّا لا شكَّ فيه أن القرآن حين ينزل بواجِب من الواجبات كان النبي صلى الله عليه وسلم يقوم به ويؤدّيه، فكيف أدى الصلاة والزكاة والصيام والحج بالطريقة التي أدَّاها لولا أن تفاصيلها قد جاءته بوحي من الله سبحانه وتعالى، وهو وحي غير القرآن الكريم، كما أنَّه وحي تشريعيّ ملزم للنبي صلى الله عليه وسلم ولأمته.

والمنكرون يأتون باعتراض آخر يظنونه اعتراضًا وهو وهم، وهو ناشئٌ عن سوء تصور لقول المثبتين، وهو أن يقولوا: إنَّنا إذا أثبتنا للنَّبي صلى الله عليه وسلم تحليلا وتحريمَ أشياء غير موجودة في القرآن الكريم، فإننا أشركناه بالله وأعطيناه التشريع الذي هو من خصائص الله سبحانه وتعالى!

وهذا مجرَّد فهم سيئ وسوء تصوّر لقول المثبتين، فإنَّهم لا يدَّعون أن هذا من عند النبي صلى الله عليه وسلم، وإنما هي من الله سبحانه وتعالى، كل ما في الأمر أنَّ الوحي جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم بهذه الأمور دون أن تكونَ الألفاظ من عند الله، ودون أن يكون قرآنًا يُتلى، فبلَّغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم أمَّته بقوله وفعله وتقريره، فالنبي صلى الله عليه وسلم حين يورد التَّحليل والتحريم من عنده، فليس ذلك بصفته الشخصية، وإنما لكونه رسولًا من عند الله، ومثل هذا في القرآن الكريم، فقد قال الله سبحانه وتعالى: {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ} [التكوير: 19]، وسواء كان ذلك محمدًا أو جبريل عليهما الصلاة والسلام فالقول ليس قوله، ولكن نسب إليه لكونه مبلِّغًا من عند الله سبحانه وتعالى.

بل يقال: قد أثبت الله هذا التحليل والتحريم للنبي صلى الله عليه وسلم، ولسنا نحن من قلنا بذلك، وذلك في قوله تعالى: {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الأعراف: 157] فالآية فيها أمور، وهي:

  • أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر، ونسب الله ذلك إليه لا إلى القرآن ولا إلى نفسه.
  • أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم يحلِّل ويحرم، وهذا نص ما ينكرونه، وقد نسبهما الله سبحانه وتعالى إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: {وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ} [الأعراف: 157].

وهذا التَّحليل والتحريم الذي ينسبُه الله لنبيه محمَّد صلى الله عليه وسلم إمَّا أن يرد في الوحي الأول وهو القرآن الكريم، أو يرد في الوحي الآخر وهو سنة النبي صلى الله عليه وسلم، فما دام أنه يستوي فيه الأمران وأنه ممكن أن يكون في القرآن أو بوحي آخر فإنَّ حصر هذا الأمر في القرآن الكريم فقط يجب أن يأتوا عليه بدليل صريح واضح، يقصر التحليل والتحريم الذي يأتي به النبي صلى الله عليه وسلم بالقرآن الكريم، وليس ثمة دليل.

وأخيرًا، ما دمنا قد أثبتنا أنَّ الله سبحانه وتعالى قد أوحى إلى الأنبياء قبل نبينا محمد صلى الله عليه وسلم بأشياء من غير كتبهم، وأثبت القرآن الكريم أنَّ الله سبحانه وتعالى قد أوحى إلى نبيِّه بأشياء من غير القرآن الكريم = وجب علينا أن نأخذ بالقرآن كله، أما الأريكيون فإنَّهم مع حرمانهم أنفسَهم من سنة أعظم البشر محمد صلى الله عليه وسلم، فإنهم أيضًا وقعوا في أخذ بعض القرآن دون بعض، وهو ما يبطل ادِّعاءهم اعتناءَهم بالقرآن وتشنيعَهم على غيرهم بأنهم لا يتدبَّرون القرآن، بينما الواقع يشهد أن أبعد الناس عن القرآن الكريم وعن حقيقة أوامره ونواهيه وتشريعاته هم الأريكيون الذين ينكرون سنة النبي صلى الله عليه وسلم، ومن يعرف مواقعهم ونقاشاتهم وجدالاتهم بل وفتاوى كبارهم يدرك جيِّدًا أنهم أبعد الناس عن القرآن وهديه، فلا يأخذون بكل القرآن، وما يأخذونه لا يفهمونه فهمًا سليمًا، والدين الذي أحكمه الله في قرآنه ما هو عندهم إلا دينٌ هلاميّ يشكِّلونه كما يريدون، فلكل واحد منهم دينٌ يتعبَّد اللهَ به، أما مثبتو السنة فقد فازوا بالقرآن والسنة، وبالله ورسوله.

وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(المراجع)

([1]) رفع الملام عن الأئمة الأعلام (ص: 8-9).

([2]) هذا لقب لمنكري السنة النبوية.

([3]) من أهمها كتاب: حجية السنة، لعبد الغني عبد الخالق.

([4]) ينظر: تفسير الطبري (21/ 75).

([5]) تفسير الطبري (6/ 422).

([6]) تفسير البغوي (2/ 39).

([7]) تفسير البغوي (5/ 21).

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

جديد سلف

صيانة الشريعة لحق الحياة وحقوق القتلى، ودفع إشكال حول حديث قاتل المئة

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة المقدمة: إنّ أهلَ الأهواء حين لا يجدون إشكالًا حقيقيًّا أو تناقضًا -كما قد يُتوهَّم- أقاموا سوق الأَشْكَلة، وافترضوا هم إشكالا هشًّا أو مُتخيَّلًا، ونحن نهتبل فرصة ورود هذا الإشكال لنقرر فيه ولنثبت ونبرز تلك الصفحة البيضاء لصون الدماء ورعاية حقّ الحياة وحقوق القتلى، سدًّا لأبواب الغواية والإضلال المشرَعَة، وإن […]

برهان الأخلاق ودلالته على وجود الله

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة مقدمة: إنَّ قضيةَ الاستدلال على وجود الله تعالى، وأنه الربّ الذي لا ربّ سواه، وأنه المعبود الذي استحقَّ جميع أنواع العبادة قضية ضرورية في حياة البشر؛ ولذا فطر الله سبحانه وتعالى الخلق كلَّهم على معرفتها، وجعل معرفته سبحانه وتعالى أمرًا ضروريًّا فطريًّا شديدَ العمق في وجدان الإنسان وفي عقله. […]

التوظيف العلماني للقرائن.. المنهجية العلمية في مواجهة العبث الفكري الهدّام

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة     مقدمة: حاول أصحاب الفكر الحداثي ومراكزُهم توظيفَ بعض القضايا الأصولية في الترويج لقضاياهم العلمانية الهادفة لتقويض الشريعة، وترويج الفكر التاريخي في تفسير النصّ، ونسبية الحقيقة، وفتح النص على كلّ المعاني، وتحميل النص الشرعي شططَهم الفكري وزيفَهم المروَّج له، ومن ذلك محاولتُهم اجترار القواعد الأصولية التي يظنون فيها […]

بين عُذوبة الأعمال القلبية وعَذاب القسوة والمادية.. إطلالة على أهمية أعمال القلوب

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة   مقدمة: تعاظمت وطغت المادية اليوم على حياة المسلمين حتى إن قلب الإنسان لا يكاد يحس بطعم الحياة وطعم العبادة إلا وتأتيه القسوة من كل مكان، فكثيرا ما تصطفُّ الجوارح بين يدي الله للصلاة ولا يحضر القلب في ذلك الصف إلا قليلا. والقلب وإن كان بحاجة ماسة إلى تعاهُدٍ […]

الإسهامات العلمية لعلماء نجد في علم الحديث.. واقع يتجاوز الشائعات

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة مقدمة: لا يخلو زمن من الأزمان من الاهتمام بالعلوم وطلبها وتعليمها، فتنشط الحركة التعليمية وتزدهر، وربما نشط علم معين على بقية العلوم نتيجة لاحتياج الناس إليه، أو خوفًا من اندثاره. وقد اهتم علماء منطقة نجد في حقبهم التاريخية المختلفة بعلوم الشريعة، يتعلمونها ويعلِّمونها ويرحلون لطلبها وينسخون كتبها، فكان أول […]

عرض وتعريف بكتاب: المسائل العقدية التي خالف فيها بعضُ الحنابلة اعتقاد السّلف.. أسبابُها، ومظاهرُها، والموقف منها

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة تمهيد: من رحمة الله عز وجل بهذه الأمة أن جعلها أمةً معصومة؛ لا تجتمع على ضلالة، فهي معصومة بكلِّيّتها من الانحراف والوقوع في الزّلل والخطأ، أمّا أفراد العلماء فلم يضمن لهم العِصمة، وهذا من حكمته سبحانه ومن رحمته بالأُمّة وبالعالـِم كذلك، وزلّة العالـِم لا تنقص من قدره، فإنه ما […]

قياس الغائب على الشاهد.. هل هي قاعِدةٌ تَيْمِيَّة؟!

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة   القياس بمفهومه العام يُقصد به: إعطاء حُكم شيء لشيء آخر لاشتراكهما في عِلته([1])، وهو بهذا المعنى مفهوم أصولي فقهي جرى عليه العمل لدى كافة الأئمة المجتهدين -عدا أهل الظاهر- طريقا لاستنباط الأحكام الشرعية العملية من مصادرها المعتبرة([2])، وقد استعار الأشاعرة معنى هذا الأصل لإثبات الأحكام العقدية المتعلقة بالله […]

فَقْدُ زيدِ بنِ ثابتٍ لآيات من القرآن عند جمع المصحف (إشكال وبيان)

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة مقدمة: القرآن الكريم وحي الله تعالى لنبيّه محمد صلى الله عليه وسلم، المعجزة الخالدة، تتأمله العقول والأفهام، وتَتَعرَّفُه المدارك البشرية في كل الأزمان، وحجته قائمة، وتقف عندها القدرة البشرية، فتعجز عن الإتيان بمثلها، وتحمل من أنار الله بصيرته على الإذعان والتسليم والإيمان والاطمئنان. فهو دستور الخالق لإصلاح الخلق، وقانون […]

إرث الجهم والجهميّة .. قراءة في الإعلاء المعاصر للفكر الجهمي ومحاولات توظيفه

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة مقدمة: إذا كان لكلِّ ساقطة لاقطة، ولكل سلعة كاسدة يومًا سوقٌ؛ فإن ريح (الجهم) ساقطة وجدت لها لاقطة، مستفيدة منها ومستمدّة، ورافعة لها ومُعليَة، وفي زماننا الحاضر نجد محاولاتِ بعثٍ لأفكارٍ منبوذة ضالّة تواترت جهود السلف على ذمّها وقدحها، والحط منها ومن معتنقها وناشرها([1]). وقد يتعجَّب البعض أَنَّى لهذا […]

شبهات العقلانيين حول حديث: (إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم)

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة مقدمة: لا يزال العقلانيون يحكِّمون كلامَ الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم إلى عقولهم القاصرة، فينكِرون بذلك السنةَ النبوية ويردُّونها، ومن جملة تشغيباتهم في ذلك شبهاتُهم المثارَة حول حديث: «الشيطان يجري في ابن آدم مجرى الدم» الذي يعتبرونه مجردَ مجاز أو رمزية للإشارة إلى سُرعة وقوع الإنسان في الهوى […]

شُبهة في فهم حديث الثقلين.. وهل ترك أهل السنة العترة واتَّبعوا الأئمة الأربعة؟

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة حديث الثقلين يعتبر من أهمّ سرديات الخطاب الديني عند الشيعة بكافّة طوائفهم، وهو حديث معروف عند أهل العلم، تمسَّك بها طوائف الشيعة وفق عادة تلك الطوائف من الاجتزاء في فهم الإسلام، وعدم قراءة الإسلام قراءة صحيحة وفق منظورٍ شمولي. ولقد ورد الحديث بعدد من الألفاظ، أصحها ما رواه مسلم […]

المهدي بين الحقيقة والخرافة والرد على دعاوى المشككين

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة   مقدمة: صحّ عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «قَدْ تَرَكْتُكُمْ عَلَى الْبَيْضَاءِ لَيْلُهَا كَنَهَارِهَا، لَا يَزِيغُ عَنْهَا بَعْدِي إِلَّا هَالِكٌ»([1]). ومن رحمته صلى الله عليه وسلم بالأمه أنه أخبر بأمور كثيرة واقعة بعده، وهي من الغيب الذي أطلعه الله عليه، وهو صلى الله عليه وسلم لا […]

قول النبي صلى الله عليه وسلم: (لو كان الإيمان منوطًا بالثريا، لتناوله رجال من فارس) شبهة وجواب

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة  يقول بعض المنتصرين لإيران: لا إشكالَ عند أحدٍ من أهل العلم أنّ العربَ وغيرَهم من المسلمين في عصرنا قد أعرَضوا وتولَّوا عن الإسلام، وبذلك يكون وقع فعلُ الشرط: {وَإِن تَتَوَلَّوْاْ}، ويبقى جوابه، وهو الوعد الإلهيُّ باستبدال الفرس بهم، كما لا إشكال عند المنصفين أن هذا الوعدَ الإلهيَّ بدأ يتحقَّق([1]). […]

دعوى العلمانيين أن علماء الإسلام يكفرون العباقرة والمفكرين

للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة عرفت الحضارة الإسلامية ازدهارًا كبيرًا في كافة الأصعدة العلمية والاجتماعية والثقافية والفكرية، ولقد كان للإسلام اللبنة الأولى لهذه الانطلاقة من خلال مبادئه التي تحثّ على العلم والمعرفة والتفكر في الكون، والعمل إلى آخر نفَسٍ للإنسان، حتى أوصى الإنسان أنَّه إذا قامت عليه الساعة وفي يده فسيلة فليغرسها. ولقد كان […]

حديث: «إِنَّ أَحَدَكُمْ لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ الجَنَّةِ» شبهة ونقاش

من أكثر الإشكالات التي يمكن أن تؤثِّرَ على الشباب وتفكيرهم: الشبهات المتعلِّقة بالغيب والقدر، فهما بابان مهمّان يحرص أعداء الدين على الدخول منهما إلى قلوب المسلمين وعقولهم لزرع الشبهات التي كثيرًا ما تصادف هوى في النفس، فيتبعها فئام من المسلمين. وفي هذا المقال عرضٌ ونقاشٌ لشبهة واردة على حديثٍ من أحاديث النبي صلى الله عليه […]

تغاريد سلف

جميع الحقوق محفوظة لمركز سلف للبحوث والدراسات © 2017