عرض وتعريف بكتاب ” دراسة الصفات الإلهية في الأروقة الحنبلية والكلام حول الإثبات والتفويض وحلول الحوادث”
للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة
تمهيد:
لا شك أننا في زمن احتدم فيه الصراع السلفي الأشعري، وهذا الصراع وإن كان قديمًا منحصرًا في الأروقة العلمية والمصنفات العقدية، إلا أنه مع ظهور السوشيال ميديا والمواقع الإلكترونية والانفتاح الذي أدى إلى طرح الإشكالات العلمية على مرأى ومسمع من الناس، مع تفاوت العقول وتفاضل الأفهام، ووجود من لم يتأسّس في مباحث الاعتقاد، خرج جيل يتكلم بغير فهم، ويحكم بغير عدل، فاحتدم الصراع وكثر الجدل العقدي في جملة من القضايا التي تحتاج إلى تحرير، ومنها قضية اعتقاد الحنابلة والأثرية، لا سيما في مبحث الأسماء والصفات وما تفرع منها من مسائل، وتحرير محل النزاع فيها، وتصويرها تصويرًا صحيحًا، وبيان جذورها المعرفية، بعيدًا عن الشطط أو الإفراط والتفريط.
فجاء هذا الكتاب، ليحرّر جملة من هذه المصطلحات، وتصويرها تصويرًا صحيحًا، من خلال منهج علميّ رصين، قام على التتبع والاستقراء، مع تفكيك هذه المصطلحات وإرجاعها إلى أصلها، ثم إعادة تركيبها مرة أخرى.
ولما كان شيخ الإسلام ابن تيمية رمزًا وعلمًا في هذا الرواق القضائي والنزاع السلفي الأشعري كان لا بد من حضوره في هذا السياق، لكن المؤلف لم يجعله حكمًا ولا قاضيًا، إنما جعله شاهدًا تارة، ومدافعًا تارة، ومشاهدًا أخرى، ثم ترك الحكم لصالح ابن تيمية أو عليه للقارئ الكريم ليصل لنتيجة هذا النزاع بنفسه.
المعلومات الفنية للكتاب:
عنوان الكتاب: دراسة الصفات الإلهية في الأروقة الحنبلية والكلام حول الإثبات والتفويض وحلول الحوادث.
اسم المؤلف: علاء حسن إسماعيل.
دار الطباعة: تبصير للنشر والتوزيع، القليوبية، جمهورية مصر العربية.
رقم الطبعة وتاريخها: الطَّبعة الأولَى، عام 1443هـ/ 2022م.
حجم الكتاب: يبلغ عدد صفحاته (368) صفحة، في مجلد واحد.
أهمية البحث وأسباب الكتابة فيه:
تكمن قيمة هذا البحث في كون المؤلف يؤرِّخ للفكر العقدي وتطوره داخل الرواق الحنبلي من جانب، ومن جانب آخر يقوم بتفكيك التصورات المغلوطة عن علماء الحنابلة التي تضعهم كلهم في بوتقة واحدة في مقابل شيخ الإسلام ابن تيمية، فهو يفكِّك تلك الصورة باستمرار طوال الكتاب، ثم يُعيد تركيبها مبحثًا بعد مبحثٍ وفصلًا بعد فصل؛ لتظهر لك الصورة العقدية لعلماء الحنابلة بمختَلف طبقاتهم واضحة.
لا شك أنَّه لا يمكن الحكم على الأفكار قبل التثبت من النقل أولًا، ثم معرفة السياق الحجاجي الذي نشأ من خلاله هذا الفكر، ثم القضية الخطيرة وهي قضية “المصطلح” أي: كيف تم التعبير عن ذلك الفكر؟ وما مصطلحاته؟ وما تحمِله من مضامين؟ هذا الأمر له حضور كبير في تلك الدراسة التي تلِج إلى عمق المذهب الحنبلي العقدي، لا بوصف الحق كامن في ذلك المذهب، ولكن بوصف الحالة السجالية العقدية التي أحدثها المذهب الحنبلي العقدي أمام الأطروحة الجهمية والأشعرية، لا سيما بعد مرحلة شيخ الإسلام ابن تيمية واستعماله لمفردات كان منها ما هو غريب عن الوسط الحنبلي العقدي، وإن كانت مضامين تلك المفردات موجودة في المذهب الحنبلي كما أثبت المؤلف.
فتأتي أهمية هذا الكتاب بوصفه حائطَ صدّ أمام الاستدعاء المعاصر -من بعض الحنابلة- لمذهب متأخري الحنابلة كالقاضي أبي يعلى الذي وجدوا فيه بديلًا مناسبًا للأطروحة التيمية والأشعرية على السواء.
مع الأخذ في الاعتبار أن البحث وإن كان مخصصًا للحنابلة، إلا أنه لم يغفل أقوال أهل الحديث والأثرية، وإن كانوا من مذاهب فقهية أخرى، أمثال السجزي وابن خزيمة وابن قتيبة وابن عبد البر وغيرهم كثير في أثناء البحث.
موضوع البحث:
هذا البحث مخصص لمبحث “الصفات الإلهية” وإشكالاتها، استطاع المؤلف تحرير الكثير من المصطلحات التي دار الخلاف حولها، كقضية التفويض، والأفعال الاختيارية، وحلول الحوادث.
عرض مجمل لما اشتمل عليه الكتاب:
قسم الكتاب إلى ثلاثة أبواب:
الباب الأول: الإثبات عند الحنابلة، وفيه أربعة فصول:
الفصل الأول: تحرير مسألة التفويض:
بدأ المصنف في هذا الفصل بقضية مركزية في مصنفه، وهي تحرير المصطلحات مع تفكيكه لمسألة التفويض، مُبينا الخطأ الذي كان يحصل في المسألة نتيجة تناولها مجملة من غير تفصيل، وإظهار إشكالية مهمة وهي ورود ألفاظ توهم التفويض ممن تُعلم عقيدته السلفية، ومثَّل بالشيخ محمد بن عبد الوهاب وولده عبد الله والشيخ محمود شكري الآلوسي وغيرهم.
وأرجع المؤلف السبب في ذلك إلى أن مسألة التفويض التي يتجاذبها طلبة العلم لم تكن مطروحة ومشتهرة عند الأثرية بهذه الصورة إلا بعد الاعتناء بمصنفات شيخ الإسلام ابن تيمية في القرن الماضي. وإن كان الأشاعرة استخدموا التفويض استخداما كلاميا.
وهنا يؤكِّد الباحث على اعتبار العامل الزمني وتأثيره على المصطلحات دقةً وخفاء واشتهارًا واندثارًا، وهي لا شك اعتبارية مهمة في البحث العقدي المعاصر.
الفصل الثاني: تحرير التفويض المذموم:
في هذا الفصل يبدأ الباحث في تحرير مفهوم التفويض، ويمايز بينه وبين التفويض المذموم، ثم تستمر إشكالية المصطلحات لبعض أقوال الحنابلة الذين يعدّون فيها الصفات من المتشابه، أو قول بعضهم عن آيات الصفات: (بلا معنى) أو (بلا تفسير)، لنجد أنَّ الأمر أوسع مما يتبادر إلى الذهن، وأنَّ قصدهم له تعلق بمنع الكيفية في فهم الصفات، ومن هنا يبدأ الكتاب في توضيح الفروق الدقيقة بين تفويض الأشاعرة وتفويض الحنابلة.
الفصل الثالث: مسألة القدر المشترك:
القدر المشترك هو القدر الذي إذا نُفي كان الأمر تعطيلًا محضًا، وليس القصد منه مماثلة الخالق للمخلوق، وهذا القدر المشترك لابد منه؛ ففي أحيانٍ كثيرة لا يعرف الإنسان القول الصحيح ومآلاته إلا إذا عرف المذهب المقابل له.
وهنا بين الباحث خطأ الكثير من المعاصرين في تخطئة ابن تيمية في هذه المسألة مستدلًا على ذلك بكلام الكثير من أئمة الأشاعرة والحنابلة ونظارهم ممن يثبتون هذا القدر المشترك ويؤصلون له ويقررونه، مبينًا معايير معرفة السلف وأئمة الحديث بمعاني الصفات.
الفصل الرابع: إشكالية المصطلحات:
يأتي هذا الفصل ليبين فيه المؤلف بوضوح مصدر الخلل الذي أدى إلى سوء الفهم، وهو أن ثمة قناعة غير صحيحة شِبه متعارف عليها عند كثير من طلبة العلم المعاصرين، وهي الظن أن تقريرات ابن تَيميَّة العقدية وتقسيماته الاصطلاحية هي تقسيمات مستقرة ومطردة منذ عصور ما قبل التقعيد العلمي (عصور أهل الحديث الأولى ومن بعدهم في الطبقات الوسطى) كمصطلح صفات الفعل وصفات الذات، والقديم والحادث، والمعنى والكيف وغير ذلك، وأن أئمة أهل الإثبات المحض تتفق طريقتهم وعباراتهم مع طريقة وعبارات ابن تَيميَّة أو أنهم يلتزمون بها.
وبناء على هذا الظن -غير الدقيق- يقوم المُعاصر بتقييم العلماء -قبل وبعد ابن تَيميَّة- ومحاكمتهم بظواهر كلام ابن تَيميَّة، وهو ما يُؤدي إلى كوارث يصعب حصرها داخل في الرواق العلمي.
والصواب -كما يقول المؤلف- أن تقسيمات ابن تَيميَّة وتحريراته العقدية هي تقسيمات استقرائية لأحوال السلف وأئمة الحديث وتصرفاتهم -خلال عصور مختلفة- مع تفاضل عبارات هؤلاء الأئمة من حيث جودة العبارة، ومدى دقتها في الدلالة، واختلافاتهم في جزئيات غير مطردة.
ويُمكن تمثيلها بتحريرات الشافعي الأصولية، وهي قولبة لطريقة فقه الصحابة والتابعين وفقهاء الأمصار، ولا يلزم أن أفراد الفقهاء من الصحابة والتابعين -ممن سبقوا الشافعي- يلتزمون بنفس مصطلحات الشافعي أو يلتزمون بذكر نفس المصطلح الأصولي عند المتأخرين في كل حال، على الرغم من أن كُنه مذاهبهم تدور حول تلك التأصيلات الأصولية بلا شك، حتى ولو خالف آحاد الفقهاء في آحاد المسائل فهي مخالفات غير مطردة.
ويرجع المؤلف بعض التصورات المغلوطة إلى أن المخالف يفهم ابن تيمية من خلال السلفي الذي هو بدوره قد لا يكون قد فهم ابن تيمية فهمًا دقيقا، فينتج من ذلك غلط على غلط.
في هذا الفصل أجاد المؤلف في التمثيل ببعض الأخطاء المنهجية في قضية المصطلحات مثل: (خطأ التلازم بين نفي التفسير والتفويض) و(المتشابه والتفويض) و(وصف الأفعال بالقديمة أو صفة الذات، ونفي الأفعال).
وقد أجاد الرد على دعوى أن معنى اليد في اللغة هي الجارحة، مبينا زيف تلك الدعوى من كلام أئمة اللغة الذين صرحوا أن الجارحة قيلت على سبيل المجاز وليست هي حقيقة اليد.
ثم جاء بأمثلة على من وصف الأفعال بأنها قديمة، مثل الدارمي المعروف عنه إثبات الأفعال الاختيارية، ومع ذلك وصف الأفعال بصفة الذات القديمة، مما يدل أنه لا تلازم بين استخدام مصطلح القديم وبين نفي الفعل الاختياري بالضرورة.
والسبب في ذلك -كما يرى المؤلف- أن بعض أهل الحديث استخدموا مصطلح (القديم وصفة الذات)، وقصدوا بها أن الأفعال غير منفصلة عن الذات كنوع من الرد على الجهمية الذين يجعلونها مخلوقة منفصلة عن الذات.
فعدم إدراك مقاصد العلماء ودراسة التاريخ العقدي الاصطلاحي هو السبب الرئيس في وقوع الإشكالات المعاصرة.
الباب الثاني: حلول الحوادث والأفعال الاختيارية، وفيه تسعة فصول:
الفصل الأول: طرائق المذاهب في الفعل الاختياري:
يؤكد المؤلف أن نصوص الوحي مِن أولها إلى آخرها متضمنة أن الله يفعل في وقت دون وقت، ويتكلم في حينٍ دون حين؛ فكلَّم آدم بعد أن خلقه ولم يكلِّمه قبل ذلك، وكلَّم موسى عندما جاء ميقات ربه، وكلَّم محمدًا ليلة المعراج، وسيكلِّم عبادَه المتقين يوم القيامة.
وفي حديث الشفاعة الطويل حينما يهرع الناس يوم القيامة إلى الأنبياء يقول كل نبي: «إن ربي قد غضب اليوم غضبًا لم يغضب قبله، ولن يغضب بعده مثله».
والمذاهب الرئيسة هي:
1- مذهب الأشعرية: أن فعل الله مخلوق منفصل عنه.
2- مذهب الكلابية والسالمية وبعض الحنابلة: أن الأفعال قديمة لا تتعلق بالمشيئة.
3- المذهب الصحيح (السلف وجمهور أهل الحديث): أن أفعال الله متجدّدة غير مخلوقة.
وهنا ملحظ لطيف، وهو أن بعضهم يستخدم مصطلح القديم وينفي الحدوث كالحسن بن حامد، وبعضهم لا يجد غضاضة من وصف الأفعال بالحدوث مثل الكرجي القصاب، مؤكدًا فكرته برسم جدول مقارنة بين هذين الإمامين ليؤكد الفكرة لدى القارئ.
الفصل الثاني: التفرقة بين الحادث والمخلوق:
بين الباحث في هذا الفصل أن ابن تيمية لم يكن هو أول من فرق بين الحادث والمخلوق، بل سبقه الكثير من أئمة السلف في ذلك أمثال: الإمام محمد بن إسماعيل البخاري، وابن قتيبة الدينوري، والإمام الكرجي القصاب، والإمام أبي نصر السجزي الوائلي، رحمة الله على الجميع.
الفصل الثالث: موقف الأشاعرة من صفات الأفعال:
الأشاعرة ينفون الصفات الاختيارية، وهنا وقعوا في إشكالية بأن قالوا: إن الخلق هو المخلوق، والفعل هو المفعول، فقالوا عن حروف القرآن: مخلوقة، ومعنى ذلك أن صفة الفعل لا تقوم بالله تعالى.
وهذا أوقعهم في التناقض والسفسطة، ورجع قولهم إلى قول الجهمية كما قال ذلك البخاري في (خلق أفعال العباد)، ورد عليهم السجزي، وتسبب ذلك في حيرة الرازي.
الفصل الرابع: مصطلح حلول الحوادث عند ابن تيمية:
فنّد الباحث مقولة من ينسب إلى شيخ الإسلام ابن تيمية أنه يقول بقول الكرامية في مسألة حلول الحوادث، مبينًا أن شيخ الإسلام يعتبر هذه المصطلحات من المصطلحات الكلامية المبتدعة، قائلًا بشكل صريح: “ولا ريب أن أهل السنة والحديث لا يطلقون عليه أنه محل للحوادث، ولا محل للأعراض ونحو ذلك من الألفاظ المبتدعة”.
الفصل الخامس: إشكالية صفة الكلام عند الحنبلية بعد القرن الرابع:
وفي هذا الفصل وهو الأكثر دقة وحساسية، وهو الفصل الخاص بالخلاف الحنبلي الحنبلي في صفة الكلام، حاكيًا حدوث نزاعات تاريخية، قام برصدها وتحليلها.
الفصل السادس: ردود بعض الحنابلة على القاضي أبي يعلى.
الفصل السابع: قدم أصوات القارئين للقرآن:
تعرض المؤلف إلى دعوى مخالفة ابن تيمية للمتقدمين في قِدم القرآن، وهو الخلاف الأكثر حساسية في الرواق العقدي، وكثير من الباحثين يهابُ ولوجه لدقته، إلا أن المؤلف تجاسر وكسر حاجز الخوف، وأجاد فيه إجادة قوية، وأجاب بوجوه كثيرة جدا إلى الحد الذي يروي ظمأ من يريد الوقوف على حقيقة الأمر.
ثم عرّج على فساد قول مدرسة القاضي في صفة الكلام، والغلو الذي قادهم إلى القول بأن صوت القارئ هو صوت الله تعالى.
الفصل الثامن: متى ظهرت بدعة نفي الكلام بالمشيئة؟
ساق المؤلف بعض النزاعات التي حدثت في صفة الكلام، ومن أهم تلك النزاعات التاريخية ما حصل بين ابن خزيمة وتلاميذه في صفة الكلام. وأيضا ما حكاه غلام الخلال عن خلاف أصحاب أحمد في هذه المسألة الدقيقة.
كان المؤلف مُنصفًا في نقل الخلاف، إذ لم يستبعد أن يحصل الخلاف في الطبقة الأولى من أصحاب أحمد؛ لأن الهدف من الكتاب كما يرى هو بيان الحقائق كما هي بعدل وإنصاف.
وأن حدوث الخلاف لا يُعدّ شبهة، وذلك لأن ابن خزيمة أسبق تاريخا من غلام الخلال، وقد حدث في زمنه تنازع أيضا.
الفصل التاسع: إشكالية تعاقب الحروف:
إشكالية تعاقب الحروف التي ظهرت بعد القرن الرابع الهجري ناقشها بعض العلماء كالسجزي وابن عقيل، ومن الواضح أن ابن عقيل -بعد عودته إلى السنة- قد وُفق إلى حد كبير للجواب عن تلك الشبهة، بعكس السجزي الذي التزم نفي تعاقب الحروف ولو على سبيل المحاججة.
ويوضح المؤلف أنه لا تلازم أبدًا بين نفي تعاقب الحروف وبين نفي الأفعال بالضرورة، فابن تيمية يعتبر السجزي ممن يثبتون الأفعال الاختيارية. ودعّم المؤلف وجهة نظره بكلام للشيخ أبابطين النجدي في نفي التعاقب أيضا. واستدل المؤلف بذلك على غلط من قرن بين الأمرين، ولا تلازم بينهما.
الباب الثالث: عقائد الحنابلة وفق طبقاتهم:
أما الباب الثالث والأخير فهو يقارب نصف الكتاب تقريبًا، مما يعني أن البابين الأول والثاني يتقاسمان النصف الأول. ولا غرابة في ذلك، فالباب الثالث مَعنيٌّ بطبقات الحنابلة وعقائدهم، وهو الأمر الذي يحتاج إلى شرح وبيان.
وقد قسمهم إلى ثلاث طبقات:
طبقة المتقدمين: بداية من الإمام أحمد وينتهون إلى الحسن بن حامد.
طبقة المتوسطين: بداية من القاضي أبي يعلى إلى ما قبل المرداوي.
طبقة المتأخرين: بداية من المرداوي إلى عصرنا.
فيبدأ بالطبقة الأولى مبتدئا بالإمام أحمد وبيان طريقته في تحقيق معاني الصفات، ومُجيبًا على رواية: (لا كيف ولا معنى) التي تلوكها ألسنة المعاصرين دون جمع رواياته في الباب.
ثم يختار بعض النماذج من المتقدمين كحرب الكرماني وعبد الوهاب الوراق، ثم ابن بطة وابن شاقلّا والحسن بن حامد.
وهذه الطبقة لم ينقل عنهم مخالفات في العقيدة إلا شيء من الزيادة في الإثبات عند بعضهم كإثبات الحركة والانتقال والمماسة.
أما الطبقة الثانية -ويبدؤون من القاضي أبي يعلى- فيُبدع المؤلف في الكلام عنها، مُزيفًا الظن الشائع الذي يقول بأن هذه الطبقة كلهم من المفوضة، ويأتي بأدلة كثيرة على وجود الجرأة في الإثبات حتى عند أتباع مدرسة القاضي.
وقد أفرد مبحثا للقاضي وحده لجلالته في المذهب، وهو ما يزيد هذا الكتاب أهمية، حيث تتبع المؤلف شخصية القاضي بالتحرير والتحليل، وذكر تراجعاته وتناقضاته في الباب، ثم ختم بجدول مقارنة بين القاضي وابن تيمية.
أما الخط الأثري مثل ابن منده والهروي وابن عبد الغني وابن قدامة فقد أفردهم في فصل كامل، وأهم ما يميز هذا الفصل هو مبحث الشيخ الموفق ابن قدامة، فقد تناول موقف الموفق من الأفعال الاختيارية واستخدام الموفق لفظة (القديم) في وصف الحروف ونفي تعاقب الحروف، وكذا موقف ابن تيمية من الموفق، كل هذا ناقشه المؤلف مناقشة مُوسعة جدًّا، إلى الحد الذي يُشبع فيه من أراد الوقوف على الحقيقة دون اجتزاء.
وأرجع الباحث تضارب الأقوال في ابن قدامة إلى الخطأ الشهير في الأوساط المعاصرة الذي ذكره في الباب الأول، وهو محاكمة العلماء بمصطلحات شيخ الإسلام ابن تيمية، والتي هي مصطلحات تحقيقية لبيان الاشتباه عند المتكلمين، ولا يلزم أن الأثرية ممن سبقوا ابن تيمية يلتزمون بها. وإنما يُعرف مذهبهم بجملة أحوالهم وتصرفاتهم في الباب.
أما الحنابلة المتأخرون -ويبدؤون من الإمام المرداوي- فقد غلب عليهم الطابع الفقهي، وأصبح الجانب العقدي أمرًا عارضًا؛ لأسباب كثيرة منها السجن والتنكيل، والانشغال بتحرير المذهب الفقهي، وإن كان التأثير التيمي ظاهرًا لديهم بنسب مختلفة.
حتى جاء علماء الجزيرة العربية بعد القرن الثالث عشر الهجري، فأخرجوا تراث شيخ الإسلام ابن تيمية، وانتفع الناس بتحقيقهم التراثي وإخراجهم لكتب أهل الحديث.
وساق بعض الأمثلة ليثبت التأثير العقدي التيمي في متأخري الحنابلة، فذكر الرحلة العياشية؛ ليثبت أن رسائل ابن تيمية في العقيدة معتمدة عند المتأخرين من الحنابلة، ثم ذكر تقريرات متأخري المذهب مثل علاء الدين المرداوي، وجمال الدين بن المبرد، وابن النجار الفتوحي، وأحمد البعلي، وابن بلبان، ومرعي الكرمي، وعثمان النجدي، والسفاريني.
ثم ساق بعض الأسئلة المنتشرة في الرواق الحنبلي، وأجاب عنها، مثل:
هل يوجد معتمد عقدي عند الحنابلة؟
لماذا خالف المتأخرون ابن تيمية في بعض المسائل؟
كيف يتعامل الحنابلة مع فكرة المعتمد؟
مميزات الكتاب:
سَواء اتفقت مع رؤية المؤلف أو اختلفت معه، فالكتاب يعتبر نقلة نوعية في الجدل العقدي المُعاصر، ليس على منوال كثير من الكتب المعاصرة التي ترتكز في أبحاثها على شيخ الإسلام ابن تيمية.
ومن تلك الأمور التي تُميز الكتاب:
1- تحرير المصطلحات وتصويرها تصويرًا صحيحًا، بعيدًا عن الجمود والتقليد الحاصلين في خطابات الموافقين والمخالفين.
2- مراعاة البعد الزمني والمكاني عند تحرير هذه المصطلحات، وتأثيره على المصطلحات دقةً وخفاء واشتهارًا واندثارا.
3- تذليل المسائل العقدية الصعبة وتسهيلها ليفهمها القارئ، ليتدرج به شيئا فشيئا إلى ما هو أعلى، فامتاز المؤلف بسهولة العبارة والتدرج حتى يفهم المسائل الصعبة بغير إخلال بالمقصود. كذلك تفكيك المسائل وتحرير محل النزاع وجرد شامل للأوهام التي تقع في هذه المسائل.
4- إثبات الحق في المسائل المُشكلة دون جعل ابن تيمية حكمًا على غيره، أو أصلًا يُحتكم إليه، بل حضور ابن تيمية في هذا الكتاب كان كحضور الشاهد لا كحضور القاضي.
5- الإشارة إلى أهمية دراسة التاريخ العقدي وتطور الفكر الجدلي عند أهل الحديث مما يُسهل توضيح الصورة كاملة لطالب العلم، دون اجتزاء يُسبب خللًا فيما بعد.
6- قضية المصطلحات قضية مركزية للكتاب والتطور التاريخي للمصطلح، فقد يؤثر العامل الزمني على المصطلح دقةً وخفاء، اشتهارًا واندثارا.
7- أشار المؤلف إلى أهمية معرفة مراتب الخلاف العقدي، وأن العقيدة تنقسم إلى أصول وفروع، أو كما قال ابن تيمية: الأصول الكبار، والمسائل الدقيقة. فالمسائل الكبار لا خلاف فيها بين أهل الحديث، وهي مُضمَّنة في المختصرات العقدية، وأما المسائل الدقيقة فحصل فيها نوع خلاف بعد القرن الرابع الهجري، وإن كانت هذه المسائل الحقّ فيها واحد ولا يسوغ فيها الخلاف، إلا أن الخطأ فيها وارد، ولا يوجب المُفارقة العقدية بالضرورة.
وغياب هذا التأصيل كان يُسبب خللًا عند بعض طلبة العلم، حيث ينظر الطالب إلى العقيدة على أنها قالب واحد لا يتجزأ، وإذا وجد عالما من العلماء يخالف ابن تيمية في مسألة دقيقة يحصل له نوع شُبهة، ويظن أن ابن تيمية يخالف أهل الحديث من جهة، أو يبدع هذا الإمام الذي خالف الحق من جهة أخرى.
والخلل هنا يكمن في عدم إدراك مراتب مسائل الاعتقاد والظن أنها في رتبة واحدة.
بالنهاية هذا الكتاب من الدراسات المتميزة التي تعتنى بتحرير المسائل، وكذا كثرة النقل من كتب الحنابلة والأثرية، ويرصد بدقة تحولات الحنابلة في دقيق المسائل العقدية، ومن الجميل في الكتاب عمل جداول مقارنات عقدية مفيدة بين أعلام المذهب الحنبلي واختياراتهم العقدية حتى لا ينفرط عقد انتباه القارئ.
والحمد لله رب العالمين.