إغاظـة اللئام بتلقِيبِ ابن تيمية بشيخِ الإسلام
للتحميل كملف PDF اضغط على الأيقونة
المقدّمة
ابن تيمية رحمَه الله شخصيةٌ عظيمة من الشَّخصيات الإسلامية، ومهما اختلفت المواقف تجاهه يتَّفق الجميع على أنه شخصية أثْرت كثيرًا على الصعيد العلمي والفكري، وأثَّرت تأثيرًا قويًّا في مسار التَّفكير الإسلامي، ولئن كانت عبقرية الأئمَّة تبرز في إبداعهم في فنٍّ من الفنون فإنَّ عبقرية ابن تيمية رحمه الله تظهر في براعته في فنونِ الشريعة كلّها، يقول الذهبي عنه: “سمِع الْحَدِيث، وأكثر بنفسه من طلبه، وكتب وخرّج، ونظر فِي الرِّجال والطبقات، وحصَّل مَا لَمْ يحصِّله غيره. برع فِي تفسير الْقُرْآن، وغاص فِي دقيق معانيه بطبعٍ سيَّال، وخاطرٍ إِلَى مواقع الإِشكال ميَّال، واستنبط منه أشياء لَمْ يسبق إِلَيْهَا. وبرع فِي الْحَدِيث وحفظه، فقلَّ من يحفظ مَا يحفظه من الْحَدِيث، معزوًّا إِلَى أصوله وصحابته، مَعَ شدة استحضاره له وقت إقامة الدليل. وفاق النَّاس فِي معرفة الفقه، واخْتِلاف المذاهب، وفتاوى الصَّحَابَة والتابعين، بحيث إنَّه إِذَا أفتى لَمْ يلتزم بمذهب، بَل يقوم بِمَا دليله عنده. وأتقن العربية أصولًا وفروعًا، وتعليلًا واخْتِلافًا. ونظر فِي العقليَّات، وعرف أقوال المتكلّمين وَرَدَّ عَلَيْهِم، وَنبَّه عَلَى خطئهم، وحذَّر مِنْهُم، ونصر السُّنة بأوضح حجج وأبهر براهين”([1]). ويقول الداوودي: “وأمدَّه الله بكثرة الكتب، وسرعة الحفظ، وقوَّة الإدراك والفهم، وبُطء النسيان، حتى قال غير واحد: إنَّه لم يكن يحفظ شيئًا فينساه”([2]).
ولم تكن هذه نظرةَ الموافقين له فحسب، بل حتى المخالفين له، يقول ابن مخلوف([3]) عنه: “ما رأينا مثلَ ابن تيمية، حرَّضنا عليه فلم نقدِر عليه، وقدر علينا فصفَح عنا وحاجج عنا”([4]). ويحكي ابن حجر عن مخالفي ابن تيمية فيقول: “ولقد قام على الشيخ تقيِّ الدين جماعةٌ من العلماء مرارًا بسبب أشياء أنكروها عليه من الأصول والفروع، وعُقدت له بسبب ذلك عدَّة مجالس بالقاهرة وبدمشق… ومع ذلك فكلُّهم معترف بسعة علمه، وكثرة ورعه وزهده، ووصفه بالسخاء والشجاعة، وغير ذلك من قيامه في نصر الإسلام، والدعاء إلى الله تعالى في السِّرِّ والعلانية“([5]).
فمكانته في سياق الفكر الإسلامي مكانة عظيمة، أثَّرت في من بعده على مدى قرون طويلة حتى يومنا هذا، يقرُّ بهذا الموافق والمخالف.
تمهيد:
ذكر بعضُ أَصْحَاب التواريخ أَنَّ الزَّعفراني أَرَادَ أَن يشهِّر نَفسَه في الْآفَاق، فاكترى رجلًا على أَن يخرج إلى مَكَّة ويسبّه ويلعنه في مواسم مَكَّة؛ ليشتهر ذكره عِنْد حجيج الْآفَاق([6]).
وكم بيننا ممَّن يتدثَّر بدثار الزعفراني ممَّن يريد أن يشتهر ذكرُه ويرتفع قدره، فيرمي علماء أهل السنة والجماعة بافتراءاتٍ هو يعلم أنَّها أكاذيب؛ لكن شهوة القلب تطغى على حكمة العقل، فيتهم العلماء، ويطعن في الصالحين، ولا يكون له من همٍّ في حياته إلا ذلك، وكم نرى من هؤلاء بيننا ممَّن يتسلّقون ظهور هؤلاء العلماء ليتبوّؤوا مكانةً ليست لهم، ويتطفَّلوا على العلم الشرعي وليسوا مؤهّلين علميًّا ولا أخلاقيًّا له.
ومن ذلك تلك الهجمات التي تطال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله بين الفينة والأخرى، فتارة ببتر مواقفه وإظهارها بغير حقيقتها، وتارةً بتحميل كلامه ما لا يحتمل، وتارة بالطَّعنِ فيه لمجرَّد الطَّعن لا أكثر!
ومن تلك الطَّعنات تشنيع بعضهم على ابن تيمية رحمه الله وعلى أهل السنة بسبب تلقيبه بشيخ الإسلام، وهو لقبٌ وإن كان لا يقدِّم ولا يؤخِّر في قيمته العلمية وفكره وآرائه وجهاده العلمي، إلا أنَّ من لا يجد عيبًا يتمسَّك بأدنى طعنٍ ليطعن، بل وصل الأمر إلى أن وسم بعضُهم بالكفر كلَّ من لقَّب ابن تيمية بشيخ الإسلام!
وكان حامل لواء هذا التَّكفير: العلاء البخاري([7])، وقد طعن في الإمام محيي الدين النووي وقال عنه: “لا يجوز النَّظر في كتبه، وإنه رجل ظاهري”([8])، أمَّا ابن تيمية رحمه الله فإنَّ العلاء البخاريَّ قد كفَّر من وسمه بشيخ الإسلام، وقال: “من سمَّى ابن تيمية شيخَ الإسلام كان كافرًا، لا تصحّ الصلاة وراءه“([9]).
وكان هذا بعد أن بدَّع شيخ الإسلام بل كفَّره، يقول السَّخاوي: “كَانَ يُسْأَل عَن مقالات ابْن تَيْمِية الَّتِي انْفَرد بهَا، فيجيب بِمَا يظْهر من الْخَطَأ فِيهَا، وينفر عَنهُ قلبه، إِلَى أَن استحكم أمره عَنهُ، وَصرَّح بتبديعه ثمَّ بتكفيره، ثمَّ صارَ يُصَرِّح فِي مَجْلِسه بِأَنَّ من أطلق على ابْن تَيْمِية أَنَّه شيخ الْإِسْلَام يكفر بِهَذَا الْإِطْلَاق“([10]). وهناك من يحذو حذوه، ويقتفي أثره، ويدَّعي أنَّ تلقيب ابن تيمية بشيخ الإسلام غير مقبول، بل هو من الغلوّ فيه رحمه الله.
وفي هذه الورقة سنحاول أن نقف مع هذا التشنيع عدَّة وقفات([11]).
الوقفة الأولى: معنى لقب (شيخ الإسلام):
ذكر العلماء للقب (شيخ الإسلام) معانيَ عدّة، منها أنَّه يُطلق على من شاب في الإسلام، وعلى من سلك الجادَّة في اتّباع الدين، وعلى من بلغ العُلى في اتِّباع الكتاب والسنة، واحتجَّ بهما، ودافع عنهما، وهذا الأخير هو الذي اصطلح عليه أهل العلم، فلا يُطلقون شيخ الإسلام إلا له، قال ابن ناصر الدين وهو يذكر معاني (شيخ الإسلام): “مِنْهَا أَنه شيخ فِي الإسلام قد شَاب، وَانْفَرَدَ بذلك عَمَّن مضى من الأتراب، وَحصل على الْوَعْدُ المبشّر بالسلامة أَنَّه «من شَاب شيبَة فِي الإسلام فَهِيَ لَهُ نور يَوْم الْقِيَامَة». وَمِنْهَا مَا هُوَ فِي عرف الْعَوام أَنَّه الْعدّة، ومفزعهم إِلَيْهِ فِي كل شدَّة. وَمِنْهَا أَنَّه شيخ الإسلام بسلوكه طَريقَة أَهله، قد سلم من شَرِّ الشَّبَاب وجهله، فَهُوَ على السنة فِي فَرْضه ونفله. وَمِنْهَا شيخ الإسلام بِالنِّسْبَةِ إِلَى دَرَجَة الْولَايَة، وتبرك النَّاس بحياته فوجوده فيهم الْغَايَة”([12]).
ثم بين رحمه الله ما نروم إيضاحه من أنه يُطلق على العلماء الشرعيين ممَّن بلغوا في العلم مرتبة سامقة، وأنَّه إذا أطلق هذا اللقب عند أهل العلم فإن ما ذكرناه هو المقصود، فقال: “مَعْنَاهُ الْمَعْرُوف عِنْد الجهابذة النُّقاد الْمَعْلُوم عِنْد أَئِمَّة الإسناد أَنَّ مَشَايِخ الإسلام وَالْأَئِمَّة الأعلام هم المتبعون لكتاب الله عز وَجل، المقتفون لسنة النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، الَّذين تقدمُوا بِمَعْرِفَة أَحْكَام الْقُرْآن ووجوه قراءاته، وَأَسْبَاب نُزُوله، وناسخه ومنسوخه، وَالْأَخْذ بِالْآيَاتِ المحكمات، والإيمان بالمتشابهات، قد أحكموا من لُغَة الْعَرَب مَا أعانهم على علم مَا تقدم، وَعَلمُوا السّنة نقلًا وإسنادًا، وَعَملا بِمَا يجب الْعَمَل بِهِ اعْتِمَادًا، وإيمانًا بِمَا يلْزم من ذَلِك اعتقادًا، واستنباطا لِلْأُصُولِ وَالْفُرُوع من الْكتاب وَالسّنة، قَائِمين بِمَا فرض الله عَلَيْهِم، مُتَمَسِّكِينَ بِمَا سَاقه الله من ذَلِك إِلَيْهِم، متواضعين لله الْعَظِيم الشأن، خَائِفين من عَثْرَة اللِّسَان، لَا يدَّعونَ الْعِصْمَة، وَلَا يفرحون بالتبجيل، عَالمين أَن الَّذِي أُوتُوا من الْعلم قَلِيل، فَمن كَانَ بِهَذِهِ الْمنزلَة حُكم بِأَنَّهُ إِمَام، وَاسْتحقّ أَن يُقَال لَهُ: شيخ الإسلام“([13]).
وقال السخاوي رحمه الله مؤكّدًا نفس المعاني: “أمَّا شيخ الإسلام فهو يطلق -على ما استُقرئ من صنيع المعتبرين- على المتَّبع لكتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، مع المعرفة بقواعد العلم، والتبحُّر في الاطلاع على أقوال العلماء، والتَّمكُّن من تخريج الحوادث على النُّصوص، ومعرفة المعقول والمنقول على الوضع المرضيِّ، وربما وُصِفَ به مَنْ بلغ درجة الولاية، وتبرك الناس به حيًّا وميتًا، وكذا مَنْ سلك في الإسلام طريقة أهله، وسَلِمَ من شِرَةِ الشباب وجهله، وكذا من صار هو العُدَّةَ والمفزع إليه في كل شدَّة كما هو مراد العامة، وقد يوصف به من شاب في الإسلام، وانفرد عن أقرانه بطول العمر، ودخل في عداد «من شاب شيبة في الإسلام كانت له نورًا»“([14]).
وكان يطلق هذا الاسم إطلاقا عرفيًّا على من ولي رئاسة القضاة في الدولة العثمانية، قال بكر أبو زيد: “وهذا اللقب: (شيخ الإسلام) له إطلاقات ثلاثة:
الإطلاق الأول: يُطلق على من عظُم مقامه في الإسلام في العلم والإيمان، مثل: الموفَّق وابن تيمية في الحنابلة.
الإطلاق الثاني: في الدولة العثمانية، كان يطلق في زمن الجراكسة على من ولي رئاسة القضاة -قاضي القضاة-، وكان آخر من تولى ذلك في مصر من الحنابلة: أحمد بن عبد العزيز الفُتُوْحِي. وكان من ولي الفتيا في تونس يطلق عليه: (شيخ الإسلام)، منهم شَيخ الإسلام بيروم.
الإطلاق الثالث: إطلاقه تساهلًا للتكثُّر وهذا كثير”([15]).
وقد بينَّا أن هذا اللقب في اصطلاح علماء الإسلام يطلق على المتبحِّر في العلم الشرعي، يقول عبد الرحمن بن قاسم: “والسَّلف لا يطلقون (شيخ الإسلام) إلا على المتَّبع لكتاب الله وسنة رسوله، مع التبحر في العلوم من المعقول والمنقول”([16]).
ويقول أحمد بن بدران: “ومِن اصْطِلَاح الْفُقَهَاء التَّسْمِيَة بشيخ الْإِسْلَام، وَكَانَ الْعرف فيما سلف أَنَّ هَذَا اللَّفْظ يُطلق على من تصدَّر للإفتاء وَحلِّ المشكلات فِيمَا شجر بَين النَّاس من النزاع وَالْخِصَام من الْفُقَهَاء الْعِظَام والفضلاء الفخام، كشيخ الْإِسْلَام أَحْمد ابن تَيْمِية الْحَرَّانِي، وَصَاحب الْمُغنِي وَغَيرهمَا”([17]).
ويتلخص من كلام العلماء أن هذا اللقب يطلق على من جمع عدة سمات من أهمها:
1- أن يكون متبعًا للكتاب والسنة، عارفًا بعلومهما من علم القراءات والنَّاسخ والمنسوخ، وأسباب النزول، ومعرفة الصحيح والضَّعيف من الحديث، والقدرة على الردِّ على الشبهات التي تثار عليهما.
2- أن تكون له معرفة بقواعد العلوم.
3- أن يكون متبحرا في الاطلاع على كلام العلماء، عالِمًا بآثارهم.
4- أن يكون قادرًا على الاستنباط من الكتاب والسنة، وبناءً عليه فإنه يجب أن يكون عالِمًا بعلوم الآلة التي تساعده على ذلك.
الوقفة الثانية: حكم إطلاق هذا اللقب:
هذا اللَّقب كما هو واضح لقبٌ تبجيلي تعظيميّ، من ألقاب التزكية كشمس الدين ومحيي الدين. وألقاب التزكية عمومًا من المباحات في الأصل، فقد قيل للأوس والخزرج: أنصار، وهو لقب تزكية، وكذا لقَّب النبي صلى الله عليه وسلم عمر بن الخطاب بالفاروق([18]).
وإن كان العلماء كرهوه لما فيه من تعظيمٍ وتبجيل، فيَكره العالم تلقيبَه به تواضعًا، وقد نُقل عن الإمام النووي أنَّه كان يكره أن يلقِّبه أحد بمحيي الدين، ويقول: “لا أجعل من دعاني به في حلٍّ”([19])، وعلَّل النووي تغيير النبي صلى الله عليه وسلم لاسم برة بنت أبي سلمة بأنَّ فيه تزكية([20]).
وذكر ابن القيم رحمه الله كراهية التسمّي بألقاب التزكية فقال: “وفي الحديث أنَّه كره أن يقال: خرج من عند برة، مع أنَّ فيه معنى آخر يقتضي النهي وهو تزكية النفس بأنه مبارك ومفلح وقد لا يكون كذلك”([21]).
وقال البهوتي حين عدَّ ما يُكره من الأسماء: “وكذا ما فيه تزكية كالتقي والزكي، والأشرف، والأفضل، وبرة، قال القاضي: وكل ما فيه تفخيم أو تعظيم”([22]).
فألقاب التَّزكية تكرَه من باب أن فيها هذا المدحَ الذي قد لا يكون متوفّرًا فيمن لُقِّب بها، ويظهر هذا جليًّا في تعليلات العلماء، فإنِ انتفى هذا الظن كان لا بأس بإطلاقه، وإن كان الأولى أن لا يتوسَّع فيه، وفي هذا يقول ابن تيمية رحمه الله: “ثم بعد هذا أحدثوا الإضافةَ إلى الدّين وتوسَّعوا في هذا، ولا ريب أن الذي يصلح مع الإمكان هو ما كان السلف يعتادونه من المخاطبات والكنايات، فمن أمكنه ذلك فلا يعدل عنه إن اضطر إلى المخاطبة، لا سيّما وقد نهي عن الأسماء التي فيها تزكية، كما غير النبي صلى الله عليه وسلم برة فسمَّاها زينب؛ لئلا تزكِّي نفسها، والكناية عنه بهذه الأسماء المحدثة خوفا من تولد شرّ إذا عدل عنها، فليقتصر على مقدار الحاجة، ولقبوا بذلك لأنه عَلَم محض لا تُلمَح فيه الصفة، بمنزلة الأعلام المنقولة مثل: أسَد وكَلب وثَور. ولا ريب أن هذه المحدثات التي أحدثها الأعاجم وصاروا يزيدون فيها فيقولون: عز الملة والدين، وعز الملة والحق والدين، وأكثر ما يدخل في ذلك من الكذب المبين بحيث يكون المنعوت بذلك أحقّ بضدّ ذلك الوصف، والذين يقصدون هذه الأمور فخرًا وخيلاء يعاقبهم الله بنقيض قصدهم، فيذلهم ويسلّط عليهم عدوَّهم، والذين يتّقون الله ويقومون بما أمرهم به من عبادته وطاعته يعزّهم وينصرهم، كما قال تعالى: {إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ} [غافر: 51]”([23]).
وقال البكري: “ولا بأس بالألقاب الحسنة، فلا يُنهى عنا لأنها لم تزل في الجاهلية والإسلام”([24]).
ويتلخص من هذا أن الأصل إذًا أنَّها لا ينبغي أن تُطلق لما فيها من تزكية، وقد يكون فيها إدخال للغرور لمن أطلقت عليه، لكن من أطلق عليه الناس اللقب ولم يكن ذلك بطلب منه وكان مستحقًّا لذلك ساغ.
وقد سئل الشيخ ابن عثيمين رحمه الله عن لقب (شيخ الإسلام)، فأجاب بقوله: “لقب (شيخ الإسلام) عند الإطلاق لا يجوز، أي: إنَّ الشيخ المطلق الذي يرجع إليه الإسلام لا يجوز أن يوصف به شخص؛ لأنه لا يعصم أحد من الخطأ فيما يقول في الإسلام إلا الرسل. أما إذا قصد بشيخ الإسلام أنَّه شيخٌ كبير له قدم صدق في الإسلام فإنه لا بأس بوصف الشيخ به وتلقيبه به”([25]).
الوقفة الثالثة: ليس ابن تيمية رحمه الله أول من لُقِّب بشيخ الإسلام:
سبق ابنَ تيمية كثيرٌ من علماء الإسلام ممن لقِّبوا بهذا اللقب، ونُسب ذلك إلى أبي بكر وعمر رضي الله عنهما، فقد ذكر الباقلاني ذلك فقال: “ورَوَوا عن جعفرِ بنِ محمد أنه رَوى عن أبيهِ قال: قالَ رجل لعليّ: يا أميرَ المؤمنين، سمعتك تقولُ في الخُطبةِ أيضا: اللهمَ أصلحنا كما أصلحتَ به الخلفاءَ الراشدينَ المهديين، فمن هم؟ فاغرورَقت عيناهُ ثمَّ أهَملهُما، وقال: هما حبيبايَ وعمَّاكَ أبو بكرٍ وعمرُ رضي الله عنهُما، إماما الهُدى وشيخَا الإسلامِ ورجلا قريشٍ المقتدى بهما بعدَ رسول اللهِ صلى اللهُ عليهِ وسلم”([26]). وأورد هذه الرواية اللالكائي بسنده([27])، وأوردها ابن العشاري الحنبلي بسنده([28]).
كما أن البيضاوي رحمه الله نقل قصة تلقيب أبي بكر وعمر بهذا اللقب، فقال في تفسير قوله تعالى: {وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ} [البقرة: 14]: “روي أن ابن أبيّ وأصحابه استقبلهم نفر من الصحابة، فقال لقومه: انظروا كيف أردّ هؤلاء السفهاء عنكم، فأخذ بيد أبي بكر رضي الله عنه فقال: مرحبًا بالصديق سيّد بني تيم، وشيخ الإسلام وثاني رسول الله في الغار الباذل نفسه وماله لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم”([29]).
وقال السخاوي رحمه الله: “ولم تكن هذه اللفظة مشهورة بين القدماء بعد الشيخين: الصِّديق والفاروق رضي الله عنهما، الوارد وصفهما بذلك عن علي رضي الله عنه فيما ذكره المحب الطبري في (الرياض النضرة) له بلا إسناد، عن أنس رضي الله عنه، قال: جاء رجل إلى عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه فقال: يا أمير المؤمنين، سمعتك آنفًا تقول على المنبر: اللهم أصلحني بما أصلحت به الخلفاء الراشدين المهديين، فمن هم؟ قال: فاغرورقت عيناه وأهملهما، ثم قال: أبو بكر وعمر رضي الله عنهما، إماما الهدى وشيخا الإسلام، ورجلا قريش، والمقتدى بهما بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، من اقتدى بهما عُصم، ومن اتبع آثارهما هُدي إلى صراط مستقيم، مَنْ تمسَّك بهما، فهو من حزب الله، وحزبُ الله هم المفلحون”([30]).
وتلقيب أبي بكر وعمر رضي الله عنهما بهذا اللقب قد ضعفه عدد من العلماء، فما نقله البيضاوي قال عنه عبد الحي الكتاني: “والقصة خرّجها الواحدي، وقال ابن حجر: منكر، وذكر إسنادها وقال: هو سلسلة الكذب لا سلسلة الذهب”([31]). وأما ما نقله السخاوي عن تلقيب أبي بكر وعمر بهذا اللقب فقد ضعفه بكر أبو زيد وقال: “ذكره المحب الطبري في (الرياض النضرة) بلا إسناد، وعنه السخاوي في (الجواهر والدرر)، وعنه الكتاني في (التراتيب الإدارية) لكنه لا يصح”([32]).
وممن وُصف بهذا اللقب من الصحابة أيضًا عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، وصفه به الذهبي([33]).
ومهما يكن فإنّ التلقيب بشيخ الإسلام قديم، ومن أقدم من عرفناه لقب بذلك: أحمد بن يونس، لقبه بذلك أحمد بن حنبل رحمه الله، قال ابن حجر رحمه الله: “قال أحمد بن حنبل لرجل: اخرج إلى أحمد بن يونس فإنَّه شيخ الإسلام”([34])، وكانت وفاته عام سبعة وعشرين ومائتين.
وممَّن لُقِّب بذلك: الإمام أبو إسحاق إبراهيم بن إسحاق البغدادي المتوفى سنة خمس وثمانين ومائتين([35])، والإمام أبو عبد الله المروزي المتوفى سنة أَربع وَتِسْعين وَمِائَتَيْنِ([36])، والإمام ابن خزيمة المتوفى سنة إِحْدَى عشرَة وثلاثمائة([37])، والإمام أبو النضر محمد الطوسي الشافعي المتوفى عام أربع وأربعين وثلاثمائة([38])، وغيرهم كثير.
وقد قال ابن ناصر الدين: “وَإِذا نَظرنَا فِي مَشَايِخ الإسلام بعد طبقَة الصَّحَابَة وجدنَا مِنْهُم خلقا بِهَذِهِ المثابة، رَأينَا أَن نذْكر الْآن مِنْهُم عِصَابَة”([39])، ثم ذكر جماعة كبيرة منهم حسب البلدان.
كما عقد السخاوي مبحثًا في (الجواهر والدرر) عمن اشتهر بلقب شيخ الإسلام، فعدَّ منهم عددًا([40]).
فإن كان قد وسم عدد كبير من العلماء عبر العصور بهذا اللقب، فهل يكفِّر العلاء البخاريُّ كلَّ من رضي بهذا اللقب على مر العصور، أم أن إحنته على ابن تيمية رحمه الله، هو ما جعله يقول بهذا القول؟!
وبناءً على رأي العلاء ومن تبعه يلزمهم تكفير كثير من الناس على مرّ العصور ممن تواردوا على تلقيب هؤلاء العلماء بهذا اللقب أو رضُوا به، وليس هذا متعلقًا بالعوام فقط، بل مرّ بنا أنَّ أحمد بن حنبل لقب غيره بهذا اللقب.
الوقفة الرابعة: توارد علماء كبار على تلقيب ابن تيمية رحمه الله بشيخ الإسلام:
منهم ابن سيد الناس، وابن عبد الهادي، والذهبي، وابن رافع، وابن نجيح، وابن القيم، وابن كثير، بل من المخالفين لمسلك ابن تيمية رحمه الله مَن لقَّبه بهذا اللقب، منهم الزملكاني([41])، قال ابن ناصر الدين: “وَقد روي واشتهر وَذكر وانتشر مَا كتبه الشَّيْخ كَمَال الدّين ابْن الزملكاني على كتاب (بَيَان الدَّلِيل على بطلَان التَّحْلِيل) تأليف ابْن تَيْمِية، وَهُوَ مَا نَصه: من مصنفات سيدنَا وَشَيخنَا وقدوتنا الشَّيْخ الإِمَام الْعَالم الْعَلامَة الأوحد البارع الْحَافِظ الزَّاهِد الْوَرع الْقدْوَة الْكَامِل الْعَارِف تَقِيّ الدّين شيخ الْإِسْلَام سيد الْعلمَاء قدوة الْأَئِمَّة الْفُضَلَاء نَاصِر السّنة قامع الْبِدْعَة حجَّة الله على الْعباد راد أهل الزيغ والعناد أوحد الْعلمَاء العاملين آخر الْمُجْتَهدين أبي الْعَبَّاس أحْمَد بن عبد الْحَلِيم بن عبد السَّلَام بْن عبد الله بْن أبي الْقَاسِم بن مُحَمَّد ابْن تَيْمِية”([42]).
وصلاح الدين العلائي([43]) قال: “أخبرنَا شَيخنَا وَسَيِّدنَا شيخ الإسلام تَقِيّ الدّين أَبُو الْعَبَّاس أحْمَد بن عبد الْحَلِيم بْن عبد السَّلَام ابْن تَيْمِية”([44]).
وابن رسلان البلقيني([45]): “كَانَ شيخ الْإِسْلَام ابْن تَيْمِية مرّة يلقِي درسا فَذكر مَسْأَلَة قَالَ عَنْهَا: هَذِه مَسْأَلَة لَيست فِي كتاب، فَقَالَ بعض من كَانَ يناوئه وَلم يسمّه: هَذِه فِي ألف كتاب، فَكَانَ شيخ الإسلام ابْن تَيْمِية إذا عرضت تِلْكَ المسأله فِي دروسه يَقُول: هَذِه لَيست فِي كتاب، ثمَّ يَقُول: وَقَالَ الْكذَّاب: هَذِه فِي ألف كتاب”([46]). وغيرهم كثير.
فتوارد العلماء من الموافقين والمخالفين على تلقيبه بهذا اللقب ينفي عدم استحقاقه له، ويوجب على من يقول بذلك أن يتّهم هؤلاء العلماء كلَّهم على مر العصور ممن تواردوا على ذلك.
وأخيرًا: مهما طعنَ الطاعنون في ابن تيمية رحمه الله فإنه يبقى كما قال ابن حجر رحمه الله: “وشهرة إمامة الشَّيْخ تَقِيّ الدّين أشهر من الشَّمْس، وتلقيبه بشيخ الْإِسْلَام بَاقٍ إِلَى الْآن على الْأَلْسِنَة الزكية، وَيسْتَمر غَدا كما كَانَ بالْأَمْس، وَلَا يُنكر ذَلِك إِلَّا من جهل مِقْدَاره، أو تجنب الْإِنْصَاف، فَمَا أغلطَ من تعاطى ذَلِك وَأكْثر عثاره… فكيف لا ينكر على من أطلق أنه كافر، بل من أطلق على من سماه (شيخ الإسلام) الكفر؟! وَلَيْسَ فِي تَسْمِيَته بذلك مَا يَقْتَضِي ذَلِك، فَإِنَّهُ شيخ مَشَايِخ الْإِسْلَام فِي عصره بِلَا ريب“([47]).
وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(المراجع)
([1]) ينظر: ذيل طبقات الحنابلة (4/ 496-497).
([3]) كان ممن يعادي ابن تيمية، وكان هو ونصر المنبجي من بعثا بالرسالة التي كانت السبب في عقد المجالس عن عقيدته، وقرئت فيها الواسطية. انظر: البداية والنهاية (18/ 53).
([4]) ينظر: البداية والنهاية (18/ 95).
([5]) تقريظ ابن حجر على كتاب الرد الوافر (ص: 247).
([6]) ينظر: الفرق بين الفرق (ص: 197).
([7]) هو محمد بن محمد العجمي، ولد سنة 779هـ، ونشأ ببخارى، واستوطن مصر، وكان يطعن في ابن تيمية والنووي، توفي سنة 841هـ. انظر ترجمته في: الضوء اللامع لأهل القرن التاسع (9/ 291)، والرد الوافر (ص: 21-23).
([8]) ينظر: الرد الوافر (ص: 21).
([9]) ينظر: الرد الوافر (ص: 21).
([10]) الضوء اللامع لأهل القرن التاسع (8/ 104).
([11]) ابن ناصر الدين الدمشقي رد على العلاء البخاري بكتابه: “الرد الوافر على من زعم بأن من سمى ابن تيمية بشيخ الإسلام كافر” وفي هذه الورقة نأخذ الموضوع من جوانبه المتعددة.
([13]) الرد الوافر (ص: 51-52).
([14]) الجواهر والدرر في ترجمة شيخ الإسلام ابن حجر (1/ 65-66).
([15]) المدخل المفصَّل لمذهب الإمام أحمد (1/ 205).
([16]) حاشية الروض المربع (1/ 163).
([17]) المدخل إلى مذهب الإمام أحمد (ص: 704-708).
([18]) انظر: التحرير والتنوير (5/ 103).
([19]) ينظر: رد المحتار حاشية الدر المختار لابن عابدين (1/ 6).
([20]) انظر: شرح صحيح مسلم (14/ 120-121).
([21]) تحفة المودود بأحكام المولود (ص: 117)
([22]) كشاف القناع عن متن الإقناع (3/ 26).
([23]) مجموع الفتاوى (26/ 311-312).
([24]) إعانة الطالبين على حل ألفاظ فتح المعين (2/ 384).
([25]) مجموع فتاوى ورسائل العثيمين (3/ 117).
([26]) الانتصار للقرآن (2/ 493).
([27]) شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة (7/ 1396).
([28]) فضائل أبي بكر الصديق (ص: 32).
([29]) تفسير البيضاوي (1/ 47).
([30]) الجواهر والدرر في ترجمة شيخ الإسلام ابن حجر (1/ 66).
([31]) التراتيب الإدارية (2/ 248).
([32]) معجم المناهي اللفظية (ص: 313).
([33]) انظر: سير أعلام النبلاء (3/ 204).
([35]) طبقات الحفاظ للسيوطي (ص: 263).
([36]) طبقات الحفاظ للسيوطي (ص: 289).
([37]) طبقات الحفاظ للسيوطي (ص: 314).
([38]) سير أعلام النبلاء ط الرسالة (15/ 490).
([40]) انظر: الجواهر والدرر في ترجمة شيخ الإسلام ابن حجر (1/ 66).
([41]) هو محمد بن أبي الحسن ابن الزملكاني، ولد سنة 667هـ، وتوفي سنة 727هـ.
([42]) انظر: الرد الوافر (ص: 108-109).
([43]) خليل بن سيف الدين كيكلدي، ولد سنة 694ه، وتوفي سنة 761هـ.
([44]) انظر الرد الوافر (ص: 174).
([45]) أبو حفص عمر بن رسلان، ولد سنة 724هـ، وتوفي سنة 805هـ.